واقع الحال: شهدت الدول العربية سنوات قلقة ومضطربة، منذ عام 2011م، أو ما عُرِفَ بِثورات "الربيع العربي"، التي لا تزال بعض آثارها تتبدى في المشهد العام، وتواجه بعض الدول أزمة التكيف السياسي، مع تباين أوضاعها، وتعقيدات عمليات الانتقال فيها. فبينما تُصِرُّ هذه الدول على أنها تكافح لإنشاء أنظمة حكم أكثر استيعابًا واستجابةً لما نادت به الجماهير الثائرة، وتسعى إلى التمكين للاستقرار من جديد، تَعْزُو العواصم العربية، التي نجت من الثورات، تفاقم الأزمات الإقليمية الحالية إلى فوضى هذه الثورات، والتي بدأ فيها نظام الدولة القُطْرِيَّة، الذي أنشأته القوى الاستعمارية قبل مائة عام، فيما عُرِفَ باتفاقية سايكس-بيكو، وبعد عقود من الهدوء النسبي، في التصدع والانهيار. إذ تتعرض السلطة المركزية لهزات وضغوط شديدة في ظل تحديات وتهديدات وصراعات متفاقمة لا تسطيع مقاومة خاضتها الأطر المؤسسية الهشة وغير المستقرة. وبالتالي، فإن عمليات الانتقال السياسي في هذه البلدان تتطلب مراجعات بعيدة المدى، وربما تستغرق وقتًا أطول مما قد نتصور الآن.
إن هذه المراجعات تتسق مع ما تتطلع إليه دول المنطقة من بدء عصر جديد تتطهر فيها الأنظمة الحاكمة مما ران عليها من مقعدات الحاضر، فضلاً عن أن مجموعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية، تصارعها حول ما ينبغي أن يبدو عليه المستقبل. وغالبًا ما يكون هذا الصراع تنافسيًا صحيًا، وقد يُشْبِه فُصول المعركة العنيفة، إذ يتم خوضه بكل الوسائل المتاحة، خاصة وأن ثورة المعلومات قد خلقت عقلية قائمة على الحقوق ونظرة عابرة للخصوصيات. لذا، فالنظر إلى المستقبل، لا يستدعي بالضرورة ما جرى من ثورات، ولا يجسدها على أنها حوادث منعزلة، لكنها أشبه بالأحداث، التي أحاطت بالثورة الفرنسية، أو حرب الثلاثين سنة، وشكلت عملية مد وجذر طويلة، ميزتها عدة موجات ثورية متتالية، وقادت إلى تنظيم أوروبا بما هي عليه الآن. فقد بدأنا نشهد تراجعًا للحالة الثورية، التي اجتاحت العالم العربي في السنوات السبع الماضية، ولا يُنْتَظَرُ أن تتجدد بذات النسق في وقت قريب، ولكن إذا تعطلت عمليات الإصلاح، سوف تأتي الموجة القادمة، عاجلاً، أو آجلاً، ومن المرجح أن تكون أكثر عدوانية وراديكالية مما حدث في الماضي.
وتُعزى بعض أسباب التراجع إلى تصاعد وتيرة العنف، في ليبيا وسوريا واليمن وأماكن أخرى، وأصبح دور الإرهاب أكثر بروزًا، وصارت الصورة المباشرة للانتفاضات الثورية مشوشة ومقلقة. فقد أجبرت هذه الانتفاضات، وما تمخض عنها من نتائج، الحكومات والمجتمعات العربية على التعبير عن مخاوفهم بشأن حالة عدم الاستقرار في المنطقة. وبينما شاهد الجميع أحداث الانتفاضات الجريئة، التي غالبًا ما كانت مرعبة، فإن أسئلة الحد الأدنى قد اعتملت في جميع أذهاننا، وفيها غير قليل من التوتر، واجترحت غير قليل من الأسئلة؛ هل يمكن لهذه الفوضى أن تقود إلى خير؟ وهل للديمقراطية أن تترسخ في العالم العربي؟ وكم من الوقت سوف يستغرق ذلك؟ وهل هناك سبب للتفاؤل؟ وماذا يحمل المستقبل؟ وفي حين أننا لا نستطيع أن نضع إجابات صريحة الآن، ولا نقطع بتوقعات محددة، إلا أنه يمكننا أن نقول بقدر كبير من الثقة إن النجاح النهائي لأية تحولات مستقبلية حقيقية في الدول العربية سيعتمد على تطوير المجالات الحيوية الأساسية، وعلى أساس ركائز تشكل المعايير، التي يمكننا من خلالها قياس التقدم في المنطقة في الأعوام القادمة، والتي تشمل النمو الاقتصادي، والمساواة، والتعليم، وإصلاح القطاع الأمني، والعدالة، واللامركزية الإدارية، وتطوير القواعد المحلية حول الديمقراطية؛ ومن ثم العمل على ازدهار سياسة أكثر تعددية.
لقد دفع السعي إلى الاستقرار، ورد الفعل ضد الفوضى، في العراق وسوريا وليبيا واليمن، شرائح كبيرة من المواطنين العرب إلى الوقوف إلى جانب الأنظمة القائمة ضد مطالب التغيير، التي تهدم المؤسسات القائمة، ولا تراعي التدرج في الإصلاح. كما أقنع رعب الأحداث، وفظاعة الحرب في تلك البلدان، غالبيتهم بالحاجة الملحة إلى المناداة بهذا الإصلاح المتدرج للوضع القائم باعتباره السبيل الوحيد لتجنب الفوضى. وعلى الرغم من أن أزمات اليوم تترك للناس خيارات محدودة، غير أنه لا ينبغي التقليل من إمكانية النظر إلى فرص الإصلاح السلمي. إذ أن هناك حاجة إلى عقود اجتماعية جديدة بناءً على التوافق بين الحاكمين والمحكومين، وإعمال سيادة القانون، وكفالة العدالة والمساواة، واحترام الحقوق والحريات الأساسية، وحفظ كرامة الإنسان. كما أن هناك حاجة ماسة لتسليط الضوء على الاتجاهات الأعمق في السياسة والاجتماع والاقتصاد، التي تقود إلى إصلاح بعيد المدى لتمكين الناس من شؤونهم، حتى يكون غدهم أكثر إشراقاً.
منطق التكامل:
إن المستقبل العربي لا يمكن أن يتحقق بتمام قوته إلا بالتكامل، وتُواجه الأنظمة العربية، في جميع أنحاء المنطقة، لغزًا حقيقيًا حول الكيفية، التي يمكن أن يحققوا بها مطلوبات هذا التكامل. فهناك حاجة ملحة لتحولات ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية نظامية تكبح الإنفاق الكبير على الأمن؛ بما في ذلك شراء الأسلحة والتجهيزات الأمنية الأخرى، التي تستدعيها التحديات الداخلية والإقليمية. ومع ذلك، فإن هذه التحولات نفسها يمكن أن تزيد من إمكانية حدوث اضطرابات داخلية. ومن المحتمل أن يضيف تذبذب أسعار النفط إلى اختلالات التوازن في المنطقة العربية، مما قد يخلق فرصًا جديدة للجهات الفاعلة غير الحكومية للمشاركة. وهناك مؤشرات مشجعة على أن بعض القادة بدأوا، على الأقل، يدركون تعقيدات المعضلة الماثلة أمامهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا لم يكن هناك أي شيء آخر يبرز كنقطة مضيئة، فإن برنامج رؤية السعودية 2030، الذي يهدف إلى وضع حد لاعتماد السعودية على النفط، خلال خمسة عشر عامًا، يمثل اعترافًا عامًا مهمًا بأن التحديث والتنويع الاقتصادي ضروريان لرخاء المملكة وجِوارها العربي؛ مصر والأردن، وربما فلسطين، على المدى الطويل. ولكن حتى تتمكن المجتمعات العربية مجتمعة من التعبير بوضوح عن مستقبلها الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، من غير المرجح أن تكون الجهود المبذولة لتحقيق التكامل الشامل ناجحة بالقدر المطلوب.
نعم، فالحقيقة المؤكدة أن تحديات التنمية في هذه المجالات الأربعة؛ الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، تختلف من بلد عربي إلى آخر. وإذا فشلت الدول، التي تمر بمرحلة انتقالية في إعادة تنظيم الاقتصاد؛ مثلاً، فإن احتمالات الإصلاح في المجالات الأخرى قد تكون قاتمة. وباستثناء دول الخليج الغنية بالنفط، والتي تسجل أرقامًا اقتصادية مبهرة لأسباب واضحة ومعلومة، فإن بقية بلدان المنطقة تعيش وضعًا اقتصاديًا صعبًا للغاية. وتتزايد مؤشرات التراجع الاقتصادي بسبب ضعف التنمية والاختلال الديموغرافي، إذ يمثل الشباب دون سن الخامسة والعشرين عامًا ما يربو على الستين في المائة من سكان المنطقة. ووفقًا للبنك الدولي، تشهد المنطقة أعلى مستويات بطالة بين الشباب على مستوى العالم. لذا، فإن مثل هذه الأوضاع تعني أن المسائل الاقتصادية الأساسية، إذا لم تُعالج، سيصبح مرة أخرى سمة من سمات الخطاب السياسي المفتوح، الذي تعلو فيه الشعارات والأقوال على الأفعال، خاصة في الدول، التي تمر بمرحلة انتقالية.
لقد كان هذا الخطاب يدور في المنطقة لفترة طويلة الأمد حول مفاهيم العدالة الاجتماعية المتأصلة في أدبيات القرن العشرين، عندما كانت القومية العربية مقترنة بنموذج اقتصادي تهيمن عليه الدولة. الأمر الذي يستحث الاقتصاديات الإقليمية على تنفيذ سياسات التنويع الاقتصادي والاستثمار، التي تُرَكِّز على القطاعات ذات النمو المرتفع والأيدي العاملة الكثيفة. لأن هذا النوع من التنويع يمكن أن يُسهم في معدلات نمو أكثر استقرارًا، وأعلى عائدًا للمواطنين المستوعبين فيه. رغم أن هذا التنويع، بالنسبة للبلدان غير المنتجة للنفط، سيتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن التوقعات الخاصة بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي تبدو عالية بشكل مذهل، ومتاخمة للتطلعات المتفائلة، وسيكون أمر إدارتها جماعيًا ضروريًا لقادة المنطقة. إذ أن عدم إحراز تقدم في وجهة التكامل الاقتصادي، والفشل في تحسين الظروف المادية للمواطنين؛ كوجهة اجتماعية، سيؤدي إلى خطر ماحق، يتمثل في إثارة ردود فعل شعبية غاضبة، تهدد استقرار الأنظمة السياسي.
لهذا، يجب أن تكون الأولوية الأكثر إلحاحًا هي تحسين برامج التأهيل، التي تلبي احتياجات العمل، فضلاً عن إصلاح نظام التعليم، الذي يبدأ في التحول نحو التفكير والابتكار والإبداع والتحليل النقدي، والابتعاد عن التلقين وأشكال التعلم التقليدية، والتي عفا عليها الزمن. كما سيتطلب الإصلاح أيضًا أن تمتد إجراءات الإدارة المؤسسية إلى الأحكام والرقابة المدنية. ففي العديد من البلدان، يتطلب هذا بالضرورة عملية تدريجية لتطبيع العلاقات بين المؤسستين المدنية والعسكرية، حتى تكون المراحل المبكرة من الانتقال حاسمة من حيث تحديد الأطر القانونية، التي تحكم العلاقات في نظام دستوري، أو قانوني، ذاتي التنفيذ. إذ أن الأحكام، التي تخول إعمال الشفافية القانونية، تمثل ضرورة قصوى، حتى وإن بدأ سجل الامتثال لها غير كافٍ بالنسبة للأنظمة الناشئة في المنطقة. وبهذا المعنى، فإنه يجب أن تُعنى المؤسسة المدنية بإعادة تصميم وتنفيذ برامج التدريب لزيادة الكفاءة المهنية وإحياء ثقافة العمل. بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء هياكل ترويجية للجدارة الوطنية في المؤسسة العسكرية سوف يساعد على الوقاية من تسييس قطاع الأمن في المستقبل، وفصله عن التركيز فقط على حماية النظام، إلى الاهتمام الأوسع بشأن الدولة والمجتمع.
إن سؤالاً بديهيًا قد يُثار حول؛ كيف يمكن للأنظمة عالية الثقل الجغرافي والديموغرافي أن تحقق اللامركزية؟ إذ لدى الحكومات العربية مجموعة واسعة من الأساليب المحتملة لعمليات التحول، مما ينشئ مساءلة سياسية أكبر عن التخطيط الإداري المركزي، ويساعد على كسر أنماط الإهمال الظاهرة في الهوامش. إذ ستعتمد هذه المساءلة بدورها على كفاءة توفير الخدمات، وسيكون تفويض السلطة ضروريًا لإنشاء الأساس لهذا التخطيط. ومن هنا، ينبغي النظر إلى اللامركزية على أنها فرصة لاستكشاف وصقل استراتيجيات التنمية، لأن الحكومات المحلية غالبًا ما يكون لديها فهم أوضح للقضايا، التي تؤثر على حياضها، بما في ذلك النقل والخدمات الاجتماعية. كما أن الإدارة المحلية أيضًا تقلل من التكاليف الإدارية وتخفف المتطلبات الإجرائية. ومثلما تتأكد فاعلية هذه الإجراءات اللامركزية على مستوى الدولة الواحدة، فإنها تصلح للتطبيق على المستوى القومي الأوسع، في حالة التكامل الموضوعي العضوي بين الدول العربية.
المعايير الإقليمية:
تُشَكِّل حالات الاضطراب والصراعات العسكرية والأزمات الإنسانية؛ بين الدول العربية وداخلها، وتَغَيُّر المناخ، والتقلبات الاقتصادية العالمية، وثورة الاتصالات المذهلة، تهديدات خطيرة للاستقرار والأمن البشري في جميع المجتمعات. وبالتالي، فإن مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة والخبرات، التي باستطاعتها تحويل بعض هذه التهديدات إلى فرص، ضرورية لإرساء قواعد العمل العربي الجماعي بشكل صحيح. وذلك بوضع سياسة ذات صلة بمشروعية التكامل العربي، وتنفيذها بفعالية، لتعظيم الفرص، وتقييم النتائج بدقة، والاستجابة المُثْلَى للتحديات والتخفيف من حدتها. ويؤدي توفير الموارد التنموية، بما في ذلك المساعدات الإنمائية الرسمية، والتحويلات المالية من الصناديق العربية والصناديق السيادية المتجانسة، ومجموعة كبيرة من الصناديق المتداولة في البورصة، وكذلك مصادر التمويل الجديدة؛ مثل الضرائب على الكربون والانبعاثات والمعاملات المالية، وما إلى ذلك، إلى خلق مناخ عمل عربي أكثر تكاملًا وتفاعلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التنويع في المصادر المالية للمساعدات الإنمائية يؤدي إلى تسريع مهمة تطبيق إطار عربي مشترك، يستند إلى الاحتياجات الفعلية للدول، ويتجه صوب تعزيز المصالح المشتركة.
وبطبيعة الحال، سيظل التعبير عن التغيير نحو الأفضل في أي دولة بمفردها، مهما كانت مستقرة، محفوف بالمخاطر دون وجود مؤسساتِ تَسَانُد وتَعَاضُد إقليمية قوية، تدفع الدول لتبني معايير سلوك متشابهة بشكل عام، وتشريعات مُلْزِمَة وضابطة لممارسات العمل الجماعي. وهذا يستوجب على الدول الأقدر اقتصاديًا، إلى جانب المنظمات الإقليمية المستقرة، أن تشجع الإصلاحات وتطوير معايير الحكومة الرشيدة. فقد كان من الواضح، طوال فترة ما سُمي بـ"ثورات الربيع العربي"، أن المفاهيم المتجددة للهوية الجماعية، والعلاقات عبر الوطنية، قد عمقت على نطاق واسع الاتجاهات والحوارات العابرة للحدود القُطْرِيَّة. وشجعت المساحة الإعلامية المشتركة، بما في ذلك القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، هذه الاتجاهات والحوارات، وساعدت على إضفاء الطابع الإقليمي على السياسة العربية. كما جعلت من سلوك الأنظمة القُطْرِيَّة السياسي موضوع اهتمام كبير لكل المواطنين العرب، مما يمثل خروجًا عن اهتمامات الماضي الموغلة في المحلية.
والأهم من ذلك، أن السنوات المقبلة ستكشف ما إذا كانت المؤسسات السياسية القومية؛ بما فيها الجامعة العربية، يمكن أن تعمل بفعالية، وما إذا كان نهجها في العمل سًيَحْتَرِم دور وحقوق غير العرب في العالم العربي. ففي النظر إلى حالة النظام العربي، والدور الكبير، الذي تلعبه السيادة والنضالات الإنسانية الدائمة من أجل المشاركة في السلطة والمساواة في تشكيل العلاقات الدولية والحكم، نؤكد أن التمكين الفردي، وزيادة الوعي بالأمن العربي الجماعي، والتعقيد المؤسسي، وتحولات السلطة المحلية، والنموذج السياسي الإقليمي المرجو، سيحدد مستقبل مشروعية الحكم في العالم العربي. وعلى هذا النحو، سيرتبط مفهوم الحكم بتفاعل عدد لا يحصى من الكيانات الفردية، والمكونات الجماعية، المنبثقة عن مختلف التوجهات الاجتماعية والمهنية، التي تشكل الشبكات، التي تتعامل مع القضايا، التي تهدد المجتمعات المحلية والإقليمية. على أن تهتم المؤسسات التكاملية بالقضايا، التي أصبحت معقدة للغاية بمستوى لا يمكن لدولة واحدة أن تعالجه بمفردها.
إن زيادة مشاركة الجهات الفاعلة، من غير الدول في الشؤون الإقليمية، تمثل تحولًا جذريًا في علاقات السلطة، ويُنتظر أن تساعد في تسريع نمو الاقتصاديات الوطنية، والمساهمة في التقارب بين السياسات في مجالات ومسائل التكامل المختلفة. ويمكن أن يُنْظَرَ إلى هذه المشاركة، في حالة الوطن العربي، من خلال تقديم مجموعة متنوعة من ترتيبات الحكومة الرشيدة، لمعالجة التحديات الرئيسة، التي تواجه عمليات التبادل، في سياق مستقبلي يتزايد عولمة. وتفضل ترتيبات الإدارة الحالية المرونة، وتتوخى التدابير الطوعية، وتضع قواعد ملزمة، وتميز الشراكات على الإجراءات الفردية. فإذا كانت الاستدامة هي الهدف النهائي، فيجب أن تكون هناك مؤسسات إقليمية مؤلفة من قطاعات قوية تضمن مبادئ المشاركة الأساسية للمواطنين. وتُعتبر الشفافية الحكومية أساسية لنظام أكثر انفتاحًا، حيث أنه يخلق فرصًا لإجراء إصلاحات إضافية. وخطوة خطوة، وبطريقة تدريجية، ستُصبح الحكومة الرشيدة بالنسبة للشعوب العربية، في نهاية المطاف، حُكْمًا بيد هذه الشعوب، وحَكَمًا عليها.
سؤال المستقبل:
إن السؤال يبقى عن؛ كيف نَعْبُر هذه المرحلة الحرجة إلى المستقبل المأمول؟ وهل حان الوقت للقراءة المتأنية لما يحدث الآن في العالم العربي؟ وبماذا يُعِينُنَا وعينا الجمعي الحالي، وتخبرنا تطلعاتنا الحاضرة بما يجب أن يكون عليه هذا المستقبل؟ وكيف ينبغي لنا أن نتصرف متضامنين لِتَعْيِين مشروعيته ووُجْهَتِه، وترتيب مؤسساته، وتحقيق مطلوباته؟ فأحيانًا قد نشعر وكأن الوقت قصير لتضمين كل ما نحلم به؛ وسط حالة الاحباط الماثلة، التي تُوجب علينا أن نبذل أقصى ما نستطيع لنخرج منها ونحقق أفضل استخدام لهذا الوقت القليل المتاح لنا، وذلك من خلال التخطيط والآليات والإجراءات والتصويب والاستشراف. إذ كانت الأيام الأولى من انتشار الاضطرابات والاحتجاجات والانتفاضات غير معقدة بسبب سرعة سقوط الأنظمة القائمة؛ في تونس ومصر، التي سرعان ما جذبت أوجه التشابه التاريخية فيها مع الأحداث الانتقالية لعام 1989م، والتي شهدت سقوط حائط برلين والدكتاتوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية، وأدت إلى زوال الاتحاد السوفيتي.
إن الإصلاح من الناحية العضوية يجب أن يبدأ، وبما يتفق مع المصالح المتصورة للجهات الفاعلة المحلية، بلا استثناء، ولا تهميش، أو إقصاء. إذ لا تستطيع أية جهة خارجية أن تملي هذا الإصلاح، ولكن يمكنها دعمه وتشجيعه، أو حَرْفُهُ وتوجيهه. إن المستقبل المرغوب يستلزم التفاوض والتراضي الداخلي، والاتفاق مع الآخرين من أصحاب المصلحة على مسار مشترك نحو الهدف، فنحن هنا لا نفكر في مجتمع، أو دولة، معينة فحسب، وإنما نعمل على اختيار مستقبل واحد ممكن للنظام العربي الجماعي، يتسع للطموحات الكلية، وفق خطط وآليات وإجراءات محكمة وممكنة، تُفضي بنا إلىنتائج تفيض خيراً على الجميع. وفي هذا الإطار، فإن المستقبل هو المكان الذي نتوقع أن نُدرك فيه رغباتنا الجمعية، ونحقق فيه تطلعاتنا وغاياتنا الكلية. ومن خلال هذا التصور، فإن المستقبل دائمًا ما يكون مأمولًا، لأن ما هو حقيقي هو الحاضر، وتأثير الماضي المستمر على ذلك يظل رافعة مهمة؛ علينا إحسان استخدامها.
إن هذا الموقف الجماعي في النظر للمستقبل ينبغي أن ينعكس في علميةالتنبؤات العلمية، ويتجلى في الممارسة العملية، والقدرة على التخطيط والاختيار والعمل وفق التقنيات الجديدة. فالعلم الحديث وتطور التكنولوجيا يقللان من القيود المفروضة على وضع الإجراءات في الحاضر لتتناسب بشكل مباشر مع الاحتمالات المقدمة لنا عن المستقبل. ويبدو أنه كلما زادت الإمكانيات المحسّنة تقنيًا، ازداد انفتاحنا على هذا المستقبل. ونتيجة لذلك، نشعر أكثر بأننا يمكن أن نُقَرِّر نحن ما نُريده اليوم، وما نراه مناسباً لحياتنا غدًا. إن شعورنا بأننا نمتلك حقًا مستقبلنا المنشود يتوسع كلما زادت معارفنا وتطورت تقنياتنا للسيطرة والتحكم في مسارات توجهاتنا.
لهذا، فإن هذا الفهم المتقدم للحاضر والمستقبل يميز النظرة الواقعية عن الراهن، الذي تعوره الصعوبات والتحديات. وهذاالتمييز يؤثر على تقديراتنا واختياراتنا وتحول ما يجب علينا القيام به تجاه تصويب وإصحاح ما اعْوَجَّ من مساراتنا. ولبلوغ هذا، ينبغي أن نعزز الحس المشترك، الذي يستوعب كل أنواع التضامن والتكامل النوعي، وسد كل ثغرات التشظي وذرائع الانقسام، التي تمثل سمة فاضحة وجارحة لراهن العمل السياسي العربي المشترك. وبالتالي، فإن فهم الزمن الوجودي والأخلاقي، على حد سواء، لمسارات عمل مؤسساتنا الجمعية، لن يكون مطلوبًا فحسب، بل هو ضرورة حياة وضمانة مستقبل. وهذا يجعل الفائدةمن قراءتنا للراهن العربي أكثر وضوحًا، إذ سنستبطن العديد من النظريات والتصورات، لنسأل؛ ما إذا كان لديناالافتراضات اليومية حول الفرق بين التحديات الحالية والمستقبلية، وسنسأل أيضًا ما إذا كان الفارق الموضوعي بيننظرتنا المجردة لمهمة وميزات تجربتنا المشتركة كعرب، فيما يتعلق بفهمنا اليومي للحاضر، وتوقعاتنا للغد المنتظر، ستساعدنا على فَهْمٍ أفضل للدور، الذي لعبته تصوراتنا الماضية في حياتنا، وما يمكن أن نأخذه منها ترياقًا للمستقبل.
إن عددًا لا يُستهان به من المثقفين والمفكرين العرب يشاركون هيدجر، وجوناس، وديلوز، في رؤيتهم أن المستقبل أكثر من مجرد "ليس بعد"، ويقترحون، بدلًا من ذلك، فكرة "الحاضر المستمر". لذا، فنحن نريد أن نأخذ تجاربنا التكاملية الماضية والحاضرة؛ تجربة تجربة، لنطور بها، وندفع ما صَلُحَ منها، نحو المستقبل بفعل جماعي حقيقي، لا يستثني أحدًا. ولكن بمنهجية قويمة، وبطريقة أكثر تجويدًا وإتقانًا، تنتزع كل عثرات التجارب الماضية، وتستبدلها بتصويبات موضوعية، وإجراءات علمية عملية، تبلغ بها مراقي النجاح. لأننا إذا أردنا الاستمرار كأمة تفخر بذاتها، وتتطلع إلى أن يحترمها الآخرون، فعلينا أن نتميز في الحاضر، كما كُنَّا في الماضي، ونُفَسِّر بعض قصور حاضرنا من خلال توقعنا لما سنصبح عليه في المستقبل، من خلال تبني الشعور الإيجابي بأننا كتلة حيوية، ولا نركن أبدًا لركود قد تفرضه علينا عمليات التحول القسرية. وهذا يستوجب تنمية القدرة على أن يصبح التطور الحضاري المحتمل متوقع ومُدْرَك، حتى تكون العمليات المستقبلية،، التي سنتحرك من خلالها جاهزة بالفعل لإعطاء النتائج المحسوبة والمحسوسة.
إذن، فالرؤية الواقعية للمستقبل ليست واقعًا افتراضيًا نتمناه، بمعنى أن نضع في أذهاننا تصورات غير حقيقية لما نظن أنه محاكاة لما يمكن أن تكون عليه أوضاعنا المستقبلية؛ إنها، بدلًا من ذلك، تمثل البُعد الكامن لتلك التقديرات الموضوعية والمنطقية الموجودة لدينا بالفعل، والتي هي دائمًا تعمل، وتخلق أنماط التوجهات المستقبلية. وعلى هذا النحو، قد تبدو غير محسوسة احيانًا، ولكن مع ذلك كله فهي محسوبة وفعالة، وهي في طريقها إلى أن تصبح حقيقية. هذا هو المستقبل كما ينبغي أن نعيشه بالفعل، على اعتبار أنه دائماً معنا في حاضرنا، حتى ولو كان في مستواه الشعوري الافتراضي. إذ لا يجب أن يساء فهم علاقتنا بهذا المستقبل عند السؤال عن كيفية ارتباطنا به، خاصة إذا فكرنا في أنفسنا أننا لسنا مجرد مستعمرين لفضاء فارغ جاهز للاحتلال، وإنما بُنَاة لمستقبل يستمد مشروعيته من حاضر ينهض، ماض حضاري تليد.