المنظمات الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة والمنظمات الفرعية المنبثقة عنها، تمثل هيكل النظام العالمي الذي تشكل بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945م، وكان هذا النظام الدولي الجديد آنذاك يمثل إرادة الدول المنتصرة في الحرب الثانية، ولذلك تشكلت هذه المنظمة وفروعها وتم تفصيلها لخدمة أهداف الدول المنتصرة، مع أن الهدف من وجودها كان حفظ الأمن والاستقرار الدوليين.
وعند الحديث عن الظروف التي تأسست فيها منظمات المجتمع الدولي التي تشكلت في النصف الأخير من عقد أربعينيات القرن العشرين وما تلا ذلك، نجد أن هناك اختلافًا بين ظروف النشأة وبين الظروف الحالية، وكذلك نجد تباينات كبيرة بين أهدافها، وما تحقق على أرض الواقع، وما استفادت منه الدول النامية والفقيرة، مقابل القوى العظمى. وإن كانت الدول الفقيرة حققت بعض المكاسب في الشق التنموي، لكن هذه البرامج تحققت عبر البرامج التنموية الممولة من الدول الأعضاء وتأتي دول مجلس التعاون الخليجي في مقدمتها من حيث قيمة مساهمتها الكبيرة في برامج الأمم المتحدة ومؤسساتها، أو من حيث الالتزام بدفع المساهمات في مواعيدها.
لكن في السياسة وحفظ الأمن والاستقرار الدوليين، تظل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي بصفة خاصة ـ وهو السلطة الأعلى في المنظمات الدولية ـ أداة في أيدي الدول الخمس الكبرى التي تمتلك حق النقض أو الاعتراض (الفيتو) وهي الدول دائمة العضوية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية التي أملت إرادتها على تشكيل مجلس الأمن بصورته الحالية.
وهذه الدول هي المسؤولة عن تعطيل المنظمة الدولية، إما كونها تعترض على القرارات الدولية قبل صدورها عبر" الفيتو"، أو الضغط لعدم تطبيق هذه القرارات في حال صدورها وتمريرها من تحت قبضة الفيتو، خاصة تلك المتعلقة بقضايا الدولة النامية وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك منها القرارات الكثيرة والشهيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والقرارات المتعلقة بإنهاء الانقلاب الحوثي في اليمن، وغيرها الكثير والكثير، ما جعل الشعوب والدول العربية لا يشعرون بالثقة حيال الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويعتبرون المنظمة الدولية ومؤسساتها في خدمة الدول الكبرى وإسرائيل فقط، ويرون أن هذه المنظمات راعية لخدمة مصالح القوى العظمى ومن يدور في فلكها، وليست لخدمة الدول الفقيرة أو الحفاظ على أمنها واستقرارها.
وفي السنوات الأخيرة عادت المنظمة الدولية لتصبح حلبة لصراع القوى الكبرى كما كانت في عصر الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد عودة روسيا كلاعب دولي مهم في حقبة الرئيس الروسي بوتين، وخير دليل على ذلك الأزمة السورية التي دمرت سوريا وجعلت شعبها بين قتيل وجريح أو مشرد، وكل ذلك ما هو إلا نتيجة الصراع الروسي ـ الأمريكي، وما تشهده اليمن من عنجهية الحوثيين ما هو إلا ثمرة الدعم الروسي لإيران ومن ثم استفادة الحوثيين من هذا الصراع الدولي.
من جهة أخرى، الساحة الدولية اليوم ليست كما كانت في منتصف أربعينيات القرن العشرين، فقد طرأ عليها الكثير من المتغيرات، بل تغيرت موازين القوى نفسها وتنوعت مصادرها، ودخلت عناصر جديدة إلى مضمار القوة منها الاقتصاد والتقدم العلمي، وامتلاك التكنولوجيا، وظهور تكتلات اقتصادية كبرى لم تكن موجودة في ظل وجود " وارسو والناتو " فقط، كما أن تعداد سكان العالم زاد إضافة إلى تعدد الدول التي انضمت إلى النادي النووي الدولي، وفي مقابل ذلك تبدو الأمم المتحدة مكبلة بأغلال القوى الكبرى، ومجلس الأمن الدولي أداة في يد القوى العظمى للهيمنة وبسط النفوذ والاستقواء، ولذلك يجب التأسيس لنظام دولي جديد يضمن استقرار العالم بعيدًا عن إحياء الحرب العالمية "النووية" التي بدأت تلوح ملامحها في الأفق من خلال تصريحات الرئيس الروسي بوتين، وتصريحات كبار المسؤولين والباحثين الأمريكيين ومن بينهم هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الذي بشر بهذه الحرب، وفي حال حدوثها فلن تبقي ولا تذر.
لذلك يجب استباق حدوث هذه المواجهات المهلكة، بتعديل قواعد اللعبة في مجلس الأمن، والأمم المتحدة لتكون أممًا فعلًا في خدمة المجتمع الدولي وأمنه واستقراره، وليس رهينة قوى بعينها، لذلك يجب على الدول المحتكرة للمنظمة الدولية أن تعيد النظر قبل حدوث الصدام النووي الكاسح، من خلال تعديل آلية وتركيبة مجلس الأمن وتوسيع دائرة العضوية الدائمة أو إلغاؤها واستحداث طريقة جديدة للتصويت تضمن العدالة وتكافؤ الفرص.
وهنا يجب التوقف أمام زيادة عدد سكان الدول الإسلامية الذين اقتربوا من الملياري نسمة، كما ظهرت تجمعات اقتصادية مثل مجموعة دول شنغهاي المليارية والتي يمتلك أكثرها السلاح النووي، واقتصاديات ضخمة وكثير من دولها مؤهلة لتجاوز الاقتصاد الأمريكي كما هو الحال بالنسبة للصين والهند، ويقابل ذلك تراجع الهيمنة الأمريكية وضعف فرص وجودها كقوى عظمى وحيدة في عالم أحادي القطبية، فعلى أرض الواقع لم تعد الولايات المتحدة سيدة العالم حتى وإن ظلت الأقوى اقتصاديًا وعسكريًا خلال الفترة الحالية، لكن من الواضح أنها لن تستطيع فرض نفوذها على العالم كما كان الحال في تسعينيات القرن العشرين، وسوف تضطر مرغمة في غضون سنوات قليلة للتراجع إلى المرتبة الثانية أو الثالثة اقتصاديًا، بل هي حاليًا لم تستطع تحمل نفقات وتكلفة زعامة العالم، وغير مستعدة لخوض حروب جديدة، وإن خاضتها لن تستطيع تحقيق الانتصار، ما يفرض عليها ضرورة إعادة النظر في التحالفات التقليدية، والتخلي عن دور القطب الأوحد، والتراجع عن نظرية العداء للمسلمين التي رفعتها شعارًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في إطار صناعة العدو الوهمي لشحذ الشعب الأمريكي، مع ضرورة إيمانها بالعيش المشترك لجميع دول العالم، فعلًا لا قولًا، والتنازل عن دور الأب الموجه للبشرية، وأن تحترم الرأي العام العربي والإسلامي بالتراجع عن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، وأن تحترم قرارات الأمم المتحدة الصادرة في هذا الشأن.
إن الكثير من دول العالم شبت عن الطوق وتجاوزت مرحلة التبعية، وهذا ما يجب أن تستوعبه الولايات المتحدة الأمريكية قبل فوات الوقت.