في إفريقيا عشر دول عربية من اثنين وعشرين دولة عربية (مصر، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، الصومال، جيبوتي، وجزر القُمُر). يعيش في هذه الدول العربية الإفريقية، ٧٠٪ من عدد سكان العالم العربي (٣٩٠ مليون نسمة).. يقطنون في مساحة تقدر بـ ٦٠٪ من مساحة العالم العربي البالغة: ١٣.٣٣٣ مليون كم مربع، تساهم هذه الدول العربية الإفريقية بما مقداره ٣٨٪ من الناتج الإجمالي للعالم العربي البالغ: ٢.٧٥ ترليون دولار (إحصاءات ٢٠١٥م). إذن: في. أفريقيا، عدد أقل نسبيًا، من الدول العربية، وإن كان بها ما يزيد عن ثلثي العرب، في مساحة من الأرض تزيد مرة ونصف عن تلك التي يقطنها أشقاؤهم في المشرق (الآسيوي)، وإن كان عرب المشرق يساهمون في الناتج الإجمالي للعالم العربي بما يصل إلى ثلاثة أضعاف نصيب أشقائهم من عرب المغرب العربي (الإفريقي).
هذه الأرقام، رغم تفاوتها، إلا أنها تعكس تعددية ثقافية وحضارية لشعوب العالم العربي، أكثر منها مجرد اختلافات جهوية، قد تفرضها تضاريس الجغرافيا ورحابة المساحة، ولا نَقُل بعد المسافة. كما أن تلك التعددية الثقافية والحضارية -في حقيقة الأمر -تعكس صلات تاريخية وامتداد جغرافي، بل وعمق استراتيجي، في مساحة أوسع وعدد أكبر من البشر، يربط عرب المشرق والمغرب معًا، بالقارة السوداء (أفريقيا)، حيث موطن الإنسان الأول. ليس هناك بين شعوب الأرض ما يمكن للمرء أن يرصد ويسجل تقاربًا، من الناحية الثقافية والتاريخية والعرقية، عابر للقارات، مثل ذلك الذي يربط العرب، في مشرق العالم العربي ومغربه، بإفريقيا، خصوصًا شرق وغرب إفريقيا، وحتى جنوب الصحراء الكبرى. فمنطقة الصحراء الكبرى، تمثل خطًا عريضًا، غني بالثقافة والحضارة والدين، وحتى اللغة، يشكل امتدادًا جغرافيًا وصلة تاريخية، بل وحتى عمقًا استراتيجيًا للعرب، في نصف الكرة الجنوبي، بما لا يتوفر للعالم العربي، على تخومه الشرقية والجنوبية الشرقية، ولا حتى الشمالية، لو أستثنينا، إلى حدٍ ما تركيا.
الإسلام: بداية التاريخ
لم تقبل الإسلام بخلفيته الثقافية (العروبية) مناطق جغرافية أو جماعات سكانية، كما رحبت به إفريقيا وشعوبها. أكثر من ضعفي العرب يقطنون إفريقيا، وأكثر من مرة ونصف من مساحة العالم العربي تقع في إفريقيا... حقيقة جغرافية، بجوانبها التضاريسية والإنسانية، لا نجد لها محاكاة، في المناطق التي فتحها المسلمون العرب من شبه الجزيرة العربية، على تخوم العالم العربي الشرقية والجنوبية الشرقية والشمالية. لقد قبلت إفريقيا، سكانها، خاصة في شمال إفريقيا، وأيضًا مناطق شاسعة في الصحراء الكبرى، وعلى الساحل الشرقي والغربي لإفريقيا، الاثنين معًا: الإسلام واللغة (العربية)، التي أُنزِل بها القرآن.
وإن كانت هذه الحقيقة الثقافية والإنسانية ظاهرة في دول الشمال الإفريقي العربية، إلا أنها أيضًا، حاضرة في شعوب منطقة الصحراء الكبرى، وفي مناطق شاسعة في دول شرق وغرب إفريقيا، مثل: السنغال والنيجر ونيجيريا وتشاد وأثيوبيا وأريتريا وكينيا وتنزانيا. ما جعل العربية تنحسر، رسمياً، في مجتمعات تلك الدول، النزعة القومية التي غذًاها الاستعمار وتبنتها الأقليات غير المسلمة، منذ بداية القرن الماضي. بالرغم من ذلك نجد اللغة العربية منتشرة في تلك المجتمعات، ولو بصورة غير رسمية، تطبيقاً لمبدأ قبول الإسلام والعربية، معًا، الذي جاء مع الفاتحين العرب الأوائل، ووجدوا أرضًا خصبة بفطرة أهلها السليمة لنشر الإسلام وتعلم لغة القرآن.
الإسلام، وإن كان تاريخيًا، جديدًا على إفريقيا وأهلها، كما هو على العرب في شبه الجزيرة، إلا أن العربية كانت متواجدة على تخوم العالم العربي الغربية (الإفريقية)، امتدادًا من الضفة الشرقية لدلتا النيل، وحتى جنوب السودان، على طول الساحل الإفريقي للبحر الأحمر، وحتى جنوب الصومال، على الساحل الغربي للمحيط الهندي، بعمق الهضبة الأثيوبية. لم يكن لعمرو بن العاص، بما لديه من جند لا يتجاوزون بضعة آلاف مقاتل من فتح مصر، لولا القبائل العربية المتواجدة في سيناء والشرقية، وعلى حواف ضفة النيل الشرقية، وحتى صعيد مصر. هذه القبائل العربية لم تقدم لجيش المسلمين الفاتح المدد والعتاد اللازم، من باب الحمية العربية إذ لم يدخلوا بعد في الإسلام، فحسب... بل قدموا، أيضاً: خدمات "لوجستية" ومعلومات "استخباراتية" مهمة لها علاقة مباشرة بحاميات ومواقع الإمبراطورية الرومانية، التي كانت تحتل مصر، وتحكم شعبها بالحديد والنار. عمرو بن العاص، استعان أيضاً بهذه القبائل العربية، التي كانت تتقن اللغة المصرية، في إدارة حكمه لمصر، ولم يكونوا بعد قد دخلوا الإسلام.
لقد أخذ من العرب المسلمين أربعة قرون لتصبح مصر ولاية عربية خالصة للخلافة الإسلامية، حتى أن الخلافة الإسلامية انتقلت إلى القاهرة لفترة قصيرة بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد (١٠ فبراير ١٢٥٨م). لم يأخذ المصريون الإسلام، فقط، لكنهم أخذوا لغة القرآن (العربية)، أيضاً. حتّى أقباط مصر، الذين لم يُكْرهوا على ترك دينهم، لم يُحال بينهم وبين كنائسهم وأديرتهم وصلبانهم ورهبانهم، من قبل الحكم الإسلامي، أقبلوا على اللغة العربية... وما أن جاء القرن العاشر الميلادي إلا وكان معظم أقباط مصر قد دخلوا الإسلام وانصهروا مع أخوتهم العرب المسلمين.. وما بقي منهم على دينه، ترك لغته القبطية وجعل اللغة العربية لسانه... حتى شعائر الصلاة في كنائس أقباط مصر كانت تؤدى باللغة العربية... واستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا، حيث أصبحت مصر عربية ١٠٠٪ ومسلمة بما يزيد عن ٩٥٪ من سكانها العرب.
ما تطور في مصر، من انتشار للإسلام ولغة الضاد، انتشر على طوال ساحل البحر المتوسط الجنوبي في الشمال الإفريقي، وجزء كبير من ساحل الأطلسي الشرقي من الغرب الإفريقي. حتى كانت مدينة ( تمبوكتو) وسط النيجر، إلى القرن التاسع عشر، منارة لنشر الإسلام وحاضرة لتعلم اللغة العربية، يشع نورها منطقة الصحراء الكبرى، على طول الحافة الشمالية للمنطقة الاستوائية في وسط إفريقيا. الآن كل دول الصحراء الكبرى وجنوبها دولاً إسلامية، تحرص في مناهجها التعليمية على دراسة اللغة العربية وعلوم الدين الحنيف.. وكان للأزهر الشريف في مصر، وكذا المعاهد العلمية وجامعات المملكة العربية السعودية، خاصة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، دورٌ مشهودٌ في نشر تعلم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الدول الإفريقية، حتى جنوب الصحراء الكبرى... بل أن الأزهر والمعاهد العلمية الدينية بالمملكة أمتد برنامجهم للبعوث الإسلامية إلى ما وراء ذلك، خارج إفريقيا، في دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية، ودول آسيا الصغرى وحتى، الصين وكوريا واليابان، في تجسيد قوي لما تتمتع به كلٌ من مصر والمملكة العربية السعودية من قوة ناعمة مؤثرة، تجمع موارد العرب وإرثهم الثقافي والحضاري، مشرق العالم العربي ( الآسيوي ) ومغربه ( الإفريقي )، على امتداد العالمين العربي والإسلامي.
المد القومي.. ونشأة الدولة الحديثة
بداية القرن الماضي، كانت حقائق الجغرافيا، بتضاريسها وبعدها الإنساني، يفرضان بمنطقهما، سلوك العرب، في مشرق العالم العربي (الآسيوي) ومغربه (الإفريقي)، معًا. كان حلم وحدة الشعوب والأرض حاضراً، لدى النخب السياسية على ضفتي العالم العربي الآسيوية والإفريقية، متجذراً في ضمير الشعوب العربية، من الخليج للمحيط. كانت البداية، في أوج معمعة الحرب الكونية الأولى (١٩١٤-١٩١٩م)، بطموحات شريف مكة الحسين ابن علي، لإنشاء دولة عربية واحدة في مشرق العالم العربي. من أهم مسببات فشل هذا المشروع، أن طموحات شريف مكة كانت محدودة، إذ اقتصرت على مشرق العالم العربي (الآسيوي) ولم تمتد إلى مغرب العالم العربي (الإفريقي)، بحاضرته العربية الكبرى (مصر).. وكذا اعتماد شريف مكة على قوة كبرى (بريطانيا العظمى)، لها حساباتها الاستعمارية، التي لم يفطِن إليها، أو أنه بالغ في تقديره لاهتمام وحاجة الإنجليز إليه. كانت النتيجة أن الحسين بن علي لم يحقق طموحاته، بل وخسر إمارته، ذات المكانة التاريخية والاستراتيجية العظمى، بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، لصالح عدوه اللدود ابن سعود (الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود)، الذي كان أكثر ذكاء وحنكة.. وتواضعا في طموحاته.. ودراية بتوازن القوى العالمي، في فترة ما بعد الحرب الأولى، ومعرفة بحركة التاريخ من شريف مكة الحسين بن علي.
أخذ من العرب ربع قرن، دارت خلالها حرب عالمية ثانية ضروس (الحرب الكونية الثانية ١٩٣٦-١٩٤٥م)، ليعي العرب القيمة الاستراتيجية العظمى، لربط شرق العالم العربي (الآسيوي) بغربه (الأفريقي)، فكان مشروع الجامعة العربية الذي بادرت بالدعوة إليه والدفع باتجاهه مصر. وإن جاء مشروع الجامعة العربية كتوجه فطري، بضرورة إنشاء كيان إقليمي مشترك بين شرق العالم العربي الآسيوي، وغربه الإفريقي اتساقاً، مع حقائق الجغرافيا، ببعديها التضاريسي والإنساني.. وصلات التاريخ، بمتغيراتها الثقافية والدينية واللغوية والعرقية، إلا أنه لا يمكن تجاوز البعد الاستراتيجي الأمني لمشروع الجامعة العربية. لقد ظهر للعرب جلياً، استحالة إقامة وحدة سياسية عربية -أو على الأقل كيان تكاملي إقليمي -متين يجمع الدول العربية، حتى بين تلك الدول المؤسسة للجامعة العربية، وذلك بسبب منطق وواقع نموذج الدولة القومية الحديثة السائد، حينها، بين تلك الدول المؤسسة للجامعة العربية، أو أي دولة عربية تنال استقلالها، ومن ثَمّ تطلب الانضمام للجامعة العربية.
مع ذلك كان على العرب، من الناحية الاستراتيجية، مواجهة تحدي احتمال وجود إسرائيل في قلب العالم العربي، الذي من الناحية الجغرافية يمكن أن يشكل عازلاً جغرافياً بين شق العالم الشرقي (الآسيوي)، وشقه الغربي (الإفريقي)، الذي تحقق فعلاً، بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى سنة ١٩٤٨م، عندما استولت إسرائيل على قرية أم الرشراش المصرية، وأصبح لها منذ ذلك الحين منفذاً على خليج العقبة، الذي كان من قبل قيام إسرائيل واحتلال مدينة أم الرشراش المصرية، التي أقيمت علها مدينة إيلات، بحيرة عربية بالكامل، ليصبح مدخله الجنوبي على البحر الأحمر (مضيق تيران) ممرًا دوليًا. تأكد ذلك، بصورة فعلية، بنتيجة حربي ١٩٥٦، ١٩٦٧م. وبعد ذلك بصفة رسمية بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في: ٢٦ مارس ١٩٧٩م.
قيام الجامعة العربية (٢٢ مارس ١٩٤٥م) يعكس أول جهد إقليمي عربي، في العصر الحديث، لربط مشرق العالم العربي في آسيا بمغربه في إفريقيا، وذلك قبل إعلان قيام إسرائيل في ١٥ مايو ١٩٤٨م، ليتواصل شقي العالم العربي الآسيوي والإفريقي، ولو على المستوى السياسي، رغماً عن التحدي الاستراتيجي المحتمل لوجود إسرائيل على أرض فلسطين، وبعد ذلك إطلالة الدولة العبرية على خليج العقبة. إلا أن هذا الحاجز الجغرافي، الذي تطور بقيام إسرائيل على أرض فلسطين وتوسعها لاحقاً بخلق إطلالة لها على خليج العقبة، قد تسبب تضاريسياً في فصل شرق العالم العربي الآسيوي، عن غرب العالم العربي الإفريقي، لكنه لم ينجح (استراتيجياً) في جانبه الجغرافي الإنساني ولا (ثقافياً) في قطع صلات العالم العربي التاريخية بين شقه الآسيوي، وشقه الآخر الإفريقي. حتى عندما تمكنت إسرائيل، بعد حرب الأيام الستة ١٩٦٧م، من توسيع الشَّق باحتلال كامل فلسطين، مع كامل شبه جزيرة سيناء المصرية، ظل منطق الاستراتيجية.. ووشائج الجغرافية الإنسانية، وصلات التاريخ الحميمة تربط شطري العالم العربي، الأفريقي والآسيوي. بل أن وجود إسرائيل نفسه، حتى مع توسعها على حساب الأراضي الفلسطينية ووصولها إلى قناة السويس، بعد حرب يونيو ١٩٦٧م، أحيت العمق الاستراتيجي الإفريقي للعالم العربي، خارج حدود العالم العربي في أفريقيا، ليمتد إلى أفريقيا، بأسرها.
بعد عدوان السادس من يونيو١٩٦٧م، لم تبق دولة إفريقية كانت تربطها علاقات مع إسرائيل قبل تلك الحرب، إلا وقطعتها، مع تل أبيب، حتى عقدت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل (٢٦ مارس ١٩٧٩م)، لتعود إسرائيل للتغلغل من جديد في إفريقيا، حتى أنها طالت أطراف العالم العربي الإفريقية في أقصى الغرب، عندما اعترفت موريتانيا بإسرائيل وأقامت معها علاقات دبلوماسية كاملة في: ٢٨ أكتوبر ١٩٩٩م. إلا أن القفز على الجغرافيا، تضاريسياً، يظل بعيداً عن إلحاق الضرر بالبعد الإنساني للجغرافيا، وكذا منطق الاستراتيجية الأمني. لازالت دول الاتحاد الإفريقي، بالرغم من علاقات بعضها القوية مع إسرائيل، تناصر قضايا العالم العربي، في صراعه مع إسرائيل، بصفة خاصة القضية الفلسطينية، وإن كان الأمر لم يعد بنفس الحماس الذي كان عليه الحال في الخمسينيات والستينيات، وحتى نهاية السبعينيات، عندما أقدمت أكبر دولة عربية أفريقية بتوقيع معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل.
ربما يكون البعد الاستراتيجي للعمق الإفريقي قويًا وصامدًا، في مواجهة تحديات نظرية التوسع الإسرائيلية، من ذلك الذي يتجلى -على المستوى الرسمي -في حالة السلام البارد السائدة بين إسرائيل وبعض دول المواجهة المباشرة، في مشرق العالم العربي الآسيوي، ومغربه الإفريقي. ما بدا وكأنه سلام بين إسرائيل وموريتانيا، لم يمكث أكثر من عشر سنوات، لتقوم موريتانيا بقطع علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وطرد السفير الإسرائيلي من نواكشوط، في: ٦ مارس ٢٠٠٩م، احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على غزة: فبراير ٢٠٠٩م، لتعلن رسمياً إنهاء كافة أشكال العلاقة بين البلدين في: ٢١ مارس ٢٠١٠م. يتسق هذا السلوك الموريتاني تجاه إسرائيل، الذي تطور في مغرب العالم العربي (الإفريقي) مع فشل محاولات إسرائيل لمد أذرعًا لها، على أطراف العالم العربي الآسيوي، شرقًا، في محاولة لحصار العالم العربي من أطرافه، الآسيوية والإفريقية، معًا، بعد أن نجحت في حلحلة الحصار عليها على مستوى الجبهة المباشرة معها، باتفاقيتي السلام مع مصر والأردن. بالإضافة إلى إنهاء موريتانيا، في أقصى تخوم العالم العربي الإفريقية غربًا، لكل أشكال العلاقة مع إسرائيل، تزامن ذلك مع إنهاء كل مشاريع الاتصال الهشة مع إسرائيل في مشرق العالم الآسيوي، خاصة مع بعض دول الخليج العربي، حيث جمدت أو علقت، أو قطعت، بصورة رسمية، جميع أشكال الاتصال مع إسرائيل، رسميًا.
تزامُن في سلوك عربي سلبي، تجاه إسرائيل، وإن كان يبدو عفوياً، أكثر منه مخططاً، إلا أنه يأتي في إطار الاستشعار القوي تجاه الخطر الاستراتيجي من وجود إسرائيل، على أمن العرب ومصالحهم، شرقاً وغرباً، الذي يستحيل الاطمئنان إلى سلامتهما، مع وجود إسرائيل على مفصل الالتقاء الجغرافي بين مشرق العرب (الآسيوي)، ومغربه (الإفريقي).
حركات التحرر الوطني في العالم العربي
عند إعلان قيام الجامعة العربية (٢٢ مارس ١٩٤٥م) كانت هناك سبع دول عربية هي المؤسسة للجامعة العربية، ست منها في مشرق العالم العربي، وواحدة فقط في مغربه الإفريقي (مصر). بينما في ذلك التاريخ لم يكن في
إفريقيا كلها سوى ثلاث دول مستقلة منها واحدة عربية (اتحاد جنوب أفريقيا ٣١ مايو ١٩١٠، مصر: ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، وأثيوبيا: ديسمبر ١٩٤٤م). اليوم هناك: ٢٢ دولة عضو بالجامعة العربية و ٥٢ دولة عضو في الاتحاد الإفريقي. في فترة الخمسينات والستينات استقلت العشرات من الدول العربية والإفريقية، وما كان ذلك ليتم، بعد نضال شعوب تلك الدول العربية والإفريقية لنيل استقلالها، لولا مساعدة دولتين أساسيتين من مؤسسي الجامعة العربية، وقد لا تكون مصادفة أن تكون هاتان الدولتان تقعان على جانبي العالم العربي الآسيوي والأفريقي، ونعني بهما: المملكة العربية السعودية، ومصر.
في الملحقين الخاصين بفلسطين والتعاون مع الدول العربية غير الأعضاء التي يحول واقع الاحتلال الأجنبي عليها، من انضمامها بصورة كاملة لعضوية جامعة الدول العربية، اللذان يعتبران جزءًا لا يتجزأ من ميثاق جامعة الدول العربية، نص يقول: تعتبر الدول الأعضاء المؤسسة لجامعة الدول العربية تلك الدول التي تحول بينها وبين العضوية الكاملة في الجامعة، بسبب ظروف قاهرة، دولا عربية، لها حق المشاركة في فعاليات الجامعة، كما يلتزم أعضاء الجامعة بمساعدة تلك الدول، بكافة الوسائل السياسية وغيرها، حتى تنال استقلالها وتتمكن من العضوية الكاملة في جامعة الدول العربية. (ملحق رقم: ١، ٢ من ميثاق جامعة الدول العربية)
طبعاً: لم يكن سوى للفعاليات المهمة والنافذة في النظام العربي الرسمي، في ذلك الحين الذي تمثله جامعة الدول العربية، والمعني بها هنا، على وجه التحديد، مصر والمملكة العربية السعودية، إلا أن يقوما بالجهد الأكبر للوفاء بذلك الالتزام القومي، حتى تم خلال ثلاثين سنة من قيام الجامعة العربية استقلال ١٥ دولة عربية، منها ست في مشرق العالم العربي (الكويت ١٩٦٠، اليمن الجنوبي ١٩٦٧، الإمارات العربية المتحدة قطر عُمان البحرين ١٩٧١م). وعشر دول عربية إفريقية (ليبيا: ١٩٥٣.. السودان، المغرب: ١٩٥٦.. تونس: ١٩٥٨.. موريتانيا، الصومال: ١٩٦٠.. الجزائر: ١٩٦٢.. جيبوتي: ١٩٧١.. جزر القُمُر: ١٩٧٥م).
لعل أكبر ملحمتين خاضها أقوى ذراعي العالم العربي، في مشرقه الآسيوي ومغربه الإفريقي (المملكة العربية السعودية ومصر)، هما معركتي استقلال الجزائر، بداية الخمسينيات، واستقلال البحرين، بداية سبعينيات القرن الماضي. قد لا تكون مصادفة أن ذراعي الأمة العربية القويين والنافذين في جانبي العالم العربي المشرقي (الآسيوي) والمغربي (الإفريقي)، يشتركان سويًا في معركتين فاصلتين، مشرق العالم العربي ومغربه، دفاعًا عن الهوية العربية لأرض العرب على قارتي آسيا وإفريقيا، ذوداً عن الأمن القومي العربي، الممتد إلى العمق الاستراتيجي للعرب، في آسيا وإفريقيا.
في الجزائر كانت فرنسا، تُمارس أبشع أشكال الاستعمار الاستيطاني، لاقتطاع الجزائر من النسيج العربي في الثوب الإفريقي، لدرجة الادعاء أن الجزائر جزء من فرنسا، اللذان يفصلهما البحر المتوسط، بزعم: أن الجزائر "جولوجياً" في إفريقيا، امتدادا للبر الفرنسي في أوربا! كما أن فرنسا، طوال ١٣٠ سنة من استعمارها الجزائر حاولت أن تطمس الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري العربي المسلم، وتلبسه ثقافة "فرانكوفونية" غريبة عنه، ومستهجنة منه. الاستعمار الفرنسي للجزائر طال بعدي جغرافية الجزائر التضاريسية والإنسانية، في مخطط استعماري جهنمي امتد ١٣٠ سنة، في سابقة نادرًا ما تكررت في أشكال الاستعمار الأخرى، بما فيها الاستعمار الفرنسي، نفسه، في مواقع أخرى من العالم.
لقد تصدت كلٌ من مصر والمملكة العربية السعودية، وضختا الكثير من مواردهما الوطنية، لدعم شعب الجزائر ضد المستعمر الفرنسي. لقد بذل الشعب الجزائري العربي المسلم مليون شهيد لنيل استقلاله من المستعمر الفرنسي. إلا أن ذراعي الأمة العربية، في مشرق العالم العربي ومغربه، لم يبخلا على شعب الجزائر، لا بالدعم المادي بتزويده بالسلاح والعتاد والمؤن، ولا بالدعم السياسي في المحافل الدولية لدعم قضية شعب الجزائر. بل لا نبالغ، إذا قلنا: أن هاتين الدولتين العربيتين، كانتا تراهن على استقلال شعب الجزائر، حتى بأمنهما واستقلالهما. العدوان الثلاثي، على مصر ١٩٥٦م، لم تكن قضية تأميم قناة السويس، إلا واجهة سياسية بولغ إعلامياً في تضخيمها، لتخفي فرنسا ومعها بريطانيا وإسرائيل الأسباب الرئيسية للعدوان على مصر. في واقع الأمر كان السبب الرئيس لذلك العدوان على مصر، هو: معاقبة مصر على دعمها لشعب الجزائر وتبنيها للمد القومي، الذي أخذ يهدد المصالح الاستعمارية لفرنسا في مغرب العالم العربي وأفريقيا ومصالح بريطانيا في مشرق العالم العربي، وبالذات أمن إسرائيل.
في المقابل، لم تكن مصر بإمكاناتها الدفاعية المتواضعة، ذلك الوقت، قادرة لوحدها مواجهة العدوان الثلاثي لولا الدعم اللوجستي والمادي والسياسي، التي وفرته المملكة العربية السعودية من أجل انتصار مصر والعرب في تلك المواجهة غير المتكافئة مع أطراف العدوان الثلاثي. لقد قدمت المملكة عمقاً استراتيجياً لمصر بإيواء سلاح الطيران المصري ومن ثم حمايته من المواجهة غير المتكافئة مع طيران أطراف العدوان الثلاثي. وقد لا يعرف الكثيرون أن المملكة العربية السعودية، استخدمت سلاح النفط لأول مرة في تلك الحرب العدوانية على مصر، وقطعت إمدادات النفط عن بريطانيا وفرنسا وكل الدول الغربية، التي دعمت العدوان الثلاثي على مصر. سلوك تكرر من المملكة العربية السعودية في حروب العرب اللاحقة مع إسرائيل ١٩٦٧، ١٩٧٣م. المملكة العربية السعودية في قيامها بالتزاماتها القومية تلك كانت تخاطر بأمنها وثروتها، بل حتى احتمالات غزوها... ومع ذلك كانت تقدر عالياً التزاماتها القومية بقناعة استراتيجية ماضية، بضرورة الحفاظ على كيان الأمة العربية الجغرافي، ببعديه التضاريسي والإنساني، في قارتي آسيا وإفريقيا، وإلا فإن البديل الآخر لا يمكن تصور تبعاته السياسية والأمنية، الذي قد يطال احتمالات الاستمرار والبقاء.
المعركة الأخرى التي خاضاها معاً ذراعا الأمة العربية (المملكة العربية السعودية ومصر) الممتد عبر فاصل الجغرافيا بين مشرق العام العربي الآسيوي، ومغربه الإفريقي، وقعت هذه المرة على حدود العالم العربي الشرقية المطلة على الخليج العربي، عندما حاولت إيران عرقلة استقلال البحرين، بدايات سبعينيات القرن الماضي، بالتهديد باحتلال البحرين، حال انسحاب بريطانيا، في احتمال تكرار خطير لسيناريو إعلان قيام إسرائيل، عقب إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين. لولا الوقفة العروبية الشجاعة والحاسمة، لكلٍ من الملك فيصل بن عبد العَزِيْز والرئيس جمال عبد الناصر، باتخاذ كافة الوسائل المتاحة والمحتملة للدفاع عن عروبة البحرين، لكان تكرر سيناريو احتلال إسرائيل لفلسطين باحتلال إيران للبحرين. نفس الحجج (التوسعية) التي ساقتها فرنسا لتبرير عدم خروجها من الجزائر، ساقها شاه إيران لتبرير خطط استيلائه على البحرين. كانت معركة استقلال البحرين والحفاظ على عروبتها بمثابة نجاح عربي منقطع النظير حققه النظام العربي، رغم تواضع إمكاناته، عندما تتوفر الإرادة السياسية الحاسمة والقيادة التاريخية الحازمة، لتتسقا مع مسيرة حركة التاريخ.
حركات التحرر الوطني في إفريقيا
كما سبق ذكره، عند إنشاء العرب لجامعتهم العجوز، كانت هناك ثلاث دول إفريقية مستقلة، منها دولة عربية واحدة (مصر). لا يمكن لأحد أن يتجاهل دور مصر، سواء بمفردها أو من خلال جامعة الدول العربية ومساندة المملكة العربية السعودية بالذات، في تحقيق استقلال الكثير من الدول الإفريقية، بما فيها جميع الدول العربية الإفريقية العشر، التي نالت استقلالها، في الثلاثين سنة، التي أعقبت قيام جامعة الدول العربية. لقد دعمت مصر، الكثير من حركات التحرر الوطني في إفريقيا، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. لم يتوقف دعم مصر لحركات التحرر الوطني في إفريقيا، عند حدود الدعم السياسي، بل كانت مصر فاعلة، بصورة حاسمة على جبهة النضال الإفريقية، بالسلاح وأحياناً، بالتدخل العسكري المباشر، كما حدث في الكونغو، ومصر لتوها خارجة من معركة عسكرية خاسرة مع إسرائيل يونيو ١٩٦٧م، لم يكن ذلك اتساقاً مع الخط الثوري الذي اتخذته مصر عقب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فحسب... لكنه - في حقيقة الأمر - كان اتساقاً مع متطلبات الأمن القومي العربي، استشعاراً بالعمق الاستراتيجي لإفريقيا، في صراع العرب ضد قوى الاستعمار وأعوانه في المنطقة، بالذات إسرائيل.
على مستوى التكامل الإقليمي في إفريقيا، الذي يعتبر في الفكر القومي رافداً من روافد العمق الاستراتيجي للعرب في القارة السوداء، كانت مصر الداعية وأحد الأعضاء المؤسسين، لمنظمة الوحدة الإفريقية، التي أعلن عن إنشائها في أديسا أبابا في: ٢٥ مايو ١٩٦٣م، وكان عدد الأعضاء حينها ٣٠ دولة، لتصل إلى ٥٣ دولة عند تحول مسماها إلى الاتحاد الإفريقي، في: ٩ يوليو ٢٠٠٢م. أيضاً، اتساقاً مع التوجه القومي، وكأحد متطلبات الصراع مع إسرائيل، تزعمت مصر الجهود العربية والإفريقية لمقاومة النظام العنصري في جنوب إفريقيا، والتأكيد على علاقته وتطابقه، مع ممارسات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين، بمحاولة ربط التجربة العنصرية الصهيونية في فلسطين، بتلك التي يمارسها نظام الفصل العنصري للبيض (الأبارتايد)، في جنوب إفريقيا. وقد تواصل الدعم العربي والإفريقي، مع دول عدم الانحياز، حتى تم التخلص من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وإعلان قيام جمهورية جنوب إفريقيا، في: مايو ١٩٩٤م.
البعد عن الاستقطاب العالمي وتوسيع العمق الاستراتيجي
كما أن العالم العربي، بزعامة قوته الفاعلة والنافذة، في مشرق العالم العربي الآسيوي ومغربه الإفريقي (المملكة العربية السعودية ومصر)، لم تعملا فقط على دعم عمق العالم العربي الاستراتيجي، في إفريقيا، فحسب، بل امتد ذلك، إلى ما وراء العالم العربي، بعمقه الإفريقي، إلى عمق آسيا، بل وحتى أوربا وأمريكا اللاتينية. في: ١٨ أبريل ١٩٥٥م، عقد مؤتمر باندوج وشهد العالم في ختام فعالياته مولد منظمة أممية جديدة تمثل الخيار الآخر لنظام القطبية الثنائية، الذي كان سائداً منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، والذي أحكم سيطرته على العالم، وزج به في أتون نظام غير مستقر عرف بنظام الحرب الباردة، كان يهدد وجود البشرية بفناء شامل، في أي لحظة، حتى ولو عن طريق الخطأ. جاءت المبادرة لإنشاء هذه المنظمة الأممية الجديدة من ثلاثة زعماء كبار يمثلون ثلاث قارات (جمال عبد الناصر، مصر.. جواهر لال نهرو، الهند.. جوزف بروز تيتو، يوغسلافيا). تأسست حركة عدم الانحياز من ثلاثين دولة، حضرت مؤتمر باندونغ، وبلغ عدد الدولة المشتركة في الحركة ١١٨ دولة في آخر مؤتمر عقد في طهران في: أغسطس ٢٠١٢م.
كان من أهم أهداف الحركة الإفلات من سيطرة معسكري نظام الحرب الباردة، بمحاولة البعد عن استقطابها، خدمة لاستقلال الدول الأعضاء، وصوناً لسلام العالم وأمنه. كما أن حياد هذه المجموعة لم يكن سلبياً، بل إيجابياً، مما يوفر للمجموعة وأعضائها حرية الحركة للبعد عن نفوذ معسكري الحرب الباردة، وربط علاقات أعضاء المجموعة بالقوتين العظمتين (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي) على أسس ندية مصلحية، وليس على أسس تبعية أيدلوجية. ومن أهم أهداف المجموعة مقاومة استراتيجيات قطبي نظام الحرب الباردة في التوسع والاحتواء، خارج مناطق حدودهما التقليدية في أوربا.
كان أبرز عائد للعالم العربي من قيام مجموعة عدم الانحياز، مقاومة التوسع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، بإفشال مبدأ الرئيس أيزنهاور بالاحتواء، عن طريق بناء ساتر حديدي يُبقي الدب الروسي داخل عرينه، في عمق الجليد الروسي المتجمد، حتى لا يمتد إلى المناطق الدافئة في منطقة الشرق الأوسط، بالذات المنطقة العربية. بجهود ثنائية بين ذراعي العالم العربي (مصر والمملكة العربية السعودية) تم إفشال مشروعي حلف بغداد (٢٤ فبراير ١٩٥٥م) والحلف المركزي، بعد انسحاب العراق من حلف بغداد، بسبب قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨م، وكان نتيجة ذلك إبعاد تخوم العالم العربي الشرقية من النفوذ الأمريكي، بموجب استراتيجية الاحتواء تلك، وبعدت بالتبعية، المنطقة العربية من مرمى نيران أي حرب نووية محتملة قد تندلع، لو بطريق الخطأ، بين قطبي نظام الحرب الباردة.
كما أن من أهم إنجازات حركة عدم الانحياز إدخال مارد نووي كبير إلى حماها (الصين). الصين وجدت في الحركة مخرجاً من العزلة المفروضة عليها من قبل قطبي الحرب الباردة.. ومجموعة عدم الانحياز وجدوا في الصين رادعاً غير تقليديٍ، يُؤٓمن مسيرة المجموعة ويدعم جهودها الدولية في الانعتاق من ابتزاز قطبي نظام الحرب الباردة، ونفوذهما.
الخطر من قِبٓلِ عمق العرب الاستراتيجي في إفريقيا!
وجود ٢٢ دولة عربية على جانبي حدود أكبر قارتين في العالم، يحدد مصير العرب والأفارقة المشترك، في السلام والأمن والتنمية، بما لا يمكن أن يتوفر في أي تجمع إقليمي، بهذا التوسع والامتداد والغنى بالتاريخ والثقافة وصلات الدم ووشائج الجغرافيا، ببعديها التضاريسي والإنساني. شاهدنا، على مستوى حركة مسيرة النظام العربي، مدى تشابه التحديات الأمنية والاستراتيجية، التي عصفت بالعالم العربي، طوال السبعة عقود الماضية.. وكيف أن إفريقيا، كانت توفر العمق الاستراتيجي الرحب للأمن القومي العربي، بالرغم من محاولات أعداء العرب، إسرائيل على وجه الخصوص، النيل من صمود عمق العرب الاستراتيجي في إفريقيا. العرب، من جانبهم، لم يبخلوا على دول وشعوب إفريقيا، بكل عون ومساعدة باستطاعتهم تقديمها. لقد كان أكبر إنجاز للعرب، في هذا المجال تبنيهم لقضايا الشعوب الإفريقية العادلة في الاستقلال والحريّة. العرب لم يناضلوا من أجل نيل الكثير من الدول الأفريقية استقلالها، فحسب... بل قدموا الكثير من المساعدات الاقتصادية والفنية لبناء مؤسسات الدولة ومجتمعات تلك الدول، حيث لم تبخل الدول العربية الرائدة في النظام العربي، بتقديمها العون لشعوب ودول القارة السوداء.
حتى تستمر هذه العلاقة الاستراتيجية الوطيدة بين العرب وإفريقيا، على العرب أن يقتربوا أكثر من إفريقيا، وأن يعيدوا أمجاد إنجازات الخمسينات والستينات، وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي في إفريقيا. لقد رجعت إسرائيل بقوة إلى إفريقيا، بعد أن حٓرّمٓها عليها العرب، حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي. الآن بعض الدول الأفريقية تخدم أجندات أعداء العرب الإقليمين، بمساعدة قوىً عظمى لم تخف يومًا عدائها للعرب. أثيوبيا، اليوم تبني سد النهضة، دون اعتبار لمصلحة دولتين عربيتين أفريقيتين جارتين، عضوتين في الاتحاد الأوربي، تتمتعان بحقوق تاريخية في مياه النيل. يكفي النظر في الدول الممولة لبناء السد التي توفر لأثيوبيا المشورة والمعونة الفنية والاستشارية والمالية، لنعرف السبب الرئيس من بناء سد النهضة الأثيوبي. إيران، الخصم الإقليمي الرئيس على تخوم العالم العربي الشرقية، لم تكتفِ بالتعبير عن عدائها الفارسي الثأري المستحكم للعرب، لدرجة التدخل العسكري السافر كما هو حادث في العراق وسوريا.. أو عن طريق استخدام الحقد الطائفي لتهديد أمن المملكة العربية السعودية، على الحدود الجنوبية مع اليمن... إيران، هذه، نجدها تغزو أفريقيا، وتبث سموم الطائفية بالعمل الدؤوب لنشر المذهب الشيعي، في مجتمعات أفريقية عربية وغير عربية، لم تعرف أبداً ولم تعتنق طوال تاريخها، منذ الفتح الإسلامي، سوى مذاهب أهل السنة والجماعة.
إذا أهمل العرب إفريقيا، ولم يعودا ينظرون إليها النظرة الاستراتيجية، التي واكبت ظهور نظامهم الإقليمي الحديث، وعولوا فقط على ما بقي من صلات قربى ودم وجغرافيا وثقافة، دون أن يراعوا حق تلك الصلات الاستراتيجي الموضوعي المصلحي، فإن ضرراً استراتيجياً جسيماً سيصيب الأمن القومي العربي. لعل ما يحدث اليوم على جبهة العالم العربي المشرقية، في سوريا والعراق واليمن، وقبل ذلك على بعض مواقع جبهة العرب الإفريقية في الصومال.. وما يحدث اليوم في دول الصحراء الكبرى من تمدد لجماعات الإرهاب.. وما يحدث من تمدد إيراني في دول شرق وغرب إفريقيا.. بالإضافة إلى ما يحدث عند مدخل البحر الأحمر، بسبب الوجود الإسرائيلي المكثف في أريتريا وأثيوبيا ودول حوض النيل، لهو إشارة لنذر شر مستطير مقدم عليه العالم العربي، من داخل عمقهم الاستراتيجي الإفريقي.
على العرب أن يلتفتوا، مرة أخيرة، وبعين فاحصة، تدرك مكامن الخطر الاستراتيجي على أمنهم، بل ومصير بقائهم وتستشعر نذره المستطيرة، القادم عليهم من داخل عمقهم الاستراتيجي التاريخي والجغرافي (إفريقيا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة