الإرهاب مثلث أضلاعه (الفكر والتمويل والرعاية) ولم تسمم الحركات الإرهابية فقط العلاقات بين الدول، بل سممت عقول الأفراد بحوارات صاخبة وأزمات نفسية تؤدي إلى احتقان المتحاورين، وتطغى على المشهد لغة الإقصاء والعنف.
الإعلام الموجه يعمل على إذكاء وهم قوة الإرهاب من خلال إثارة قضايا هامشية سعيا إلى توجيه الأنظار عن الأسئلة الكبرى، وهم قوة الإرهاب مثلها مثل أمم صنعها الصيت وأسقطها التاريخ.
عبر وسائط التواصل الاجتماعي تمكنت داعش من تجنيد عملياتها بنسبة 80% مستفيدة من مصادر التمويل معتمدة على آبار النفط التي استولت عليها أو سُمح لها بالاستيلاء عليها، لكن بعدما تراجع الإرهاب في الميدان، بدأ يتقدم الإرهاب الخارجي وأصبحت ظاهرة الذئاب المنفردة تقض مضاجع الأمن الغربي كما بدأت وسائط التواصل الاجتماعي تلعب دورا حاسما في الترويج للتطرف في الدول الغربية وهناك زيادة ملحوظة لأعداد المتطرفين التي يمكن أن تساهم في ولادة بيئات حاضنة للإرهاب خصوصا بعدما وصل عدد الأوربيين في داعش أربعة آلاف، مما فرض على الدول الغربية أن تبدأ حرب دولية على مصادر تمويل التنظيم.
من جهيمان للقاعدة ولولاية الفقيه حتى داعش فالبداية واحدة وإن اختلفت الأيديولوجيات جميعها عامل محرك للحروب الطائفية داخل الدول من جهة، وبين الدول من جهة أخرى، مثلما ثبت أن الحروب الصليبية أسبابها سياسية وتوسعية تجارية أكثر منها متصلة بالدين والقصد أن الدين ما كان إلا غلالة تستر أهداف الملوك والأمراء من وراء تلك الحروب التي أعلنتها كنيسة روما على الإسلام، وبالتالي فإن ربط هذه الحروب بالدين حصرا ربط غير دقيق، لكون الدين خير وسيلة للتعبئة الشعبية تاريخيا وهو ما يتبعه الإرهاب الحالي بجميع أشكاله.
بعد عقد ونصف من الإرهاب يأتي في السعودية العديد من الأسئلة أيهما يأتي أولا الإصلاح السياسي أم التنوير في المقابل لمواجهة الإرهاب تأتي يقظة الهوية الوطنية مقابل الهويات الفرعية التي دعمت الإرهاب في العراق وفي مناطق عدة من العالم العربي.
يدور نقاش فكري آخر، فبعض التحليلات ترى أن السلفية الجهادية هي توفيق بين تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين التيار القطبي، واتفقت على مبادئ الحاكمية وقواعد الولاء والبراء وهذا توفيق مبسط وسطحي، لأن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لها ظروفها التي نشأت فيها منذ الدولة السعودية الأولى التي وحدت القبائل والإمارات تحت مسمى الدولة وكذلك الحركة القطبية نشأت في ظروف مغايرة.
هناك اشتباك واشتباه عقدي بين تيارات الجماعات الجهادية، والجميع يتبنون الجهاد منهجا للتغيير بدأ خاصة بعد استعانة الحكومات وتعاونت مع جهات غير مسلمة خصوصا في إخراج صدام حسين من الكويت، والآن تحالفها مع المجتمع الدولي في محاربة داعش والقاعدة.
لم تستوعب الجماعات الجهادية أن ميزان الله تعالى في الأرض يستوي فيه المؤمن والكافر، وقد ينصر الله الكافر إذا أخذ بسنة العدل، ويذل المؤمن إذا لم يأخذ بسنة العدل.
أخطر منطلقات الجماعات الجهادية أنها تواجه الهيمنة الغربية وخصوصا الأمريكية، وإباحة قتال الحكام المسلمين معتمدة على فتوى بن تيمية الماردينية لتبرير عملياتها القتالية، وهي فتوى صدرت عندما استولى التتار على بلدة ماردين وأغلب أهلها من المسلمين ويحكمها غير مسلمين، حينها قسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام أو دار كفر، وحينما سئل بن تيمية عن حال تلك المدينة وكيفية التعامل مع من فيها قال: (ويعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه).
بعد سبعة قرون على هذه الفتوى ما زال الجدل يدور حولها واستخدمتها الجماعات الجهادية لتبرير عملياتها القتالية ومن ضمنها اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، ولكن لإنهاء الجدال حول هذه الفتوى، اجتمع العلماء في نفس المدينة سنة 2010م، وأصدروا فتوى توضيحية وقالوا: إن فتوى بن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكا ومستندا لتكفير المسلمين والخروج على الحكام بل هي فتوى تحرم كل ذلك.
تستخدم داعش هذه الفتوى وتركز على قول الله سبحانه وتعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وتعتبر الجيش الحر عميلًا لأمريكا مثل بقية الحكام، فأرسل زعيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي للجولاني زعيم النصرة أن يقاتل الجيش الحر، ولكن الجولاني لم يستجب للبغدادي فأعتبره مرتدا.
بل حتى الخطاب الديني يشوب جزءًا منه في زرع ثقافة التحريض على الكراهية تساهم في تغذية البنية التحتية للعنف وهي التي تنتج في النهاية المتطرفين والجهاديين، فمثلا يعتبر البعض أن تهنئة غير المسلمين بأعيادهم نوع من الموالاة معتمدين على قول الله سبحانه وتعالى (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).
ما يقوم به هؤلاء المنحرفون، لا ينطلق من الإسلام، بل ينطلق من فتنة عالمية، وبوجهتهم التدميرية يعطون أعداء الإسلام الفرصة ليفرضوا هيمنتهم على الدول الإسلامية.
الاعتدال هو الحق والعدل سواء في السلوك الفردي أو الجماعي، والوسطية وسط بين نقيصتين بين الإفراط والتفريط في جميع الأمور وهي فضيلة، كما الشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين البخل والتبذير، والاستقرار بين الدكتاتورية والفوضى.
لقد غالى المتطرفون في جانبين رئيسيين هما الولاء والبراء وملة إبراهيم وبعدهم عن الرفق واللين ..الولاء والبراء وملة إبراهيم هي ليست كما يعتبرها أصحاب الحرورية كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عنهم، قال: يخرج من هذه الأمة، ولم يقل قوم، ووصفهم بأن تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء) رواه البخاري 1767، هذه الفئة تجعل من الولاء والبراء وملة إبراهيم هي إظهار العداء والبغض للكفار واعتبارها هي ملة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
ملة الرسل كلهم عليهم السلام ترفض القتل والتهجير لمن يختلف معها في الدين، بينما ملة الأقوام المقابلة على تعددها فهم ملة واحدة هي ملة القتل والتهجير لمن يخالفهم في الاعتقاد والإيمان بالأفكار. ملة الأنبياء لا تظهر العداوة ولا البغضاء، ومن لم يتبع ملة إبراهيم يكون قد ظلم نفسه بسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفى في الدنيا للهداية والرشاد، وأي سفه أعظم من هذا الذي ظلم به نفسه وألغى عقله.
لكن ما المقصود بالبراءة والعداوة والبغضاء في الآية الكريمة { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله شيئًا ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير } الممتحنة : 4 .
والآيات نزلت أصلاً في حاطب بن أبي بلتعه، حينما بعث سارة مولاة بني هاشم وأنه أعطاها عشرة دراهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في إثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأدركاها بالجحفة.
والمقصود في الآية البراءة والعداوة والبغضاء من المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين والذين شرع الله عداوتهم ونهى أن يتخذوا أولياء، السبب في ذلك { يخرجون الرسول وإياكم } هذا سبب عداوتكم وعدم موالاتهم، { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} أي وقت المعركة محرم موالاة الأعداء الذين أخرجوكم من دياركم بل امتدح الله سبحانه وتعالى من يقسط إليهم { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الممتحنة : 8 .
لو كانت البراءة وإبداء العداوة والبغضاء لكل كافر لما أباح الله سبحانه وتعالى الزواج من الكتابيات المحصنات والزواج قائم على المودة والمحبة والإحسان، وبذلك تعتبر البراءة وإبداء العداوة والبغضاء مخصصة لفئة معينة من الكفار الذين يظهرون العداوة للمسلمين ويحاربونهم ويخرجونهم من ديارهم لا غيرهم.
أما قوله سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} المائدة: 51، فقد اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، ومن أشهرها قيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول بعد معركة بدر عندما نقض العهد يهود بني قينقاع، والمقصود بالولاء أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك.
- أهمية تجديد الخطاب الديني
الحلول الأمنية ليست كفيلة بمفردها في القضاء على الإرهاب، لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وهذا واجب علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها، قد تكون هناك عوامل تساهم كرافد للإرهاب، مثل الفقر، والاستبداد، وغياب التنمية، لكن يبقى الفكر هو المحرض الأساسي للتطرف والإرهاب، وبدون مواجهة الفكر بالفكر، يبقى الشباب فريسة للتجنيد، متى ما توفرت حواضن الإرهاب، ولكن نحتاج إلى المصارحة والمكاشفة دون التشكيك والاستعجال في استصدار الأحكام.
من أهم عوامل مواجهة الفكر بالفكر أهمية تجديد الخطاب الديني، وتنقية المناهج من فقه التشدد، التي تعتبر أحد أبرز عوامل التحريض على التطرف، وهذا لا يعني تنقية المناهج من التشدد، ومنع المدارس الدينية، وإغلاق مدارس تحفيظ القرآن الكريم، كما يعتقد البعض، ممن يبحثون عن أساب التطرف، بل إن التعليم الديني عامل من عوامل تجفيف منابع الإرهاب إذا لم يتم أدلجته. لكن ينبغي الموازنة بين المناهج، وكلها تدخل ضمن دائرة المناهج والقوة لا يمكن تجزئتها، بل تشمل كافة القوى بما فيها القوة العلمية والتنموية والاقتصادية والصناعية والعسكرية.
ــ تأصيل المفاهيم وترشيدها والاعتراف بتعددية الآراء
نحتاج إلى صياغة عقول الشباب ووجدانهم منذ طفولتهم، بعيدا عن الفقه الفج المتشدد، الذي يسود في العديد من المناهج الدراسية، فعندما يدرس الطالب فقها غير متبصر، وغير متوازن، لا يتناسب مع واقعه المعاصر يتحول المجتمع إلى أرض خصبة، لاستنبات التطرف، وتستثمره أجندات داخلية أو خارجية.
نحتاج إلى تأصيل المفاهيم وترشيدها بموضوعية، وما أقصده يجب أن يحل الاعتراف بتعددية الآراء، بدلا من قصرها على رأي أحادي أو مدرسة واحدة، لكن إصرار الغلاة والمتشددين على احتكار الفهم، والاجتهاد، والرأي، دون غيرهم، بل يودون الحصول على سلطة كسلطة الدولة، لفرض هذه الرؤية الأحادية على المجتمع، أو يريدون من الدولة تفويضهم سلطة على المجتمع، وعلى الفكر والوجدان تتنافى مع آيات الأمر بالمعروف.
من يمارسون هذه السلطة هم أتباع وليسوا من العلماء المعتبرين، فابن عثيمين مثلا يعتبر أن (الحق يعرف بالرجال، وليس العكس، فقال لا تجعلوا الحق مرتبطًا بالرجال، لأن الرجل لا يأمن على نفسه الفتنة، ربما يعتقد أنه معصوم، وأن كل ما يقوله مشروع) فمنذ عهد الرسول (ص) عندما مدح أحد الصحابة صاحبه قال له ويحك قطعت عنق صاحبك.
- تبرأ العلماء من خطاب الأتباع المتطرف ومن الفقه المتشدد
يجب على المراجع العلمية والدينية أن تتبع منهج الرسول الكريم، وتتبرأ من خطاب الأتباع المتطرف، لأن أصحاب هذه الخطابات المتشددة، يقولون ما يقوله غيرهم، على سبيل التقليد والتكرار، وربما على سبيل الحشد، والتشويش، والتظاهر بالعلم، رغم أنها آراء تعارض آراء كبار الأئمة.
هذا النوع من الفقه المتشدد لا يخرج لنا طالب علم حر في التفكير، لأن العلم يبقى العامل الأكبر تأثيراً في صياغة عقول الشباب ووجدانهم، لا العكس، حتى لا يتوهم البعض بأن الدين مسؤول عن التطرف، بل الغلو هو المسؤول عن التطرف، لأنه يحتكر الحقيقة، هؤلاء الأتباع اختزلوا كثيرا من الأحاديث النبوية، خصوصا حديث (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ) وقصروا معنى هذا الحديث على جماعة بعينها، وكأنهم لم يقرؤوا قول الله سبحانه وتعالى ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ).
- مواجهة الخطابات التعبوية والتبريرية
يبقى أهمية تفكيك الخطاب الديني المتشدد، خصوصا أن هناك بعض الخطب والمقالات التي تظهر بعد كل تفجير، وإن كانت مقالات لا تؤيد هذه التفجيرات، ولكنها خطابات تعبوية تبريرية مثل مقال هذه بضاعتكم ردت إليكم وغيره.
- محاصرة محفزات تربة التطرف وهي الفتاوى الشاذة والتأويلات المنتقاة التي تعتمد التكفير
شبهة التكفير من أهم الشبه التي تعتمد عليها تلك الجماعات، وتنبه لها الإمام علي بن أبي طالب، وأرسل عبد الله بن عباس قبل قتال الخوارج في مناقشتهم في شبهة التكفير التي يعتمدونها ورجعت مجموعة كبيرة من الخوارج بعد حوار ابن عباس، وحارب الإمام علي البقية.
نتيجة التداخل المخل بين فقه القتال وفقه الجهاد، واختلالات فقه الولاء والبراء، وأزمة العلاقة مع الآخر، رغم وجود آية واضحة وجلية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) جعل قيم المشترك الإنساني تضطرب، لأنهم اكتفوا بالآية (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) استنبط منها العلماء قاعدة الولاء والبراء، ولكنها ليست مطلقة.
- تفكيك التكتيكات السياسية لدى الجماعات الجهادية
فهناك تكتيكات سياسية لدى هذه الجماعات (أسلمة الراديكالية لا راديكالية الإسلام )، مثل تكتيك داعش ضد الحكومات العربية لتضمن حياد المجتمع الدولي، وهو تكتيك شبيه بالتكتيك الذي استخدمه الإخوان في مصر في الفصل بين الهرم السياسي والشعب، لضمان تأييد الولايات المتحدة، وهو ما حصل بالفعل، ويشتركان داعش والإخوان في الوصول إلى دولة الخلافة، وإن كانت التكتيكات، تختلف بين التنظيمين، وحتى في الأيديولوجيات، لكنهما يشتركان في الرؤية الفوضوية، تدعو إلى إسقاط شرعية الدولة بدعوى كفرها ومخالفتها الشرع.
رغم أن الخلافة ليست نظام الإسلام الرشيد، وليس هناك ارتباط بين اسم الدولة الإسلامية وغيابها أو ضعفها، وليست وصية، بينما هي شورى، واسمها مشتق من قول الله سبحانه وتعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) أي الإنسان على إطلاقه مسلما كان أو كافرًا، فالهدف الأساسي من الاستخلاف هو تطبيق العدل، والإسلام ذكر الملك، والخليفة، والأمير، وولي الأمر، والسلطان، ولا يلزم المسلمين واحدة منها، وإنما الهدف من السلطة والحكم تحقيق العدل.
تبقى الحواضن الفكرية تحتاج إلى مواجهة فكرية، والخوارج كانوا محبين لعلي رضي الله عنه، ولما أراد رضي الله عنه أن يحفظ دماء الأمة، استكبروا عليه، وقالوا لا حكم إلا لله، وكفروه، بينما كان موقف سيدنا علي رضي الله عنه عندما جاءه بعض الناس، وقالوا هؤلاء الخوارج كفار، قال لا من الكفر فروا، قالوا منافقون، قال هم يذكرون الله كثيرا بينما المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، قال هم إخواننا أضلهم الله وأعماهم.
إن منح الأزهر الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ الدكتوراة الفخرية، له عدة معاني ليس فقط اعترافًا بجميل مساندة السعودية لمصر في التخلص من سيطرة الإخوان وتهديد الأمن والاستقرار المصري، بل لهدف سياسي من أجل تحقيق شراكة بين المرجعيتين السعودية والمصرية لمعالجة نقاط التشدد التي تستهدف الحكومة السعودية في كثير من المواقف المحلية والدولية التي تقدم عليها الحكومة السعودية، خصوصا فيما يتعلق بدعم التحالف العالمي ضد الإرهاب، وأن هذا التحالف هو من التعاون ضد التهديد المشترك، وليس من قبيل المولاة للكفار.
منح الملك عبد الله الدكتوراة الفخرية هي إيذان بولادة مرجعية جديدة متحالفة، يمكن من خلالها مراجعة النصوص التي كانت السبب في خروج الإرهاب، وفي نفس الوقت سحب البساط من الاتحاد العالمي الذي يتزعمه القرضاوي المدعوم من قطر وتركيا كجزء من الضغوط تجاه جماعة الإخوان المسلمين التي حاولت سحب البساط من الأزهر الشريف.
مثل هذا التحالف سيعطي زخما جديدا، ومرجعية جديدة لتطوير مفاهيم المرجعية الدينية التقليدية المدعومة برافعة دينية مجتمعية وخيارات فقهية متشددة. خاصة أنه قد يكون الاعتلال أصاب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الأتباع والمريدين الذين لم يفهموا جوهر دعوة الشيخ التي ظهرت في زمن غير الزمن الذي يعيشون فيه ولم يتبنوا مقاصدها.
تتطلب المرحلة الجديدة مراجعة مستفيدة من هذا التحالف الناشئ، وإنجاز مصالحة تاريخية مع العصر، خصوصا فيما يتعلق بالتكفير الذي توسع فيه مجموعة من العلماء، والحاكمية والردة والولاء والبراء، خصوصا المصاغة في نواقض الإسلام العشرة المعتمدة على نصوص شرعية.
هناك حالة تقاطع سياسي وفكري بين الإسلام السياسي وبين الإرهاب بسبب أن الأصولية العقائدية جذر مشترك بين الطرفين كدافع، لكن إذا جرى تثوير أي منهما يمكن إنتاج نسخة جديدة لأي منهما، ولا ننسى أن جماعة التكفير والهجرة في مصر كانت بخلفية إخوانية، كما أن القاعدة وداعش بخلفية سلفية.
الإرهاب يبدأ بفكرة خبيثة متأسلمة تقوم على التفسير النصي، وتستخدم العنف وسيلة لتحقيق الأهداف لا تلبث أن تقتاد صاحبها أو متلقيها خطوة في طريق المفاصلة مع المجتمع أو مع كل مختلف معه ويصبح الآخر هو العدو، بينما كان السلف الصالح يتعاطى مع النص الديني على أساس وجود راجح ومرجوح، وعلى أساس أن النص الراجح عادة هو الذي ينبغي روايته وأن المرجوح هو الذي ينبغي تجاهله، لذلك ما تم ترجيحه لفترة معينة لا يلزم التاريخ والمستقبل.
عندما نحاول قراءة الخطابات التكفيرية، فإن أعيننا لن تخطئ اعتمادها على مجموعة من المفاهيم والأفكار من أهمها الولاء والبراء، والحاكمية التي توحد جميع التيارات، وسلوك التكفير سلاح الجميع أيضا.مفهوم الحاكمية لا ينسجم والمشاركة السياسية ضمن نظام ديمقراطي، وتصوراته حول جاهلية المجتمع الحديث خطر على تعايش المسلمين مع غيرهم، لأن محاولات التقريب بين المذاهب وحوار الأديان يبقى مجرد مجاملات من دون الاعتراف بالآخر كشريك حقيقي في الوطن والدولة، لأن نبينا الكريم أذن بحقوق الإنسان على عرفة لتعرف له البشرية حقه بعد أن قاد نهضة التنوير الكبرى في التاريخ الإنساني.
الخطاب الديني التقليدي نشأ بعد ذبول الحضارة الإسلامية وإغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الاجترار والانحطاط طيلة العصر السلجوقي والامبراطورية العثمانية، وللخروج من العقلية الضيقة والمتعصبة، يجب القيام بحركة معاكسة تماما، أي توسعة دائرة المفكر فيه أو الممكن التفكير فيه في الإسلام، وتقليص دائرة المستحيل التفكير فيه تدريجيا.
- توضيح حقيقة دعوة الإسلام إلى وحدة الشعوب على أسس التعايش والتسامح
تعاني بلداننا العربية خصوصا بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي وباء فقدان الهوية، وصراع حول مفهوم تحديد الهوية، وضلت الشعوب العربية في تشكيل أحزاب لإنتاج هويات بدلا من تفعيل الهوية. فلا زالت هذه البلدان غارقة في متاهات الهوية، خصوصا بعد استخدام أدوات ووسائل الغرب الديمقراطي والمستقر في تفعيل هوياتها، بينما الديمقراطية ليست مسؤولة عن إنتاج الهوية في دول الغرب بل ساهمت في تفعيل الهوية التي أنتجتها المجتمعات.
كما أن هناك مقارنة ظالمة بين الإسلام دين وحياة وبين المسيحية الكهنوتية الرهبانية، بجانب إصرار ثلة من المتشددين ومن غير المتشددين على تطبيق نظام حكم آحادي وهو الخلافة، بينما القرآن والسنة ذكرتا العديد من مسميات الحكم من مسمى الملك إلى مسمى الأمير إلى السلطان إلى ولي الأمر وغيرها.
أصبح العالم بين طرفي نقيض بين تطرف من المسلمين وتطرف من الغرب في الدول العلمانية، بسبب تطرف وانحراف حدود الحرية المسؤولة في الغرب التي تحولت إلى حرية منفلتة تتبناها بشكل خاص الأطراف اليمينية مما تثير حفيظة المسلمين مثل واقعة الرسوم المسيئة للنبي الكريم محمد (ص).
غاية رسالة الإسلام هي الخروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا لسعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وجوهر رسالته العدل والحرية (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) (لا إكراه في الدين)، لذلك كان صميم صحيفة المدينة (إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون إثم).
لقد استوصى الرسول الكريم الصحابة عند فتح مصر فقال (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما) فهاجر عليها السلام كانت أما لإسماعيل عليه السلام، وماريا القبطية فكانت أما لإبراهيم ابن نبينا الكريم، بل روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله أوصى عند وفاته فقال (الله ألله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله، أو قال استوصوا بهم خيرا فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله).
- استراتيجية السعودية نحو محاربة الإرهاب
السعودية تقود حرب لا هوادة فيها ضد الإرهاب، وفق استراتيجيات محددة ومقننة، تحسب فيها التوقيتات المناسبة، وشهد عام 2015م، هزيمة إيران وحزب الله في سوريا، وبدء عاصفة الحزم في اليمن لقطع الأصابع والأذرع الإيرانية التي تعبث في المنطقة العربية خصوصا حينما يتعلق بالجوار والمحيط أي أن السعودية تنظر إلى محاربة الإرهاب نظرة شمولية، وليست جزئية بل إلى كل من يمول ويدعم الإرهاب حتى ولو كان من الدول كإيران التي تقود حربًا طائفية لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية.
بدأت السعودية بتشكيل تحالف عاصفة الحزم الذي تبعته بتشكيل تحالف إسلامي عسكري وأثبتت للعالم أنها مؤهلة منذ عهد الملك عبد العزيز ليس فقط لخدمة الحرمين الشريفين، بل مؤهلة للاضطلاع بدور حائط الصد لحماية الدول من الإرهاب المدعوم إقليميا ودوليا ومن التغول الإقليمي.
وإذ تدرك السعودية أن الإسلام ينقسم إلى سني وشيعي، فقد انقسم السني منذ الحرب الجهادية في أفغانستان، الذي أصبح ورقة في يد الغرب ضد بلدان المنطقة، وتحول فيما بعد إلى تهديد عالمي، أدركت أيضاً أن هذا التهديد يهدد الدين الإسلامي ويشوه سمعته.
ولم تبدأ السعودية بالتحالف الإسلامي العسكري، بل بدأت قبل ذلك بحوار الأديان عام 2007م، وأطلقت وزارة الداخلية مبادرة المناصحة لاستيعاب المتطرفين، خصوصا ممن تم تغريرهم واحتضانهم لمنع تفاقم مزيد من الانشقاقات في المجتمع ذو الطبيعة القبلية.
أي أن السعودية لم تستخدم التحالفات العسكرية سواء عاصفة الحزم أو التحالف الإسلامي العسكري إلا بعدما وجدت أن هناك دولة إقليمية تحرص على توسيع نفوذها عبر الطائفية، والإرهاب في البحرين واليمن وسوريا والعراق ومصر وتونس والجزائر والسودان وهي تريد أن تتوسع عبر ولاية الفقيه.
بل سعت السعودية إلى تسمية عاصفة الحزم بإعادة الأمل، وقبلت قرار الأمم المتحدة في سوريا، أي أنها ترغب في الحلول السلمية، وتضعها على رأس أولوياتها، وتريد إقامة أفضل العلاقات مع كافة الدول بما فيها إيران، ولكن عبر علاقات متكافئة دون التدخل في الشؤون الداخلية للآخر.
وتواصل السعودية مسيرتها في محاربة الإرهاب باختيار التوقيتات المناسبة تماشيا مع الظروف المحلية والإقليمية والدولية خصوصا بعدما تمكنت من قطع اليد الإيرانية في اليمن، ومن قبل في البحرين، فيما هي تصارع في البقاء في العراق، عندها أقدمت السعودية على إعلان تنفيذ الأحكام على الإرهابيين دون أن تفرق بين إرهاب سني أو شيعي، ولن يعيرها أي تهديد يصدر لا من إيران ولا من القاعدة ولا من داعش.
وكانت قد نفذت وزارة الداخلية أحكاما شرعية بالقتل في 47 إرهابيا ومحرضا كانت قد صدرت ضدهم أحكام بالقتل من المحاكم المتخصصة، وتم التنفيذ في 12 منطقة سعودية أثبت القضاء إدانتهم باعتناق المنهج التكفيري وتفجير واستهداف مجمعات سكنية وشركات صناعية وقتل وإصابة الكثير من رجال الأمن والمقيمين والتحريض على العنف والتخريب.
وهي الرسالة التي أرسلتها السعودية بأن العقاب سيطال المحرضين على الإرهاب والممولين والمنفذين، وحتى يقتنع المجتمع بالمساهمة في تعقب أبنائهم ومساعدة الدولة في تقديم النصح لهم، وإذا لم يستطيعوا فإنهم يعتبرون التبليغ عنهم أجدى وأنفع بدلا من تمكينهم ارتكاب أعمال إرهابية تهدد أمن المجتمع ويكون مصيرهم الإعدام.
فارس آل شويل اسم ارتبط بتنظيم القاعدة كونه منظرا لهم وإكسابهم الغطاء الفقهي التكفيري واستباحته دماء المسلمين والمعاهدين والمستأمنين داخل وخارج البلاد، ومحاولة نشر مذهبه التكفيري المؤمن بمنهج الخوارج والخروج المسلح، وأصر آل شويل على ما قدمه أثناء محاكمته، ووصف عبد العزيز المقرن بقائد الجهاد في جزيرة العرب وهو لا يعترف بشرعية ولاة أمر، وأنه يكفرهم ويرى أنه يجب إزالة الحدود الجغرافية لتعود الأمة واحدة، وأن العديد من العمليات الإرهابية تمت برعايته وتحت إشرافه في ينبع والطائف.
أما نمر النمر فهو داعي التحريض من قبلة قم، هاجم رجال الأمن وشكل مجموعة إرهابية في العوامية، ومؤمن بالثورة الخمينية، لكن الثورات العربية استنطقته وأصبح في ثورة جنونية بعدما صدت السعودية التدخل الإيراني في البحرين، وأراد اصطفاف شباب البحرين من منبر داخل السعودية، ولم يلتزم بالتعهدات التي أخذت عليه من قبل الدولة من التوقف عن التحريض.
فيما ظل لأكثر من خمسة عشر عاما بعيدا عن السعودية بعد قيام الثورة الخمينية قبل أن يعود عام 1994م، وبدأ هجومه على السعودية من عام 2009 م، أي أن الحكومة السعودية كانت ذات بال طويل، وهي تريد للضالين العودة إلى جادة الطريق، والتراجع عن مخططاتهم المدعومة خارجيا خصوصا من الحرس الثوري بإيران.
لكن أزعج الحكومة السعودية عندما طالب بخروج مظاهرات والمطالبة بالإفراج عن إرهابيين لهم علاقة بتفجيرات الخبر عام 1996 م، انسجاما مع الموقف الإيراني، بل هاجم درع الجزيرة الذي حمى البحرين من التدخل الإيراني وسماه بعار الجزيرة، بل ساهم في جمع التبرعات وتهيئة شباب بإعداد قنابل المولوتوف لمهاجمة رجال الأمن، وطالب بإسقاط مملكة البحرين وتحكيم ولاية الفقيه لإذكاء الطائفية التي تثيرها إيران في المنطقة.
وسبق أن نفذت السعودية الأحكام في أربعة إرهابيين كانوا ينتمون لما يسمى حزب الله الحجاز وفجروا شركة صدف في الجبيل عام 1988م، وفي العام الذي يليه أدين 16 كويتيا بالضلوع في تفجيرين بموسم الحج قرب الحرم المكي عام 1989م، ويعرفوا بخلية حزب الله الكويتي وتلقوا الأوامر من إيران لضرب موسم الحج وتم إعدامهم.
وكذلك نُفذ الحكم في أربعة أشخاص أدينوا في تفجيرات العليا عام 1995م، وفي أغسطس من 2015 م، نفذت السعودية عقوبة الإعدام على اثنين من تنظيم القاعدة كأول عقوبة منذ بدء موجة الإرهاب قبل أكثر من عشرة أعوام.
اعتبر خامنئ أن السعودية ارتكبت خطأ سياسيا بإعدام نمر النمر وأنها ستواجه انتقاما إلهيا، وأعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية حسين جابر أنصاري أن السعودية ستدفع ثمنا باهظا لإعدامها النمر، وإذا كانت إيران تبكي النمر فمن يرثي ضحاياها من الأحوازيين والبلوش، وهو تعرية الوجه القبيح للسياسة الإيرانية التي أغرقت المنطقة في حرب طائفية لا تبدو لها نهاية إلا على يد الدولة السعودية التي بدأتها بعاصفة الحزم.
إيران تنفذ إعدامات عشوائية تستهدف منذ عقود طائفة دون طائفة وعرق دون عرق ولا صوت يعلو في إيران على صوت الفارسي والاثنا عشري، وارتكبت إيران مجزرة في حق عرب الأهواز عام 1979م، بعد ثورة الخميني لمجرد أنهم طالبوا بحكم ذاتي في إقليم عربستان راح ضحيتها 817 قتيلا وأكثر من 1500 جريح وآلاف المعتقلين، وتنشر منظمات حقوقية أن إيران نفذت حكم الإعدام في حق 694 شخصا بين 1 يناير – 15 يوليو 2015م، في ارتفاع غير مسبوق لعدد عمليات الإعدامات، وكذلك نفذت السلطات الاعدام لحوالي 814 السنة الأولى من حكومة الرئيس حسن روحاني.