ترتفع وتيرة القلق العربي والدولي حول مصير ومستقبل أمن واستقرار الشعوب بين استفحال تنظيم الموت داعش وتفاقم أزمة اللاجئين التي ضربت أوروبا في صميم رفاهيتها، ولم يعد السؤال عربيًا إلا حول كيف يمكن البقاء بعيدًا عن فتيل الفتنة ؟؟ وما هي الوسائل الأنجح لتحقيق ما يرجى من سياسات في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وجه الخصوص لما تشمله من منابع للثروة دونما أي تداعيات عكسية وخيمة تتعدى في تأثيرها الحدود الأمنة لدول الصف الأول والتي كانت ولوقت قريب جدًا في مأمن عن كل توقع؟؟
وهنا نجد الدول العربية غارقة تمامًا في متاهة منعدمة الرؤية، تتخبط فيها بين حماية حدودها وأراضيها من الاستهدافات الإرهابية أيا كان مصدرها وإن اصطف الجميع اليوم حول توحيد الخطر الإرهابي في تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام أو ما اصطلح عليه بداعش، و بين متابعة حثيثة للفئات الشبابية من خطر التغرير بها والانضمام للتنظيم ورص صفوفه، وبين مراقبة الهيآت والتكتلات السياسية المعارضة في الداخل من أن تنتهز الفرصة وتسطو على الظروف للتقدم أشواطًا نحو زعزعة استقرار الأنظمة السائدة وافتكاك السلطة منها وهي في حالة غفلة من تدبر أمرها، ليظهر أمامها التحدي الأكبر وهو بقاؤها ككتلة واحدة متجانسة ضمن حدودها و تشكيلتها التي ورثتها عن الاحتلال أو الانتداب منذ منتصف القرن الفارط، و لتخطي ذلك تفاوتت الحلول من دولة عربية لأخرى، فهناك من فضلت النأي عن أي موقف قد يورطها إلا من وساطات الصلح ، فيما فضلت أخرى التكتل ضمن تحالفات قديمة جديدة لحماية مقدراتها ضمن المجموعة، أو التدخل في مناطق النزاع بدعم جهة أو فصيل لردع أي نجاح لا يواتي حساباتها وقد يجعلها المقبلة على القائمة .
و في هذه الدراسة سنحاول تسليط الضوء لمحاولة إعطاء قراءة للمشهد العربي ضمن التحديات القائمة بالتركيز على أهم دولتين الجزائر والمملكة العربية السعودية وما تمثلانه من ثقل عربي إحداهما في منطقة الشرق الأوسط، والأخرى في شمال إفريقيا وما سيشكله نجاحهما أو اخفاقهما في التقارب والانسجام إقليميًا ودوليًا في جعل القاطرة العربية تتخطى الوضع الراهن دون خسائر فادحة جديدة تجر دولا عربية أخرى نحو التفتت والاندثار ..
- الجزائر دولة مستقرة بحدود ملتهبة
الجزائر أكبر دول شمال إفريقيا، وتتربع على مساحة 2مليون و 381 الفا و 741 كلم مربع تطل على البحر الأبيض المتوسط بطول ساحل يصل إلى 1644 كلم، و تتشارك حدودها الجنوبية و الغربية و الشرقية مع كل من تونس و ليبيا و المغرب و موريتانيا و الصحراء والنيجر ومالي، و بتعداد سكاني تخطى من فترة وجيزة 40 مليون نسمة يتمركزون شمالا بكثافة سكانية تصل إلى 16,3 %حسب إحصائيات 2014م، وتقل كلما اتجهنا جنوبًا، تعيش على ريعها النفطي بنسبة 95% منذ استقلالها سنة 1962م، من القرن الفارط بعد أكثر من 130 سنة قضتها تحت نير الاحتلال الفرنسي، لم ينتهي إلا باندلاع ثورة التحرير المظفرة، ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م، والتي دعمتها كل الدول العربية و بكل ما أوتيت من وسائل فقط لكي تحيا الجزائر .
و لم تكن تلك بآخر الأحزان فقد شكلت الأزمة الاقتصادية أواخر ثمانينيات القرن المنصرم محطة هامة إن لم نقل مفصلية في تاريخ الجزائر نظرًا لما ترتبت عليها من تغيرات في نظامها السياسي والاقتصادي و الاجتماعي لاحقًا.
لقد عرفت الجزائر أسوأ أزماتها وأقبح كوابيسها عندما تهاوت أسعار النفط سنة 1986م، و تقرر على إثرها تطليق الاشتراكية ونظام الحزب الواحد والانتقال إلى التعددية ونظام رأس المال، ذلك الانتقال الذي أغفلت فيه الكثير من التفاصيل والخلفيات، كان باهظ الثمن، فقد دخلت البلاد في دوامة دامية لأكثر من عقد من الزمن تهاوت خلالها معظم معالم الدولة ، بعد أن سمح الانفتاح السياسي لأحزاب إسلامية الهوية من الارتقاء عبر الصناديق - فسر ساعتها سلوك المنتخبين بالاختيار الانتقامي من السلطة بسبب انغلاقها على نفسها منذ الاستقلال، وبعدها بسنوات انتقدت الكثير من التحليلات الطريقة التي تم بها فتح المجال السياسي في الجزائر على مصراعيه من طرف سلطة متمرسة أمام فئات شعبية تصنف ممارستها السياسية في خانة الأمية - ليأتي وقف المسار الانتخابي في 11 من شهر يناير من سنة 1992م، للحيلولة دون تمكين الإسلاميين من حزب جبهة الانقاذ من تسلم السلطة و يفتح باب النار الأمر الذي كلف الجزائر إلى جانب الخسائر المادية الهائلة خسائر بشرية وصلت إلى أكثر من 200 الف قتيل حسب إحصائيات لم تتبناها أي جهة رسمية جزائرية.
وبعد محاولات حثيثة للخروج من دائرة العنف التي رمت بالبلاد في عزلة تامة عن محيطها الإقليمي والدولي، وعرفت إحداها استقدام أحد رموز ثورة التحرير المجيدة الرئيس الراحل محمد بوضياف واغتياله في 29 من شهر يونيو 1992م، في مشهد سريالي صادم، وعبر نقل تلفزيوني مباشر لكل الجزائريين.
في الـسادس عشر من نوفمبر سنة 1995م، جاء فوز الجنرال اليمين زوال بالانتخابات الرئاسية كخطوة صلبة تجاه الخروج من الأزمة، وتم وضع دستور جديد وسن قانون الرحمة الذي شمل عدة إجراءات أمنية لصالح حاملي السلاح من الإسلاميين للتخلي عن مواجهة الدولة، ثم تلاه قانون الوئام المدني في ربيع عام 1999م، مع قدوم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وتم تعزيزه خلال فترات حكمه المتلاحقة ليصبح ميثاقًا للسلم و المصالحة بعد الاستفتاء عليه بالأغلبية الساحقة 97 % في 29 سبتمبر سنة 2005م، لتعود عجلة الحياة رويدًا رويدًا و تعرف الجزائر من جديد طعم الأمن والاستقرار، و ضمن الحاضنة الدولية، فانتعش الاقتصاد وعادت الشركات الكبرى للعمل على الأراضي الجزائرية وانتعشت الاستثمارات الأجنبية، وبدورها العلاقات الدبلوماسية التي كانت في حالة جمود أو انقطاع مع عديد من الدول التي عادت هي الأخرى لتنبض من جديد .. حتى جاء 17 ديسمبر سنة 2010م، عندما أغلقت الدنيا أبوابها أمام الشاب محمد البوعزيزي، ليقرر في لحظة حرق نفسه احتجاجًا، لتتغير أوضاع العالم العربي برمته دون رجعة من مسقط رأسه سيدي بوزيد.
ومن تونس إلى مصر فاليمن، ثم ليبيا، فسوريا انتشرت موجة السخط الجماهيري كالنار في الهشيم في أرجاء العالم العربي، فاهتزت أركانه وسقط صولجانه، ورغم مسارعة منظري الفكر الغربي في إطلاق تسمية الربيع، وثورة الياسمين، إلا أن شظايا الانفجار وحممه قضت على زهرة الشباب الذي امتطى الشارع، وسقط قتيلا بين هراوات الشرطة دواسات دبابات الجيش والبراميل المتفجرة، وعدوا بالمئات في تونس وبالألاف في ليبيا واليمن وبمئات الألاف في سوريا، إنه باختصار، الجحيم في أدنى صوره.
و رغم أن الأمور لم تتفاقم في تونس مركز الاهتزاز الثوري، بين ورثة الشارع من إسلاميي حركة النهضة والليبراليين، نظرًا للخصوصية الشديدة لخلفية النظام السياسي في تونس والذي درب على الانفتاح والممارسة وكذا لصغر البلد واعتماده بشكل كبير على عائدات السياحة عصب الاقتصاد، وحياد المؤسسة العسكرية من البدء، إلا أن المشاحنات السياسية التي تغذيها بدرجة كبيرة التوجهات الفكرية المتناقضة وتدعمها جهات عربية بارزة ساهمت في هشاشة الوضع الأمني لدرجة أن 50 من عناصر تنظيم الموت داعش أرادت إقامة إمارة في مدينة بن قردان الحدودية مع ليبيا في 7 مارس 2016م، في الوقت الذي تكاد تفشل فيه جل المساعي السياسية في تلجيم الأطراف المتنازعة الليبية من جماعات مسلحة متناثرة، حتى تجنح إلى السلم، وتفشل سيناريو كارثي بدأ مع التدخل العسكري بقيادة حلف الناتو الذي أطاح بنظام معمر القذافي عام2011م، وخلف وراءه كميات مهولة من السلاح دون حسيب أو رقيب ساهمت بشكل كبير في تناحر القبائل على مناطق النفوذ و الثروة، واستقطاب عناصر تنظيم الموت داعش ليعشعش في ثنايا الصحراء الليبية بعد أن ضيقت عليه قوات التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ودكت مواقعه في بلاد الشام والعراق، كل ذلك أدى إلى تصدع الوضع الأمني في كامل منطقة الساحل الإفريقي وانفجاره في أكثر دوله ضعفًا، مالي، فكان انقلاب مارس 2012م، واشتدت على إثره المواجهات المسلحة بين الجيش والجماعات المسيطرة في الشمال، ولأن المنطقة منطقة نفوذ فرنسي بامتياز، نظرًا لما تحويه من مصالح حيوية هامة على رأسها شركة (أريفا) لاستخراج اليورانيوم في النيجر ، لم تتوانَ باريس في التدخل عسكريا و شن حملة قوامها 1700 جندي إلى جانب الجيش المالي، وبدعم أوروبي وأممي، لدحر خطر الجماعات المسلحة، التي سيطرت على مدن استراتيجية في الشمال الشاسع وأعلنت عن نيتها تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق الخاضعة لسيطرتها وفي جلها مناطق مهمشة نخرها الفقر والجهل.
كل هذا يحدث على مقربة من الجزائر، فقط بفاصل حدودي يمتد على طول أكثر من 3300 كلم تتشاركها مع كل من تونس وليبيا ومالي، دول فقدت استقرارها السياسي والأمني وتحولت إلى مصدر قلق، وهاجس مؤرق يضع الأمن القومي الجزائري في مرمى هدف الجماعات الإرهابية، وعلى امتداد حدودي يغوص أغلبه في صحراء قاحلة صعبة الميراس، ترفع أمام القوات العسكرية الجزائرية أكبر تحدي وهو مراقبة الحدود وحمايتها من أي تسلل لعناصر خطرة أو لمرور شحنات سلاح مهربة، ليدق في شهر يناير 2013 م، ناقوس الخطر تمثل في اعتداءات مركب تيقنتورين الطاقوي، التي راح ضحيتها 37 رهينة أجنبية و 29 إرهابيًا، ما شكل محطة هامة في الاستراتيجية الأمنية الجزائرية فقد كشف هذا الحدث عن مدى خطورة الوضع المحيط بالجزائر خصوصًا على حدودها الشرقية والجنوبية، وأن الفعالية الدفاعية لقوات الأمن والجيش وتجهيزاتهما لن تفي بحماية شاملة دون اللجوء للتعاون الأمني والمعلوماتي والمساهمة بشكل مباشر في تفتيت الخطر القابع في الجهة الأخرى عن طريق تعزيز النهج السلمي للوصول إلى التسوية السياسية الضامن الوحيد لدرء الخطر الإرهابي المتربص.
و كان اتفاق السلم والمصالحة بين الأطراف المالية المتصارعة باكورة السعي الجزائري والموقع في العاصمة المالية باماكو شهر يونيو 2015م، بعد مخاض عسير تعرض خلاله الموقف الجزائري الرافض لأي تدخل لقواتها خارج الحدود إلى الكثير من الانتقاد على خلفية السماح للطائرات الفرنسية باستعمال المجال الجوي الجزائري في حملتها العسكرية على الجماعات المسلحة المتمركزة في شمال مالي رغم أن القرار جاء بعد اجتماعات مطولة ودراسة وتنسيق كبيرين من أجل تحقيق هدف مشترك يخدم مصلحة البلدين والمنطقة برمتها في آن واحد ولم يمثل ذلك مطلقًا مساسًا بالسيادة الوطنية أو ثوابتها إذا ما كان الأمن القومي الجزائري هو من على المحك وهو عكس ما ذهب إليه الكثير من المراقبين و المحللين حينها.
كما سعت الجزائر إلى تعزيز تعاونها المعلوماتي والاستخباراتي لمواجهة الأخطار المحدقة من إرهاب وجريمة منظمة على حدودها الجنوبية عبر لجنة الأركان العملياتية المشتركة، وهو اجتماع لمجلس رؤساء أركان الجزائر، ومالي، وموريتانيا، والنيجر.
أما ليبيا، فقد عمدت الجزائر إلى الانخراط بشكل كبير في كل المبادرات الرامية إلى دعم لغة الحوار والتفاوض بين الإخوة الفرقاء، و باجتهاد حثيث في رعاية جلسات الحوار لإنهاء الأزمة وإطلاق حياة سياسية مؤسسة، تنهي حالة الانقسام و التشرذم، فكانت جزءًا من مجموعة الاتصال التي نصبت في شهر ديسمبر 2014م، تحت إشراف مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي، وأحد أطراف الاجتماع الثلاثي الذي ضم أكثر من مرة وزراء خارجية كل من مصر وإيطاليا، واجتماع دول جوار ليبيا بمشاركة ممثلي الأمم المتحدة و المنظمات الإقليمية وصولا إلى زيارة وزير الخارجية للشؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية عبد القادر مساهل إلى العاصمة طرابلس دعمًا لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج والتي كانت نتاج أشواط مريرة من التفاوض.
تونسيا، كان الدعم الجزائري شاملا، و لم يقتصر على المجال الأمني فقط، بل حرصت الجزائر على أن يكون اقتصاديًا و سياسيًا، و صرح المسؤولون الجزائريون في أكثر من مناسبة .. أن أمن واستقرار تونس من أمن واستقرار الجزائر وأن هذه الأخيرة لن تتخلى عن دعم تونس حتى تثبت على قدميها من جديد، وعرفت العاصمة الجزائر زيارات مكوكية لمسؤولين تونسيين، من أعلى هرم السلطة ممثلة في الرئيس الباجي قايد السبسي الذي خص الجزائر بأول زيارة له خارج تونس، بعد توليه منصب الرئاسة، إلى وزراء ونواب برلمانيين ومدراء تنفيذيين، وحتى زعماء حزبيين على رأسهم راشد الغنوشي الذي زار الجزائر مرات عدة، وخص في كل مرة بلقاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شخصيًا.
كل هذه الجهود التي تسعى الجزائر من خلالها إلى مساعدة جيرانها من الاشقاء في وقتهم العصيب هذا، دونما الإخلال بمبادئها الدبلوماسية العريقة التي ورثتها جيلا بعد جيل عن ثورة التحرير المجيدة، هي في حقيقة الأمر جهود مضنية في جو عربي محبط لا يتوانى عن كيل النقد غير المبرر، وغير المتفهم، لحاجة دولة كبيرة مترامية الأطراف كالجزائر، ريعية بامتياز في بيئة ملتهبة، بها متربصون متعددون يتلمسون لها الخطأ القاتل لا يردعهم في ذلك، إلا ذاكرة اجتماعية جريحة، من تجربة أليمة، نشهد مثيلاتها اليوم فقط، في ليبيا واليمن وسوريا وقبلها كان العراق الذي ترك لقدره بين فكي الرحى .. فلماذا يوجه النقد إلى الجزائر على مواقفها ولماذا تعاقب عليها، من دول عربية كبيرة ومؤثرة عربيًا وخليجيًا، في وقت يتطلب فيه الوضع الراهن تماسكًا وتآزرًا عربيًا، حفاظًا على ديمومتها أمام مد التفكيك والتقسيم الذي يحركه معول الغرب.
لتفتيت كل المنطقة ومكوناتها لإعادة صياغتها حسب منظور جديد؟
- العلاقات الجزائرية ــ السعودية نقاط الاختلاف والتلاقي
لا أريد أن أبدأ من حيث انتهى الجميع، القمة الخليجية ــ المغربية الاستثنائية والأولى من نوعها على الإطلاق بالرياض 20 أبريل 2016م، ودعم العواصم الخليجية لسلامة الأراضي المغربية.. لأنني وببساطة أريد طرح عدة تساؤلات حولها، خاصة أن المملكة العربية السعودية، التي طالما عرف عنها الحكمة والتروي والاحتواء، ولا سيما تجاه قضية يتم تداولها في أروقة الأمم المتحدة وصدر في حقها الكثير من القرارات الأممية، وهناك بعثة أممية (المينرسو) على الأرض وممثل شخصي للأمين العام ممثلا بالدبلوماسي الأمريكي كريستوفور روس، لذلك فإننا نأمل ألا يكون ذلك موجهاً مباشرة إلى الجزائر، فلا مصلحة لدول مجلس التعاون الخليجي في الاصطفاف ضد الجزائر، فإن للجزائر في دعمها الدائم وغير المشروط، لقضية الصحراء الغربية، واحتضانها لمخيمات اللاجئين الصحراويين اعتبارات عدة على رأسها مبادئ ثورة نوفمبر في دعم حرية الشعوب، وليس أفضل من الجزائر لتعرف معنًا لكل ذلك، وإن أراد البعض أن يعطيها تفسيرا جيوسياسيًا، وبأن الدعم الجزائري لقضية الصحراء الغربية وراءه مصالح أمنية وسياسية بامتياز، جعلت كل الرؤساء و الحكومات المتعاقبة في الجزائر لا تغير من أولوياتها في الشأن، وهذا الموقف لا يحمل إلا معنًا واحدًا ووحيدًا، هو أن القضية الصحراوية بالغة الاستراتيجية في الحسابات الجزائرية، لذلك لا نتوقع أي اصطفاف خليجي تجاه طرف على حساب آخر ، في حين نحن جميعً نبحث عن التكامل والتقارب لا التباعد والتشرذم وتوسيع هوة الخلافات.
وفي حين رأى الكثيرون أن زيارة المستشار الشخصي لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة للرياض أوائل شهر أبريل 2016م، ولقاءه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كانت فرصة للتقارب كثيرًا بين البلدين بعد المواقف المتتالية للجزائر والتي تبدو لم تصب في المجرى السعودي منذ إعلان بدأ عملية عاصفة الحزم ورفض الجزائر المشاركة فيها، وكان هذا الرفض لنقطتين هامتين تم إغفالهما في جل التحليلات التي قرأتها في هذا السياق، أولها: أن الجيش الجزائري لا يحارب خارج حدوده، وهذا من الثوابت الدستورية، ثانيا والأهم أن الجزائر دولة مترامية الأطراف تتواجد في بيئة غير مستقرة ولا أمنة وتحدق بها الأخطار من كل حدب و صوب، و حماية الوطن أولوية الأولويات. وكان ذلك موقف الجزائر ذاته تجاه تشكيل الرياض لحلف إسلامي، بيد أن الجزائر رفضت من قبل الطرح المصري بتشكيل قوة عربية مشتركة للتدخل السريع، نظرًا لعدم توافقها ومساعي منظمة الاتحاد الإفريقي التي تعد الجزائر عضوًا مؤسسًا بها، وذلك في تعزيز الأمن الإفريقي بمفهومه الشامل والخاص .. كما أن تحفظ الجزائر خلال قمة منظمة المؤتمر الإسلامي الأخيرة في إسطنبول على إدراج حزب الله كمنظمة إرهابية لأنه يعد مكونًا في النسيج الاجتماعي والسياسي في لبنان مع عدم الإقرار مطلقاً بقيام أي حزب أو جماعة بممارسة الإرهاب.
و في خفايا ما يتم الإعلان عنه من كل هذا، نجد جزئية التقارب الجزائري ـ الإيراني مربط فرس الموقف الخليجي من الجزائر، وما عنته زيارة العديد من المسؤولين الإيرانيين إلى الجزائر وعلى رأسهم الأخيرة لنائب الرئيس الإيراني الأول إسحاق جهانغيري منتصف شهر ديسمبر 2015م، رغم أن تطور العلاقات الإيرانية ـ الجزائرية يأتي في سياق طبيعي توافقت فيه رؤية البلدين في عدد من الملفات على رأسها الأزمة السورية وأسعار النفط، وبعد إنهاء إدارة الرئيس حسن روحاني ملف المفاوضات النووية مع الغرب، تسعى إيران إلى مد جسور العلاقات والتعاون مع عدد كبير من الدول تأتي على رأسها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ولا تمثل الجزائر الاستثناء في ذلك، ثم إن نسق العلاقات بين كل من طهران والجزائر عرف مطبات وعقبات كثيرة عبر تاريخه، من تقارب مميز بين البلدين منذ أيام الشاه وعقب الثورة الإسلامية التي رحبت بها الجزائر ، و رعاية هذه الأخيرة للمصالح الإيرانية في الولايات المتحدة بعد تدهور العلاقات بين الاثنين، إلى قطيعة حقيقية بعد قرار وقف المسار الانتخابي في الجزائر سنة 1992م، ودعم إيران لقادة حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية والذي اعتبرته الجزائر تدخلا في شؤونها الداخلية، لتقطع بشكل رسمي شهر مارس 1993م، وتعود مرة أخرى شهر سبتمبر من سنة 2000م، ويتم تبادل السفراء حتى أكتوبر 2001م.
وبالتالي لا يشمل التقارب الجزائري ــ الإيراني اليوم أي استثناءات تبني عليها دول مجلس التعاون الخليجي موقفها مع الجزائر. كما أن المملكة أكبر مصدر نفطي، وفي خضم انخفاض أسعار النفط كانت تأمل الجزائر أن تلعب المملكة دورًا أكبر لخفض إنتاج دول أوبك أو القيام بمساعي لتثبيت أسعار السوق، خاصة أن الجزائر دولة ريعية وتتأثر بشكل مباشر بانخفاض أسعار النفط، الأمر الذي يؤثر على تصدع جبهتها الداخلية وبما يؤثر على استقرارها السياسي والأمني، إذا تحققت مخاوف الخبراء من ظهور انتشار واتساع موجات الاحتجاج الشعبي ضد ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وانهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة ...
خاتمة
إن الوضع الراهن الذي فرضته تغيرات كثيرة، لم تكن سهلة التوقع ولا الاحتواء لمعظم الدول العربية سواءً في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا لا يستدعي تحت أي مسمى كان
أن تسعى فيه الدول المعول عليها في سحب القاطرة العربية من مستنقع التشرذم والتفكيك و أخص بالذكر هنا الجزائر والمملكة العربية السعودية، لما تتميزان به من خصوصية القوة و الاستقرار و التأثير، إلى تبديد مكتسباتها ونقاط قوتها في تجاذبات صفرية ومواقف لا طائل منها، إلا إضعاف الهمم وتشتيت الجمع والصف العربي، أو وأد أية محاولة تقارب مثمر تعود بشعوب المنطقة إلى عهدها الزاخر و الزاهر .. إن الأمة العربية اليوم لا ينقصها أعداء جدد، فما هو موجود يكفي، وعلى قادة أوطاننا التريث مليا قبل تحديد قوائمها منهم، ويكفينا دروسًا، ما تعانيه ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وقد أثبتت التجارب أن الانجرار خلف الحروب لا يجلب إلا الخراب.
وفيما أن كل شيء محيط بنا وفي ذواتنا، يجمعنا ونحن متفرقون، نسأل العلي القدير أن يرأف لحالنا ويلم شملنا وإلا ذهبت ريحنا، وسنأكل كما أكل يوما ... الثور الابيض.