في مؤتمر إعمار منطقة مكة المكرمة نهاية ديسمبر 2017م، تحدث صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة، عن (بناء الإنسان) الذي كان محور استراتيجية منطقة مكة المكرمة التي وضعها سموه منذ 10 سنوات تحت عنوان ( بناء الإنسان وتنمية المكان)، وتحدث سموه عن نموذج مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ وشرح كيف اختار الملك المؤسس هذا النموذج الأصعب وغير الموجود على الساحة آنذاك، وهو النموذج الإسلامي الوسطي الصالح لكل زمان ومكان لبناء الإنسان الذي يتمسك بالثوابت الدينية، وينفتح على العالم ويستفيد من التطور في كل مجالاته ويتفاعل معه دون شطط أو تطرف، أو انغلاق، أو تفريط.
وخلال متابعتي لكلام سموه، وبالإسقاط على واقع الإنسان العربي ومقارنة ما نحن عليه الآن، وما تحقق عربيًا في هذا الاتجاه، وهل يوجد مشروع عربي لبناء هذا الإنسان؟ وجدت أن المتتبع لا يجد أن هناك مشروع لبناء الإنسان العربي خلال التاريخ المعاصر على الأقل، خاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تلا ذلك من أحداث مرت بها المنطقة العربية التي اجتاحتها الكثير من العواصف والأزمات السياسية والاقتصادية والأيدولوجية الفكرية والتعليمية، وغيرها خلال تلك الفترة، إضافة إلى مشروعات ومؤثرات فرقت فكره ومواقفه، أكثر ما قدمت له ثوابت ومرتكزات ثم منطلقات. فبعد نكبة 1948م، ظهرت ردود فعل عربية مشتتة وغير موحدة، ثم جاءت حقبة الخمسينيات وما شهدته من صراع الأيدولوجيات التي أعقبت الثورات العربية وحركات التحرر الوطني وانعكاس ذلك على اختلاف المواقف السياسية والأنشطة الاقتصادية ومن ثم الأنماط الاجتماعية والسلوكيات، إضافة للفكر.
استمرت هذه التداعيات خلال الستينيات، وزادت عليها الصراعات المسلحة، ثم جاءت النكبة الثانية والانكسار العربي جراء هزيمة يونيو 1967م، مما أحبط جيل هذه الفترة بل استمرت تداعيات الإحباط لما بعد ذلك، وحتى عندما جاء الانتصار العربي عام 1973م، لم يستمر الفرح به كثيرًا ، أو الالتفاف حوله طويلاً، فقد استشهد الملك فيصل بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ في منتصف السبعينيات، ثم جاءت "كامب ديفيد" في نهاية العقد نفسه انقسم العرب إلى فسطاطين، وظهرت ثقافة التقسيم والفرز ومسميات تفرق ولا تجمع منها " الصمود والتصدي ـ جبهة الرفض ـ الهرولة ـالتطبيع " وغير ذلك، لينتهي الأمر باستشهاد الرئيس السادات وهو يحتفل بذكرى النصر مع من صنعوه، ثم دخل العالم العربي مرحلة الحرب العراقية ـ الإيرانية أو داحس وغبراء العصر الحديث والتي استحوذت على أكثرية سنوات عقد الثمانينيات، وفور أن انتهت جاءت كارثة احتلال الكويت التي قادت في نهاية الأمر إلى سقوط العراق ومغادرته الحظيرة العربية حتى الآن ولا نعلم متى عودته، وأصيب العالم العربي في مقتل ومازال يدفع الفاتورة حتى الآن.
وبين هذا وذاك، لعب الإعلام بشقيه القديم والجديد دورًا كبيرًا في "التسطيح" وتفريغ العقول وغرس مفاهيم مستوردة، وكرس زيادة تأثير الحنجرة على العقل، وقدم للشباب العربي نماذج خارجية على أنها هي القدوة، أي حدث الفراغ والتسطيح وغياب المشروع العربي المتكئ على العقيدة السليمة، والتاريخ، والفكر، والنظرة الذاتية، والمعايير المناسبة التي تصلح لكل زمان ومكان.
وكما هو معروف فإن الأواني الفارغة يملأها الهواء، لذلك تم اختطاف الكثير من العقول العربية، لحشوها بالأفكار المتطرفة أحيانًا، وإقناعها بتنفيذ عمليات إرهابية غاشمة بدون تمييز أو تفكير أحيانًا أخرى، أو الانبهار بنماذج أخرى غريبة عن مجتمعه ووطنه وأمته أحيانًا ثالثة، بل منهم من هان عليه الوطن وقتل أبنائه دون وازع ديني، أو وخزة من ضمير.
جاءت نكبة العرب الأخرى في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة تحت شعار ما يسمى بـ "ثورات الربيع العربي" لتزيد الممزق تمزيقًا، وتخطف شباب عربي ليقف في خندق أعداء وطنه وأمته، ويترك نفسه دمية يحركها الآخر، ويستخدمها سكينًا لغرسها في خاصرة وطنه وأمته.
في المرحلة الحالية، ما أحوج الأمة والأوطان لإعادة بناء الشخصية العربية، وفقًا لعقيدتنا الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان، ولثوابتنا التاريخية ، وتمشيًا مع روح العصر ومعطياته، في إطار قبول الآخر والتعايش معه، وأن نكون فاعلين ومنتجين لا مستهلكين فقط، ونؤسس لأجيال من الناشئة تنشأ على القيم والتدين السليم، والتحصين ضد الاختطاف الفكري وحشو الأدمغة بما يريد الآخر لا بما نريد نحن، ونكون المجتمع المنتج القادم من أصلاب خير أمة أخرجت للناس.
هذه مهمة كبيرة وتحتاج إلى مشروعات وطنية وعربية، وفي الوقت ذاته مهمة صعبة التحقيق بينما تعد أهم مشروع على الإطلاق، فهل نستطيع خوض غمارها؟؟