لم يكن عام 2016م، عامًا جيدًا على صعيد العلاقات بين دول الخليج وأوروبا، إذ وجد كل من الطرفين نفسه مضطرا إلى مواجهة عدد متزايد من الأزمات: من الحرب في اليمن إلى قرار انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي، وعليه فقد غلب الانشغال بالقضايا الداخلية على الرغبة في تعزيز علاقات هامة. فبرغم استمرار الاجتماعات الرسمية المتعددة وتواصل العلاقات الودية بين أوروبا والخليج، إلا أن ثمة اتجاه كامن نحو إعادة تقييم كلا منهما للآخر. فقد تزايدت انتقادات اوروبا للسياسات المحلية والخارجية التي تسعى إليها دول مجلس التعاون الخليجي، في حين تتساءل دول المجلس عن مدى قدرة أوروبا وعزمها على المساهمة في استقرار منطقة الخليج. كما يعد انفتاح أوروبا تجاه إيران كجزء من الاتفاق النووي مع طهران المبرم في يوليو 2015م، أحد التطورات التي تنظر إليها دول الخليج بعين الريبة. وبشكل عام يمكن القول بأن الاتجاه الذي ستنزع إليه العلاقات الاستراتيجية بين الجانبين في المستقبل لا يبدو واضحًا.
لا تزال العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وأوروبا تتسم بدرجة من الانقسام ما بين الطموح والواقع. فمن جانب، تدرك بروكسل وعواصم أوروبية أخرى أهمية التعاون الاستراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي. وأثناء انعقاد المجلس الوزاري المشترك الخامس والعشرين بين دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي في بروكسل في يوليو 2016م، أكد وزراء الطرفين على "أهمية توطيد العلاقات بينهما بشكل أكبر حتى يكون ذلك بمثابة أساس راسخ وفعّال لاستقرار وأمن إقليمي ودولي مستدامَين". كما أعرب الطرفان عن رغبتهما في تعزيز الحوار والتعاون السياسي بينهما"[1]، وتتكرر مثل هذه التصريحات والعبارات على فترات منتظمة، كما يتفاعل كلا الطرفين معًا على عدد من المستويات المختلفة. [2]
إلا أن أوروبا مازالت متذبذبة وغير واثقة حيال الكيفية التي يتم من خلالها إنشاء علاقات مشتركة ذات منفعة متبادلة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وبرغم وجود إجماع تام على السعي نحو بناء علاقات اقتصادية قوية، إلا أن هناك درجة أقل من التوافق على الجبهة السياسية، وذلك بشأن القضايا التي تتعلق بالإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، بما يساهم في تعقيد العلاقات. ناهيك عن الانقسام الكائن داخل أوروبا نظرًا لعدم وجود سياسة واحدة للأمن المشترك والسياسة الخارجية. ونتيجة لذلك لم تتمكن أوروبا من طرح سياسة واضحة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، فكانت كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي تميل إلى اتباع استراتيجياتها الخاصة وفقًا للمصلحة القومية والتي غالباً ما تتعارض مع الحدود المعيارية المطروحة من قِبل بروكسل. وكانت جملة نتائج هذه الانقسامات أن اضحت العلاقات بين دول الخليج وأوروبا تتسم بحدود متقطعة من التعاون. وقد استمر هذا الموقف طوال عام 2016م، في ظل جهود قليلة مبذولة للتغلب على بعض العوائق الوظيفية الموجودة.
العلاقات الاقتصادية
لا تزال العلاقات التجارية بين أوروبا ودول الخليج قوية، حيث يمثل الخليج خامس أكبر سوق لصادرات الاتحاد الأوروبي في عام 2015م، (بما يوازي 4.4% من إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي)، بينما يعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر كتلة تجارية بالنسبة للدول الخليجية (بما يمثل 14.7% من إجمالي تجارة مجلس التعاون الخليجي). وقد وصل إجمالي حجم التجارة المتبادلة إلى 155.5 مليار يورو في عام 2015م، وقد ازداد بنسبة 50% منذ عام 2010م. وثمة علامة استفهام حول العلاقات بين اوروبا والخليج: لأي درجة يمكن الحفاظ على ذلك الزخم في ظل تغير الظروف الاقتصادية منذ انخفاض أسعار النفط في نهاية عام 2014م؟
وفي ظل التزام دول مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ خطوات نحو إصلاح اقتصادي واسع النطاق يطمح إلى التقليل من اعتمادها على النفط ويدفعها نحو التنويع الاقتصادي، فإن ثمة مؤشرات لبقاء بعض الفرص أمام الأعمال التجارية الأوروبية. كما أن الأزمنة الاقتصادية الصعبة تعني كذلك قلة الحقائب المالية والتركيز الأكبر من قبل الدول الخليجية على القيمة الحقيقة وراء ما تقوم به من شراكات تجارية.
وبينما يظل حجم التجارة بين أوروبا ودول الخليج ضخمًا، إلا أن إجمالي حجم التجارة من حيث النسبة المئوية العامة آخذ في الانخفاض، وذلك مقارنة بالعلاقات التجارية دائمة التوسع التي يقيمها كل من الطرفين مع آسيا. وفيما يتعلق بمجلس التعاون الخليجي، فهناك تركيزًا متزايدًا على الصادرات التكنولوجية القادمة من آسيا إلى مجلس التعاون الخليجي. ومع استمرار الأداء غير المرضي لاقتصاد أوروبا والمتمثل في الانخفاض الحاد في معدلات النمو والرؤية غير الواضحة لمستقبل الاندماج الأوروبي، فإنه من المتوقع أن يستمر تحول أحجام التجارة لدول مجلس التعاون الخليجي نحو الشرق.
وقد خمدت تماما المفاوضات حول منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، ومن غير المرجح أن يتم إحياؤها في ظل انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. كما أنه لا ينبغي الانسياق وراء الآمال بعقد اتفاقية منطقة تجارة حرة بين بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي، فلن تكون بريطانيا منشغلة بالمفاوضات التي سترافق " طلاقها" من أوروبا فحسب، بل إنها كذلك لن تجد نفسها في موقف يسمح لها بترتيب صفقات تجارية جديدة حتى يتم الانتهاء من تلك المداولات، وحتى يتم تحديد الترتيبات الاقتصادية الجديدة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك إلى أن يتم تسوية العلاقات التجارية بما يتوافق وسياق تعهدات منظمة التجارة العالمية. وقد تستمر هذه العملية الى ما يقرب من عقدٍ من الزمن.
إن ما ذُكر آنفاً لا يعني أن العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في طريقها إلى إعادة توجيه جوهري، فمن المؤكد أن أوروبا لا تزال شريكًا تجاريًا مفضلاً لا سيما فيما يتعلق بالبضائع والخدمات، كما أن دول مجلس التعاون الخليجي قد تزايدت أهميتها في مجال الطاقات البديلة والمتجددة، وهو الأمر الذي يحمل إمكانات هائلة في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي على صعيد الطاقة والاستثمارات المتعلقة بها. إلا أنه من الناحية الاقتصادية فإن دول مجلس التعاون الخليجي تنشئ مجالاً أكثر للتنافسية بالتركيز على التوظيف القومي المحلي واستراتيجيات التنويع الفعالة وسياسات الاستثمار القائمة على معدلات الإيرادات وليس مجرد استيراد الخبرات. وفي ضوء هذا، يتعين على أوروبا ألا تأخذ تلك العوامل بوصفها أمورا مسلم بها، وأن تأمل في استمرار العلاقات الاقتصادية والتجارية على غرار ما كانت عليه من قبل، أو أن تفترض أن الوصول إلى أسواق الخليج يمكن أن يحدث دون تعهدها بالتزام سياسي وطيد ينص على أمن الدولة الخليجية المعنية.
اختلافات سياسية
وعلى الصعيد السياسي، أصبحت العلاقات مع أوروبا في عام 2016م، محل خلاف متزايد، نظرًا لما توليه دول الخليج من أولوية للاستقرار والأمن على الجهود نحو الإصلاح السياسي، وهو الأمر الذي يرغب الاتحاد الأوروبي في رؤيته سائداً في جميع أنحاء المنطقة. وعلى الرغم من بقاء الاجتماعات الرسمية على تعددها، وانعقادها في جو يسوده الود، فإن التباين في الآراء حول قضايا مثل هذه القضايا بات أكثر وضوحا، حيث تحاول دول الخليج إيجاد حل لتحديات الربيع العربي والطلبات المتزايدة لبعض التوسعات السياسية. وقد أُلغي الاجتماع الوزاري السنوي المشترك بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي عام 2014م، بعدما استشعرت دول المجلس أن الاتحاد الأوروبي لم يتخذ موقفًا متوازنًا أثناء النقاش حول البحرين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جينيف. وقد أصبحت البحرين نقطة محورية ليس فقط مع العديد من المنظمات الأوروبية غير الحكومية ولكن الاتحاد الأوروبي نفسه يثير من آن لآخر مسألة قضايا حقوق الإنسان فيها. وبعيدا عن البحرين، أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي أيضًا محل انتقاد[3]. فعلى سبيل المثال، منح البرلمان الأوروبي جائزة سخاروف لحرية الفكر للمدون الشاب السعودي رائف بدوي[4]. في حين أن رائف متهم بالإساءة للإسلام والعقيدة ووجد رفضًا من المجتمع السعودي وهكذا أصبح الاهتمام بحقوق الإنسان والإصلاح السياسي منغصًا للعلاقات الثنائية، ففي ألمانيا، صرح نائب المستشار الألماني زيجمار جابرييل أن ألمانيا ستقلص من صادراتها من الأسلحة إلى الدول التي تتعقد فيها قضايا حقوق الإنسان.
وبشكل عام، باتت صورة دول الخليج في الخطاب العام الأوروبي سلبية على نحو صريح، حيث هناك جهات تقف خلف رسم صورة سيئة عن دول مجلس التعاون الخليجي، والادعاء بانعدام الحقوق السياسية، ونقل صورة معينة ومنحازة عن تنفيذ أحكام القصاص، وكذلك الأمر لما يخص حقوق المرأة. أما عملية مواكبة العصر اقتصاديا وسياسيا الواسعة الانتشار والتي تسير فيها دول مجلس التعاون الخليجي، أو كون المرأة تمثل بالفعل جزءًا فعًالاً ونشطا في مجتمعاتهم، فهي امور قلما تسترعي الاهتمام. وكذلك فقد ترسخ التصور القائل بأن دول الخليج لا تبذل جهدًا كافياً في صراعها ضد التطرف، أو حتى الأسوأ من ذلك، وهو أنها تغض الطرف عن عملية التمويل المستمر للجماعات الإرهابية. وقد تعمقت تلك التصورات منذ هجمات نوفمبر 2015م، في باريس، والتي جعلت من خطر الإرهاب المنتحل للمرجعية الإسلامية قضية محورية لسياسات أوروبا المحلية. وبرغم أن التعاون في مجال الإرهاب مازال مكثفًا على المستوى الرسمي، إلا أن دول الخليج قد فشلت في أن تنخرط بشكل أكبر في جهود موسعة من العلاقات العامة والتي قد تساهم في دحض بعض من تلك التصورات. ونتيجة لكل ذلك، وجدت دول الخليج نفسها تحت تدقيق مستمر وانتقاد عام، مما يعقد العلاقات بشكل عام مع الحكومات الأوروبية.
وقد تأثرت العلاقات السياسية أيضاً بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث تجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها بصدد أوروبا المنشغلة بشدة بقضاياها الداخلية، فبالإضافة إلى مفاوضات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فهناك أيضًا مسألة الديون المستمرة وأزمة اللاجئين وارتفاع الحركات الشعبوية في جميع أنحاء القارة والتي وضعت عملية التكامل الأوروبي برمتها على المحك. وعلى الصعيد الداخلي، فإن أوروبا في أسوأ حالاتها منذ اتفاقيات روما التي أسست المجتمع الأوروبي. ولا يوجد الآن إجماع كاف على كيفية المضي قدماً أو حتى درجة من التعهد على بقاء مشروع التكامل الأوروبي محمياً مهما كانت الظروف. ولن يكون الأمر صعبًا على دول مجلس التعاون الخليجي لجذب انتباه المسؤولين عن السياسة الأوربية فحسب، بل إن الخطط السياسية المحلية في طريقها إلى أن تتغلب على الدراسة السليمة للقضايا الأوروبية الإقليمية، وبخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستخسر بروكسل واحدة من أبرز مساهميها على صعيد السياسة الخارجية والأمنية مما يضعف أوروبا كقوة يحسب حسابها في الشؤون العالمية.
ومع الصعوبة المتوقعة لعملية انسحاب بريطانيا، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون مستغرقًا في قضايا ذات أولوية، ولن تكون العلاقات مع دول الخليج في مقدمة هذه الأولويات. فلن يُثبت أسلوب أوروبا المتعدد الأطراف تجاه منطقة الخليج عدم اتساقه فحسب، بل كذلك عودة سياسات الواقعية السياسية كما هو متمثل في فلاديمير بوتين في روسيا، ومن المرجح أن يكون هذا هو الحال أيضًا مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة. إن مدى استعداد أوروبا وقدرتها على التنافس في تلك المرحلة حيث يعتري الاضطراب شأنها الداخلي يعد محل شك بالغ.
وفي ظل غلبة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أطلق الاتحاد الأوروبي في 28 يونيو 2016م، وثيقة جديدة للاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي (EUGS)، والتي تهدف إلى ترتيب وسائل وغايات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على نطاق واسع في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتزايدة [5]، وتمثل الاستراتيجية العالمية نهجًا بسيطًا ولكن واقعيا لدور الاتحاد الأوروبي في العالم، مع التركيز على السياسات القائمة على المصالح أكثر من الميل التحولي والمعياري للمحاولات السابقة، كما في الاستراتيجية الأمنية الأوروبية لعام 2003م.
وبالنسبة لدول الخليج فإن الاستراتيجية تنطوي على اتحاد أوروبي ذو اتجاهات داخلية حيث تسعى بروكسل لتوفير أمن حدودها أولاً، ثم بذل الجهود لتقوية قدرة الدولة والمجتمع في داخل المحيط المباشر لها. وفي هذه المعادلة سيُتوقع من دول مجلس التعاون الخليجي المساهمة بدعم عملية تحقيق الاستقرار في بقية الشرق الأوسط بالرغم من تعامل كلا من الاتحاد الأوروبي ودول الخليج مع مسألة تحقيق الاستقرار من زوايا مختلفة. وبينما سيرغب الاتحاد الأوروبي في أن يلمس تطبيق مبادئه المعيارية داخل عملية إجراءات تحقيق الاستقرار، مع التركيز على سيادة القانون وحقوق الانسان، إلا أن دول مجلس التعاون الخليجي تنظر إلى المسألة بشكل أساسي من خلال منظور أمني إقليمي، تؤدي فيه العمليات السياسية المحلية دورا بارزا، لكنه ليس بالدور الأساسي. وفي الوقت الذي لن يعلن فيه الطرفان عن اختلافهما، فإن نقاط الاختلاف تلك ستظل حائلا دون طرح منهج تعاوني مشترك فيما بينهما.
وتظل الاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي مع إيران (JCPOA) أحد نقاط الخلاف الرئيسية والتي تنظر اليها دول الخليج بوصفها مقدمة لفتح علاقات جديدة بين أوروبا وإيران. وبينما صدرت تصريحات رسمية من وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في 3 أغسطس 2015م، تفيد أنه "بمجرد تطبيق الاتفاقية بشكل كامل فإنها ستساهم في أمن المنطقة على المدى البعيد بما في ذلك منع إيران من تطوير أو اكتساب قدرة نووية عسكرية"، إلا أن الحقيقة أن البرنامج كما اتفقت عليه كبرى دول الاتحاد الأوروبي الثلاث (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) بالإضافة إلى الصين والولايات المتحدة وروسيا في يوليو 2015 م، لا يزال مصدر قلق.
وبالنسبة لدول الخليج فمن الصعب التفرقة بين سياسات الاتحاد الأوروبي وسياسات الدول الأعضاء وفهم كيف يمكن لهذه الاختلافات أن تتم داخل السياسات الأوروبية. وخلاصة القول إن دول مجلس التعاون الخليجي لديها تحفظات أساسية على ذلك الاتفاق، بالإضافة إلى اعتقاد قوي بأنه يصعب تطبيق الاتفاق النووي بشكل كامل. ويُنظر إلى هذه التحفظات في الخليج العربي على أنه لم يتم الاعتراف بها بقدر كاف في أروقة السلطة الأوروبية التي ترى في الصفقة النووية إمكانية تحقيق سلام أكبر في الشرق الأوسط.
وترى دول الخليج أنه من الصعب التكهن بالأمر في الوقت الحالي، فثمة شكوك كبيرة حول إمكانية تحول إيران عن منهجها الإقليمي والحد من تدخلها فيما يراه الخليج شئونا عربية محضة، وعوضًا عن ذلك فإن مجلس التعاون الخليجي على اقتناع بأنه مع وجود إمكانية تخفيف العقوبات، فإن طهران ستظل متعنتة كالعادة عندما يتعلق الأمر بالمسائل الإقليمية الجديرة بالاهتمام، وتعد القضية السورية من أكثر الأمثلة الصريحة على ذلك. وعلى اعتبار أن سياسات إيران التدخلية لا تُعد مؤقتة ولكن سياسة "ثابتة" لا تتغير، فإن الاعتقاد في عواصم دول الخليج العربي هو أن إيران ستعزز من دعمها للجماعات العميلة في الشرق الأوسط والتي تسعى لتقويض نظم الدولة الشرعية.
وتعتقد دول الخليج أن إيران سوف تعمد إلى استغلال مدة الاتفاقية لاستكمال سعيها في أنشطتها البحثية في المجال النووي ولتعزيز قدراتها. بل أن الأمل الذي عبر عنه الكثيرون في أوروبا بأن التغير المحلي قد يحدث في إيران حاملا معه تغييرا في الحراك الداخلي عند انتهاء مدة الاتفاقية النووية، يُنظر إليه في دول الخليج على أنه "سذاجة" كبيرة. وفوق كل هذا، فهناك قلق عميق بأن أوروبا ستغض الطرف عن تجاوزات إيران الممكنة حول الاتفاقية. وتخشى دول الخليج بأن أوروبا سوف تفترض حسن نوايا إيران لتجنب مخاطر تصاعد التوتر، والذي قد يؤدي بدوره إلى الإضرار بالاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي. ونظرًا لدور الاتحاد الأوروبي كمفاوض بارز فإن أوروبا لديها من الأهمية ما يجعلها العامل الأكبر في نجاح تلك الاتفاقية، كما أن الاتحاد الأوروبي هو العنصر الرئيسي في إقناع إيران بأن المجتمع الدولي يؤدي دوره في الاتفاقية، وذلك يعني أن أوروبا سوف تسعى جاهدة لضمان تطبيق الاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي وفقا لما هو مخطط لها.
إن الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي الموثقة والصادرة في يونيو 2016م، والتي دعت الاتحاد إلى تبنى "مشاركة متوازنة" مع دول منطقة الخليج، بما يشمل التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي، وإيران أيضا، قد أدت بدورها إلى زيادة القلق في دول الخليج بأن أوروبا في الواقع تمنح "شرعية" للسياسات الإيرانية في المنطقة. وقد دعت المفوضة العليا لشؤون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، إلى دمج إيران "في إطار أوسع من العلاقات مع أوروبا بما يخلق الترابط مع جميع الأطراف وتحفيزهم من أجل الالتزام بالاتفاق." ونظرًا لسياسات التدخل التي تتبعها إيران بما يضر بأمن دول مجلس التعاون الخليجي، تنظر تلك الدول إلى التحول الأوروبي تجاه إيران بوصفه تحولًا سلبيًا على صعيد الأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون.
وبحلول نهاية عام 2016م، ليس ثمة ما يشير إلى أن مخاوف دول مجلس التعاون الخليجي على هذه الجبهة تجد أي صدى في العواصم الأوروبية أو في بروكسل. وعلى هذا الأساس، لم تطرح سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه إيران سوى علامات استفهام داخل دول الخليج فيما يتعلق بالاتجاه المستقبلي للسياسة الأوروبية تجاهها، ومن المرجح أن تظل كذلك نقطة خلاف في عام 2017م.
وقد أدى السعي الأوروبي إلى تعزيز انفتاحه السياسي والدبلوماسي على إيران إلى تبنى موقفا، بدأت من خلاله أوروبا في تطبيق مزيدا من التدقيق على السياسات الخارجية والأمنية الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي. ويمكن للمرء أن يرى أنه خلال العام الماضي، قد لاقى الموقف النشط لدول الخليج العربي، وبخاصة فيما يتعلق باليمن وليبيا وسوريا، مزيدا من الشكوك من جانب أوروبا على الصعيدين الرسمي والشعبي. وبدلًا من المساهمة في استقرار المنطقة على المدى المتوسط والطويل، يُنظر إلى دول مجلس التعاون الخليجي كداعم لنوع جديد من "الاستقرار الاستبدادي" في دول الشرق الأوسط. ويعتبر الدعم المالي الكبير المقدم إلى حكومة مصر بعد تولي الفريق السيسي مقاليد الأمور في يوليو 2013م، مثالا على ذلك. وفي اليمن، استمر الاتحاد الأوروبي في الإعراب عن تحفظات كبيرة إزاء الحملة العسكرية الخليجية داخل البلاد، مع توجيه انتقادات حادة حول الوضع الإنساني المتدهور في اليمن. وبدلًا من استكمال عملية التغيير التي يمكن أن تضع هذه الدول على أسس تقدمية أكثر صلابة، يُنظر إلى أولويات دول الخليج باعتبارها دعمًا للوضع الراهن مهما كلف الأمر. ونتيجة لذلك، تجد دول مجلس التعاون الخليجي المناخ السياسي في العواصم الأوروبية وفي بروكسل أقل ترحيبًا من ذي قبل.
وخلاصة القول إنه في حين كان الاتحاد الاوروبي ينظر إلى دول مجلس التعاون الخليجي على أنها قوة ذات تأثير معتدل، يمكن لأوروبا أن تتعاون معها على أساس من المصالح المتشابهة، بدأت أوروبا في أن تنزع إلى البعد عن هذا المنطلق، بل وبدأت في تطبيق مزيد من الضغوط على دول مجلس التعاون الخليجي. ويوضح تعامل الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي مع القضية اليمنية اختلاف أولويات الطرفين.
التوقعات لعام 2017
قد يساهم انتخاب دونالد ترامب، الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، في زيادة الجفاء بين أوروبا ودول الخليج العربي. فحري بالعلاقات الأوروبية – الأمريكية أن تشهد خلافا متزايدا نظرًا لعزم الرئيس المُنتخب دونالد ترامب على إعادة التفاوض بشأن خطة الاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيراني، فضلًا عن إعلانه الرغبة في تبني نهج أكثر تشددًا مع إيران بصفة عامة. وعلى هذا الأساس، يمكن للقضية الإيرانية أن تكون محورا رئيسيا للخلاف بين السياسات الأمريكية والأوروبية. وهذا بدوره، يمكن ان يُعيد بعض المصداقية للولايات المتحدة على صعيد دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن على حساب وجود نهجا غربيا موحدا. ومن ناحية أخرى، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون أقل اهتماما بقضايا الديمقراطية الليبرالية التقليدية مثل حقوق الإنسان والضغط من أجل الإصلاحات السياسية في الشرق الأوسط. وبذلك يظل الاتحاد الأوروبي-الذي تنقصه بريطانيا-بوصفه الداعم الأساسي لضمان عدم تجاهل المبادئ الديمقراطية الليبرالية تماما. ومع إصرار دول مجلس التعاون الخليجي على رفض أي تدخل في شؤونها السياسية الداخلية، تبدو المناقشات الخلافية الكبرى مع المسؤولين الأوروبيين معدة مسبقاً. ويشير كل ما سبق إلى وجود مجموعة من العلاقات الفردية والمعقدة التي قد تضع الكثير من افتراضات الماضي موضع تساؤل، وذلك حينما يتعلق الأمر بالعلاقات بين كل من أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مدير مؤسسة مركز الخليج للأبحاث ــ جنيف
[1] انظر البيان المشترك للاجتماع في الرابط التالي
[2] على سبيل المثال، عُقد الحوار الاقتصادي المشترك السابع بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في 21 نوفمبر 2016 في الرياض
[3] تتضمن القرارات الأخيرة قرار بخصوص البحرين خاصة فيما يتعلق بقضية نبيل رجب، 9 يوليو 2016
(http://www.europarl.europa.eu/sides/getDoc.do?type=TA&reference=P8-TA-2015-0279&language=EN)
أو القرار بخصوص الموقف الإنساني في اليمن، 25 فبراير 2016
[4] انظر http://www.europarl.europa.eu/sakharovprize/en/laureates.html
[5] يمكن الاطلاع على وثيقة الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي في هذا الرابط
https://europa.eu/globalstrategy/en/global-strategy-foreign-and-security-policy-european-union.