array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 114

إذا تمكن من اختطاف أمريكا سيختطف العالم لكن التاريخ والشعب الأمريكي لن يسمحا ترامب.. اختطاف أمريكا!؟

الإثنين، 05 كانون1/ديسمبر 2016

لم يخطر ببال أحد، حتى وقت إغلاق صناديق الاقتراع ليلة الثلاثاء الثامن من شهر نوفمبر الماضي أن الذي سيفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية للأربع سنوات القادمة، هو: المرشح الجمهوري/ دونالد ترامب! لأول مرة في التاريخ تفشل استطلاعات الرأي العام في التنبؤ باسم النزيل الجديد بالبيت الأبيض، بهذا الإجماع الصارخ! لقد ظلت ولايات متأرجحة عديدة، بل أن بعضها تصوت تاريخيا للحزب الديمقراطي، مثل ولايتي بنسلفانيا ووسكنسون بعيدة عن التوقع بنتيجتها، حتى تم جرد آخر صوت شارك في تلك الولايات. وإن كانت بشائر فوز ترامب بتلك الانتخابات، ولو بطريقة غير مباشرة، ظهرت بفوزه بولاية أوهايو، التي لم يحدث أن فاز مرشح جمهوري بالرئاسة، ما لم يفز أولاً بولاية أوهايو.. وقد تعزز فوز ترامب بالرئاسة، بعد فوزه بولاية فلوريدا، الولاية الجنوبية الكبرى. 

ظاهرة الإخفاق هذه لاستطلاعات الرأي في استشراف القادم الجديد للبيت الأبيض، التي امتدت حتى بعد إغلاق صناديق الاقتراع من الولايات الشمالية الشرقية، حتى حوض البحيرات العظمى، تعيد الجدل في قدرة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، بالذات علم السياسة، لتطوير أدوات كمية لاستشراف سلوكيات البشر، خاصةً فيما يخص فهم واستشراف السلوك الانتخابي، في مواسم الانتخابات. 

 

لكن الملفت في تلك الانتخابات: هذا التحول الجذري لدى الناخب الأمريكي عن قيم ومبادئ دستورية أرستها الممارسة الديمقراطية منذ الاستقلال.. واصطبغت بها الثقافة الليبرالية المتسامحة للشعب الأمريكي، المتمثلة في قيم التعددية وأخلاقيات ثقافة المجتمع المدني. في ما بدى وكأنه عقابًا على التمادي في ليبرالية لم تتجذر بعد في ضمير المجتمع الأمريكي، الذي مازالت تتملكه قيم العنصرية البيضاء المتمثّلة في الاعتقاد بتفوق الجنس الأبيض الأنجلوسكسوني، الذي يعتنق البروتستانتينية( WASP ). هذه الفئة البيضاء الانجليكانية المحافظة التي ركز عليها ترامب في حملته الانتخابية لا تريد أن تتكرر ظاهرة أوباما في صورة مرشح آخر يمثل الأقليات، حتى ولو كانت شخصية بيضاء، مثل السيدة كلنتون، التي في النهاية هي أنثى، وليبرالية أيضًا. كأن الشعب الأمريكي بتصويته لترامب، ببرنامجه الانتخابي المتطرف فيما يشبه الفاشية الجديدة، التي غلبت أو تفوقت على موجة المحافظين الجدد التي اصطبغت بها فترة حكم الجمهوريين السابقين في عهد الرئيس جورج بوش الابن قبل ثمان سنوات، ينعي هذا الشعب الأمريكي قيم ليبرالية لطالما فَخُرت بها الولايات المتحدة، وتباهت بها بين الأمم.


لم يحن الوقت لمعرفة ما إذا كان الرئيس المنتخب دونالد ترامب سيلتزم ببرنامجه الانتخابي المتطرف في محافظته، أثناء فترة حكمه لفترة الأربع سنوات القادمة، أم لا، لكن الرسالة واضحة التي أرادت الإرادة العامة للشعب الأمريكي أن توصلها للداخل، قبل الخارج، بأن هناك تحول كبير وخطير عن قيم الليبرالية التقليدية، تعكس وقفة تاريخية، تجاه التمادي في المشروع الليبرالي، وانحسارًا خطيرًا في التيار الليبرالي في المجتمع الأمريكي، مما سيكون له أثر مباشر وخطير ليس فقط في الداخل الأمريكي، لكن على مستوى العالم... خاصة إذا ما أمتد هذا "التسونامي" المحافظ  المتطرف في عنصريته وشيفونيته ومذهبيته الإنجليكانية المتشددة إلى أوربا، ونجح اليمين المتطرف، في الحكم في دول أوربية مركزية، مثل: ألمانيا، وفرنسا.. وربما بريطانيا.  


كما أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أفصحت عن مشكلة هيكلية خطيرة في النظام السياسي الأمريكي. صحيح أنه في الأنظمة الديمقراطية فرص الترشح متساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن الجنس واللون والعرق والخلفية الدينية والاجتماعية. إلا أنه، في الدول الديمقراطية العريقة في أوربا واليابان وكندا، يتم التجنيد للنخب السياسية من داخل الأحزاب السياسية. في تلك المجتمعات، تُعد السياسة عملاً حِرَفياً متمرساً يمر بكافة درجات الصعود في سلم مؤسسات العمل السياسي ومستوياته، من أجل صناعة زعامات سياسية محتملة. بينما نجد في أمريكا: أن المستر ترامب هو الذي أختار امتطاء الفيل الجمهوري، دون سابق خبرة سياسية، ولم ينتم أصلاً للحزب الجمهوري... حتى أنه رُشح من قبل الناخب الجمهوري، والمحافظ بصفة عامة، وليس ممثلاً عن الحزب الجمهوري. المستر ترامب يعرف تماماً هذا الخلل البنيوي في النظام الحزبي في بلاده.. ويعرف أكثر أن الخاصرة الرخوة، التي يسهل اختراقها، في هذا النظام الحزبي، لتحقيق طموحاته السياسية إن هي تبلورت هي: الحزب الجمهوري، بالذات، وذلك لهشاشة وسطحية مؤيديه ودوائره الانتخابية، حتى أنه أفصح عن ذلك علناً، قبل أن تتطور لديه طموحات سياسية، بأن ربط بين احتمال خوضه لغمار ساحة العمل السياسي، واختياره للفيل الجمهوري لامتطائه، لتحقيق طموحاته السياسية. 


هناك إذن: في النظام السياسي الأمريكي مشكلة قيادة خطيرة تتمخض عن ممارسة حزبية مضنية وشرسة، عكس ما هو الحال في بريطانيا، على سبيل المثال، حيث ترتقي كوادر الحزب مكانة القيادة الرفيعة فيه وصولاً إلى رئاسة الحزب، ومن ثم إلى رئاسة الوزراء، وفقا لإجراءات وقواعد حزبية شديدة الدقة والصرامة والانضباط. لذا في التجربة الديمقراطية البريطانية، لا يعاني النظام السياسي من مشكلة في القيادة أو الزعامة. عندما استقال ديفيد كامرون من رئاسة الوزارة، وبالتبعية رئاسة الحزب، المحافظين، بسبب نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوربي، شُغل مكانه فوراً سواء في رئاسة الحزب إلى رئاسة الوزارة، بسهولة وسلاسة، لم تتطور المسألة إلى فراغ دستوري قد يقود إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة.


المستر ترامب يفتقر، إذن: للخبرة السياسية اللازمة لإدارة البلاد بفاعلية وكفاءة. قد يقول قائل إنه في الولايات المتحدة تحكم المؤسسات، وليس الأشخاص. هذا صحيح: إلا أن الأشخاص عادةً ما يأتون من رحم المؤسسات، وليس من خارجها. وإذا أضفنا إلى ذلك أن المستر ترامب جاء ببرنامج سياسي يعتمد منهجاً ثورياً ضد المؤسسات والنخبة في واشنطن، تتبين لنا نذر عدم الاستقرار والصدام بين الرئيس الجديد والنخبة السياسية ومؤسسات الحكم في واشنطن. لا يمكن للمستر ترامب أن يواجه المؤسسة في واشنطن اعتماداً على ما يبدو له من وجود نقمة شعبية تشعر بالمرارة والازدراء من قبل من انتخبوه تجاه النخبة والمؤسسات في واشنطن. إلا أن هذا وحده، وهنا ممكن خطورة فوز ترامب الحقيقية، يكفي لتطور نزعة فاشية لدى ساكن البيت الأبيض الجديد، تشكل خطورة ناجزة على قيم وحركة الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة. 

 

ليس على مستوى المؤسسات في واشنطن، يشكل انتخاب المستر ترامب خطراً حقيقياً، بل أن الخطر الأكبر يحدق بقيم التعددية وأسس ثقافة المجتمع المدني التي قام عليها النظام السياسي الأمريكي منذ الاستقلال، وجعل من الولايات المتحدة أمة عظيمة. تصريحات المستر ترامب، التي لا تخرج عن كونها أساس برنامجه الانتخابي، ضد الأقليات والمرأة والأجانب بل وحتى المعاقين، تهدد أسس العقد الاجتماعي الذي أنشأ الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يتطور إلى أسوأ ما يمكن أن تتمخض عنه الممارسة الديمقراطية، ألا وهو: الجنوح تجاه الفاشية، ربما في أبشع صورها، ليست بعيدة عن التجربة النازية بداية سيطرتها على ألمانيا.


هذه التصريحات غير المسؤولة والمهينة للمستر ترامب تجاه تلك الفئات من المجتمع الأمريكي التي يتشكل من مجملها "موزاييك" قوس قزح المجتمع الأمريكي، ينذر بنكسة خطيرة لقيم الليبرالية المتسامحة.. ويهدد بصورة أكثر خطورة نظام الحريات التي يكفلها الدستور ويؤكدها عرف تواتر عشرات الأجيال المتعاقبة احتراما لحقوق الإنسان وتبجيلاً لحريات المواطن الأمريكي. وهذا يؤكد ما سبق وذُكر آنفاً: من أن الخطر الذي يحمله ترامب إلى البيت الأبيض، إذا ما أصر على خطابه الأيدلوجي المتطرف، وهذا ما يبدو أنه يغلب على استشراف سلوكه المستقبلي خاصةً، عندما تتضح صورة رموز إدارته، التي لا تبدو ملامحها مبشرة، بدءا باختيار نائب له ليس بأقل تطرفاً منه.. وكذا رئيس فريق موظفي البيت الأبيض.. والمرشحون لتولي مناصب سيادية مركزية في إدارته، مثل وزارة الخارجية والدفاع..  والمرشح لتولي منصب المندوب الدائم للولايات المتحدة في الأمم المتحدة.. وكذا تصريحاته في دعم ترشيح قضاة موغلين في محافظتهم، لدى المحكمة الدستورية العليا، إذا ما شغر أحد مقاعدها التسعة في فترة رئاسته القادمة. بالإضافة إلى وجود كونجرس جمهوري يسيطر على كلا مجلسيه (النواب والشيوخ) يبدو أن الطريق ممهداً أمام الرئيس المنتخب دونالد ترامب في أن يمضي في مشروعه الثوري، ليس فقط بالانقلاب على مؤسسات ورموز الحكومة الفيدرالية في واشنطن، بل وأيضاً: على النظام السياسي الأمريكي برمته، بحركة مؤسساته وقيمه الدستورية العريقة. 


ليس غريباً، إذن: وانعكاساً لتلك المخاوف. وفي سابقة لم تحدث قبل الآن، في الولايات المتحدة، أن تندلع مظاهرات عارمة في المدن الأمريكية، ضد مجيء المستر ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. هذه المظاهرات لا يتوقع لها أن تغير شيئا فيما يخص نتيجة الانتخابات، لكنها بالقطع تعكس غضباً عارماً ممزوجاً برعبٍ حقيقي من احتمالات تنكر المستر ترامب لمواد الدستور والإقدام على مغامرات غير مسؤولة تنال من القيم الديمقراطية للشعب الأمريكي. إن إعلان الرئيس المنتخب للولايات المتحدة أنه سوف يكون رئيساً لكل الأمريكيين، لن يخفف من قلق الأمريكيين على حقوقهم وحرياتهم، إذا ما استسلم للذة الانتصار السياسي، وانتشى بوهم أن إرادة الشعب الأمريكي تنحى منحى خلفيته الأيدلوجية المحافظة المتشددة.  


إن شعار (المستر ترامب ليس رئيسي) الذي رفعه المتظاهرون ضد نتيجة الانتخابات الرئاسية، سوف يعكس أزمة شرعية حقيقية لإدارة المستر ترامب، ما لم يتخلى فعلياً عن تصريحاته المهينة في حق قيم الليبرالية المتسامحة، التي حكمت وضبطت الممارسة الديمقراطية الأمريكية، حيث هي سر عظمة الولايات المتحدة الأمريكية. 

 

ترى هل ينجح المستر ترامب، في اختطاف أمريكا بأخذها إلى المجهول.... لا أعتقد، ذلك مطلقاً. إن الآلية التي أتت بترامب، هي التي ستخرجه من البيت الأبيض، ليستعيد الشعب الأمريكي ليبراليته المتسامحة من جديد، بل ويعمل على توسيع نطاق مشاركته السياسية، وأهمها الحرص على ممارسة حقه الانتخابي، حتى يمنع تكرار ظاهرة ترامب. من أهم ما أفرزته انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة هذا الإقبال المنخفض على صناديق الاقتراع الذي لم يسجل مثله منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، الذي بالكاد بلغ نصف الذين من حقهم الاقتراع. وهذه مشكلة مزمنة بين مؤيدي واتباع الحزب الديمقراطي، الذي لم يعتبروا ولم يتعلموا من درس انتخابات سابقة ، عندما فاز الرئيس بوش الابن، في تلك الانتخابات، على المرشح الديمقراطي حينها (آل جور) بمندوبي ولاية فلوريدا، بعدد من الأصوات القلائل!  هذه الثقة الزائدة بفوز المرشحة الديمقراطية السيدة (هيلاري كلينتون) في هذه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كانت من أهم أسباب خسارة السيدة كلنتون وحزبها الديمقراطي لهذه الانتخابات. لقد ساهم الإعلام بصورة كبيرة تثير الريبة، في إخراج نتيجة تلك الانتخابات بالصورة التي خرجت بها.. كما ساهم في ذلك: هذا التراخي الملفت لمنظمي حملة انتخابات السيدة كلنتون، لدرجة أنها لم تزر في اللحظات الحاسمة ولايات مهمة، ظناً منها أنها ستصوت لها، على أي حال، مثل ولاية وسكنسون، مما دعاناخبوها لمعاقبتها وانتخاب خصمها.  


على أي حال، ليس أمام الشعب الأمريكي والعالم، سوى أن يتعايش مع إدارة المستر ترامب، للأربع سنوات القادمة، كيفما تكون، مع بصيص من الأمل، أن يفرض منطق السياسة.. والتزامات المنصب، وعظم المسؤولية جميعها على المستر ترامب مراجعة الكثير من محتوى خطابه الانتخابي المتطرف والمثير للرعب، كما حدث مع الكثيرين من رؤساء أمريكا السابقين. أما إذا اختار المستر ترامب أن تقتصر مدة رئاسته لفترة واحدة، ليترك وراءه إرثاً سياسياً يتحدى به تاريخ الولايات المتحدة في قيم الممارسة الديمقراطية، التي جعل من الولايات المتحدة أمة عظيمة.. وجعل منها لأكثر من مائة عام رمانة الميزان للاستقرار الدولي، فإن ضرراً كبيرا سيلحق بأمريكا في الداخل، مما سينعكس سلباً على حركة وتوجه السياسة الخارجية الأمريكية على مسرح السياسة الدولية. 

 

إذا تمكن المستر ترامب من اختطاف أمريكا، فإنه سيختطف العالم معها. التاريخ والشعب الأمريكي، بالقطع، لن يسمحا بذلك.   

مجلة آراء حول الخليج