لا يمكن فهم المواقف الإفريقية الملتبسة والمتشابكة من القضية الفلسطينية عمومًا والقدس خصوصًا دون وضعها في سياق تاريخ العلاقات الأفروعربية في العصر الحديث. إذ أن هذه العلاقات تعكس دومًا معضلة الهوية والانتماء وإشكالية المواءمة بين السياسي والأيديولوجي من جهة والأمني والاقتصادي من جهة أخرى. وتُظهر عملية المراجعة الواعية للفكر السياسي والاجتماعي في العالمين العربي والإفريقي وجود إشكاليات في العلاقة بين مفاهيم العروبة (الوحدة العربية) والأفريقانية (الجامعة الإفريقية) من حيث منظور العرق والهوية، وإن حاول البعض الجمع بينهما على مستوى النضال من أجل التحرر الوطني. على أن بروز القضية الفلسطينية دفع مرة أخرى عملية البحث عن جذور الالتقاء والتواصل الحضاري بين العالمين الإفريقي والعربي.
ومما يزيد الأمر تعقيدًا وتشابكًا هو أزمة الدولة الوطنية الموروثة عن مرحلة ما بعد الاستعمار وارتباطها بتراجع مفاهيم الوحدة والتكامل لصالح بروز نجم مفاهيم تفكيكية بديلة في ظل واقع ثقافي معولم عابر للحدود. وهنا تبرز في سياق معارك الصراع من أجل فلسطين سرديات وأساطير كبرى تحاول كل منها وصلاً بالتاريخ في معركة تستهدف كسب العقول والقلوب ولاسيما في إفريقيا غير العربية. الجانب العربي يرجع إلى حتميات التاريخ والجغرافيا التي أطلق عليها الراحل على الأمين مزروعي اسم رابطة "أفرابيا" بينما يلجأ الجانب الإسرائيلي إلى مفهوم المظلوميات التاريخية الذي يجمع بين اليهود والسود.إنها معركة غير تقليدية لتحقيق الفوز على الخصم بالنقاط. ولعلنا نتساءل هنا كيف تمكنت إسرائيل- بالرغم من ممارساتها الوحشية كسلطة احتلال ضد الفلسطينيين- من العودة المظفرة إلى إفريقيا؟ ففي عام 2016م، زار بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي أربعة من دول حوض النيل على رأسها أثيوبيا، ومنذ ذلك الوقت استقبلت تل أبيب عاصمة الدولة العبرية تسعة من الرؤساء الأفارقة. ليس هذا فحسب فقد خطب نتنياهو - باعتباره أول زعيم غير إفريقي -أمام قمة الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الايكواس) بمونروفيا في يونيو 2017م، ما دفعه للتباهي بأن إسرائيل عادت إلى إفريقيا. وربما يتم تدشين هذه العودة رسميًا في قمة إسرائيل إفريقيا الأولى المقرر عقدها في توجو اكتوبر 2017م، والتي وجهت فيها الدعوة لجميع الدول الإفريقية بما فيها العربية. ما الذي حدث خطأ في مسيرة المواقف النضالية الإفريقية المؤيدة للقضية الفلسطينية؟ هذا ما تحاول هذه الورقة البحث فيه من خلال إبراز حقيقة تحولات المواقف الإفريقية عبر الزمن وما يعكسه ذلك من إشكاليات المخفي والمعلن وصراع الأخلاق والسياسة في تفاعلات البلدان الإفريقية مع محنة الفلسطينيين.
أولاً صراع الروايات والبحث عن الجذور
لعل أبرز المسكوت عنه في دراسة المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية هو تجاهل الاتصالات المبكرة بين إفريقيا والمنطقة العربية عموما ومنطقة فلسطين التاريخية على وجه الخصوص. ووفقًا للكتابات التاريخية المعتبرة فإن الهجرة من إفريقيا إلى فلسطين وقعت خلال الفترة منالقرن السادس وحتى القرن الرابع قبل الميلاد. فقد هاجرت موجات من الرعاة والمزارعين من الصحراء إلى كل من فلسطين وسوريا. وفي نهاية المطاف اندمج هؤلاء المهاجرون من إفريقيا مع سكان العصر الحجري الحديث في فلسطين التي شكلت جسرًا وحلقة اتصال بين إفريقيا وآسيا وأوروبا[1]. وفي العصر الإسلامي عرج كثير من الحجاج الأفارقة المنحدرين من نيجيريا والسنغال وتشاد- بعد أدائهم مناسك الحج-إلى زيارة القدس وبقوا بها حيث عملوا كحراس في مجمع المسجد الأقصى[2]. وخلال الفترة العثمانية كان هؤلاء الأفارقة يحملون مفاتيح أبواب المسجد الأقصى، وكانوا مسؤولين عن منع غير المسلمين من الدخول إلى منطقة المسجد. وبعد أن استولى البريطانيون على فلسطين في عام 1918م، تم إسناد مسؤولية مباني " الأحباس " الإسلامية إلى سلطات الوقف في المدينة المقدسة والتي استخدمتها لسكنى الفقراء، بمن فيهم الأفارقة. ولا يزال أحفاد الأفارقة يعيشون فيما يعرف بـ"الربع الأفريقي" بالحي الإسلامي في القدس. ويتمسك هؤلاء بهويتهم الأفروفلسطينية حيث لم يبرحوا مكانهم في القدس في أصعب الأوقات، بل إن بعضهم شارك في حرب التحرير العربية عام 1948م، في مواجهة الاغتصاب الصهيوني للأراضي العربية.
وعليه فإن هذه الأبعاد الثقافية والتفاعلات الحضارية التي يجسدها مفهوم "أفرابيا "باعتباره مشروعًا ثقافيًا متعدد الجوانب تستطيع تجاوز كافة أبعاد الصراع بين الجانبين - مثل الرق في بعض مكونات الجالية الأفروفلسطينية مثلا - ويخلق حالة اندماجية تعبر عن التفاعل الثقافي العربي الأفريقي. فالإسلام والعروبة هما الأوسع انتشارًا في الواقع الإفريقي. كما أن تاريخ علاقة إفريقيا بكل من العروبة والإسلام لم يشهد أي تصادم حقيقي مثل خبرة العلاقة مع الغرب الأوروبي[3].
وفي المقابل فإن الخطاب السياسي والإعلامي الصهيوني الموجه لأفريقيا قد استخدم منذ بداية نشأة الدولة العبرية المصطنعة قضية المقارنة بين تجارة العبيد ومحرقة اليهود كأحد أدوات الاختراق الإسرائيلي لكسب عقول وقلوب الأفارقة. ففي إبريل 2014م، نشرت صحيفة هآرتس مقابلة مطولة مع ماركوس ريديكر مؤلف كتاب: "سفينة تجارة العبيد: تاريخ إنساني" والذي تحدث فيه عن معسكرات الاعتقال العائمة وضرورة تذكر المجتمع الأسود لهذه المأساة الإنسانية دائمًا. وبالطبع استغلت الصحيفة الإسرائيلية هذه المناسبة للترويج لقضية المحرقة التي تعرض لها اليهود بما يعني المشابهة بين التاريخين اليهودي والأفريقي. وتعطي علاقات إسرائيل ورواندا مثالا على محورية التوظيف السياسي لخبرات الإبادة الجماعية المشتركة. ومن اللافت للانتباه أن ثمة جهود أخرى يمارسها المجتمع المدني الإسرائيلي لدعم الروابط الثقافية المشتركة بين الكيان الإسرائيلي وإفريقيا. لقد قامت امرأة يهودية في جنوب إفريقيا بتكريس حياتها لدعم الروابط بين إسرائيل ورواندا، فأنشأت مؤسسة المحرقة والإبادة الجماعية بغرض نشر الوعي بين طلاب المدارس وتبادل الخبرات المشتركة للضحايا[4].
وبمراجعة أدبيات حركة التحرر الأفريقي نجد أن عددًا من رواد هذه الحركة رأى في الصهيونية والقومية اليهودية نموذجًا يحتذى من أجل تحرر الشعوب السوداء في إفريقيا. وعادة ما تمت المقارنة بين سعي اليهود من أجل إقامة وطن قومي لهم والبحث عن جذورهم التاريخية بطموح الأفارقة الذين تقطعت بهم السبل في أمريكا ومنطقة الكاريبي وأملهم في العودة إلى إفريقيا وتحريرها من نير الاستعمار، بل أكثر من ذلك، فقد دعا بعض رواد حركة الوحدة الأفريقية الأولى إلى تبني مفهوم "الصهيونية السوداء". ومن أبرز هؤلاء إدوارد بلايدن، ووليم ديبوي، وماركوس جارفي، وفرانس فانون. ولا يخفى أن كثيرًا من الآباء المؤسسين لحركة التحرر الوطني في إفريقيا أمثال جومو كينياتا في كينيا وهوفييه بوانيه في ساحل العاج، وكوامي نكروما في غانا قد تأثروا تأثرًا بالغًا بهذه الأفكار حول معاناة الشعب اليهودي، وأظهروا تعاطفًا واضحًا تجاه إسرائيل.
ويمكن تلمس معالم هذا الصدام في الروايات والرؤى في ثلاثية العلاقة الأفروعربية مع إسرائيل فيما يتعلق بفلسطين من خلال الإشارة إلى بعض الأمثلة والمواقف المتباينة لمختلف الأطراف. ففي ديسمبر 2016 م، تبنت السنغال قرار مجلس الأمن التاريخي الذي ينص على عدم مشروعية المستوطنات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967م، ويطالب بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك شرقي القدس، واحترام إسرائيل جميع التزاماتها القانونية. وصوتت أنجولا هي الأخرى لصالح القرار. بيد أن الرئيس السنغالي ماكي سال سرعان ما حاول الرجوع مرة أخرى إلى المواقف المؤيدة لإسرائيل عندما التقى رئيس الوزراء الاسرائيلي أثناء اجتماعات الايكواس في مونروفيا في يونيو 2017م. وفي مناسبة أخرى انتقدت اليونسكو ممارسات إسرائيل في القدس واعتبرتها سلطة احتلال بما يؤكد فلسطينية المدينة القديمة. وعلى الرغم من تصويت دول إفريقية مثل السنغال ونيجيريا وتشاد وجنوب إفريقيا لصالح صدور هذا القرار فإن توغو عارضته واتخذت موقفًا مؤيدًا لإسرائيل، وهو ما يعكس نجاح الاختراق الإسرائيلي للجبهة الإفريقية.
ولعل حالة جنوب إفريقيا تبدو أكثر وضوحًا كذلك لأنها تبرز إشكالية المخفي والمعلن والشعبي والرسمي في منظومة العلاقات مع إسرائيل والفلسطينيين. لا يستطيع المرء أن يتغاضى عن دور اللوبي الصهيوني كمتغير مهم في التأثير على السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا[5].ويظهر هذا التأثير واضحًا في تمويل حملات السياسيين والأحزاب المؤيدة لإسرائيل أو من خلال الحملات الإعلامية المنظمة للهجوم على أي شخص أو منظمة معادية لإسرائيل. ويمكن أن نشير في هذا الخصوص إلى دور كل من "مجلس المندوبين اليهود في جنوب إفريقيا" و"الاتحاد الصهيوني الجنوب إفريقي". وفي المقابل استطاعت الجماعة المسلمة في جنوب إفريقيا أن تجعل القضية الفلسطينية محور اهتمام الرأي العام بقطاعاته العريضة. وقد تمثلت ديناميات الحركة المؤيدة للقضية الفلسطينية في جمع التبرعات والمشاركة في الاحتجاجات والممارسات ضد السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد تم تشكيل تحالف من قوى المجتمع المدني والناشطين حمل اسم "فلسطين الحرة".
ثانيًا: الاتحاد الإفريقي والقضية الفلسطينية
على الرغم من أن تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م، فإن اهتمامها بالقضية الفلسطينية بشكل عام وبقضية القدس بوجه خاص يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحرب 1967م. وكان ذلك بتأثير من الدول العربية الإفريقية تعبيرًا عن تضامنها مع مصر باعتبارها عضوًا مؤسسًا في المنظمة. ولعل الموقف التأسيسي للتنظيم القاري الإفريقي تجاه القضية الفلسطينية يرتبط بقرار مجلس وزراء منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا عام 1973م، والذي أكد على أن "السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط يجب أن يستند إلى "انسحاب القوات الإسرائيلية الكامل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م، وتحرير مدينة القدس العربية، وممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره والاعتراف بالحقوق الوطنية، والإعلان عن تأييد المجلس الكامل لكفاح منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وكفاحها البطولي ضد الصهيونية والعنصرية". كما رفض مجلس الوزراء الإفريقي أي تعديل للوضع في القدس واعتبر إجراءات الضم التي تعرضت لها المدينة المقدسة لاغية وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 252 لسنة 1968م، وقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2253 بتاريخ 4 يوليو لسنة 1967م، ورقم 2254 بتاريخ 14 يوليو سنة 1967م"[6].
ولا تزال القضية الفلسطينية تحظى بدعم إفريقي واسع من خلال بيانات الاتحاد الإفريقي. وعلى سبيل المثال أصدر الاتحاد الإفريقي إعلانًا خاصًا بفلسطين، التي تتمتع بصفة مراقب، أثناء قمته العادية في أديس أبابا عام 2013. وأبدى الاتحاد الإفريقي اهتمامه بمأساة الشعب الفلسطيني في ظل الممارسات الإسرائيلية غير المشروعة والخاصة بالعقاب الجماعي وبناء المستوطنات. ويدعم الموقف الإفريقي مساعي السلطة الفلسطينية للحصول على مقعد كامل في الأمم المتحدة.
وحرصت القمة الأفروعربية في الكويت على إصدار بيان مشترك حول فلسطين. وأكد البيان على ضرورة وضع حد للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967م، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية وخارطة الطريق من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا للقرار (194) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي قمة جوهانزبيرج الإفريقية عام 2015م، أكد الاتحاد الإفريقي على استمرار دعمه وتأييده لكفاح الشعب الفلسطيني المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي. كماأكد رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي في قمة عمان العربية (مارس 2017م) أن دول الاتحاد الإفريقي تقف إلى جانب الدول العربية في السعي إلى التوصل لحل القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى أن الدفاع المستميت عن الأقصى الشريف يحتل الصدارة في أولوياتنا"[7].
ثالثًًا: تباين المواقف الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية
قبل حرب 1967م، كانت معظم الدول الإفريقية غير مبالية بالنزاع في الشرق الأوسط واعتبرت قضية فلسطين مجرد مشكلة للاجئين. والواقع أن العديد من الدول الإفريقية أقامت علاقات قوية مع إسرائيل التي استخدمت بعض الموارد التي قدمتها إليها الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية وموظفيها الفنيين للمشاركة في مشاريع البنية التحتية وتنمية المجتمعات المحلية وبناء المؤسسات العسكرية والأمنية في الدول الإفريقية المستقلة حديثًا.
وكان هدف إسرائيل خلال فترة أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هو الحصول على دعم الدول الإفريقية لإسرائيل في قضية الصراع العربي الإسرائيلي. اتضح ذلك بجلاء من قيام إسرائيل بتأسيس سفارات لها في العديد من الدول الإفريقية وقيام الزعماء الإسرائيليين والأفارقة بزيارات متبادلة.
بالإضافة إلى زيارات جولدا مائير الخمس لإفريقيا قام شيمون بيريز، بزيارة غانا وغينيا عام 1959م، حيث التقى كلاً من نكروما وسيكو توري على التوالي. كما قام إيجال ألون بصفته مبعوثًا خاصًا لرئيس الحكومة الإسرائيلية ديفيد بن جوريون بزيارة إفريقيا مرتين عامي 1962/ 1963م. وفي أغسطس من العام 1962م، زار الرئيس الإسرائيلي اسحق بن زيفي خمس دول في غرب إفريقيا. وعام 1966م، زار رئيس الوزراء ليفي أشكول السنغال وكوت ديفوار وليبيريا والكونغو كينشاسا ومدغشقر وأوغندة وكينيا. وذكر أشكول أمام الكنيست أن أنشطة إسرائيل داخل إفريقية تشمل وجود نحو (1500) خبير إسرائيلي يعملون في مشروعات للتنمية، كما تم تدريب (630) إفريقي داخل إسرائيل. ومن الملفت أن أشكول كان على قناعة تامة بأن الطريق إلى القاهرة لابد وأن يمر عبر باماكو (مالي) وأبيدجان (كوت ديفوار). وبالمثل فقد زار العديد من الرؤساء والوزراء الأفارقة إسرائيل، فمثلاً استضافت إسرائيل عشرة رؤساء أفارقة خلال الفترة من 1960 إلى 1963م، وكالمعتاد في نهاية كل زيارة يتم التوقيع على بيان مشترك يؤكد على إدانة الاستعمار والتفرقة العنصرية ويطالب باستقلال كافة الدول الإفريقية، كما يمتدح في الوقت نفسه التعاون بين إفريقيا وإسرائيل[8].
بيد أن التحول الجوهري في الإدراك الإفريقي العام بالقضية الفلسطينية ارتبط بحرب عام 1967م،فقد فتحت الحرب عيون إفريقيا على الوجه العنصري لإسرائيل باعتبارها كيانًا مصطنعًا لتنفيذ المخططات الإمبريالية الغربية. وطبقًا لسوزان غيتلسون، في كتابها عن الانتكاسة الإسرائيلية في إفريقيا، فقد قطعت 29 دولة إفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل خلال الفترة بين 12 يونيو 1967 و13 نوفمبر 1973[9]. وخلال هذه الفترة أيضًا اعترف عدد من الدول الإفريقية بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأقامت علاقات دبلوماسية معها. كما انتشرت منظمات تضامن في إفريقيا لدعم الشعب الفلسطيني. وقد منحت منظمة التحرير الفلسطينية صفة العضو المراقب لدى منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي منذ عام 2002م).وفي نوفمبر 1975م، جاءت لحظة فاصلة في العلاقات الإسرائيلية -الإفريقية عندما صوتت 19 دولة إفريقية لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التاريخي بمساواة الصهيونية بالعنصرية. ورغم ذلك فإن تناقضات الموقف الإفريقي ظلت واضحة عندما فشل مشروع القرار في تحقيق توافق إفريقي حيث عارضته خمسة بلدان إفريقية - ساحل العاج وليبيريا، وملاوي، وسوازيلند، وجمهورية إفريقيا الوسطى، بينما امتنعت 16 دولة إفريقية أخرى عن التصويت.
ومن المعلوم أن تنزانيا في علاقتها مع كل من إسرائيل وفلسطين تطرح إشكالية تناقض أولويات المصالح، فقد أقامت علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل عام 1963م، قبل قطعها في عام 1973م، عندما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وأصبحت تنزانيا أول دولة إفريقية تسمح لمنظمة التحرير بفتح سفارة لها في دار السلام. وخلال تلك السنوات العشر من العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، استفادت تنزانيا من المساعدة الإنمائية والاستثمارات في الزراعة وتنمية الهياكل الأساسية والتعاون الأمني وغير ذلك من قضايا التعاون المشترك. لم تستأنف العلاقات بين تنزانيا وإسرائيل إلا في فبراير عام 1995[10]. وفي ذلك الوقت كان نيريري قد ترك الحكم طوعًا في بلاده، كما أعادت غالبية البلدان الإفريقية علاقاتها مع إسرائيل والتي كانت قطعتها في عام 1973م. وربما تعزى العودة الإسرائيلية لإفريقيا إلى تحولات النظام الدولي ما بين عامي 1991 و1994م، وتداعيات اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ثمة مجموعة من البلدان مثل ملاوي وسوازيلند وليسوتو لم تقطع علاقاتها قط مع إسرائيل في أي وقت من الأوقات، وتتمتع بوجود علاقة صداقة مستمرة طوال سنوات الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط. واليوم، هناك أكثر من 40 دولة إفريقية تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ولا يزال عدد قليل فقط على موقفه الرافض الاعتراف بها (الجزائر وليبيا والسودان والصومال).
رابعًا الربيع العربي وعودة الهجوم الإسرائيلي الناعم على إفريقيا
نظرًا لتراجع الدور الإقليمي للقوى العربية الكبرى نتيجة لما يسمى بثورات الربيع العربي فقد تغير الموقف الإفريقي من إسرائيل، بل ظهرت دول إفريقية مهمة مثل كينيا وإثيوبيا تطالب بمنحها مقعد المراقب في الاتحاد الإفريقي، ولا يخفى أن الاختراق الإسرائيلي الناعم لإفريقيا في أعقاب الربيع العربي قد تم التعبير عنه في عدة أشكال لعل من أبرزها:
1ـالترويج للخيار الإسرائيلي في مواجهة حركات الإرهاب والتطرف الإسلامي في كل من شرق وغرب إفريقيا. فإسرائيل ترى نفسها صاحبة خبرة طويلة في تبني استراتيجيات أمنية وعسكرية لمكافحة الإرهاب. وعليه نجد التغلغل الإسرائيلي واضحًا في دول حوض النيل ولاسيما كينيا وجنوب السودان وإثيوبيا. ومن المعروف أن إسرائيل تقدم التدريب والدعم لكينيا في مواجهة حركة الشباب الصومالية.لقد أشار الرئيس الكيني أوهورو كينياتا إلى المصالح المشتركة التي تجمع بين بلاده ودول شرق إفريقيا عمومًا وبين إسرائيل وذلك من أجل مكافحة إرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة. ويبدو أن إسرائيل سوف تساعد كينيا على بناء جدار عازل يبلغ طوله 440 ميلا على طول حدودها مع الصومال لمنع حركة الشباب المجاهدين وغيرها من الميليشيات المسلحة من عبور تلك الحدود[11]. كما أعلن كينياتا عن توقيع اتفاقات أمنية بين البلدين لتبادل المعلومات الاستخباراتية.
2-تدشين أول لوبي إسرائيلي في الكنيست لتعزيز العلاقات بين إسرائيل والدول الإفريقية، برئاسة العضو شمعون سليمان. وفي 19 مايو 2014 حضر وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان أول اجتماع لهذا اللوبي وأكد على أن إسرائيل باعتبارها قوة اقتصادية وتتمتع بعضوية منظمة التعاون والتنمية تستطيع أن تجني فوائد سياسية واقتصادية كبرى من إفريقيا.
3- استخدام إسرائيل قوتها الناعمة لتقديم العون لدول إفريقية في مجالات الزراعة والمياه والطب ومكافحة الإرهاب وغير ذلك. بيد أن إسرائيل في سعيها لتحقيق هذا الهدف تقوم بعقد شراكات مع الدول المانحة الكبرى مثل الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا من أجل القيام بالمشروعات الاستثمارية المختلفة. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المبادرة الإسرائيلية الألمانية التي تم إبرامها بين البلدين في فبراير 2014م، من أجل تحقيق البرنامج الإنمائي في كل من بوركينا فاسو والكاميرون وبوروندي.ففي رواندا، على سبيل المثال، تقف شركة إسرائيلية أمريكية، جيغاوات غلوبال، وراء إقامة أول محطة طاقة شمسية في شرق إفريقيا دعمت قدرة توليد الكهرباء في البلاد بنسبة 6 %، مما يوفر طاقة متجددة فعالة لحوالي خمسة عشر ألف منزل. وقد استخدمت إسرائيل تكنولوجيات الطاقة الشمسية والمياه لتوفير المياه النظيفة لما يقرب من مليون من سكان القرى الريفية في سبعة بلدان إفريقية هي (جمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وملاوي والسنغال وجنوب إفريقيا، تنزانيا، وأوغندا). وفي عام 2012م، تم تأسيس شراكة تعاونية بين وزارة الزراعة الإثيوبية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالة التعاون الدولي الإسرائيلية لتعزيز النمو الاقتصادي في المناطق الريفية من خلال تعزيز إنتاج أصحاب الحيازات الصغيرة من الفواكه والخضروات بما يتلاءم واحتياجات السوق.
ما هي الدوافع التي تقف وراء هذا الاهتمام الإسرائيلي بإفريقيا؟ من الواضح أن نهج الهرولة الإسرائيلية تجاه إفريقيا لم يُظهر من قبل أي ارتباط بمصالحاستراتيجية محددة، بل كانت إسرائيل منذ النشأة توجه ناظريها عوضًا عن ذلك إلى آسيا أو الغرب لحل مأزق حصارها من قبل جيرانها العرب. ومما لا شك فيه أن إسرائيل تتطلع اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى توسيع دائرة شركائها التجاريين واستخدام إفريقيا كحائط صد في مواجهة واقعها البائس المحمل بمشاعر العداء والكراهية من قبل دول الجوار القريب[12].
لقد اقتصرت التجارة الأفرو-اسرائيلية في الماضي غالبًا على القطاعات الدفاعية والعسكرية وتصدير الأسلحة والتقنيات الإسرائيلية والخبراء إلى بعض الأنظمة المستبدة في إفريقيا. وتأمل إسرائيل في ظل سفاري مسؤوليها السياسيين إلى إفريقيا بأن يتم تجاوز الاتجاه السابق مع تنويع نطاق التجارة بين إسرائيل وإفريقيا بحيث تشمل القطاعات الأخرى. والواقع أن العديد من الشركات الإسرائيلية تتطلع إلى الفوز بنصيب أكبر في السوق الإفريقية الواعدة.
وهناك هدف آخر صريح لهجوم نتنياهو الناعم على إفريقيا، وهو لا يختلف عن سابقه في مرحلة ما قبل حرب عام 1967م، يتمثل في الحصول على الدعم الإفريقي لإسرائيل في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية. إذ كثيرًا ما عارضت الدول الإفريقية إسرائيل في الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية، وربما يعزى ذلك إلى الكتلة الإسلامية الضخمة في إفريقيا، وتعاطف كثير من الأفارقة مع محنة الفلسطينيين. ويرى نتانياهو أنه يمكنه إغراء الكتلة الإفريقية العريضة من خلال الزيارات والصفقات التجارية، وتقديم العون الفني والأمني. لقد طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي صراحة الزعماء الأفارقة سواء داخل إسرائيل أو خارجها قائلاً : "أنا أطلب دعمكم في رفض المواقف المنحازة ضد إسرائيل في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل مثل الجمعية العامة واليونسكو ومجلس حقوق الإنسان".[13]
خاتمة
على الرغم من الاختراقات الإسرائيلية في إفريقيا منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء فإن السياسات الإسرائيلية ولاسيما المتعلقة بالفلسطينيين لاتزال تواجه أصواتًا إفريقية معارضة ومؤيدة في نفس الوقت للحقوق الفلسطينية المشروعة. ففي عام 2016م، رفض الرئيس النيجيري بوهاري مشاركة الوفد الإسرائيلي في قمة الايكواس، وعندما دُعي رئيس الوزراء نتنياهو للقمة ذاتها عام 2017 م، رفض زعماء نيجيريا والنيجر وبنين والمغرب الحضور. وربما يكون العاهل المغربي هو الوحيد بينهم الذي ربط علنا بين عدم مشاركته في القمة وحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي. وفي الجنوب الإفريقي يوجد تيار شعبي وفكري إفريقي يزداد في اندفاعه منذ انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ويؤكد على المقارنة بين نظام الأبارتهيد البائد وسياسات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى واحدة من أبرز رسامي الكاريكاتير في جنوب إفريقيا وهي جوناثان شابيرو حيث تعارض بشدة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. كما أن الأسقف ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام ما فتئ يتحدث علنًا ضد ظروف الفصل العنصري في فلسطين. وقد دفع ذلك ببعض التيارات الفكرية في جنوب إفريقيا إلى التوكيد على ضرورة الاستفادة من خبرة تحليل نظام الفصل العنصري والدعوة إلى تطبيق منظور جديد لتأسيس دولة ديموقراطية واحدة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
ومن الجدير بالذكر أنه بالنظر إلى الضرورات الأخلاقية التي تلتزم بها جنوب إفريقيا في سياستها الخارجية، فقد فرضت اعتبارات المصلحة الوطنية الأساسية على صانع القرار ضرورة تحدي العنصرية والتعصب العنصري على الصعيدين المحلي والدولي والتصدي لهما، ومن ثم ليس من قبيل المصادفة أن يأتي الرئيس زوما على ذكر فلسطين في خطاب الأمة عام 2009م، في سياق حديثه عن القضايا الإفريقية رغم أن فلسطين ليست ضمن الحيز الجغرافي لإفريقيا. وفي ندوة عقدت في جامعة بريتوريا في 11 سبتمبر2012 حول رؤية جنوب إفريقيا للسياسة الخارجية، أكدت الوزيرة نكوانا- مشابان خلال جلسة الأسئلة والأجوبة أن إسرائيل دولة فصل عنصري وقالت: إن كلاً من جنوب إفريقيا وفلسطين يدركان وحدهما كيف يكون العيش في ظل نظام الفصل العنصري .وقد عززت هذه المشاعر الرسمية التعليقات المماثلة التي صدرت في أكتوبر 2012م، في مؤتمر التضامن الدولي الذي نظمه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم عندما ذكر رئيس الحزب باليكا مبيتي أن النظام الإسرائيلي ليس قابلاً للمقارنة فحسب، بل إنه" أسوأ بكثير من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا " [14] ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل دعا مندوبو المؤتمر الوطني الإفريقي إلى دعم جهود المقاطعة الدولية ضد إسرائيل.
ويمكن ملاحظة هذا التوجه الشعبي في جنوب إفريقيا وتركيزه على قضية العنصرية والتمييز العنصري في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عام 2008م، عندما أدان أكثر من 12 مسؤولاً حكوميًا سياسات الفصل العنصري في إسرائيل وقيامها بسرقة الموارد الفلسطينية وإنشاء ما يشبه "البانتوستانات" أو المعزل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك في رسالة مفتوحة نشرت في وسائل الإعلام 2008م، فهل يمكن البناء على ذلك التيار الجديد الذي يُعلي من المبادئ الأخلاقية على لغة المصالح السياسية لإحداث اختراق كبير في المواقف الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعميد المشارك بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة زايد ـ الإمارات
المراجع:
[1] Thompson, Thomas, L. ‘Hidden histories and the problem of ethnicity in Palestine.’ In Ed .Prior, Michael, Western Scholarship and the History of Palestine (London: Melisende, 1998): 32
[2] Beckerleg, Susan .African Bedouin in Palestine, African and Asian Studies, 2007, Volume 6, Issue 3. 289-303.
[3] أنظر في ذلك تفصيلا: حمدي عبدالرحمن، نحو رؤية وحدوية مغايرة للعرب والأفارقة، المستقبل العربي ،عدد 453 ، نوفمبر 2016 ،ص ص 7-22.
[4]أنظر وراجع : حمدي عبدالرحمن، الاختراق الاسرائيلي لإفريقيا، الدوحة كمنتدى العلاقات الدولية ، 2015.
[5] Polakow-Suransky, S. (2013). The unspoken alliance: Israel's secret relationship with apartheid south Africa. New York: Vintage Books.
[6]أنظر اللجنة الملكية لشؤون القدس في http://www.rcja.org.jo/page/%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9/76/
[7]من افتتاح القمة- الصراع العربي الإسرائيلي بحاجة لحل وليس لإدارة https://www.maannews.net/Content.aspx?id=900109
[8] حمدي عبدالرحمن، الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا، مرجع سابق
[9] Gitelson, S. A. (1974). Israel's African setback in perspective. Jerusalem: Hebrew University of Jerusalem, Leonard Davis Institute for International Relations.
[10] Bishku, M. B. (January 01, 2017). Israel’s Relations with the East African States of Kenya, Uganda, and Tanzania—From Independence to the Present. Israel Studies, 22, 1, 76-100.
[11] Jerome Starkey وIsrael will help Kenya build a wall to keep out terrorists, The Times, July 7 2016. https://www.thetimes.co.uk/article/israel-will-help-kenya-to-build-440-mile-anti-terror-wall-nmzqpw6v6 Accessed on August 25, 2017.
[12] Collins, Tom.Why is Israel’s Netanyahu wooing Africa?, New African , &July 2017.
JULY 20172 COMMENTS
[13] المرجع السابق.
[14] Norsaka & SAPA (2012) Mbete’s support for boycott of Israel noted http://www.citizen.co.za/citizen/content/en/citizen/local-news?oid=339053&sn=Detail&pid=146826&Mbete%E2%80%99s-support-for-boycott-of-Israel--noted .