تجاوزت طموحات الهيمنة الإيرانية على المنطقة وبسط نفوذها على الساحة الإقليمية قدرات طهران الحقيقية ولكنها وصلت إلى مرحلة ما يمكن أن يطلق عليه "الهروب إلى الأمام"، لأسباب داخلية وخارجية عديدة ليس في هذه الورقة مجالاً لعرضها ومناقشتها. في خضم هذا التمدد الإيراني في المنطقة العربية عبر سياسة "الحرب بالوكالة" وتبخترها الطاؤوسي مدعوماً بنشوة الانتصارات، وليس فقط عدم اكتراث القوى العظمى بهذا التوسع، بل والجلوس مع طهران على طاولة واحدة للتفاوض حول برنامجها النووي، كسرت الدول الخليجية وبعض الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية الصمت الطويل وقررت أن تقول لقادة إيران وبصوت واحد "كفى" عربدة سياسية في المنطقة العربية. من هنا انطلقت "عاصفة الحزم" لتكون مفاجئة لإيران والقوى العظمى في آنٍ واحد. لقد كانت التطورات المتسارعة على الساحة اليمنية ومحاولة إيران تقويض الشرعية هناك عبر "حركة أنصار الله" الحوثية وبالتحالف مع الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، ودعوة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بالتدخل العسكري لإنفاذ اليمن ممن أطلق عليهم "دمى إيران" كانت جميعها كفيلة بشعور دول التحالف بهذا الخطر الذي لن يتوقف مطلقاً عند حدود "صعدة"، بل أن السيطرة على اليمن ستفتح، ولا شك، الشهية الإيرانية للحصول على المزيد.
لقد عملت إيران، وعلى مدى سنوات، لإيجاد موطئ قدم لها في جنوب الجزيرة العربية وعلى مقربة من حدود المملكة العربية السعودية. وحيث أن العنصر الوحيد الذي قد يحقق هذا الطموح الإيراني هو فرقة ضئيلة في المجتمع الزيدي اليمني، عملت طهران على تضخيمه، تارة، وتلميعه والترويج له، تارة أخرى. إنه استثمار طويل الأمد تُبدع إيران دائماً في إنجاحه، معتمدة على خبرة تراكمية بدأت من لبنان حيث زرع "حزب الله" ثم في العراق والبحرين ومحاولات خجولة في السودان وبعض دول شمال أفريقيا. لقد استقطبت طهران، عبر الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات الإيرانية، رموز الفرقة "الجارودية" في اليمن وقامت بتدريبهم في معسكرات الحرس الثوري داخل إيران وخارجها، وكان ذلك جنباً إلى جنب مع جرعات مكثفة لحقن الأديولوجية الشيعية الاثناعشرية، ممثلة في "بدعة" ولاية الفقيه الحصرية جداً. في نهاية المطاف، آتى الزرع أوكله واستغلت الحركة الحوثية عدم الاستقرار في اليمن، خاصة بعد ثورة 2011م، لتقفز إلى الأمام وتسعى لفرض سياسة الأمر الواقع عبر فوهة البندقية "القادمة" من طهران.
مشروع الهلال الشيعي الإيراني:
قبل الحديث عن الحالة اليمنية وكيف توغلت إيران في اليمن عبر حركة الحوثي، دعونا بداية تستعرض، بشكل موجز جداً، المشروع الإيراني في المنطقة العربية بعد الثورة الإيرانية في عام 1979م، ووصول الملالي إلى السلطة هناك. لم يخف المشروع الإيراني تجاه دول الجوار العربي على أحد وقد برز ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية. إلا أن الحديث عما يسمى بالهلال الشيعي الإيراني قد جاء متأخراً بعض الشيء. إن أول من تحدث عن هذه العبارة أو المصطلح هو الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن أثناء زيارته للولايات المتحدة في أوائل شهر ديسمبر عام 2004، عبر فيه عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي يمتد إلى لبنان ويخل بالتوازن القائم مع السنة، ورأى في بروز هلال شيعي في المنطقة ما يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار المنطقة، وهو ويمكن أن يحمل تغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول المنطقة. ويمكن تلخيص مراحل هذا المشروع الإيراني في النقاط التالية
• المشروع بدأ منذ انتصار الثورة في 1979م.
• اتضحت معالم المشروع الإيراني الطائفية بعد وفاة الخميني.
• استغلال إيران لحدث الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان واجتياح العراق.
• استخدام إيران للقوة الناعمة بعد حرب تموز 2006 في لبنان.
• الموقف الإيراني من الربيع العربي.
• تعرية المشروع الإيرانية بعد الثورة السورية.
وسائل المشروع الإيراني الشيعي
تعمد إيران في مشروعها إلى استخدام عدة وسائل مختلفة ومتنوعة من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وتتمتع بثقافة الصبر الطويل في سبيل تحقيق الأهداف وظهور النتائج، ومن بين وسائلها ما يلي:
1) القوة الناعمة.
2) التشيع السياسي.
3) الخلايا النائمة.
4) الأذرع العسكرية المسلحة.
5) الأحزاب والقوى السياسية في المنطقة العربية مثل حزب الله في لبنان، المجلس الأعلى وحزب الدعوة والتيار الصدري في العراق وحزب العمل الإسلامي والدعوة في البحرين.
6) خلايا التجسس في الدول العربية.
7) شراء الذمم واستغلال الفقر والتذمر السياسي.
8) محور إيران-القاعدة وداعش رغم الخلاف الأيدولوجي الظاهر.
أهداف المشروع الإيراني:
مما لا شك فيه أن إيران تسعى من وراء هذا التوسع في الداخل العربي ومحاولة بسط نفوذها إلى تحقيق عدد من الأهداف ومن بينها ما يلي:
1) إشغال الداخل الإيراني عن المطالبة بحقوقه من خلال التركيز على ما يسمى في الأدبيات الإيرانية بـ "العدو المتربص" وبالتالي إقناع الشعب الإيراني بمزاعم أن البلاد تهدف في المقام الأول إلى ضمان تحقق الأمن القومي الإيراني وعدم ترك الفرصة مواتية "للعدو" للانقضاض والإخلال بأمن واستقرار البلاد.
2) تحقق الجانب المذهبي المتمثل في الترويج لمفهوم ولاية الفقيه و سياسة تصدير الثورة.
3) تكريس الهيمنة الإيرانية على المنطقة العربية عبر أذرعها العسكرية والإعلامية والسياسية في الداخل العربي.
4) تحسين موقفها التفاوضي مع الغرب والحصول على أقصى قدر من المكاسب.
اختراق اليمن:
وبعد أن استعرضنا طبيعة المشروع الإيراني، أدواته وأهدافه، ندلف الآن إلى الحالة اليمنية وكيف نجحت إيران في اختراق اليمن، ذلك المجتمع المتجانس الذي أبعد ما يكون عن الصراعات المذهبية والعقدية. يأتي أتباع المذهب الزيدي في اليمن كحلقة من حلقات المشروع الإيراني في المنطقة، وذلك للسببين: القومي والمذهبي، والمكانة التي تحظى بها اليمن على هذين المسارين، ومن بين الأسباب التي ساعدت على اختراق أبناء المذهب الزيدي:
1) عامل التشيع المشترك بين المذهبين وإن كان المذهب الزيدي أقرب للسنة منه إلى الشيعة إلا أنه أصبح يصنف ضمن الفرق الشيعية.
2) استغلال جهل أبناء الزيدية بحقيقة الأهداف الإيرانية وكذلك بطبيعة المذهب الزيدي بسبب انحسار دور العلماء في المجتمع الزيدي.
3) استغلال الفقر في اليمن.
4) استغلال الرغبة لدى أغلب أبناء المذهب الزيدي إلى إعادة إحياء الإمامة الزيدية للحكم وخصوصاً أبناء الأسرة الهاشمية .
5) وسيلة الابتعاث الدراسي لكل من إيران والعراق ولبنان لغسل عقول المبتعثين وحشوها بأفكار الاثناعشرية وإعادتهم دعاة مبشرين لهذا المذهب الوافد.
6) البعثات التعليمية القادمة من سوريا والعراق ولبنان والطبيعة الوافدة من إيران ولبنان في توسيع رقعة الاختراق والتشيع الذي كان من أوائل نتاجه تأسيس حزب الشباب المؤمن بصعدة، اللبنة والنواة الأولى للحركة الحوثية، في بدايات التسعينات من القرن المنصرم.
7) ترهيب المجتمع من خلال اعتبار من يقدح في هذا التوجه المذهبي الجديد قدح في المذهب الزيدية وتراثه وإرثه التاريخي.
إلا أن الأداة الأهم في نجاح المشروع الإيراني في اليمن، من وجهة نظر الباحث، تكمن في فرقة "الجارودية" التي ينتمي إليها الحوثيون، وهي فرقة صغيرة في المذهب الزيدي تنسب إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي الهمذاني وقيل الثقفي وهو من علماء الزيدية، توفي في سنة 160هـ تقريبا. ولهم آراء كثيرة في الولاية والخلافة بعد رسول الله ويرون أن الصحابة كفروا بسبب عدم تنصيبهم لعلي بن أبي طالب رضي الله خليفة لرسول واختيار أبو بكر الصديق وبذلك يصنفهم بعض علماء الشيعة كالمفيد وغيره ضمن غلاة الشيعة ويلحقهم بالإمامية.
من مظاهر التأثير الايراني الاثناء عشري على الزيدية:
دخل على المجتمع الزيدي، عبر بوابة الحركة الحوثية التي ارتبط زعماءها، مثل بدر الدين الحوثي ونجليه حسين وعبد الملك بإيران، بعض العادات والطقوس "التعبدية" والشعارات السياسية التي لم تكن معروفة بين أفراد المجتمع اليمني، ومن ذلك:
1) إحياء مآتم عاشوراء على النمط الإيراني، وترديد شعارات مثل "يا لثارات الحسين...الخ
2) إحياء أربعينية الحسين.
3) إحياء مراسم عيد الغدير.
4) اقتباس الشعارات السياسية مثل "الله اكبر، الموت لأمريكا، اللعنة على اليهود ، النصر للإسلام" من شعارات إيران بعد الثورة.
5) إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج.
6) الترويج للأناشيد المذهبية في المدارس وحِلَق العلم وما تحتويه من قدح في الصحابة والمخالفين من المذاهب الإسلامية المختلفة.
7) أسلوب الحشد الجماهيري والخطابات الرنّانة.
8) على نمط حزب الله، الإشادة بالدور الإيراني والثورة الإيرانية وولاية الفقيه.
9) فرض الخمس بديلا عن الزكاة بشكل تدريجي، وفرض ضرائب لنصرة المجاهدين.
10) إضفاء الهالات والألقاب والتقديس للشخصيات وترسيخ الطبقية والتمايز المجتمعي.
الموقف الإيراني من عاصفة الحزم:
ظهرت تصريحات لوزير الخارجية الإيراني السيد جواد ظريف دعا فيها بلدان المنطقة والغرب إلى تجنب اللعبة التي تخدم القاعدة في اليمن وقالت المتحدثة باسم الخارجية الإيرانية مرضية أفخم أن استخدام الخيار العسكري في اليمن الذي يشهد أزمة داخلية وحربا على الإرهاب من شأنه أن يزيد من من تعقيد الأمور واتساع رقعة الأزمة وإنهاء فرص التوصل لحلول سلمية للخلافات الداخلية في اليمن كما وصفت العمليات العسكرية بأنها بالخطيرة والمغايرة للقوانين والأعراف الدولية واحترام السيادة الوطنية، على حد زعمها.
من جانب آخر، أعلن رئيس لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية في البرلمان الإيراني علاء بروجردي أن نار الحرب على اليمن سترتد على السعودية داعيا إلى وقف العمليات العسكرية في اليمن. وزعم بروجردي أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أساس فتن الحرب في المنطقة وقد دعمت هذا الهجوم. لا شك أن إيران تركز حالياً على مفاوضاتها مع الغرب حول البرنامج النووي وهي بين مطرقة المفاوضات واللغة الناعمة مع الغرب وسندان ترقب أتباعها بها في الداخل العربي لموقفها من الأحداث، وقد نشهد في الأيام القادمة تصريحات أكثر حدة من قبل الساسة والقادة العسكريين ومستشاري المرشد الأعلى، ومن غير المستبعد أن تتجه إيران نحو اختلاق بعض القضايا في محاولة منها للفت الانتباه بعيداً عن فشلها المدوي في اليمن خاصة إذا ما تم تقويض الانقلاب في اليمن.
التعاطي العربي مع المشروع الإيراني
يظهر المشهد السياسي الراهن في اليمن بجلاء أن المنطقة قد دخلت بعد عاصفة الحزم مرحلة جديدة وأن تغييرات سياسية واستراتيجية كثيرة تحدث على الساحة. كانت إيران تتوغل في الداخل العربي وتتبجح بسيطرتها على عدة عواصم عربية وتتحدث عن إعادة تشكيل الإمبراطورية الفارسية على حدود الدولة الساسانية وعاصمتها بغداد كما صرح علي يونسي مستشار الرئيس روحاني وقيادات عسكرية رفيعة في الجيش والحرس الثوري الإيرانيين. اليمن جزء من هذه المعركة الكبيرة مع التمدد الإيراني في الداخل العربي. كانت الخطة أن يتم محاصرة المملكة العربية السعودية من ثلاث جهات وبالأسف بأذرع تنتسب إلى العروبة والدم العربي وليست قوات فارسية. أدركت المملكة الخطر وقررت أنها لن تسمح بأن تكون إيران على حدودها الجنوبية فجاء التحرك عسكرياً بعد أن باءت كل المحاولات الدبلوماسية والسياسية بالفشل وأدركت أن الحوثي والرئيس المخلوع لا يفهمان إلا لغة القوة العسكرية فكان التدخل من خلال "عاصفة الحزم" وبقيادة من عاصمة الحسم "الرياض". جاءت هذه الخطوة العسكرية المفاجئة لإنقاذ الشرعية في اليمن ممثلة في الرئيس عبد ربه منصور هادي، بالمقام الأول، ووضع حد لمشروع الهيمنة التوسعي الإيراني في المنطقة العربية.
كان التحرك السعودي ليس فقط كفيلاً بإحياء الدفاع العربي المشترك والعمل العربي الموحد بل الأهم من ذلك عودة الروح للشارع العربي والإسلامي بعد أن كان يعاني من حالة إحباط كبيرة وهو يرى التمدد الإيراني وتقاعس القوى العظمى وتخاذلها تجاه قضايا المنطقة. إن المتتبع لوسائل التواصل الاجتماعي خاصة موقع "تويتر" يلحظ بوضوح مدى النشوة والابتهاج الذي يغمر الشعوب العربية. على المستوى الرسمي، ينبئ هذا التحالف بمستقبل عمل عربي إسلامي مشترك تجاه قضايا الأمتين العربية والإسلامية خاصة وأن هناك اهتزاز في ثقة هذه الدول بالقوى العظمى والشعور بأن هناك مخططات تستهدف المنطقة مما يقود دولنا إلى الالتفاف حول بعضها البعض وتشكيل قوة موحدة في وجه التحديات الحالية والمستقبلية.
من جانب آخر، على دول الخليج العربي العمل وفق أسس مستقبلية في التعامل مع إيران وتدخلاتها في الشؤون الداخلية لهذه الدول من خلال بناء استراتيجية موحدة تجاه مشروع الهيمنة التوسعي الذي تعمل طهران على تحقيقه لأهداف سياسية مدفوعة بعوامل قومية ومذهبية. إن الخطوة الأولى في هذا الصدد تكمن، من وجهة نظرنا، في:
1) إحداث مفوضية عليا للسياسة الخارجية في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي بحيث يؤكل إليها الرد على التصريحات الإيرانية التي تستهدف أي من الدول الأعضاء وليس كما هو متبع حاليا من صدور بيانين أحدهما من الدولة المعنية والآخر من الأمانة العامة. إن عمل هذه الدول ككتلة سياسية واحدة يزعج إيران التي تسعى جاهدة إلى تفتيت هذا المجلس وتفضل العمل على العلاقات الثنائية دون التعامل معه ككيان سياسي موحد. علاوة على ذلك،
2) ينبغي على دول الخليج التسريع في التحول من المجلس إلى الاتحاد، الأمر الذي يحمل في طياته رسالة واضحة للجانب الإيراني بوحدة الكلمة والموقف لكافة الأعضاء في وجه التحديات الإقليمية والدولية.
3) التصريح بأن دول الخليج قد تلجأ إلى الدفاع عن نفسها ومصالحها في المنطقة عبر معاملة إيران بالمثل إن لم تكف الأخيرة عن تدخلاتها في الشؤون الداخلية لهذه الدول ومحاولاتها إثارة البلبلة والغلائل فيها من خلال استقلال الورقة الطائفية وأذرعها السياسية والعسكرية في المنطقة العربية.
مصادر:
وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية في إيران (إيرنا)
الاختراق الاثنى عشري للزيدية للكاتب عبد الله بن غالب الحميري
صحيفة الحياة 9/12/2004
موقع تابناك الإخباري