array(1) { [0]=> object(stdClass)#13440 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 106

الصين والخليج : شراكة واعدة مع قوة عظمى صاعدة واكتشاف سعودي مبكر

الأحد، 03 نيسان/أبريل 2016

  • الصين تاريخيًا: ليست دولة توسعية، بالعكس هي دولة انعزالية، بامتياز... رغم إمكاناتها الإمبراطورية الممتدة. سور الصين العظيم، الذي بني في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد واستغرق بناؤه خمسة عشر عامًا ( ٢٢١ ق.م - ٢٠٤ ق.م ) على امتداد الحدود الشمالية والشمالية الغربية للصين بطول ٧٠٠٠ كم، لم يبق منه سوى ٢٤٠٠ كم، لأكبر دليل على التوجه الانعزالي للصين. حتى أثناء ذروة الحكم الشيوعي المتشدد أيدلوجيا لعهد الزعيم مواتسي تونغ، لم يُسجل أن للصين توجهًا توسعيًا خارج حدودها، ولو من باب محاولة نشر نموذجها للتجربة الاشتراكية، كما كان الحال، بالنسبة للاتحاد السوفيتي، على سبيل المثال، رغم إيمان زعماء الصين، وعلى رأسهم ماو، مثل لينين، بأممية الثورة الشيوعية، التي يقودها الحزب الشيوعي، عوضًا عن البروليتاريا، التي قال بها كارل ماركس. وما انشقاق الصين عن الاتحاد السوفيتي، الذي تُوج بإعلان القطيعة العقائدية بين قطبي المعسكر الاشتراكي في: ٣٠ يونيه ١٩٦٠م، وتبني الصين، قبل ذلك، لحركة عدم الانحياز التي أعلنت في مؤتمر باندونغ ( ١٨-٢٤ أبريل ١٩٥٥م )، لهما دليلان حديثان لنزعة الانعزالية، في السياسة الخارجية الصينية.

 

تطلعات للمنافسة على الهيمنة الكونية

 

بالرغم من هذه النزعة الانعزالية للسياسة الخارجية الصينية، إلا أن الصين معروف عنها كونها دولة يتصف سلوكها بـ "إقليمية" متشددة، وغير متسامحة. هذا لتأكيد توجهها الانعزالي، أكثر منه مؤشرًا على نزعتها التوسعية. استماتة الصين للاحتفاظ بإقليم التبت.. وتحالفها القوي مع باكستان ضد الهند.. وحساسيتها المفرطة تجاه جيرانها الشماليين، بما فيهم روسيا وقبل ذلك الاتحاد السوفيتي.. وتوجسها التقليدي تاريخيًا تجاه طموحات اليابان التوسعية.. وغلبة القضايا الحدودية مع دول تشاركها الخلفية الأيدلوجية المشتركة، مثل فيتنام.. ودعمها الكبير لنظام بيونغ يانغ في كوريا الشمالية، في مواجهة التواجد الأمريكي في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية (كوريا الجنوبية ).. وإصرارها على استعادة تايوان (جزيرة فرموزا)، مهما كلّف الأمر، مع الميل للحلول السلمية بموجب نظرية (دولة واحدة ونظامان)، التي طورها مؤسس الصين الحديثة الزعيم دنغ شياو بينغ (١٩٠٤-١٩٩٧م).. وتوصلها، بموجب تطبيق تلك النظرية إلى اتفاقات ثنائية مع بريطانيا والبرتغال لاستعادة مستعمرتي هونغ كونغ، التي تمت استعادتها عام ١٩٩٧م، ومكاو، التي استعيدت عام ١٩٩٩م... جميع تلك المؤشرات تعكس سلوكيات لتجذر النزعة الانعزالية لدى صانعي السياسة الخارجية الصينية، تمامًا كما هو ديدن الصين تاريخيا وثقافيا، عبر العصور.

 

أيضا المتابع لسلوك بكين على مستوى الدبلوماسية الدولية، خاصة من خلال متابعة سلوكها التصويتي في مجلس الأمن، منذ استعادة الصين الشعبية لمقعد الصين من حكومة الصين الوطنية في تايوان في ٢٥ أكتوبر ١٩٧١م، يلاحظ عزوفا من استخدام حق النقض ( الڤيتو ) في قضايا خارج نطاق مجال سياستها الخارجية الحيوي في محيطها الإقليمي. الصين عادةً ما تمتنع عن التصويت على قضايا وخلافات، قد تهم منافسيها المحتملين على مكانة الهيمنة الكونية مستقبلا، وتسمح بتمرير أجندات تلك الدول، بينما تكتفي هي بالامتناع عن التصويت. في المقابل: بينما تقف بكين بشدة ضد محاولات واشنطن لفرض مزيد من العقوبات ضد كوريا الشمالية، على سبيل المثال، نراها تسمح بتمرير نظام أشد من العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي، ضد إيران، بالرغم من الشراكة التجارية الواسعة بين طهران وبكين. كما أنه في الوقت الذي تمانع الولايات المتحدة وروسيا أي مشاريع لتوسعة العضوية الدائمة في مجلس الأمن، نرى بكين تدعم بأن يكون لأفريقيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن... وعلى مستوى الدول، تدعو لأن تكون لباكستان، مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن.. وتتعامل، بتسامح ظاهر، مع طموحات ألمانيا في الانخراط أكثر في السياسة الدولية، وأن يكون لها مقعدًا دائمصا في مجلس الأمن، عكس روسيا، على سبيل المثال. 

 

وإن كانت بكين أبدت مؤخرًا اهتمامًا بمنطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج العربي، على وجه التحديد، بمساعيها النشطة، ضمن شراكتها في مجموعة الخمسة زائد واحد لإيجاد حل لنزاع الغرب مع إيران بخصوص برنامج الأخيرة النووي، الذي توج بتوقيع اتفاق فينا في: ١٤ يوليو ٢٠١٥م، القاضي برفع العقوبات الاقتصادية عن طهران مقابل سماحها بالتفتيش على منشآتها النووية والتزامها بعدم تطوير صواريخ بالستية بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية. كما أن الصين لم تُخْفِ اتفاقها مع روسيا في الدفاع عن نظام بشار الأسد، لدرجة أنها تخلت عن تحفظها السلبي في استخدام "الڤيتو" في مجلس الأمن خارج نطاق قضايا مجالها الإقليمي الحيوي، عندما استخدمت حق النقض، مع روسيا ضد مشروع قرار فرنسي في: ٢٤ مايو ٢٠١٤م، يدين نظام بشار الأسد لاستخدامه القوة المفرطة لإخماد ثورة شعبه عليه، ويحيل تلك الجرائم إلى محكمة الجزاء الدولية. في هذه الحالة كان من الممكن أن تتبع الصين سلوكها التقليدي بالامتناع عن التصويت طالما أنها كانت متأكدة من تصميم روسيا على عدم تمرير القرار، دون أن تظهر وكأنها دولة تتطلع للمنافسة الكونية، حتى في مواجهة الجار اللدود لها (روسيا).

 

إذًا، كان ذلك الاستخدام غير المسبوق للڤيتو من قبل الصين ضد قرار من مجلس الأمن يُعد سلوك غير تقليدي للسياسة الخارجية الصينية، قد ينم عن تحول تجاه تحفظها التقليدي حيال قضايا ونزاعات تدور خارج نطاق مجالها الحيوي في جنوب شرق آسيا وغرب المحيط الهادي ومنطقة شمال شبه القارة الهندية، وجنوب آسيا الوسطى.  

 

عملاق اقتصادي خرج من القمقم

 

في عام ١٩٧٨، وبعد سيطرته على الحزب الشيوعي الصيني، إبان صراع طويل بينه وبين ما يسمى بعصابة الأربعة، التي تترأسها زوجة ماو جيانغ كينغ (١٩١٤- ١٩٩١م) حول زعامة الحزب الشيوعي، نُقل عن مؤسس الصين الحديثة الزعيم دنغ شياو بنغ قوله: إن الصين تحتاج إلى نصف قرن لإكمال برامج التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية ( يقصد على مستوى العالم )!؟ لقد مضى حتى الآن ما يقرب من أربعة عقود، من العقود الخمسة التي تحدث عنها الزعيم الصيني الكبير، لتصبح الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وتسبق كلاً من اليابان وألمانيا بحجم اقتصاد يصل إلى ١٠ ترليون دولار، ونمو يتجاوز الـ ٧.٥٪ سنوياً، في مقابل ١٧.٥ ترليون دولار للاقتصاد الأمريكي بمعدل نمو يبلغ ٤٪ سنوياً... بينما يبلغ حجم اقتصاد اليابان ٥ ترليون دولار، بنمو سنوي يصل إلى ٢٪.. في الوقت الذي يبلغ حجم الاقتصاد الألماني ٣.٩ ترليون دولار بنمو سنوي يبلغ ١.٩٪ (احصاءات ٢٠١٤م).

 

تلك الإحصاءات تشير إلى أن الصين، بالرغم من حالة الانكماش التي تسود اقتصاديات العالم، منذ آخر أزمة اقتصادية مالية عالمية ضربت العالم عام ٢٠٠٨م، فإن الصين تحافظ على نمو سنوي يزيد عن ٧٪، بينما تترنح اقتصاديات غربية ما بين ٤،٢٪ (ألمانيا والولايات المتحدة على التوالي).. كما ويزيد حجم اقتصادها عن كلٍ من اقتصاديات اليابان وألمانيا معا (الثالث والرابع عالمياً)، بما يزيد عن ٢ ترليون دولار، ليزيد بمقدار ترليون دولار عن نصف حجم الاقتصاد الأمريكي (الأول عالميا) .. ولا يتفوق على اقتصاد الصين سوى التكتلات الاقتصادية الضخمة، مثل الاتحاد الأوربي بناتج سنوي يزيد عن ١٨ ترليون دولار، الذي، بالمناسبة يتجاوز بقليل حجم الاقتصاد الأمريكي، الذي يتربع على عرش اقتصاديات العالم، بلا منازع، بما يقرب من ترليون دولار.

 

الصين، خلال العقود الأربعة الماضية، لم تنمُ اقتصاديا بمعدلات كبيرة، في طفرة نمو لم تشاهدها مجتمعات كثيرة في العالم الثالث، فحسب... بل لتتفوق على اقتصاديات سبقتها في مضمار النمو الاقتصادي الرأسمالي في اليابان وألمانيا وكثير من دول أوربا الغربية، حتى تجاوزت - كما رأينا - نصف حجم أكبر اقتصاديات العالم ( الولايات المتحدة ).... بل أنها نمت نمواً سريعاً في مجالات التنمية الأخرى الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية.

 

لقد تخلت الصين، مؤخراً، عن سياسة طفل واحد لعائلة واحدة بقانونها الصارم، في إشارة واضحة لتثمين الثروة الحقيقية في مواردها البشرية الضخمة، في وقت مازالت الكثير من دول العالم تعزو إلى زيادة سكانها بمثابة العائق الأساس في طريق برامجها التنموية. الصين التي يتجاوز عدد سكانها ١.٣٨ مليار نسمة، تتطلع إلى إصلاح الخلل في التركيبة السكانية، بزيادة أعداد الشيوخ على الشباب وتفوق أعداد الذكور على الإناث بواقع ١٦٪، خلال جيل، بعد تطبيق سياسة طفل واحد لعائلة واحدة بقانونها الصارم، منذ سنة ١٩٧٨م. الصين في حاجة إلى مزيدٍ من الشباب وقوداً لنموها الاقتصادي المطرد، وربما استثمارا بشريا مجزٍ لمستقبل وضعها الدولي المتنامي كقوة عظمى تطمح للمنافسة على مكانة الهيمنة الكونية.

 

ريادة الفضاء

 

علمياً: الصين تمكنت من إرسال أول رائد فضاء صيني عام ٢٠٠٣م.. وفي ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٨ م، تمكن أول رائد فضاء صيني من السير في الفضاء لمدة خمس عشرة دقيقة، لتصبح الصين ثالث دولة في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا ترسل رواد فضاء ليسيروا خارج مركباتهم الفضائية في الفضاء الخارجي بمنطقة انعدام الوزن. كما يخطط القائمون على برنامج الفضاء الصيني لإرسال مركبة فضاء مأهولة بحلول ٢٠٢٠م. قبل ذلك: تزمع وكالة الفضاء الصينية القيام بزيارة إلى الجانب المظلم من القمر، حيث من المقرر أن يهبط المسبار "تشنج-٤" هبوطا لينا على الجانب المظلم من القمر عام ٢٠١٨م، وذلك لأول مرة في تاريخ الفضاء.

 

رغم أن الصين تؤكد أن ريادتها للفضاء لأغراض سلمية، إلا أن الولايات المتحدة تشك أن هناك أجندة فضائية صينية للأغراض العسكرية. من مؤشرات طموحات الصين الاستراتيجية في الفضاء، تمكنت الصين عام ٢٠٠٧م، من تدمير أحد أقمارها الصناعية الخارج من الخدمة ونثرت حطامه في مدارات مختلفة حول الأرض!؟ ثم أنها أطلقت عام ٢٠١٣م، إلى الفضاء الخارجي، ما يصفه البنتاجون: أنه يمكن أن يكون نواة لنظام صيني مضادًا للأقمار الصناعية. 

 

قدرات عسكرية متنامية

 

كما أن الصين شهدت في الفترة الماضية تطورًا ملفتاً في صناعة الطائرات الحربية، حتى وصلت لإنتاج أول طائرة حربية صينية من الجيل الخامس، متعددة المهام وكثيفة التسليح القادرة على التحليق لمسافات طويلة متجاوزة سرعة الصوت، والأهم العصية على الرادار ومضادات الطائرات. هذه الطائرة الاستراتيجية المتطورة تكنولوجياً لم يمتلكها قبل الصين إلا الولايات المتحدة في نموذج ( F-22 Raptor )، حيث دخلت الخدمة في ديسمبر ٢٠٠٥م، بعد ذلك بأربع سنوات يناير ٢٠٠٩م، أطلقت روسيا طائرتها من الجيل الخامس ( T-50 )، بعد نشر الولايات المتحدة سربًا من طائرات ( F-22 Raptor ) في ألاسكا، مما اعتبرته روسيا تحديًا أمريكيًا لأمنها القومي يحمل الكثير من رسائل الاستفزاز والتحدي والإهانة للكرامة الوطنية.

 

ما لبثت الصين أن لحقت بالاثنين في تطوير هذا النوع المتقدم من الطائرات الاستراتيجية في أبريل ٢٠١١م، معلنةً عن بدء تشغيل طائرتها ( J-20 )، لتصبح الصين ثالث دولة في العالم تمتلك تكنلوجيا الجيل الخامس من الطائرات الحربية الاستراتيجية. الصين بهذا الإنجاز التكنولوجي والاستراتيجي الكبير، تكون قد سبقت دول الاتحاد الأوربي، التي لم تتمكن مجتمعة، أو أي منها، من إنتاج هذا النوع المتقدم من الطائرات الحربية. مع الوقت، قد تتفوق الصين على الولايات المتحدة بامتلاك هذه الطائرات الاستراتيجية المتقدمة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وقف الولايات المتحدة إنتاج نسختها من طائرة الجيل الخامس، نظرًا لارتفاع تكلفة تصنيعها، واستبدالها بطائرات من الجيل الرابع من طراز ( F-35 ) حيث بلغت تكلفة طائرة (F-22 Raptor ) ٣٥٥ مليون دولار، بعد أن كانت التقديرات الأولية تقدر تكلفتها بـ ١٨٤ مليون دولار.

 

ومما يشير إلى طموحات الصين للمنافسة على مكانة الهيمنة الدولية والخروج من عزلتها التاريخية والتطلع إلى ما وراء منطقة نفوذها الحيوي إقليميًا، تطلع الصين لبناء أسطول بحري كبير عماده عدد من حاملات الطائرات تجوب بحار العالم ومحيطاتها دفاعًا عن مصالح الصين الاستراتيجية والتجارية، وبالتبعية الإعلان عن حضورها الأممي، كقوة عظمى فاعلة في النظام الدولي. الصين تخطط أن يكون لديها أربع حاملات طائرات بحلول ٢٠٢٠م. متوقع، أيضًا، أن تكون لدى الصين بنهاية هذا العقد ٧٨ غواصة متقدمة يحمل بعضها صواريخ بالستية غير تقليدية عابرة للقارات... هذه الكمية من الغواصات التي تزمع الصين نشرها في بحار العالم ومحيطاته بنهاية العقد، بالمناسبة: هي نفس العدد من الغواصات التي تمتلكها الولايات المتحدة، اليوم. كما يتوقع الكثير من المراقبين العسكريين: أنه بنهاية هذا العقد، ستكون لدى الصين ما يزيد عن ٧٠٠ قطعة حربية من مختلف الطرازات والمهام، ستجوب بحار العالم للإعلان عن بروز قوة عظمى جديدة لا تقل طموحًا في المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية عن أية قوة عظمى شهدتها حركة تطور الأنظمة الدولية الحديثة المتعاقبة، منذ نهاية القرن الخامس عشر. 

 

فيما يخص إمكانات الصين البحرية، يلاحظ أنها من الناحية الاستراتيجية، تشترك مع قوى بحرية عظمى تاريخيًا، مثل بريطانيا واليابان والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندا، وحديثًا الولايات المتحدة، في إمكاناتها البحرية الضخمة، وإن لم تشاركها تجربتها التوسعية الإمبريالية. الصين تطل آلاف الأميال، على المياه المفتوحة غرب المحيط الهادي القابلة للملاحة طوال العام.... ميزة تنافسية تفتقر لها قوة عظمى منافسة (روسيا الاتحادية)، وكانت تفتقر لها قوة عظمى قارية، مثل ألمانيا. الصين لم تعد تكتفي بشواطئها الطويلة الممتدة على معظم طول الساحل الغربي للمحيط الهادي، حيث مجالها الحيوي في بحر الصين الجنوبي، إلا أننا نراها تعمل على أن يكون لأسطولها البحري الواعد أذرع وقواعد للتموين والإمداد والمساندة والصيانة في باكستان وبنغلاديش وسيرلانكا وبعض دول غرب وشرق أفريقيا، وإن زعمت الصين أن ذلك لخدمة أسطولها التجاري ومساندته وحمايته من القرصنة، وليس بالضرورة يعكس أية استخدامات لأغراض استراتيجية.

 

المعجزة الصينية: الشيوعية بنكهة رأسمالية

 

الصين دولة، كما رأينا، عظمى، لم تعد تخفي (عمليا) طموحاتها للمنافسة على مكانة الهيمنة الكونية. قد لا توجد في النظام الدولي الآن قوة عظمى تتحمس لمكانة الهيمنة الكونية، وإن لم تعمد إلى الإفصاح عنها، مثل الصين. هناك العديد من أدبيات العلاقات الدولية، التي تشير إلى النظام الدولي الراهن، على أساس أنه يمثل عصر ما بعد الهيمنة الكونية لدولة أو مجموعة دولية على النظام الدولي، مثل ما كان عليه الحال أثناء تعاقب الأنظمة الدولية الحديثة منذ نهاية القرن الخامس عشر، وحتى سقوط نظام القطبية الثانية لعهد الحرب الباردة، بانهيار الاتحاد السوفيتي ومعه منظومة حلف وارسو.

 

الولايات المتحدة، التي أعلنت عقب انهيار المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي نهاية عقد ثمانينيات القرن الماضي، عن قيام نظام دولي جديد، إلا أنها أحجمت عن تنصيب نفسها القوة المهيمنة على مقدرات العالم، بوصفها أقوى وأغنى وأكثر دول العالم تقدماً، في عودة انكفائية لتوجهها الانعزالي التقليدي. الولايات المتحدة، باختصار: ليست لديها الإرادة السياسية لتبوء مكانة الهيمنة الكونية، رغم أنها قُدمت لها على طبق من ذهب بانهيار عدوها اللدود (الاتحاد السوفيتي)، من الداخل، الذي كان يتقاسم معها الهيمنة على العالم، في نظام الحرب الباردة، وبدون حرب فاصلة، كما هو شأن تداول مكانة الهيمنة الكونية، في الأنظمة الدولية السابقة.

 

كما أن الولايات المتحدة لا تخفي "جشعها المادي" للإنفاق على مكانة الهيمنة الكونية. فالهيمنة ليست مجرد سيطرة بدون تكلفة. مكانة الهيمنة الكونية تقتضي، أولاً القدرة والإرادة على الإنفاق ودفع تكلفة تبوء مكانة الهيمنة الكونية، وليس فقط التمتع بامتيازاتها، دون مقابل. الولايات المتحدة، لا تملك الإرادة، ولا ترغب في دفع فاتورة مكانة الهيمنة الكونية، معا، وإن كان "جشعها المادي" قد يزين لها استغلال وضعية مكانة الهيمنة الكونية، دون ما حاجة للإعلان عن ذلك، طمعاً في الحصول على موارد مادية وامتيازات سياسية ومكانة دبلوماسية، بل وإن أمكن حصانات وامتيازات قانونية، من جراء اعتقاد أو توهم أعضاء النظام الدولي أنها القوة الأولى والوحيدة في النظام الدولي، بلا منازع.  

 

روسيا وإن هي أرادت أن تظهر كونها منافسة قوية للولايات المتحدة على زعامة العالم، إلا أنها مقارنة بالولايات المتحدة وحتى الصين تعتبر قوة عظمى فقيرة اقتصادياً.. ومتخلفة تكنولوجياً.. يحكمها نظام سياسي، بالرغم من ديمقراطيته الظاهرة، إلا أنه مازال يتخفى وراء ثقافة قيصرية مستبدة، وما زل يرزح تحت عبء تجربة شيوعية مازالت متجذرة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا في النخبة السياسية الحاكمة في موسكو.

 

لم يبق إلا الصين، حيث نجحت بامتياز بالاحتفاظ بإرثها الاشتراكي أيدلوجياً، مع الانفتاح على إمكانات الاقتصاد الحر بحركة مؤسساته المالية وقيم قانون العرض والطلب، بكل خلفياته الرأسمالية. نظرية (دولة ونظامان)، التي قال بها زعيم الصين الحديثة دنغ شياو بنغ هي نفسها التي تحكم حركة وقيم النظام السياسي الصيني الحالي. الحزب الشيوعي يملك ناصية السياسة والحكم، والسيطرة على الجيش وأجهزة الأمن، بعيداً عن التدخل في شأن الاقتصاد.. أو تنمية مصالح اقتصادية خاصة بالحزب وكوادره.

 

هناك مقولة أخرى لهذا الزعيم الفذ تقول: لا يهم أن يكون القط أسود أم أبيض، المهم هي القدرة على اصطياد الفئران. بعبارة أكثر وضوحًا: أي وسيلة تعتبر مشروعة إن كانت تحقق التنمية المستدامة للصين.. وتضمن لها السيادة والسيطرة على العالم، حتى لو كان الأمر متعلقاً بالتمسك أيدلوجياً بالنظرية الاشتراكية التي تقول بها النظرية الماركسية، لحل المشكلة الاقتصادية. المهم على رجال السياسة أن يتفرغوا للقضايا الكبرى التي لها علاقة بالسيادة والسيطرة وتحقيق الآمال القومية للشعب الصيني في الداخل والخارج... وعلى رأس المال أن يحقق التنمية المستدامة، ودفع تكلفة مكانة الهيمنة الكونية لفرض السيطرة والسيادة على النظام الدولي.

 

الصين والعرب: تاريخ ممتد من الصداقة والتعاون

 

تاريخيًا: الصين لها علاقات ممتدة مع العرب، خاصة عرب جنوب الجزيرة العربية والخليج العربي. كانت تجارة الصين تاريخياً مع العالم القديم، حتى أوروبا، تمر بأراضي وموانئ العرب. براً كان طريق الحرير، الذي يخترق صحراء جوبي غرب الصين شمالاً عبر بلاد فارس ومنها للعراق والشام إلى أوروبا.. أو عبر صحراء سيناء إلى مصر وشمال إفريقيا ومناطق الصحراء الكبرى، حتى غرب إفريقيا.. أو بحراً جنوباً عبر مضيق ملقا إلى موانئ شبه القارة الهندية وصولاً إلى موانئ جنوب الجزيرة العربية وعبر مضيق باب المندب، إلى الإسكندرية، قبل حفر قناة السويس، ثم إلى أسواق أوربا محملة بالتوابل والحرير والبخور. 

 

كما أنه من الناحية السياسية والاستراتيجية حديثاً، لم ينس الصينيون موقف العرب منهم، طوال فترة الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية، التي فرضها الغرب على الصين الشعبية، عند إعلان استقلالها في الأول من أكتوبر ١٩٤٩م، بعد طرد حكومة تشاي كاي شيك الوطنية الموالية للغرب إلى جزيرة فرموزا. ظل العالم كله لا يعترف بالحكومة الشيوعية في بكين ويقاطعها اقتصادياً ويمارس عليها عزلاً سياسياً، إلا العرب، خاصة الدول الفاعلة في النظام العربي بزعامة مصر، التي أخرجت الصين إلى العالم عن طريق العضوية في حركة عدم الانحياز، الأمر الذي توج في بداية السبعينات باعتراف العالم بالصين الشعبية واستعادتها لمقعد الصين الدائم في مجلس الأمن. 

 

كما أن الصين، واتساقاً مع مبادئ مجموعة عدم الانحياز دعمت قضايا التحرر الوطني في العالم العربي، وتأتي في مقدمتها قضية فلسطين، التي تمسكت بها الصين، حتى تخلى عنها الكثير من العرب، وتفوقت اعتبارات العلاقات الجديدة مع الغرب والمصالح الاقتصادية الممتدة للصين في حركة التجارة الدولية في عصر العولمة... حيث أخذت العلاقات العربية الصينية منحّىً، اقتصادي ومصلحي في المقام الأول، بعيداً عن الأيدلوجية وشعاراتها، التي سادت علاقات العالم العربي مع العالم، في فترة المد القومي في الخمسينات والستينات، وحتى منتصف السبعينات، من القرن الماضي. 

 

السعودية: اكتشاف مبكّر لإمكانات الصين الاستراتيجية

 

كانت المملكة العربية السعودية آخر دولة عربية وخليجية تعترف بالصين يوليو ١٩٩٠م، وذلك لأسباب أيدلوجية لها علاقة بظروف وارتباطات نظام الحرب الباردة. وإن واكبت استعادة علاقات المملكة بموسكو ديسمبر ١٩٩١م، الذي أعلن فيه رسمياً تفكك الاتحاد السوفيتي وتبعه منظومة المعسكر الاشتراكي في أوربا الشرقية، إلا أن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة والصين، سبقت استعادتها مع السوفييت، بعام تقريباً، قد يكون لذلك أسباب استراتيجية، بعيدة كل البعد عن تلك الأسباب الأيدلوجية، التي حكمت سلبيا علاقات المملكة مع المعسكر الاشتراكي، بصفة عامة، قبل وأثناء فترة الحرب الباردة. 

 

صفقة صواريخ رياح الشرق التي أبرمتها المملكة مع الصين منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكانت مفاجأة للغرب، بل للعالم بأسره، حتى مراحل نصبها المتأخرة في قاعدة قرب الرياض، ربما تكون حساً استراتيجياً مبكراً من مؤسسات صناعة السياسة الخارجية السعودية للإمكانات الاستراتيجية الواعدة للصين، بعيداً عن تلك العلاقات غير المستقرة والتي تفتقر إلى الثقة، في كثير من جوانبها، مع الغرب، بزعامة الولايات المتحدة. المملكة، من الناحية الاستراتيجية، وعندما يتعلق الأمر بأمنها وأمن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لا تركن لغير تقديراتها.. واستقلالية قرارها، ولمواردها الذاتية للتعامل مع قضايا بحساسية قضية الأمن والدفاع عن كيانها ومحيطها الحيوي في منطقة الخليج العربي.

 

عندما رفضت الولايات المتحدة تزويد الرياض بصواريخ أرض ــ أرض من طراز ( Lance ) التي يصل مداها إلى ١٥٠ كم، لمواجهة تهديد إيراني وشيك وناجز. في ذلك الوقت، تحججت واشنطن بأمن إسرائيل، والخوف من الإخلال بما أسمته ميزان القوى في المنطقة! عندها عمدت المملكة للاتصال بطرف دولي (الصين)  له إمكانات استراتيجية واعدة قافزةً على محاذير الدبلوماسية.. وحساسية الأيدلوجية.. واعتبارات التوازنات الدولية وميزان القوى الإقليمي الهش في أكثر مناطق العالم توتراً، لتحصل المملكة على سلاح ردع يحمل إمكانات استراتيجية غير تقليدية يصل مداه إلى ٣ آلاف كم، وليس فقط ١٥٠ كم.

 

شراكة استراتيجية ندية وواعدة

 

دول الخليج العربي تمتلك متغيرين استراتيجيين تحتاجهما الصين، لمواصلة نموها في الداخل وإشباع توجهها التوسعي بالانخراط في مسرح السياسة الدولية، ومن ثمّ الخروج من قوقعة انعزالها التقليدي. المتغير الأول ( الطاقة) وعند عرب الخليج الكثير من مصادر الطاقة الأحفورية، بشقيها السائل والغازي، بضخامة متزايدة في الاحتياطي.. وبغزارة في الإنتاج.. وبأسعار منافسة، مع القدرة العالية في درجات الأمان والعقلانية لإشباع حاجات العالم من منتجات النفط ومشتقاته. المتغير الثاني: السوق الكبيرة والغنية، التي توفرها دول الخليج العربي، لإشباع حاجتها من السلع المصنعة وشبه المصنعة المنتجة في الصين والمتوفرة بجودة عالية وأسعار منافسة. 

 

إذًا: هناك إمكانية واعدة للتكامل بين اقتصاديات الصين واقتصاديات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. شراكة مصلحية تقوم على المصلحة المتبادلة، بعيدا عن أية عقد تاريخية.. أو حساسيات أيدلوجية.. أو تضارب مصالح، مع خصوم إقليمين أو أعداء لنا في المنطقة. على سبيل المثال: الصين ليس لها مصلحة أن تنصر إسرائيل علينا ظالمة أو مظلومة، كما هو الحال مع الغرب، الولايات المتحدة على وجه الخصوص. كما أن الصين ليس لها مصلحة أن تبتز وضع الخصومة الإقليمية بيننا وبين إيران. بالعكس، قد نكون في وضع أفضل مع الصين مقارنة بإيران، التي لها حدود متاخمة لدول قريبة للصين، تقطنها أقليات فارسية وتتارية و أزبكية وكازاخستانية، لها تاريخ صراع عنيف مع الصين. بالإضافة إلى أنه من الناحية الاستراتيجية البحتة: الصين حليف قوي لباكستان، التي تُعد عمقاً استراتيجياً لدول الخليج، والمملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص.

 

الصين وإن تطمح للمنافسة على الهيمنة الكونية، فإن ذلك لصالحنا، على أي حال. إحداث التوازن على مستوى النظام الدولي باضطرام المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية، في زمن يستحيل فيه تحول مثل هذه المنافسة إلى مواجهة نووية شاملة لا تبقي ولا تذر، هو - بالقطع - في صالح استقرار النظام الدولي ومراعاة مصالح وحقوق الصغار فيه من الدول. حكاية ما يبدو من اتفاق روسي صيني فيما يخص الأزمة السورية، المعني بها صينياً، الروس وليس العرب، بالذات. بهذا الموقف تريد أن تقول الصين، للجميع: أن لها مصالح واهتمامات باستقرار المنطقة، لا يمكن أن تترك للأمريكيين والغرب والروس، كما هي القضية تقليديا. قد لا نتجاوز، إذا ما قلنا: إن موقف الصين هذا انزعجت منه روسيا، أكثر من احتمالات أنه أثار الكثير من حفيظة العرب، خاصة دول مجلس التعاون. كان من صالح روسيا أن تمتنع الصين عن التصويت، طالما أنها متأكدة أن الروس لا يسمحون بتمرير القرار... لماذا إذن: تقحم الصين نفسها في قضية تعتبرها موسكومناصفة بينها وبين واشنطن، إلا إذا كانت الصين لها حسابات أخرى... حسابات تزعج الروس والأمريكان والأوربيون.

 

الصين: أمن المملكة ودول مجلس التعاون خط أحمر

 

في عصر ما بعد الهيمنة الكونية وتكلفتها الباهظة وعزوف دول تقليدية عظمى قادرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وما يبدو من عجز ورعونة منافسين دوليين محتملين مثل الروس، وجود منافس قوي وطموح للعب دور غير تقليدي بالنسبة له على الساحة الدولية ذو إمكانات اقتصادية واستراتيجية واعدة، مثل الصين، يصب - دون أدنى شك - في صالح توازن واستقرار النظام الدولي في أكثر مناطقه توتراً بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، على وجه الخصوص. هناك احتمالات كبيرة لقيام علاقة تكاملية واعدة في شؤون الاقتصاد وقضايا الأمن عبرت عنها زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الأخيرة لمصر وإيران والمملكة العربية السعودية، حيث لوحظ اهتماما خاصاً من قبل الرئيس الصيني بالمملكة العربية السعودية، بإعلان قيام شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين، ترسيخاً لما تم إعلانه في هذا الصدد عام ٢٠٠٨م.

 

كما أنه لا يمكن تجاهل تحري الرئيس الصيني ليكون أول رئيس دولة يزور إيران بعد رفع نظام العقوبات الاقتصادية بموجب اتفاق فينا يونيه ٢٠١٥م. تحري الرئيس الصيني، في زيارته الأخيرة للمنطقة لتأكيد استراتيجية الشراكة الشاملة مع المملكة، خاصةً في قضايا الدفاع والأمن، لهي رسالة مباشرة لإيران حرص الرئيس الصيني توصيلها شخصياً لنظام الملالي في طهران، مفادها: أن مستقبل العلاقات مع طهران يتوقف على مدى فهم ما تعنيه العلاقة الاستراتيجية الشاملة مع المملكة، خاصةً أن زيارة الرئيس الصيني للمملكة أكدت على تطابق وجهات النظر مع الرياض في ما يخص أزمتي اليمن وسوريا والتعاون المشترك في مكافحة الإرهاب وتبرئة الإسلام من خطيئته ووزره.

 

بهذا تقدم الصين نفسها كطرف دولي فاعل مقبول لدى جميع أطراف بؤر التوتر المشتعلة في المنطقة، بعيداً عن تعقيدات وتدخلات قوى عظمى تقليدية، يُعد سلوكها وتوجه سياستها الخارجية، في معظمه، سبباً في كثيرٍ من أزمات المنطقة، لا أطراف أمينة ذات ثقة لمساعدة حكومات وشعوب المنطقة على حل خلافاتهم سلمياً بعيداً عن استخدام القوة أو التهديد بها.

 

بنهاية عقد العشرينات القادم تتضح أكثر المكانة الدولية المرموقة للصين، لتتوارى قوىً تقليدية عن تصدر التحكم واحتكار القرار الدولي. الصين لن تتولى مكانة الهيمنة الكونية.. أو أنها سوف تضعف بصورة استراتيجية خطيرة وضع الولايات المتحدة البارز في حركة السياسة الدولية. لكن بروز الصين كمنافس طموح له تطلعات كونية، خارج ثقافته الانعزالية التقليدية، مما لا شك سيكون إضافة إيجابية لعالم أكثر استقراراً وأمناً، مما لو تُرك العالم لقوة عظمى وحيدة تتطلع إلى مكانة الهيمنة الكونية دون إبداء الاستعداد لدفع ثمنها، مثل الولايات المتحدة.

مجلة آراء حول الخليج