الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينيليست جديدة، وهي لا تقتصر على الدين الإسلامي وحده، وإنما عملية مرت بها مختلف الأديان. فحينما تبدأ التطبيقات والممارسات الطقوسية للدين ومنتجاته تتعارض مع احتياجات الناس وتتوقف عن تقديم إجابات على الأسئلة الكبرى المطروحة في كل عصر، وحينما تأخذ النتائج في التعارض مع المقدمات والفرضيات، تبدأ هذه الأفكار تطرح، وعلى قدر اندماج الدين في شؤون حياة الناس اليومية وتسيسه يتجه التفكير في إصلاح وتجديد الخطاب الديني وتصويب الاتهام إليه على أنه السبب.
وتختلف أهداف الداعين لتجديد الخطاب الديني، وتختلف نواياهم، بين من يرغبون بالإبقاء على كل شيء كما هو دون تغيير، ولا يؤمنون بالتجديد أصلا، لكنهم مع ذلك مضطرون لتصدر مشهد التجديد ومسايرته مستبطنين نية وهدف الانحراف به عن مساره، والانتهاء به إلى نقطة البداية في اللحظة المناسبة. وبين من يرغبون بعملية تجديد شاملة بالدين وليس فقط بالخطاب الديني، كمرحلة أولى -يتصورونها-لإبعاد الدين عن شؤون الحياة والتأسيس للعلمانية، وهؤلاء يتحينون الفرصة منذ وقت طويل، وربما يعتقدون أنهم وجدوا فرصتهم في الانقلاب على كل مظهر ديني يستبطنون له العداء.
وبين هؤلاء وأولئك توجد الفئات الأكبر من الداعين إلى تجديد الخطاب الديني عن صدق واقتناع، وتدرك هذه الفئات خطورة الإبقاء على الأسواق والساحات و"المهرجانات الدينية" التي ظهرت في العقود الأخيرة وأنتجت ظواهر غريبة ومسوخا مشوهة لمعاني الدين الطاهر، وخطورة ذلك ليس فقط على المجتمع وإنما على الدين نفسه. فإذا كان هذا هو الحال الذي وصلنا إليه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فماذا سيكون حال الإسلام والمسلمين وحال ظاهرة التدين الإسلامي عموما في العقود المقبلة!!
وتنبع الحاجة إلى التجديد الديني، من عدة ضرورات، طبعت الظاهرة الإسلامية في العصور الأخيرة، تتمثل أبرزها فيما يلي:
- التصادم مع الحياة وغاية العمران: حيث أنتجت الحالة الإسلامية في العقود الأخيرة ظواهر لا تمت بصلة إلى الإسلام الحنيف، صحيح أن بعضها يجد جذوره في كتب الفقه والتراث المحسوبة على عصور الترف والازدهار أو عصور الانكسار والاضمحلال والاحتلال، لكنه لا يمكن التسليم بأنها لا تزال صالحة لتقديم خدمات في الواقع المعاصر. وعلى سبيل المثال فإن فقه الحروب وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب هي نظريات قديمة ازدهرت في ظروف معينة خاصة بالعالم الإسلامي، والآن اختلف سياقها الإسلامي والعالمي، مع ذلك فإنها لا تزال هي المتحكمة والشائعة في فكر الجماعات الدينية وهي الأساس لنظريات التكفير، على الرغم من أن العالم الراهن لم يعد كذلك على الإطلاق، ولا يشكل المسلمون على خريطة العالم الحالي سوى نسبة ضئيلة على الرغم من صراعاتهم الداخلية والبينية الكثيرة، حيث يسود الاعتقاد بأن المسلمين هم مركز الصراع الدولي، ومن ثم عليهم أن يقاتلوا عن عقيدتهم وعرضهم، دون إدراك بأنه لو تعامل الآخرون -الأكثر تقدما وقوة منا- (الأمريكان والروس والصينيون) معنا بنفس منطق هذه النظرية (دار الحرب ودار الإسلام) سنكون نحن أول الضحايا. وهناك جماعات وتنظيمات وفصائل كثيرة بالعالم الإسلامي تدعو إلى الابتعاد عن الحياة والانعزال عنها والهجرة من ديار الكفر، أو الدخول في مواجهات مع الغرب، وهناك نظرة عدائية شديدة تورث في أذهان التلاميذ والطلاب في معاقل ومعاهد ومدارس التعليم الإسلامية أغلبها لا يحض على الاندفاع في طريق العلم وإنما يدفعهم إلى الانزواء الثقافي والاغتراب الفكري والحضاري عن العالم، وعدم الانفتاح على الآخر وتجنب ثقافته باعتبارها من المحرمات، ولقد شاعت هذه المدارس الفكرية خلال حقبة الخمسينيات والستينيات وأصبح مشايخها وأعلامها رموزا للصحوة والتجديد، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى طلب العلم في كل مكان يمكن أن تبلغه مدارك المسلم، حتى لو تطلب السفر إلى الصين(أقصى ما يصل إليه الخيال الجغرافي في تلك الآونة).
ولا يزال العلم الديني يكتسب الأهمية القصوى وينظر إليه في بلاد المسلمين على أنه السبيل إلى رضا الله وهذا شيء طبيعي، لكن قد يحمل ذلك بين طياته إيحاءات بتصنيف أدنى للعلوم الطبيعية العصرية، التي قد تصل بالإنسان إلى مراحل إيمانية أعلى وأعظم عند الله، وهذا السياق الفكري يجعل الداعية الديني في مقام القديسين التي تضفي عليه معاني بينما يظل العلماء الذين يقدمون خدمات دنيوية في مقام متدني. وإذا أضفنا إلى ذلك التأخر الحضاري والسلوكي، وتكريس التعايش على هذه الحالة الاتكالية، وعدم الرغبة في عمارة الدنيا، واستعذاب حالة البؤس والشقاء، بدعاوي الهجرة من مجتمعات الكفر والجاهلية، وهي أفكار قائمة ومستبطنة في عقول وفكر شباب الجماعات الدينية وشيوخها، تصبح هناك شبكة تراثية هدفها طمس العقل المسلم.
- التصادم مع الآخر: لا تزال النظرة المعادية للآخر باعتباره خصما أو عدوا سياسيا وعسكريا ودينيا تحكم وجهة نظر الجماعات الإسلامية خصوصا المتشددة منها، فهناك حالة خصام وعداء شديدة ضد الآخر، وكان بالإمكان التعرف على أسباب هذه الحالة خلال مرحلة الاستعمار بالعالم الإسلامي، لكن هذه النظرية لم تنته بزوال الاستعمار. وهناك بالفعل مشكلات هائلة لا تزال قائمة تندرج في سياق عدم العدالة الدولية التي يعاني منها المسلمون، وصحيح أن هناك شواهد يمكن الاستدلال بها على وجود مظالم خاصة للمسلمين فقط لأنهم يحملون هذه الصفة، ولكن التفكير في أحوال شعوب وأمم أخرى أقل تطورا من العالم الإسلامي، يشير إلى أوضاع مماثلة من الظلم، مع ذلك فقد توافرت لنا فرصا للتقدم والنهضة في سياق نظام عالمي مفتوح على الفرص أمام الجميع، ولو تصورنا أن الشعوب الإسلامية هي التي حققت هذه الطفرات العلمية والتكنولوجية، وتم التعامل بمنطق الأنا والآخر الذي يحكم وجهات نظر الجماعات الدينية، لكنا قد حرمنا شعوب المعمورة من كل تطور أو خير وصلنا إليه، لأننا نعتبرها عدوا منافسا.
إن الشكوى من غياب العدالة السياسية، أو العدالة الاقتصادية الدولية، لا يعني انسداد الفرص. كما أن فرض حالة الدونية على الآخر ليست هي النظرية المتحكمة في إدارة العالم، فليس هناك قوى ظلامية من أمثال ما صوره كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" تدير العالم وتمنعه من أن ينظر برحمة وشفقة إلى العالم الإسلامي. ولو كان الأمر كذلك لكانت الصين أولى بأن تتوجه إليها سهام التخريب والتدمير العالمي باعتبارها منافسا شرسا لقمة النظام الدولي. هذا لا يعني أنه لا توجد وجهات نظر معادية أحيانا لدى بعض المفكرين والساسة الغربيين ومن هم في دوائر الحكم، ولكن وجهات النظر هذه لا يمكن أن تستمر أو تستقر على الدوام لأنها تنافي طبائع الأشياء، وعلى سبيل المثال لم يتمكن المحافظون الجدد في الولايات المتحدة من الاستيلاء على الحكم سوى سنوات وجيزة خلال حكم الرئيس بوش الثاني، وسقطوا سقوطا مروعا.
- التصادم مع الوطن والنفس: انتهت ظاهرة الصحوة الإسلامية التي برزت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات إلى حالة تصادمية ليس فقط مع الحياة والعالم والآخر، وإنما تصادمت مع الذات الوطنية وحاجة النفس الإنسانية، وهو ما عبر عن تناقض تام مع كل ميراث التراث الديني والشرعي، فجرى إعلاء الحرب والجهاد ضد "العدو القريب" على العدو البعيد، وصوبت الجماعات الدينية جام غضبها وطلقاتها إلى جمهورها من المسلمين وإلى أنظمة حكمها، وإلى جيش بلادها وشرطتها وأجهزتها ومؤسساتها، وبدلا من أن تكون أداة للبناء الداخلي، تحولت إلى معاول للهدم. وأصبحت الظاهرة الإسلامية الجهادية أقرب إلى ظاهرة تدميرية تخريبية أكثر مما هي ظاهرة إيجابية دافعة على العمل والتفاؤل بالحياة. وكان مثيرا للتساؤل حين وجهت هذه الجماعات سهامها وحرابها إلى بلدانها بينما ظل من يفترض بأن يكونوا أعداءها الحقيقيين في مأمن تام(إسرائيل)، ثم تندفع لتدمير أوطانها اعتقادا بأنه الطريق إلى القدس وإلى الإسلام الحقيقي. وفي سبيل ترضية غريزة الانتقام والثأر، اندفعت لارتكاب أبشع الجرائم وتناست كل الفضائل والقواعد والأصول، ضاعت عند هذه الجماعات المسافات الفاصلة والحدود بين القتل والشهادة، وتحولت دار الإسلام إلى دار حربها الأولى. وتحول الجهاد الذي ينطوي على تعاليم سامية في جهاد النفس وعمارة الكون ودفع الظالمين بقوى العدالة والبناء، إلى ظاهرة متطابقة تماما مع ظاهرة الإرهاب، والآن هناك تداخل في العقل والإدراك العالمي بين جماعات تعتبر نفسها دينية ولكنها تمارس الإرهاب بأبشع صوره. وفي بعض البلاد العربية والإسلامية لم تعد هذه الجماعات في مزاج تسامحي مطلقا، وغابت الفوارق بين عناصرها وبين المجرمين والقتلة، ولم تعد تركز على تحقيق الأهداف الخاصة بالذات، وإنما إفشال ما تعتقد أنه خصمها في الداخل، فتحولت إلى طاقة سلبية بكل المعايير، ولقد دفع كل ذلك بلدانا إسلامية كمصر والسعودية والإمارات إلى وضع العديد من تلك الجماعات ضمن قائمة الجماعات الإرهابية.
- الاستدعاء المدمر للفقه والتراث: يحمل الفقه والتراث الإسلامي مفاتيح وأدوات لتعايش المسلمين مع مختلف الأحوال والأزمنة والظروف، واستجابات لواقع الحال في عصور مختلفة، ففي أوقات قوة الأمة نشأ تراث فقهي عكس حالة الانتصار وحيازة القوة وانتعش تراث فقهي يعكس حالة الترف والازدهار، وفي أوقات الضعف والاحتلال والتبعية انبعث تراث دعا إلى المقاومة واستنهاض الأمة ورفض الهوان والذل. وإذا كان هذا التراث والفقه وظف الأوجه المختلفة للمعاني والأصول في القرآن والسنة وفق حاجات كل عصر وضروراته، فإنه هو نفسه يصبح حاملا لقنابل مفخخة إذا لم يجر تطويره وضبط عملية تنزيله على الواقع، الأمر الذي يخلق فتاوى وأحكاما مشوهة تكون أقرب إلى الهزلية، منها إلى القراءة المتأنية والمنضبطة، فانتزاع واستحضار الفتاوى في غير موضعها وفي غير زمانها، يخلق كوارث سياسية للأمة الإسلامية تشوش على الناس ليس فقط أمور الدنيا وإنما شؤون الدين، وفي ظل اختلاف السلطان والمجتمعات والدول التي تزيد على الخمسين، وفي ظل تباين الحاجات والتحيزات السياسية لأنظمة الحكم، ينشأ الاضطراب الفقهي في التعاطي مع الواقع، ما ينعكس في صورة قراءات متصارعة ومتصادمة للمؤسسات الدينية في دول العالم الإسلامي، وذلك ما جعل كل الأنظمة السياسية من عراق صدام، إلى سوريا بشار، إلى يمن صالح، إلى ليبيا القذافي، يحصلون على فتاوى وأحكام متعارضة ومتباينة من المؤسسات الدينية، عكست اختلاف التعاطي مع الظاهرة الواحدة، والسبب الرئيسي هو اختلاف القراءات والمصالح المسكونة بها والمتوارية خلفها لأنظمة سياسية ورجال دين يختلفون في توجهاتهم وأهدافهم ومراميهم.
وهناك متغيران مهمان لا يعملان في مصلحة انضباط الفقه والفتوى:
- المتغير الأول تراجع أهل الاختصاص؛ ففي العقود الأخيرة تسيّد غير المختصين من الدعاة الذين تمايزوا بفهم آليات جذب الجمهور ومناطق التأثير فيه، وأجادوا فن إتقان الخطاب الديني، وهؤلاء تواءموا مع مفاهيم البسطاء ولعبوا على حاجات الناس الاقتصادية والدينية والثقافية والمعيشية، ونقلوا الخطابة إلى واقع الحياة المعاش في معادلات ومعاني ونصوص مبسطة، بعدما حصرت الخطابة الدينية من قبل أهل الاختصاص في صناديق وقماقم مغلقة، وعلى الرغم من القدرات التأثيرية لغير المختصين إلا أنهم لا يستنبطون الأحكام وفقا لضوابط وأسس علم الشريعة وأصول الفقه، وإنما يتعاملون مع التراث والفقه بانتقائية مشوهة، بل أطاح بعضهم بكل مدارس وأصول علم الفقه جانبا مؤثرين الأخذ مباشرة عن الأصول (القرآن والسنة)، على نحو ما تتمثل في مختصرات التفسير والأحاديث في كتب "رياض الصالحين" وكتيبات "عذاب القبر ونعيمه"، وغيرهما.
- أما المتغير الثاني فهو عدم الانتباه إلى تحولات العصر، والدورة الراهنة من التقدم البشري، فهذه الدورة الارتقائية والتطورية في حال البشر والعالم ليست كسابقاتها، وليست قابلة للتعامل معها من خلال استحضار التجارب والسياقات التاريخية المشابهة، فحجم الاندماج العالمي غير عادي، وطبيعة ونوعية ومستويات المنافسات بين الأمم مختلفة عن القرون الماضية، كما أن مقدار التلاقي والتفاعل البشري اليومي شيء لا يتصوره عقل، وكم المخترعات العلمية والكشوف الجغرافية للفضاء الكوني مذهل ومهول، ولا يعني ذلك أن هذه الموجة من التطور تتطلب إزاحة التراث والقديم، وإنما على الأقل ضرورة تقديم اجتهادات جديدة ومختلفة نوعيا عن السابق، فأمام هذه الموجة من التقدم البشري لا يفيد كل ما سبق من تراث فقهي إلا كموجه ومرشد عام، وكمنهجية للاستنباط وتاريخ استرشادي للعلم، ولكن ضرورات العصر تتطلب اجتهادات وأدوات مختلفة لاستنباط الأحكام في علوم الدين.
- تراجع قيم العمل والعلم: أخطر ما أصاب الأمة الإسلامية من أمراض ترتبط بقضية التجديد الديني، هو تراجع قيم العمل والعلم، التي تعني الخير والعطاء والنفع، لحساب الاتجاه إلى الإمساك بالآخر وحرمانه من ثمرات تقدمه وعمله واجتهاده، فعلى الرغم من آيات القرآن الكثيرة، التي تحض على العمل والعلم والتدبر في آيات الله وبلوغ منتهى العلم بها لاستجلاء قدرة الله في الكون ما ينتهي للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان، هناك انصراف من شباب الجماعات الإسلامية عن هذه القيم، لمصلحة تفضيل القتال والجهاد. وفضلا عن أن ظاهرة الجهاديين عبر الحدود تتعارض تماما مع الدولة والوطن الحديث وتقضي عليهما، فإنها تحولت إلى ظاهرة معيبة وممسوخة، خصوصا مع اتجاه الجهاديين في جماعات داعش والنصرة إلى ممارسات نسبوها إلى الإسلام وطبقوها خطأ، ودون اعتبار للتطور والارتقاء الحضاري الإسلامي والعالمي. وعلى سبيل المثال، فإن تطبيق ممارسات الحدود الشرعية على نحو ما فعلت داعش، مع نفي دور المحاكم الحديثة، التي توفر ضمانات للتقاضي تؤدي إلى تطبيق الأحكام دون اعتبار لأي سياق، كما أن التعامل بمنطق السبي والغنائم على النساء الحرائر من الإيزيديات وغيرهن، هي ممارسات ربطت "الجهاديين" في العقل العالمي والبشري بالسفاحين والإرهابيين والقتلة. ويحار المرء: كيف استطاعت داعش تجنيد كل هؤلاء الشباب من خريجي الجامعات في مختلف التخصصات العلمية، ودفعهم إلى الإيمان بفكرة الخلافة العدمية، إرواء لعطش تعاليم بالية ورغبات وشهوات مكبوتة، وإعلاء لغريزة الانتقام من مجتمعات الحضارة ببناء مجتمعات وإمارات التخلف والارتداد والخلافة التخريبية للأوطان، تفضيلا لها على الدول الحديثة التي تسعى لضمان وظائف للشباب واحترام تخصصاتهم والارتقاء بأذواقهم، وتحقيق أمانيهم وطموحاتهم.
الخلاصة:
في ضوء ما سبق، ينبغي أن يتجه التجديد الديني إلى مفهوم جديد لعلاقة المسلمين بالله، ومفهوم جديد لعلاقتنا بالذات، ومفهوم جديد لعلاقتنا بالآخر، ومفهوم جديد لعلاقتنا بالكون والحضارة، ومفاهيم لعلاقة جديدة بين الدين والحياة، أساسها السعادة وليس الشقاء والبؤس، وتكريس قيم التنوير والحضارة وليس الظلمة والتخلف. ولا يمكن عمل كل ذلك في خلال أشهر أو سنوات قليلة، ولكن لتكن البداية من الآن حتى نجني الثمرة ولو بعد 50 عاما، ويتطلب ذلك خطة تستهدف أهدافا على المدى البعيد والمتوسط والقريب، وتتعاون فيها كل المؤسسات الدينية المستنيرة، وهي عملية سوف تستغرق وقتا، ولن تمر بسهولة؛ فكما لكل علم أصوله وفروعه، فإن لعلوم الدين أساسياتها المستقرة، وتغيير هذه الأساسيات هو أمر دونه عقبات وعراقيل وصراعات مصالح هائلة.
وفي النهاية، يحتاج التجديد الإسلامي ليس فقط إلى تجديد في الخطاب، وإنما في المنظومة كلها والخطاب جزء منها، وإذا كان بالإمكان تقديم تصور ما لتجديد الخطاب الديني، فمن المفترض أن يبدأ من الآتي:
فأولا: لا توجد ضوابط محددة لتعيين من يمثلون الخطاب الديني، ومن المفترض ضبط الخطاب ليس فقط عن طريق تحديد الخطبة من وزارات الأوقاف والشؤون الدينية بل عن طريق انتقاء المتفوقين والمجتهدين وتدريبهم على الوسطية الإسلامية.
ثانيا؛ يتجه التجديد بالأساس إلى المناهج التعليمية التي يدرسها طلاب العلوم الشرعية والدينية، الذين لا زالوا يدرسون في المرحلة الإعدادية والثانوية كتابات خُطت منذ أكثر من ألف عام، ولا يدرسون كتب المجددين، رغم أن مناهج التجديد والإصلاح موجودة، لكنها غير مفعّلة لأن المنوط بتفعيلها على خلاف مع أصحابها من المصلحين.
ثالثا؛ يكمن التجديد في تفعيل منظومة مقاصد الشريعة، التي هي علم ضابط لفهم النص وتوليد الفتوى والاتجاه نحو مأسستها وتكوين مجامع فقهية وفكرية مختصة بالفتوى ورصد حالتها وأبعادها وخلفياتها؛ وتساعد تلك المنظومة على مواءمة الشريعة للعصر عن طريق فهمها في إطار مقاصدها وروحها وفلسفتها، لا في إطار بيئات وسياقات السابقين.