أثارت الممارسة الثانية لصلاحيات الرئيس الأمريكي رونالد ترامب -بتاريخ 15 إبريل 2019م، والمتعلقة برفضه قرار الكونجرس الأمريكي المتعلق بوقف مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية للتحالف العربي في اليمن، جدلاً كبيرًا، خاصة في المنطقة العربية، تتعلق بشكل رئيسي حول العلاقة التنظيمية بين كل من مؤسستي الكونجرس والرئيس الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتهدف هذه الدراسة لتسليط الضوء على هذه العلاقة، في سياق المستجد الأخير والمتمثل في استخدام الرئيس الأمريكي صلاحياته برفض قرار الكونجرس المشار إليه، حيث ستعرض الدراسة أهم المسائل القانونية والسياسية المرتبطة بهذا الشأن، ومن ثم، تتناول أهم الأحكام القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي قضت فيها هذه المحاكم بعدم اختصاصها بالنظر في الدعاوى التي تنازع سلطة الرئيس الأمريكي في ذلك الميدان.
فلسفة الدستور الأمريكي في تحديد صلاحيات السلطات الأمريكية
كانت مواد الاتحاد الكونفدرالي الأمريكي تنص على أن تقوم لجنة من الكونجرس بالقيام بالوظائف التنفيذية، ولكن جاء واضعو الدستور الأمريكي الحالي لينصوا في المادة الثانية الفقرة(1) على أن: "تخول السلطة التنفيذية إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية". وهنا يثور التساؤل: هل كانت فقرة منح السلطة إلى الرئيس لا تعدو أن تكون مجرد إشارة موجزة إلى كل السلطات التنفيذية الصريحة الواردة في المادة الثانية، أم أنها كانت إشارة إلى اختيار سلطة تنفيذية واحدة بدلا من متعددة العناصر؟ أم أنها كانت منحة منفصلة من السلطة للرئيس لأداء كل الوظائف التي تكون "تنفيذية" الطابع؟[1]
واقع الأمر ، لقد أتى الدستور الفيدرالي الحالي للولايات المتحدة، متبنيًا مبدأ الوحدانية في السلطة التنفيذية، وهو المبدأ الأساسي الذي أفصحت عنه صراحة المادة الثانية من الدستور الأمريكي، ووفقًا للمبدأ المشار إليه تفرد النظام الرئاسي الأمريكي بجلاء عن غيره من الأنظمة الرئاسية الأخرى، حيث تتوحد السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة ، بل تندمج في عناصرها كافة، بشخص الرئيس، في حين أن هذه السلطة التنفيذية تتوزع في الأنظمة البرلمانية الأوربية، بين رئيس الدولة، ملكًا كان أو رئيس جمهورية، وبين الحكومة القائمة، ويمتد الأمر أيضًا ليشمل الأنظمة الأوربية الرئاسية مثل فرنسا، حيث يشارك رئيس الوزراء الفرنسي رئيس الجمهورية في ممارسة العديد من الصلاحيات والإختصاصت التنفيذية.[2]
لقد قصد الآباء الأوائل للدستور الأمريكي أن يحقق سلطان الهيأة التنفيذية الشرط الجوهري للحكومة الناجحة، وأن العنصر الأول لضمان هذا السلطان هو في وحدته، وأن هذه السلطة الكبيرة التي يتمتع به رئيس الولايات المتحدة أدت إلى القول "بأن الأمريكيين إنما يختارون لأنفسهم، كل أربع سنوات، ملكًا لا يختلف عن سائر الملوك"، وفي الأعمال التي لا تتصل بإحدى صلاحيات الكونجرس والمحكمة العليا، يتمتع الرئيس الأمريكي بسلطان لا ينازعه عليه أحد، وهو، من هذا القبيل، العضو الدائم في الدولة، فيتحمل وحده مسؤولية الأمة أمام التاريخ، وهي حالة من السلطان قد دفعت الرئيس الأمريكي ويلسون إلى القول: "إن للرئيس الحرية، تجاه القانون والضمير، أن يكون قائدًا كبيرًا بقدر ما يشاء"[3].
فالسلطة التنفيذية في النظام الرئاسي الأمريكي تتميز بـ"أحادية الرأس"، إذ تنحصر صلاحياتها بشخص رئيس الجمهورية الذي يُنتخب على مرحلتين: الأولى من قبل الشعب الأمريكي، والثانية من قبل الناخبين الرئاسيين الذين ينتخبون الرئيس بدورهم في المرحلة الثانية، وتتمركز السلطة التنفيذية بيد الرئيس لعدم وجود ثنائية في السلطة التنفيذية، بيد أن المهام الواسعة الملقاة على عاتق الرئيس، تحتم عليه الاستعانة بعدد كبير من المستشارين والمعاونين[4].
واقع الأمر، لقد كفلت السلطات الواسعة الصريحة غير المحدودة للرئيس الأمريكي في المادة الثانية من الدستور الأمريكي مجالاً واسعًا للمبادرات الرئاسية، ورسخ الواقع العملي في الممارسات التشريعية للرئيس الأمريكي، خاصة في المجال الخارجي، فأصبح الجزء الأكبر من تشريعات الكونجرس الأمريكي في العقود الأخيرة هي اقتراح من الرئيس[5].
وظائف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
حدد الدستور الأمريكي وظائف الرئيس في القسم الثاني والثالث من المادة الثانية، وهي التي تجعل الحكم الفيدرالي، الذي يمارسه الرئيس، حكمًا ذا صلاحية مفوضة إليه من الدستور. وهي النظرية التي توطدت بعد ذلك، إلى أن أصبحت النظرية السائدة في أوائل القرن العشرين، حتى أن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت قد صرح عنها وقتئذ بقوله: "إنه لا يسعني أن أعتبر أن الذي تقضي به مصلحة الأمة، لا يكون باستطاعة الرئيس أن يفعله، إلا إذا وجد من يأذن له بذلك، فشعوري الخاص أنه لم يكن بحقه وحسب، وإنما من واجبه أيضًا أن يفعل كل ما تتطلبه ضرورات الأمة أن يفعله، إلا إذا كان الدستور أو القوانين النافذة قد تضمنت نصًا صريحًا للعمل الذي يتولى إجراءه "[6].
صلاحيات رئيس الولايات المتحدة في السياسة الداخلية والخارجية:
إن صلاحيات الرئيس الأمريكي، التي حددها الدستور واستنبطها الإجتهاد الفقهي، تبدو جميعًا ناجمة عما تتضمنه السلطة الإجرائية في النظام الرئاسي من المحتويات والإمكانات، مما جعلها صلاحيات عديدة وواسعة وضخمة، مقارنة بعديد الصلاحيات التي يتمتع بها عديد الرؤساء في النظم الرئاسية خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
يشرف الرئيس الأمريكي علي دقة تطبيق القوانين ويعين جميع المناصب في الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت المناصب العليا "الوزراء ورؤساء الإدارات"، وأيضًا أعضاء المحكمة العليا يتم تعيينهم من قبل الرئيس مع "مشورة وموافقة مجلس الشيوخ"، ما يعني أن الأشخاص المعينين يجب أن يوافق عليهم مجلس الشيوخ. وللرئيس الحق في العفو ووقف تنفيذ العقوبات في الجرائم المرتكبة ضد الولايات المتحدة "باستثناء القضايا المتعلقة بالإقالة بقرار قضائي".
كما يملك الرئيس حق الفيتو، وبمقدوره أن يستخدمه ضد أي قانون، عدا التعديلات الدستورية. ولوقف فيتو الرئيس يتعين على مجلس النواب أن يعيد التصديق على القانون بثلثي الأصوات. وتشير الممارسة الطويلة إلى أن الكونجرس يتغلب فقط على ما نسبته 7 – 11% من فيتو الرئيس[7]، وهو ما سنفصله في موضع تالٍ.
صلاحيات الرئيس العسكرية:
يملك الرئيس الأمريكي صلاحيات غير محدودة عمليًا في المجال الحربي، حيث يمكنه أن يعطي أمرًا للقوات المسلحة ببدء عمليات عسكرية على أراضي الدول الأخرى من دون إعلان حالة الحرب، "حق إعلان الحرب يملكه الكونجرس". مثل هذه العمليات يمكن أن تجرى في غضون 60 يومًا، وعند الضرورة يمكن زيادة هذه المهلة 30 يومًا أخر. ويجب على الرئيس فقط تقديم تقرير بهذا الخصوص إلى الكونجرس.
وبقرار من الرئيس تفرض حالة الطوارئ في البلاد ويتم الإعلان عن التعبئة.
يملك الرئيس الحق، إذا لزم الأمر، نقل قسم من قوات الحرس الوطني، وهي بمثابة قوات داخلية تخضع في زمن السلم لحكام الولايات، وأيضًا قوات الاحتياط في الجيش، إلى القوات النظامية " لمدة تصل إلى 6 أشهر"، وبقرار من الرئيس يمكن استخدام هؤلاء لدعم الجيش والقوات الجوية خارج حدود الولايات المتحدة.
ويقدم الرئيس أيضًا مقترحات إلى الكونجرس بشأن الإنفاق العسكري "في إطار ميزانية البلاد" ويحدد طريق واتجاه تطوير القوات المسلحة، ويعين القيادات العسكرية العليا "بموافقة مجلس الشيوخ" ويمنح الرتب العسكرية.
الرئيس يشكل وينفذ السياسة الخارجية. ويشارك شخصيًا، أو من خلال ممثليه، في المفاوضات الدولية، ويعقد الاتفاقيات الدولية، ويستقبل السفراء والممثلين الرسميين الآخرين، ويعين السفراء والقناصل والممثلين المفوضين الآخرين.
صلاحيات الرئيس في استخدام الفيتو الرئاسي لرفض قرارات الكونجرس:
فضلاً عن الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي، والمشار إليها سالفًا، فإن الدستور الأمريكي كفل للرئيس حق الفيتو على مشروعات القوانين الصادرة عن الكونجرس، حيث أن القانون لا يصبح نافذًا إلا إذا صادق الرئيس عليه، فإذا صادق عليه، يتحول عمل الكونجرس Act إلى قانون law or statute، رغمًا من أنه يبقى باسمه الأصلي Act ، وإذا رفض الرئيس الأمريكي المصادقة عليه، فإنه يعيده الى الكونجرس مع بيان أسباب معارضته لهذا القانون.
وفي هذه الحالة، يقتضي على المجلس، الذي يكون قد أعاد إليه الرئيس هذا القانون - وهو المجلس الذي صوت عليه في مرحلته الأخيرة – أن يدون كامل أسباب معارضته في محضر جلسته، ولا يحق له عندئذ أن يعيد التصويت فيه، إلا بأغلبية ثلثي أصوات أعضائه الحاضرين، فيحيله بعد ذلك إلى المجلس الآخر، لكي يصوت عليه أيضًا، بأغلبية أصوات أعضائه الحاضرين.
وإذا تم هذان الشرطان، لم يعد للرئيس مناص من المصادقة على إصداره ونشره، وإلا يعتبر القانون قد صدر نهائيًا، وكما سبق بيانه فنادرًا ما يحاول الكونجرس الأمريكي أن يتمرد على إعتراض Veto الرئيس.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الرئيس لا يحق له أن يستخدم الفيتو إلا في خلال عشرة أيام بالتقويم الميلادي من وصول القانون إليه، وهي المدة التي حددها الدستور الأمريكي، مع عدم احتساب أيام الأحد التي قد تتخلل هذه المدة، حتى إذا مرت هذه المهلة ولم يصادق الرئيس عليه، اعتبر القانون نافذا نهائيًا، فامتناع الرئيس عن الرد أو إعادة مشروع القانون موقعًا عليه، أو مرفقًا به أوجه اعتراضاته ضمن المدة الزمنية المحددة وفقًا للدستور، مع تمكنه من ذلك، يعد قرينة قانوينة قاطعة على موافقته الضمنية على قرار الكونجرس.
لقد أقرت المحكمة العليا الأمريكية في عدد من أحكامها بعض المبادئ المتعلقة بهذا الخصوص، نذكر أهمها:
1- إن الرئيس غير مقيد بأن يوقع على مشروع القانون في يوم يكون فيه الكونجرس في حالة انعقاد، فهو يملك أن يوقع في أي وقت خلال المدة التي أشرنا إليها سالفًا.
2- إن واجب الرئيس في الموافقة على مشروع القانون هو مجرد التوقيع عليه، فهو لا يحتاج أن يكتب على الوثيقة كلمة ( Approved )، أي تمت المصادقة عليه، ولا التاريخ أيضًا .
3- يصبح مشروع القانون المقدم إلى الرئيس قانونًا صالحًا للتنفيذ من تاريخ الموافقة عليه من جانب الرئيس .
ولنا أن نشير هنا أن ذلك الاتجاه غير معتاد، ولكنه حدث في بعض الظروف والمناسبات التي كان فيها الرئيس عاجزًا أو غير قادر على أن يقرر توقيع الإجراء المعروض عليه أو رفضه خلال المدة المحددة في الدستور[8] .
وبالرغم من ندرة الحالات التي استطاع فيها الكونجرس تخطي الرئيس من أجل إقرار مشروعات القوانين في غيبة المصادقة الرئاسية، بيد أننا نشير إلى بعض من أبرز تلك الحالات: حينما اعترض الرئيس نيكسون على مشروع قانون سلطات الحرب عام 1973م. وتغلب أيضًا الكونجرس على تسعة من اعتراضات الرئيس ريجان خلال ولايته، التي استمرت من عام 1981 إلى عام 1988م، والتي بلغت 87 اعتراضًا[9].
وتختلف الصور التي يمارس من خلالها الرئيس الأمريكي سلطته في الاعتراض على مشروعات القوانين التي وافق عليها الكونجرس، وهي وفق الآتي:
أولاً: الإعتراض الصريح أو النظامي (Regular Veto)
يستخدم ذلك النوع من الاعتراض للإشارة إلى تصرف الرئيس عندما يرفض الموافقة على مشروع القانون المشترك الذي أقراه مجلسا الكونجرس، ويعيده مع الاعتراض إلى المجلس صاحب الإقتراح، وهنا فاعتراض الرئيس الصريح لا يترتب عليه القضاء نهائيًا على مشروع القانون، ولكن يعاد النظر فيه ثانية من مجلسي الكونجرس، وتقرير مصيره في النهاية. وحين تصل رسالة الفيتو من الرئيس إلى المجلس الذي اقترح ذلك المشروع فإنه مطالب دستوريًا بإعادة النظر في هذا المشروع ودراسته[10].
لقد قيد الدستور الأمريكي ممارسة الرئيس الأمريكي لصلاحيته بشأن ذلك النوع من الاعتراض بقيدين: الأول، تسبيب الاعتراض، والثاني، تسليم الاعتراض خلال المدة الزمنية المعينة السابق بيانها .
وفي هذا السياق، يعد الرئيس الأمريكي (كليفلاند) من أكثر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية استخدامًا لحق الاعتراض حتى أطلق عليه الرئيس فيتو Veto President .
ثانيًا: الاعتراض المستتر (اعتراض الجيب Veto Pocket )
حين يقوم الكونجرس بتقديم مشروع قانون ما بعد الموافقة عليه من قبل مجلسيه إلى رئيس الجمهورية في المدة المحددة، وفي الوقت نفسه لم يوافق عليه خلال المدة المتبقية من دور الإنعقاد فإنه في هذه الحالة لا يتحول مشروع القانون إلى قانون، وذلك على الرغم من عدم قيام الرئيس بإرسال اعتراضاته عليه إلى الكونجرس. وتعرف هذه الآلية، التي تعد أحد الامتيازات الرئاسية، باسم الاعتراض غير المباشر أو "اعتراض الجيب"Veto Pocket .
درج الكثير من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية على عدم أخذ مشروعات القوانين المقترحة من الكونجرس مأخذ الجد، وذلك نظرًا للكم الهائل من عدد هذه المشروعات، ويتحرج الرئيس من الموافقة على معظمها، ويتذرع بالصمت، ويترك القانون نائمًا في جيبه، ولعل ذلك يعد أحد الأسباب الرئيسية لتسمية ذلك الاعتراض بـ"اعتراض الجيب"[11].
وخلافًا للاعتراض النظامي أو الصريح السابق الإشارة إليه، فإن اعتراض الجيب "هو اعتراض مطلق وذو فاعلية أكبر"، إذ لا يستطيع الكونجرس تجاوزه أو التغلب عليه، لأن مشروع القانون المعروض عليه لا يعاد إلى الكونجرس لأنه غير منعقد أصلا[12].
هذا النوع من الإعتراض يؤدي إلى قتل مشروع القانون، والقضاء عليه نهائيًا، وليس أمام الكونجرس من سبيل للخروج من هذه المشكلة سوى إعادة صياغة مشروع قانون مشابه للذي تم الاعتراض عليه، وتقديمه للرئيس للحصول على موافقته، وسيمر المشروع الجديد بذات المراحل التي مر بها سابقه وهو ما يعني تجدد النزاع والتحدي بين الجانبين[13].
النظرية الأمريكية للقضايا السياسية
لا يمكن تناول الفيتو الأمريكي المتقدم دون البحث في مشكلة توزيع الإختصاصات بين الرئيس الأمريكي والكونجرس في ميدان السياسة الخارجية، وقد تصدت المحاكم الأمريكية في مناسبات عديدة وحسمت هذه العلاقة التي كان الدستور الأمريكي ذاته قد تناولها أيضًا. ولقد اعتمد القضاء الأمريكي معيارًا لتمييز تلك الأعمال السياسية وقسمها إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى (المسائل المتعلقة بالعلاقات الخارجية): تضم الاعتراف بالحكومات الأجنبية، إعلان حالة الحرب والسلم، وشروط صحة المعاهدات، والوضع القانوني لممثلي الدول الأجنبية.
الفئة الثانية (المسائل المتعلقة بإبعاد الأجانب، وبالنظام السياسي الداخلي): وتضم سلطات الحكومة المركزية على الأقاليم، وتحديد المقصود بالحكومة الشرعية، وتحديد معنى النظام الجمهوري أو الديمقراطي، وهذه المسائل تعد شأنًا سياسيًا ليس للقضاء أن يراقب الرئيس والكونجرس في تناولهما لها[14].
الفئة الثالثة (تحديد نهاية الحرب): تعد من المسائل السياسية التي يستقل الرئيس بتقديرها، وذلك التقدير من المسائل السياسية التي تخرج عن نطاق ولاية القضاء، حيث لا يملك القضاء الوسائل الكافية لوزنها، فضلاً عن أن القضاة ليسوا الجهة المسؤولة عنها مسؤولية رسمية[15].
لقد أعلنت الهيآت القضائية الفيدرالية الأمريكية دوما عدم اختصاصها للنظر في القضايا المتعلقة بسلطات الحرب للرئيس. وهكذا فإن المحكمة العليا الأمريكية بعد أن أقرت السلطة الكاملة والحصرية للرئيس بوصفه الهيأة الوحيدة للحكومة الفيدرالية في ميدان العلاقات الخارجية، رفضت أن تحكم حول الكيفية التي يمارس فيها الرئيس هذه السلطة.[16]
كما أن المحكمة العليا قدرت بأنها لا يمكنها الحكم حول أمر ضد حكومة الولايات المتحدة لأنها أوقفت التجارة مع جنوب إفريقيا وفقًا لقرار مجلس الأمن لمنطمة الأمم المتحدة؛ إذ أن ذلك الأمر متعلق بقيادة العلاقات الخارجية وهو الميدان المتروك لتقدير السلطة التنفيذية[17]. كما أن مسألة مشروعية المساعدة الاقتصادية والعسكرية للسلفادور اُعتبرت أيضًا مسألة غير قابلة للعرض على القضاء[18].
جلي أنه، في مثل هذه القضايا المتعلقة بالعلاقات الخارجية للدول، يفضل القضاة الاعتماد على آراء السلطة التنفيذية صاحبة الخبرة في هذا الميدان، ولذلك فإن المحاكم الأمريكية تعتبر قواعد القانون الدولي ثمرة ممارسة مختلف الدول، ويمكن فصل مصالح الولايات المتحدة التي يعود فيها إلى السلطة التنفيذيةالأجدر بتفسير قواعد القانون الدولي، ومطابقته لأهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة[19].
فيتو الرئيس الأمريكي ضد قرار الكونجرس بشأن اليمن:
وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع قرار لإنهاء الدعم العسكري الأمريكي للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في الحرب باليمن منذ أكثر من أربع سنوات، بزعم الحفاظ على وحماية المدنيين في اليمن، حيث مرر مجلس النواب في شهر أبريل 2019م، قرارًا بشأن وقف المساعدات الأمريكية للتحالف العربي في اليمن ، وكان قد تم تمرير ذات القرار من مجلس الشيوخ في شهر مارس بأغلبية، 247 نائبًا مقابل رفض 175 وذلك بعدما انضم 16 نائبًا من الحزب الجمهوري إلى الأغلبية الديمقراطية في دعم الاستخدام النادر لقانون صلاحيات الحرب، والذي يحد من قدرة الرئيس على إرسال قوات إلى الحروب. إلا أن الرئيس الأمريكي استخدم صلاحياته الدستورية برفض قرار الكونجرس في 15 إبريل 2019 م.
مبررات الرئيس الأمريكي في استخدام الفيتو بشأن اليمن:
برر الرئيس الأمريكي لجوءه لممارسة صلاحياته الدستورية برفض قرار الكونجرس المتقدم ، لعدة أسباب رئيسية ، أهمها:
1- أن الإدارة الأمريكية لا يسعها إنهاء الصراع في اليمن من خلال قرارات داخلية تصدر عن الكونجرس الأمريكي، ولكن يحتاج السلام في اليمن إلى تسوية شاملة يتم التفاوض عليها.
2- ينبغي أن تقوم الإدارة الأمريكية بحماية الرعايا الأمريكيين في دول التحالف وعددهم 80 ألف أمريكي، فضلاً عن أن دول التحالف تتعرض لهجمات ميليشيات الحوثي التي تشنها من اليمن.
3- منع وقوع ضحايا مدنيين وتعزيز جهود استعادة الرهائن الأمريكيين في اليمن وهزيمة الإرهابيين الذين يسعون إلى إلحاق الأذى بالولايات المتحدة[20].
4- قرار الكونجرس المتقدم يضر بالمصالح الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ويؤثر سلبًا على جهود الإدارة الأمريكية الحالية لتجنيب المدنيين الأخطار في اليمن، ومنع تمدد أنشطة المنظمات الإرهابية، في شبه الجزيرة العربية، مثل تنظيم القاعدة، وداعش، والأنشطة الإيرانية العدائية في اليمن[21].
وتعد هذه هي المرة الثانية التي يستخدم فيها الرئيس حق النقض الرئاسي (الفيتو) ضد مقترحات تشريعات الكونجرس، منذ توليه الرئاسة، وكان الرفض الأول المُمارس من الرئيس الأمريكي ترامب متعلقًا برفض قرار الكونجرس المعارض لقرار الرئيس الأمريكي بتخصيص مالي من أجل إنشاء الجدار الحدودي العازل بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.
خاتمة: إن الفيتو الأخير المستخدم من قبل الرئيس الأمريكي ترامب بشأن مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية لقوات التحالف العربي في اليمن، يعكس ويرسخ المباديء الدستورية، في النظامين الدستوري والتشريعي الأمريكيين، فيما يتعلق بقضايا السياسات والعلاقات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، كما أكدت الدراسة أيضًا الحقيقة الواقعية المتمثلة في تميز السلطة التنفيذية عن السلطتين التشريعية والقضائية في ذلك المضمار، بما تتمتع به الأولى من أهليات وإمكانات وأدوات تنفيذية تجعل من تقديرها عند اتخاذ القرارات المصيرية التي تحفظ المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها هو الصائب، مقارنة بالسلطتين اللتين لا تتوافر لديهما الأجهزة والمؤسسات الأمنية والمعلوماتية وغيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ القانون الدولي العام-مصر
[1] جيروم بارون، ترجمة محمد مصطفي غنيم، الوجيز في القانون الدستوري، المبادئ الأساسية للدستور الأمريكي، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 1998م، ص 125.
[2] الدكتور أدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، الجزء الأول، الدول وأنظمتها، دار العلم للملايين، بيروت، 1983، ص 494
[3] الدكتور أدمون رباط ، المرجع السابق، ص 494-495
[4] الدكتور داوود مراد حسين، سلطات الرئيس الأمريكي (بين النص الدستوري والواقع العملي )، مركز الكتاب الأكاديمي ، عمان ، 2012م ، ص202.
[5] نفس المرجع ص 44.
[6] . Tunc , le Systeme constititionnel des Etas-Un- Amerrique , 3Vol ., 1954-1955
[7] د فؤاد عبد النبي حسن ، رئيس الجمهورية في النظام الدستوري المصري ، اختياره ، سلطاته ، رسالة دكتوراة ، كلية الحقوق ، جامعة القاهرة ، 1995، ص 40
[8] الدكتور شداد التميمي، سلطات الرئيس الأمريكي في الظروف الإستثنائية، دراسة تحليلة مقارنة، منشورات زين الحقوقية، بيروت، لبنان، 2019م، ص 61.
[9] دكتور فؤاد بيطار، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ، ط1، المطبعة البوليسية ، بيروت ، 1995، ص 100
[10] د رفعت محمد عبد الوهاب ، النظم السياسية ، دار المطبوعات الجامعية ، الإسكندرية ، 1996، ص 103
[11] الدكتور داوود مراد حسين ، سلطات لارئيس الأمريكي / مرجع سابق ، ص 220
[12] د صالح زهر الدين، موسوعة الإمبراطورية الأمريكية، (المؤسسات في الولايات المتحدة)، ط1، المركز الثقافي اللبناني، بيروت 2004 ، ص80 .
[13] الدكتور شداد التميمي، مرجع سابق، ص 67.
[14] دكتور آلاء مهدي مطر، حجية أحكام وقرارات القضاء الدستوري، منشورات زين الحقوقية، بيروت، 2019، ص 110.
[15] دكتور أحمد كمال أبو المجد، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة والإقليم والمصري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1960، ص 486.
[16]Center for Human Rights: Human Rights and ELECITONS. A handbook on the legal, technical and human rights aspects of elections. Professional Training Series no. 2 UN 1994 p. 10
[17] Y ves BEIGBEDER: International monitoring of plebiscites, referenda and national elections –Nijhoff Publishers 1994 p. 120.
[18]Obcit. P.120
[19]Obcit. 163.
[20]https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2019/04/17/trump-vito-saudi-yemen-war-powers 26- 4-2019.
[21]https://www.usatoday.com/story/news/politics/2019/04/16/donald-trump-veto-resolution-yemen-war/3491383002/ seen on: 26-4-2019.