تلاشت تداعيات عملية باب العمود في القدس المحتلة بعد أن شغلت الرأي العام والصحافة المحلية والعربية والدولية قرابة الشهر، لم يفكك أحد شيفرة العملية، والأغلبية ركزت في النتائج وردة فعل الاحتلال ومن ثم ردود الفعل العربية والدولية على قرارات إغلاق الأقصى وتركيب الكاميرات والبوابات الإلكترونية.
لم تأتِ هذه العملية مصادفة، ولم يستيقظ منفذوها صباحًا ليقول واحد منهم للآخر لنذهب وننفذ عملية داخل باحات الأقصى، ثم أحضر أحدهم بندقية كارل غوستاف وتوجهوا للقدس ونفذوا العملية وتم استشهادهم , واتخذ الاحتلال إجراءاته الصارمة لتثور الجماهير وتعتصم في القدس، ليس الأمر بتلك البساطة التي يبدو عليها للوهلة الأولى.
ولنلقي الضوء على تفاصيل العملية، ونتذكر أن السلاح المستخدم هو سلاح يصنّع محليًا داخل بعض مدن الضفة الغربية، وليس سلاحًا حديثًا متداولاً في السوق السوداء للسلاح، ومن المتعارف عليه أن مدينة أم الفحم بها نشاط كبير للمافيا، والحصول على سلاح بجودة أكبر لن يكون أمرًا عسيرًا لمن يدفع المال، ورغم ذلك كان الكارل غوستاف والسكاكين هو الخيار المتاح لمنفذي العملية لتبدو عملية بدائية وعفوية أو فردية كما يسميها الاحتلال، لا توقع الضرر الفادح بقدر ما تظهر خللاً أمنيًا كبيرًا يستدعي ردة فعل هائلة.
ولتتضح الأمور أكثر ، فإن هؤلاء المنفذين تنامت لديهم فكرة الانتقام من الاحتلال بشكل أو بآخر، لم يستوعبوا إجراءات الاحتلال الدموية بحق أبناء شعبهم فقرروا تنفيذ عملية مسلحة واختاروا القدس ساحة لها لمكانتها الدينية والوطنية ، تشاوروا، وخططوا وفق إمكانياتهم البسيطة، فكان مطلبهم الأول كيفية الحصول على السلاح لتنفيذ عملية موجعة، ولعدم وجود أي خبرة أمنية أو عسكرية مسبقة، ولكونهم غير منتمين تنظيميًا بشكل فعلي، كان من الطبيعي أن تتسرب أفكارهم ولا تتسم بالسرية المطلوبة في مثل هذه العمليات، ولا شك أن نواياهم وصلت لجهة ما ترتبط بشكل أو بآخر بالاحتلال، وكان من الممكن أن يعتقلهم الاحتلال بكل يسر وسهولة قبل تنفيذ العملية، لكن هناك للشاباك (جهاز الأمن العام في إسرائيل) والقيادة السياسية مآرب أخرى، من حيث تجاهل حدوث العملية مع تقليل حجم الضرر ، تم تسهيل وصول سلاح محلي غير فعال للمجموعة المنفذة، لعلّه من الأسلحة التي صودرت من ورش خراطة في الضفة الغربية أو ربما كان سلاحًا استخدم في عملية سابقة، بينما كان الشاباك يتابع المنفذين خطوة بخطوة دون علمهم بأن أمرهم قد انكشف ، وفي بعض الفيديوهات التي نشرتها وسائل إعلام الاحتلال فإن كاميرات المراقبة المنتشرة في المنطقة كانت تتابع تحركات المنفذين بدقة، ولو لم يكن هنالك علم بالعملية لكان من السهل جدًا الاشتباه بتحركات المنفذين التي أظهرتها الكاميرات، حيث دخلوا المسجد دون حقائب، وخرج أحدهم حاملاً حقيبة على ظهره ، وكان من الممكن اعتقالهم لو كان ذلك هو المطلوب، لم تعطَ الشرطة أي تحذيرات لأن ذلك قد يفسد الأمر ولن يجري كما يراد له، انتظر المنفذون فرصة سانحة وبدأوا الهجوم، لكن خللا في السلاح منع الكارثة حسبما أعلن إعلام جيش الاحتلال بعد ذلك، قامت الشرطة بقتل المنفذين، واعتبرت أنها منعت كارثة كبيرة من الوقوع، ونشرت الشرطة الإسرائيلية فيما بعد أنها اعتقلت شخصًا رابعًا كان هو من هرّب السلاح وخبّأه داخل المسجد في نقطة ميتة ليحصل عليه المنفذون بعدها، في الفيديوهات التي نشرتها شرطة الاحتلال ؛ حرصت جيدًا على إخفاء وجه الشخص الرابع، لم تعلن أي تفاصيل أوسع بشأنه، وذلك له دلالات كثيرة من الناحية الأمنية خاصة أن تفاصيل العملية بأكملها قد نشرت ولم تعد هنالك جزئيات سرية سوى من يقف خلف دعم العملية دون علم المنفذين بذلك.
المهم أن العملية وقعت، و بدأ الاحتلال إجراءاته الصارمة حول المسجد الأقصى حاملاً كل المسوّغات والمبررات لكل ما يفعل، تم تركيب البوابات الإلكترونية والجسور التي تحمل الكاميرات الدقيقة، وهاجت الجماهير الفلسطينية في هبة كبيرة ترفض إجراءات الاحتلال رافضة أن تمرر تلك الإجراءات التي لها ما بعدها، وتركزت كل الأضواء الإعلامية على القدس، انشغلت السلطة بقياس ردة الفعل وما يمكن أن تصل إليه الأمور، فوجدت أن تجاهل الوضع قد يؤدي إلى كارثة، مما جعلها تدرس خطواتها جيدًا، فكان خيارها الإعلان عن وقف التنسيق الأمني لحين تراجع الاحتلال عن إجراءاته في الأقصى، وتوجيه بضعة ملايين من الدولارات لدعم المقدسيين .
جهات دولية وعربية دخلت أيضًا على الخط ، حاولت توصيل رسالة للاحتلال أنه يتجاوز الخطوط الحمراء، وأن الأقصى له قدسية خاصة قد تشعل المنطقة برمّتها في حال أصرّ الاحتلال على إجراءاته، كان الجميع يراهن على الجماهير الفلسطينية ومدى إصرارها على رفع البوابات، حتى الساسة الإسرائيليين كانوا يقيّمون الموقف لحظة بلحظة يريدون معرفة ما يمكن حدوثه في حال اتخذت إجراءات لاحقة تصب في المصلحة الإسرائيلية في القدس، لكن السلوك العفوي للجماهير ودخول شرائح متعددة على خط المواجهة لم يكن في حسبان الاحتلال ، الذي توقع أن تمر مسألة البوابات الإلكترونية وتجعل التحكم في دخول الأقصى أشبه بالريموت كنترول، فلم تأت الرياح بما تشتهيه مخابرات الاحتلال، والعملية التي اعتبرت خرقًا أمنيا كان يمكن استغلالها بشكل أفضل من ذلك، لكنها لم تؤتِ ثمارًا تستحق ما حدث، ولذلك أصبح السؤال لدى الجميع، كيف النزول عن الشجرة التي اعتلاها “نتنياهو” ، فتم استغلال بعض الأحداث الخارجية لتمسي طوق النجاة الضائع ل“نتنياهو” ومخابراته، وحدث ما حدث من التراجع عن البوابات والكاميرات تدريجيًا، وعاد المصلون لدخول الأقصى كما كان الوضع عليه قبل وقوع العملية ، واتضح ل“نتنياهو” أن الورقة التي قامر بها كانت خاسرة منذ البداية وعليه الخوض في جولة أخرى بطريقة أكثر فعالية.
ما لم يعد خفيًا أن الحياة السياسية لـ“نتنياهو” على وشك الانهيار، وبات من شبه المؤكد أن العد التنازلي لغيابه عن المشهد السياسي في إسرائيل قد بدأ، التحقيقات ضد شبهات الفساد ل“نتنياهو” أضعفته أمام أعضاء حزبه وشركائه في الحكومة وأمام الإسرائيليين بشكل عام، حيث أن أخر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجري في مطلع هذا الشهر "أغسطس" ونشرته صحيفة "معاريف" العبرية أظهر ازدياد نسبة الإسرائيليين الذين يعتقدون بعدم براءة “نتنياهو”، ووصلت النسبة ل 67%.
وحتما لن يكون منفذًا لـ“نتنياهو” إلا الهروب إلى الأمام كالثور الهائج في محاولة يائسة لإنقاذ نفسه وسيلحق باندفاعه الأهوج ذلك أيضًا عظيم الضرر بالفلسطينيين، ولأن استطلاعات الرأي العام في (إسرائيل) تشير إلى إمكانية حصول حزب الليكود على 27مقعدًا برئاسة “نتنياهو”، وبدونه سيحصل على 31 مقعدًا. فقد بدأت تتضح عملية رياح التغيير داخل حزبه وشكل أعضاء الحزب (12) ألف منتسب ( حوالي عشرة بالمائة من عدد المنتسبين للحزب) مجموعة أطلق عليها اسم (الليكوديون الجدد) للمطالبة بإجراء انتخابات داخلية، بالإضافة إلى أن هناك أحزابًا إسرائيلية متطرفة تشارك “نتنياهو” في الائتلاف الحكومي على رأس أولوياتها زيادة وتيرة الاستيطان والمستوطنات في القدس والضفة الغريبة، وكل ما سبق سوف يقود “نتنياهو” لاتخاذ خطوات متطرفة تجاه القدس بشكل خاص وتجاه الفلسطينيين بشكل عام لكي يحسن من صورته أمام الناخبين وشركائه في الحكومة، وربما أن عملية القدس كانت جزءًا من محاولات “نتنياهو” للتهرب من استحقاقاته السياسية ومحاولة للهروب من المأزق الذي تورط به في قضايا الفساد.
ومن الجدير بالذكر أنه قبل شهر من وقوع عملية القدس قدم عضو في "الكنيست الإسرائيلي" مشروع قانون جديد يقضي بإخراج جميع القرى الفلسطينية التي تم ضمها للقدس بعد حرب 1967م، خارج حدود "بلدية القدس" وتسليمها للسلطة الوطنية الفلسطينية وإذا ما علمنا أن عدد سكان هذه القرى يبلغ حوالي 300 ألف فلسطيني فهذا يعني التخلص من غالبية السكان الفلسطينيين في القدس المحتلة.
وجميع الخطوات التي اتخذتها حكومة “نتنياهو” منذ توليه رئاسة الحكومة الحالية في دولة الاحتلال ما هي إلا استكمال لخطوات بدأت "إسرائيل" باتخاذها منذ احتلال القدس في العام 1967م، ومازالت تحاول جاهدة خلخلة التوازن الديمغرافي في المدينة المحتلة لصالح اليهود علمًا بأن عدد السكان الفلسطينيين في القدس وحسب معطيات رسمية إسرائيلية لا يتجاوز 324 ألف يشكلون ما نسبته 37 بالمائة من إجمالي عدد السكان.
و حسبما أفاد تقرير قبل أيام أصدرته منظمة " هيومن رايتس واتش " التي تعنى بحقوق الإنسان، "أنه ومنذ بداية احتلال (إسرائيل) للقدس الشرقية عام 1967م، وحتى نهاية 2016م، ألغت (إسرائيل) إقامة 14,595 فلسطينيًا من القدس الشرقية على الأقل، وبررت السلطات معظم عمليات الإلغاء على أساس عدم إثباتهم أن القدس "مكان سكناهم أو معيشتهم"، لكنها ألغت أيضًا إقامة فلسطينيين متهمين بمهاجمة إسرائيليين كعقوبة لهم وكعقوبة جماعية ضد أقارب المتهمين المشتبه بهم، حيث يدفع النظام التمييزي العديد من الفلسطينيين إلى مغادرة مدينتهم في ما يصل إلى عمليات ترحيل قسري، كانتهاك خطير للقانون الدولي".
وفي كل حال من الأحوال فإن جميع إجراءات الاحتلال على مدار عقود لن تنهي الجذور الفلسطينية الأصيلة من مدينة القدس، وعدم انتهاز فرصة وجود شريك للسلام يقدم ما لا يمكن أن يقدمه غيره هو خطأ استراتيجي يقع به “نتنياهو” ويورط به دولة الاحتلال تمامًا، إذ أن حل قيام دولة فلسطينية على أراضي 1967م، والتأكيد على أن القدس الشرقية عاصمة لها، هو حل نموذجي يجب على “نتنياهو” انتهازه وتثبيت قيادته من خلال التقدم في هذا الحل، لكن الرجل على النقيض يسعى للتأكيد على تطرفه، وعدم اعترافه بأي حق للفلسطينيين في الأرض، معتبرًا أن معسكر اليمين هو المعسكر الرابح دائمًا، معتمدًا بثقة على تطرف المجتمع الإسرائيلي الذي لا يقر أبدًا بأن هنالك إمكانية لقيام دولة فلسطينية، وأن أي قائد "إسرائيلي " يجرؤ على اتخاذ قرارات سياسية مصيرية يحكم على نفسه بالموت _ اسحق رابين نموذجًا الذي عقد اتفاقية أوسلو مع الرئيس الراحل ياسر عرفات_ وعليه فإن مراهنة “نتنياهو” على الجمهور اليميني المتطرف غالبًا ورقة رابحة، لكن السؤال هو إلى متى ؟.
فوز ترامب غذى عنصرية “نتنياهو” وأعطاه شعورًا بالظفر، وأن ظهره للحائط القوي، وكل ما ينقصه هو الحصول على المزيد و المزيد من الوقت من خلال مماطلة مشروعة أمريكيًا، واستغلال بعض الأحداث الدراماتيكية للتهرب من أي استحقاقات، متعللا في الوقت ذاته بالتفكك الفلسطيني وحالة عدم وجود قرار واحد داخل البيت الفلسطيني، ولا شك أن حالة الانقسام المستمرة منذ عشرة أعوام كانت طوق النجاة الذهبي لحكومة “نتنياهو” وهو الوحيد الذي أجاد استغلالها بدهاء الثعالب، خاض رؤساء حكومة آخرين حروبًا ضد غزة ، خسروا شعبيتهم، لم يستطيعوا كسب الرأي العام للاستمرار في منصبهم ، لكن “نتنياهو” كان ذكيًا بالقدر الكافي للعب على أوتار عاطفة الجمهور " الإسرائيلي" وتمكن من الفوز مرة تلو الأخرى، لكن قضايا الفساد التي تطارده الآن وبقوة، لم تترك الكثير من المناورة ، يحتاج “نتنياهو” لهزة هائلة أو قفزة إلى الأمام ليتمكن من صد معارضيه ومنافسيه والبقاء في منصبه، وهذا له علاقة مباشرة بمجريات الأمور سواء على الجبهة الجنوبية في غزة أو الجبهة الشمالية في لبنان، وهي الجبهات الساخنة على الدوام والتي يمكن أن تنفجر في أي لحظة يشعر فيها قائد اليمين المتطرف أنه بحاجة لمخرج سريع من أزماته .
ومن المرجح أن أمريكا لن تبارك أي حرب في المرحلة الحالية، وأن مراهنة “نتنياهو” على دعم ترامب له في خوض جولة قتال جديدة لن تكون مراهنة موفقة، فترامب بعقله التجاري يفكر بحسابات الربح والخسارة، ومعركة كهذه بالنسبة له خاسرة سياسيًا وليس عسكريًا وستشغل الشرق الأوسط في مدار لا يريده ترامب، لذلك فالمتوقع بالفعل إن غامر “نتنياهو” بخوض حرب، فهذا معناه سقوطه المؤكد هذه المرة في أي انتخابات قادمة، واعتماده المماطلة لن يجدي نفعًا وليس في كل مرة تسلم الجرّة ، ولن تكون أهواء “نتنياهو” هي المسيّرة للعالم بعد التغيرات الإقليمية والدولية الجديدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث فلسطيني