- عادةً ما تتحرى الدول الالتزام باتفاقياتها ومعاهداتها مع الأطراف الدولية الأخرى، حتى مع حدوث التغيير في رموز ومؤسسات أنظمتها السياسية. ليس ذلك من سلوك الدول الكبرى والمتقدمة ديمقراطيًا، فحسب... بل إنه ينسحب على دول العالم الثالث، الأقل نموًا واستقرارًا، حيث تتحرى هذه الدول عند حدوث تغيير عنيف في مؤسسات السلطة ورموزها، نراها تُسارع لطمأنة شركائها الدوليين الذين سبق للحكومات السابقة أن عقدت معهم اتفاقات ثنائية أو جماعية، بأن الحكومة أو النظام الجديد ملتزمان، تجاه الأطراف الدولية، بما سبق وعقدته من اتفاقات دولية الحكومات السابقة التي أُخرجت من الحكم، بطريقة عنيفة وغير دستورية. هذه قاعدة من قواعد التعامل الدولي المرعية، التي تعكس أبرز مسوغات العضوية في مؤسسات النظام الدولي، التي تتطلب إظهار الدولة قدرتها وإبداء إرادتها احترام التزاماتها الدولية والابتعاد عن أي سلوك أو توجه من شأنه أن يخل بتلك الالتزامات أو التنصل مِنْهَا.
"دياليكتية" نشوء وانهيار الأنظمة الدولية
هذا الاحترام المتواتر من قبل أعضاء النظام الدولي لالتزاماتهم الدولية يُعد من أبرز محددات استقرار أي نظام دولي وفاعليته، خاصةً مع عدم توفر سلطة مركزية رادعة قادرة على فرض التزام الدول بتعهداتها الدولية ما يحول دون فوضوية أي نظام دولي، لا تحكمه سلطة مركزية قاهرة، مثل ما هو حال أعضائه من الدول داخليًا، هو: هذا الإحساس السياسي الضاغط القوي، لدى الدول بالمسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية، تجاه التزاماتها الدولية، الذي يدفعها منطق الدولة، الالتزام بقواعد القانون الدولي.. وعدم الاستهانة والاستخفاف بقواعد التعامل المرعية في مسرح السياسة الدولية، النابع من مصلحة الدول نفسها، دون ما ينتقص ذلك - بالضرورة - من سيادتها.
هذه الخاصية المتميزة، التي تقترب من مكانة القوة الرادعة "الخفية" للنظام الدولي، هي في حقيقة الأمر التي تحافظ على استقرار النظام وتبعد عنه احتمالات الفوضى وعدم الاستقرار، التي عادةً ما ترافق أي كيان سياسي، لا تتوفر فيه سلطة مركزية رادعة تتحكم في سلوك وتوجهات أعضائه. النظام الدولي، أي نظام دولي، قد يكون عشوائيًا، وأحيانًا، غير منضبط، إلا أنه بالقطع غير فوضوي. ومتى يصل النظام الدولي إلى درجة الفوضوية، ينهار، ليفسح المجال لنظام دولي جديد، يكون أكثر انضباطًا وأدعى استقرارًا. حركة "دياليكتية" كانت وراء نشوء وانهيار الأنظمة الدولية الحديثة المتعاقبة، منذ القرن الخامس عشر.
مسؤولية الدول الكبرى تجاه التزاماتها
كما أنه، عادةً ما تكون مصلحة الدول الكبرى والقوية، احترام التزاماتها الدولية، ليس من أجل تقديم قدوة وصورة حضارية لثقافتها وتقدمها.. وإظهار مسؤوليتها القانونية والأخلاقية تجاه استقرار النظام الدولي... بل، أولاً وأخيرًا: من أجل خدمة مصالحها الوطنية وأمنها القومي. إذ عادةً ما تتمخض تلك الاتفاقات والالتزامات عن مفاوضات شاقة.. أو شروط استسلام قاسية، خضعت لها الدول الأضعف في أي صيغة للتفاوض، ويكون في النهاية من مصلحة الدولة الأقوى التزام الدولة أو الدول الأصغر والأضعف، بتلك الاتفاقات. كما أن الدول الكبرى عندما تدخل في علاقة تعاقدية مع الدول الأصغر والأضعف، من صالحها الحرص على الحفاظ على بنود ونصوص تلك الاتفاقات والتعاقدات، من أجل الحصول على العائد من ورائها، بأقل تكلفة ممكنة، مقارنة بخيار العودة من جديد لحالة الصراع التقليدية السابقة.
حتى في حالات توقيع معاهدات السلام أو الاستسلام، عقب الحروب الطاحنة، من صالح الطرف الأقوى المنتصر، أن يراعي التزاماته في الاتفاق، أكثر من الحرص على تعجل جني ثمار انتصاره، من أجل الحيلولة دون العودة إلى حالة الصراع السابقة، التي قد تدفع الطرف الأضعف المهزوم، إلى الشعور بدافع الخروج من الاتفاق، بسبب عدم التزام الطرف الآخر بما يترتب عليه من واجبات ومسؤوليات من جراء ذلك الاتفاق، على سبيل المثال: مثل التزام الجانب المنتصر في الحرب بإعادة الإعمار ومساعدة الطرف المنتصر التخلي عن حالة الحرب أو الصراع، خاصة إذا ما تمادى الطرف المنتصر الأقوى في إذلال وإهانة والتضييق على الجانب المنهزم. ألمانيا، على سبيل المثال عقب هزيمتها في الحرب الكونية الأولى فرض عليها الحلفاء الأوربيون شروط استسلام جائرة، ما لبثت ألمانيا في عشرين سنة أن ثارت على معاهدة فرساي ومزقتها، وكان أن اندلعت الحرب الكونية الثانية. قارن هذا بما فعله الحلفاء في الحرب الكونية الثانية، عندما فرضوا الاستسلام على اليابان وألمانيا، وواكبوا ذلك بمشاريع تنموية ومساعدات سياسية، كانت كفيلة بإعادة إعمار ألمانيا واليابان وتطوير أنظمة ديمقراطية، حالت دون عودة الأنظمة الشمولية من جديد في ألمانيا واليابان وحتى إيطاليا، التي كانت تعرف بدول المحور.
إذًا: من مصلحة الطرف الأقوى، في أي اتفاق دولي، أن يكون أحرص على الالتزام بواجباته في أي اتفاق يوقعه مع الطرف الأضعف، حتى لو تغلب عليه في حرب فاصلة، ليشجع الطرف الأضعف الالتزام، بدور بالاتفاق، من أجل جني عوائد الاتفاق.. وضمان عدم عودة حالة الصراع المكلفة لسابق عهدها غير المستقر باحتمالات العنف المتجذرة فيها.
خصوصية الاتفاقات الجماعية
تكون مسؤولية الدولة الكبرى أعظم تجاه التزاماتها الدولية، إذا كانت تلك الاتفاقات جماعية تتضمن أطرافًا تربطها بها علاقات تحالف.. وتكون قد أُبرمت في إطار دولي جماعي، قد يشمل مؤسسات النظام الدولي القائم. هنا تكون المصلحة في الالتزام بالاتفاق الدولي جماعية.. ويصعب خرق هذا الاتفاق الدولي أو التنصل منه، لقوة خلفيته القانونية والسياسية.. وعِظَمِ مكانة مشروعيته الأخلاقية. في حالة الاتفاقات الجماعية، خاصة إذا كان أحد أطرافها أكثر من طرف دولي في مواجهة طرف دولي منفردًا. هنا: يظهر عدم التكافؤ منذ مرحلة التفاوض الأولى، وحتى الوصول إلى مرحلة التفاوض النهائية، بتوقيع الاتفاق بين أطرافه المتعددة من جهة وطرفه الآخر الوحيد، من جهة أخرى.
خلافًا لما يُعتقد، فإن الاتفاقات الجماعية من هذا النوع، ليست بالضرورة في غير صالح الطرف الوحيد الذي يبدو ضعيفًا. في مثل هذه الاتفاقات تكمن قوة ردع خفية، تعطي حماية غير مرئيّة لمصالح الطرف الأضعف. في مرحلة المفاوضات قد يستفيد الطرف الوحيد الذي يبدو ضعيفًا، من تضارب مصالح مجموعة الدول في الطرف الآخر. وفي مرحلة تنفيذ الاتفاق قد تشكل مجموعة الدول، مظلة غير مرئيّة لضمان الالتزام بالاتفاق، حتى في حالة خروج أحد أطراف مجموعة الدول التي تشكل أحد طرفي الاتفاق، من الاتفاق. إلا في حالة واحدة، عندما يكون هناك في المجموعة المكونة لطرفي الاتفاق، طرف بعينه يطغى وجوده ووزنه أو يتفوق على بقية أطراف مجموعة الاتفاق، ليظهر الاتفاق في حقيقة بين طرفين فردّين، لا طرفين أحدهما مكون من عدة دول والطرف الآخر مكون من طرف واحد فريد. من ثم خروج أحد أطراف مجموعة الدول في معادلة الاتفاق، يمكن أن يعصف بالاتفاق، ليعود الاتفاق إلى طبيعته الحقيقية، بين طرفين فردّين، لا كما يظهر بين طرفين أحدهما مجموعة دول والآخر طرف دولي، بعينه. وهذا ما ينطبق، إلى حدٍ كبيرٍ على اتفاقية البرنامج النووي الإيراني.
خروج الولايات المتحدة من اتفاقية لوزان
يوم الثلاثاء ٨ مايو الماضي وَقّعَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرسومًا جمهوريًا بخروج الولايات المتحدة، من جانب واحد، من الاتفاق الذي عقدته الولايات المتحدة والدول الأعضاء في مجلس الأمن وألمانيا في ما عرف بمجموعة ( ٥+ ١ )، في ٢ أبريل ٢٠١٥م، بمدينة لوزان السويسرية، مع إيران، لتسوية الخلاف حول برنامج طهران النووي المثير للقلق والجدل معًا، دوليًا وإقليميًا. شأن الاتفاقات الجماعية، التي تكون الولايات المتحدة طرفًا فيها، فإن خروجها منها، من الناحية العملية، يسقط تلك الاتفاقات، حتى لو حرصت بقية الأطراف على الالتزام بها.
لم تَكْتَفِ واشنطن بإعلان خروجها من الاتفاق، بل أتْبَعَت قرارها هذا بإجراءات عملية، تجعل الاتفاق خبرًا بعد عين، فأعادت فرض نظام عقوباتها على طهران، بقسوة أشد هذه المرة، لتتجاوز إيران إلى كل طرف دولي يتعامل معها، حتى ولو كان من ضمن أطراف الاتفاق الرئيسيين. ليس هذا فحسب، بل هددت واشنطن باحتمالات الحرب على إيران، إن لم تباشر في مفاوضات جديدة، تتخلص من القصور في الاتفاق السابق، من وجهة نظرها، وإلا!؟ وإلا هنا: تحمل في طياتها حلاً عنيفًا ضمنيًا للتخلص من برنامج إيران النووي، ليس فقط تدمير هذا البرنامج ومنشآته بعمل عسكري جراحي مباشر، بل أيضًا، قد يصل الأمر لدرجة التدخل العنيف لإسقاط نظام الملالي في طهران، واستبداله بنظام أقرب لمصالح الولايات المتحدة ولمتطلبات أمنها القومي، من وجهة نظر إدارة الرئيس ترامب، في أكثر مناطق العالم حساسية وحيوية، لاستقرار النظام الدولي وسلام العالم.
تبرز قوة الولايات المتحدة، في إمكاناتها الحقيقية، لإنجاح أو إفشال أي اتفاق، بعيدًا عن تعاون أو إرادة أطرافه الآخرين، حتى ولو كانوا من أقرب حلفائها وخصومها الدوليين، مثل حلفائها التقليديين في الاتحاد الأوربي.. أو خصومها الألداء، مثل روسيا والصين. قوة تدلل على مكانة الولايات المتحدة المهيمنة على النظام الدولي، تنبع أساسًا من إمكاناتها الذاتية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، بصورة لا تنافسها فيها أو تضاهيها بها أي قوة دولية أخرى في النظام الدولي.
بالإضافة إلى أن إدارة الرئيس ترامب، بالرغم من مشاكلها الداخلية، إلا أنها تتصرف في ملف السياسة الخارجية، بصورة فيها تحدٍ واضح، لكل الانتقادات التي صدرت داخليًا معارضةً للخروج من الاتفاق وكذا الالتزامات الدولية التي راعتها الحكومات السابقة، وكانت تعكس نمطًا متوترًا يعكس مسؤولية واشنطن الأممية، بوصفها القوة المركزية المهيمنة على النظام الدولي. كأن تعمل إدارة الرئيس ترامب بهذه الطريقة غير التقليدية في ملفات السياسة الخارجية المعقدة والحساسة، مثل الاتفاق النووي الإيراني.. وقضية نقل السفارة الأمريكية للقدس.. والخط المتشدد تجاه حلفاء الولايات المتحدة التقليديين وخصومها المحتملين، هو الطريق لخروج إدارة ترامب وهو شخصيًا، من أزماتهم الداخلية، متعللين بحجة وفاء الرئيس بالتزاماته تجاه ناخبيه، الذين أتوا به لسدة الحكم في البيت الأبيض.
من الناحية العملية، وكما سبق وظهر أعلاه، فإن خروج الولايات المتحدة، منفردة من الاتفاق، يعكس حالة كلاسيكية لطبيعة مثل هذه الاتفاقات التي تبدو جماعية، إلا أنها في حقيقة الأمر اتفاقات بين طرفين فردّين، لا بين طرف يتكون من مجموعة من الدول وطرف آخر فرد. مهما حاول الأوروبيون والروس والصينيون، أن يحافظوا على الاتفاق، فإن الأمر في النهاية، بين طرفي الاتفاق الرئيسيين ( الولايات المتحدة وإيران ). ومها حاول الطرف الأضعف هنا ( إيران)، أن يلتمس التزام الأطراف الأخرى في الاتفاق، متظاهرًا بالتزامه به، فإن ذلك لن يسعفه، طالما أن الطرف الأقوى في المعادلة بأسرها، أمسى خارج الاتفاق.
نفس الشيء حدث لاتفاقيات دولية كانت الولايات المتحدة طرفًا فيها وانهارت بمجرد انسحابها منها، مثل: اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي ( TTP ) ، التي انسحبت منها إدارة الرئيس ترامب في بداية عهدها. ثُمّ ما هو مصير مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى ( G7 )، لو خرجت منها الولايات المتحدة، وهو ما لوحظ ضمنيًا في سلوك وتصريحات الرئيس ترامب في ختام القمة الـ ٤٤ التي عقدت في مدينة تشارليوفكس بمقاطعة كيوبك في كندا ( ٩ - ١٠ ) يونيو الشهر الماضي.
المشكلة تظهر في نهج السياسة الخارجية غير المسبوقة، ذات البعد الشعبوي، التي تتبعها إدارة الرئيس ترامب، التي لا تقتصر على خصوم أو الأطراف التي لا تعتبرها واشنطن صديقة، بل تمتد إلى حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، دوليًا وإقليميًا. سياسة خارجية، أقل ما يمكن أن يُقال عنها افتقارها إلى البعد الدبلوماسي أو مراعاة قواعد التعامل المرعية في النظام الدولي، الذي تهيمن عليه وتعتبر مسؤولة عن استقراره. حتى في تجربة الديمقراطيات الليبرالية، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، تغيير النخب الحاكمة، عادةً لا يترتب عليه تغييرات جذرية في سياستها الخارجية، تنال من التزاماتها الدولية... وإن حدث شيء من هذا القبيل، فإنه يأخذ وقتًا طويلاً، كما هو في حالة أوضاع السياسة الخارجية المتغيرة، من العزلة إلى التداخلية، على سبيل المثال، ومع ذلك تبقى تلك الدول ملتزمة بتعهداتها الدولية، السابقة لتلك التحولات.
تداعيات خروج واشنطن من اتفاقية لوزان
المشكلة هنا: لو انفرط عقد اتفاقية لوزان الخاصة ببرنامج إيران النووي، وترتب على ذلك تطور يقود إلى حالة من عدم استقرار إقليمي، يمكن أن تتسع وتشعل منطقة تقبع تحت برميل بارود يطل منه فتيلٌ منتظرًا أي شرارة، حتى لو أُشعلت بطريق الخطأ، لينفجر في وجه المنطقة، وربما العالم. إيران، بعقلية نخبها الحاكمة المتحجرة أيدلوجيًا، أغلب الظن أنها لن تنساق لجولة مفاوضات جديدة، بسهولة مهما كان ضغط الأطراف الأخرى في الاتفاقية، وسوف تحاول طهران باستماتة الإبقاء على الاتفاقية، لعلَ وعسى تحدث تطورات داخلية في أمريكا، يمكن أن تقود إلى استعادة التزام واشنطن بها.. أو على الأقل الحصول على تعاون وتعاطف الأطراف الأخرى في الاتفاقية خاصةً الأوربيين، ومحاولة تخفيف الضغط من نظام العقوبات الجديد، الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه.. أو الحصول على ضمانات بمفاوضات جديدة تقود إلى اتفاق جديد، لا ينقض الاتفاق القديم، وإن كان يقترب من مطالب إدارة الرئيس ترامب، بصورة تكون مقبولة لطهران.
إلا أن ما يُخشى منه، ويتناسب مع التزمت الأيدلوجي لنظام طهران، أن يصل الطيش بملالي طهران، إلى الإعلان عن عودة برنامج تخصيب اليورانيوم في مفاعلاتها النووية، من جديد. هذا يمكن أن يكون خروجًا من الاتفاق السابق من قبل طهران، ويعطي مبررًا للأوربيين - بدورهم - الخروج من الاتفاق واللحاق بالموقف الأمريكي. هذا التطور، إن حدث قد يهيئ الأمر لاحتمالات حرب في المنطقة، ليس إدارة الرئيس ترامب وحدها تتطلع إليها، بل قوىً إقليمية قد تتوق إليها. حتى لو لم يتطور الأمر لمثل هذا "السيناريو" الخطير، فإن الأطراف الأخرى في الاتفاق السابق، بقاؤهم فيه أو خروجهم منه، لا يقدم من الأمر شيئًا ولا يؤخر. ففرض عقوبات جديدة على طهران، من قبل واشنطن، من شأنه على الأقل يعيد حالة التوتر في المنطقة، إلى سابق عهدها، وربما في هذه الحالة، يدفع طهران لأن تكون أكثر تشددًا في ملفات هي مشتعلة بالفعل، بسبب تدخل طهران فيها، مثل الأوضاع في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
تلك المناطق المشتعلة، قد تدفع المقاطعة الاقتصادية الجديدة التي تفرضها واشنطن على طهران، إلى صب الملالي المزيد من الزيت فيها، مما يهدد بامتداد لهيبها إلى مناطق أخرى. ومما يدلل على قسوة نظام المقاطعة الاقتصادية الجديدة التي فرضتها واشنطن على طهران عقب انسحابها من اتفاقية لوزان، أن كثيرًا من الشركات التابعة لدول الاتفاق السابق، منها شركات عالمية كبرى مثل توتال وإير باص، خرجت من إيران، مضحيةً باستثماراتها هناك، وربما خسارة مالية ضخمة وردت في عقود تلك الشركات مع الحكومة الإيرانية في شكل غرامات جزائية إن هي لم تلتزم بنصوص العقود مع الحكومة الإيرانية. كل ذلك خوفًا من سيف العقوبات الأمريكية، التي فرضتها واشنطن على طهران، عند انسحابها من الاتفاق الأممي الجماعي الخاص ببرنامج إيران النووي. هذا بالإضافة إلى شركات أمريكية سارعت في الاستجابة لنظام المقاطعة الأمريكية الجديد لإيران مثل شركة بوينغ، مضحية باستثمارات بعشرات المليارات من الدولارات، وربما التضحية بدفع مليارات أخرى في صورة غرامات جزائية نظير لفسخها عقودًا مع الحكومة الإيرانية.
بعيدًا عن ما قد ينجم من تداعيات خطيرة محتملة، إقليميًا، جراء انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية لوزان الخاصة ببرنامج طهران النووي، يبقى أخطر ما في هذه التطور، ما قد يتطور عالميًا من فقدان الثقة في مصداقية الدولة الأعظم المهيمنة على النظام الدولي، تجاه أي اتفاقات يمكن أن تدخل فيها مع أطراف دولية، وتنقضها بمجرد حدوث تغيير موسمي، وإن كان ديمقراطيًا، في هيكل النخبة الحاكمة ومؤسسات الدولة في واشنطن، يعكس اختلافات أيدلوجية.. أو تصفية حسابات مريرة، أو وسيلة للخروج من أزمات سياسية داخلية.