بعد أن تبنت قمة بيروت عام 2002م، مبادرة السلام العربية التي طرحها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ وتبنتها جامعة الدول العربية في كل القمم اللاحقة لحل القضية الفلسطينية وفقًا لمبدأ الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية مقابل السلام الكامل. طرأت عدة متغيرات أثرت على مسيرة السلام ما جعلها تتوقف أو تتراجع إلى الخلف، من بينها الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، ومحاولات دول إقليمية غير عربية استثمار هذه الخلافات للتغلغل في الشأن الفلسطيني وفي مقدمتها إيران لكسب تأييد الشارع الإسلامي والعربي على حساب حكومات هذه الدول، ثم جاءت أحداث ما يسمى بالربيع العربي التي جعلت الدول العربية الفاعلة أكثر انكفاءً، في حين غابت دول أخرى عن المشهد العربي جراء الحروب الأهلية والصراعات الداخلية.
لكن في الآونة الأخيرة لمعت بارقة أمل في سماء قضية العرب المركزية حيث كان من المقرر أن تستضيف فرنسا نهاية شهر مايو الماضي مؤتمرًا دوليًا لتحريك عملية السلام في الشرق الأوسط لكن تم تأجيله إلى وقت لاحق لاستكمال الترتيبات على ما يبدو، ما يعني أن الجهود الدولية والإقليمية أخذت في العودة باتجاه تحريك مبادرة السلام العربية، والمضي قدمًا لتمهيد طريق السلام الذي اعترته الكثير من العقبات.
وفي ظل هذه المراوحة على المستويين الدولي والإقليمي، ظهرت مبادرة جديدة لإحياء عملية السلام المتعثرة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم الثلاثاء السابع عشر من مايو الماضي على هامش افتتاح محطة لتوليد الكهرباء في أسيوط بصعيد مصر، هذه المبادرة جاءت في التوقيت المناسب وحملت مضمونًا غاية في الأهمية والذكاء ويخدم كافة أطراف عملية السلام، لذلك تلقفتها وتفاعلت معها الأطراف المعنية مجتمعة رغم اختلاف مصالحها وأهدافها. كما أكدت هذه المبادرة أن القضية الفلسطينية حاضرة على أجندة القيادات العربية في كل المراحل ورغم تغير الظروف وتبدل الأولويات، حيث ربطت مبادرة الرئيس السيسي ببراعة بين دفء العلاقة بين مصر وإسرائيل والحل العادل للقضية الفلسطينية وفي ذلك رد منطقي على شكوى إسرائيل من برود التطبيع مع مصر الذي يظل أسير التوجه الحكومي فقط دون الشعبي خاصة مع تزايد تأثير الشارع المصري على إدارة الأحداث بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
من جانبها، تلقفت إسرائيل المبادرة بسرعة وتفاعلت معها لكون الوقت مناسب لتحريك ملف مفاوضات السلام لأسباب داخلية تتمثل في الانتخابات والمنافسات الحزبية، ولأسباب دولية وإقليمية منها تراجع دور أمريكا في منطقة الشرق الأوسط وتأهبها لمغادرة المنطقة مع تأكيد واشنطن على أنها لن تتدخل في حروب خارج أراضيها ما من شأنه أن تعتمد إسرائيل على حماية نفسها حتى وإن كان ذلك يبدو ظاهريًا، إضافة إلى تنامي دور إيران الإقليمي، فإيران تتواجد حاليًا في موقع الجوار المباشر مع إسرائيل من خلال تواجدها في سوريا والعراق، خلال ذراعها العسكري الإقليمي حزب الله اللبناني، وإن كانت توجد اتفاقيات سرية أو ضمنية للوفاق بين إسرائيل وإيران، لكن مع طول أمد هذا الوفاق بين طهران وتل أبيب سوف يكتشف الشارع الإسلامي والغربي هذا الوفاق وهو ما لا يريده الطرفان، لأنهما يستمدان التعاطف الإسلامي والدولي من الصراع المعلن بينهما وهو في الواقع ليس صراعًا حقيقيًا.
كما أن حماس أبدت ترحيبًا بالمبادرة وكذلك حركة فتح، لأسباب كثيرة من بينها تداعيات ما يسمى بثورات الربيع العربي، وأفول نجم الإخوان المسلمين بعد سقوطهم في مصر وبقية الدول العربية الأخرى، وقد كانت حماس تعتبر الإخوان المسلمين وتنظيمات الإسلام السياسي هي الداعم لها في المنطقة بل هي الامتداد السياسي لهم في الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى أن الحلفاء التقليديين لحماس من خارج المنطقة تغيرت أولوياتهم سواء في تركيا أو إيران بسبب تحولات داخلية أو دولية وإقليمية أثرت على السياسة الخارجية للدولتين، لا سيما تجاه القضية الفلسطينية.
كما أن نوبة الاستيقاظ الدولية والمتمثلة في مؤتمر باريس تعكس استجابة الغرب لتحريك عملية السلام ضمن آليات مواجهة الإرهاب الذي بات أكثر تهديدًا لمصالح الدول الغربية التي تنبهت إلى أن إيواء تنظيمات الإسلام السياسي لن تجعلها في مأمن من شرورها.
مبادرة السلام التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي تأتي ضمن الجهود العربية التي تسعى لتحقيق السلام، وفي سياق العمل العربي المشترك الداعم لحل قضية العرب المركزية وفقًا للقرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام، كون مصر رئيس القمة العربية في دورتها الحالية، كما أن هذه المبادرة جاءت قبيل انعقاد قمة موريتانيا في يوليو المقبل التي سوف تدعم الجهد العربي الرامي لتحقيق السلام وهو ما يحقق السلام في المنطقة، ويعيد الأرض والدولة للشعب الفلسطيني، وهو ما نأمله ويأمله جميع العرب.