يلعب الإعلام اليوم دورًا خطيرًا في صناعة الرأي وتشكيله أو توجيهه والتلاعب به، وهذه العملية من صميم السياسة العامة الإعلامية للدولة، حيث يندرج تشكيل الرأي العام ضمن مأمورية وطنية ومُحددة ترمي إلى تحقيق غايات وتوجهات صنّاع القرار في النظام السياسي. ومن هذا المنطلق، فإن الإعلام المُنظّم والهادف هو الذي يصبو إلى خدمة قضايا المجتمع والإنسان. ولكن في ظل الانفلات الإعلامي يصبح الإعلام خطرًا على الحرية والديمقراطية، وقد يتسبب في أزمات دبلوماسية للدولة مع غيرها من الدول. وهو ما ينسحب على دور الإعلام العربي في اتساع الفجوة بين المشرق والمغرب العربي.
لقد تحوّل الإعلام العربي إلى صانع لأزمات زادت من متاعب النظام الرسمي العربي الذي يمُر بظروف شديدة الحساسية والتعقيد؛ حيث يتحمل الإعلام العربي مسؤولية الانقسام الذي تشهده الدول العربية نظرًا لدوره السلبي في الأزمات التي تنشب من حين لآخر بين دولة عربية وأخرى، في وقت كان حريًا بهذا الإعلام أن يتحلّى بالموضوعية. ومن هذا المنطلق، فإن الإعلام العربي هو انعكاس لطبيعة الإرادة السياسية العربية فهي ترسم له الحدود التي يتحرك ضمنها. الأمر الذي يُؤكد خضوعه للسياسة، وتحوله إلى قوة ناعمة في السياسة الخارجية للدول العربية لتحقيق المكانة الإقليمية أو زيادة نفوذ الدولة. واللافت للنظر، أن الفجوة بين المشرق والمغرب العربي تكاد تكون منعدمة في مجال الحرب على الإرهاب ومحاربة الفكر المتطرف، والترويج للفكر المعتدل، إلا أن التباعد بينهما يبدو جليًا في المجال الإعلامي، حيث تحول الإعلام إلى أداة تستخدمها هذه الدول في إدارة صراعاتها مع بعضها البعض.
وتناقش هذه الورقة دور الإعلام في الفجوة بين المشرق والمغرب العربي، وتحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الواقع الإعلامي، ومن المسؤول عن هذه الهوة؟ وهل استطاع الإعلام التقريب بين المشرق والمغرب العربي؟ أم أنه أخفق في ذلك؟وما العوائق التي تحول بين دون تحقيق ذلك؟ وكيف يتم الربط والتداخل الإعلامي بين المشرق والمغرب؟
أولاً: دور الإعلام في اتساع الفجوة بين المشرق والمغرب العربي
الإعلام بالنسبة للدول العربية عبارة عن أدوات سياسية ودبلوماسية. والفضائيات في البلاد العربية مسيسة بامتياز وهي عوامل قوة سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي. وتحليل وسائل الإعلام والقنوات الفضائية يجب أن يُنظر اليها باعتبارها أدوات للقوة الناعمة، ووسيلة فعّالة تسمح للدولة بتعزيز مكانتها الدولية. بينما تسمح لدول أخرى بزيادة نفوذها الإقليمي على الساحة الإعلامية.
وتؤثر المعالجة الإعلامية للقضايا والأحداث بشكل كبير في إدراك الجماهير للحقيقة؛ حيث تقرّب وجهات نظرهم، وتوحّدهم حول القرارات والغايات السياسية. كما أن تعامل الإعلام السطحي مع القضايا الحساسة في مجال السياسة الخارجية للدول العربية، قد يُفاقم من المشكلات التي تواجهها هذه الدول، وينعكس سلبًا على العلاقات العربية- العربية، ويزيد من تشويه صورة العرب لدى الرأي العام الدولي.
لذلك قد يتسبب الانفلات الإعلامي وافتقاده للمهنية اللازمة، في إثارة أزمات دبلوماسية بين دول المشرق والمغرب العربي، ومن ثم اتساع الفجوة بينهما. ويمكن أن نستدل على ذلك بالأزمة الكروية بين مصر والجزائر، وكذلك الأزمة بين السعودية والجزائر ، الأمر الذي تسبب في حرج شديد لسلطات الجزائر ودفعها إلى تقديم اعتذار رسمي إلى قيادة المملكة.
ومن المآخذ على الإعلام العربي إفراطه في معالجة القضايا المثيرة للجدل، والاستثمار في الخلافات بين الدول العربية، وكأنه مٌكلف من دوائر خارجية لتنفيذ مأموريات مشبوهة ترمي إلى زيادة الفجوة بين شطري الوطن العربي. بدلاً من الاستثمار في العوامل التاريخية من أجل تقليص هذه الفجوة وخدمة المصالح الاستراتيجية العليا للدول العربية. كما لا يتوانى هذا الإعلام عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية سواء في المشرق أو في المغرب، وهو ما يؤثر في أي مسعى للتقارب. ويُصوّر الإعلام في المغرب العربي الدول المشرقية على أنها حليف للإمبريالية العالمية. كما تقوم بعض النخب الإعلامية المغاربية المحسوبة على التيار الفرنكوفيلي، ممن لم تتخلص بعد من القابلية للاستعمار، بالتهجّم على الدول الكبيرة في النظام الرسمي العربي، ولا ريب أن مثل هذا الطرح المزعوم تقف وراءه دوائر من وراء البحر، وتحديدًا فرنسا التي من مصلحتها بقاء هذه الفجوة، حيث تنوب عنها في هذه المهمة نخب حاكمة تعمل جاهدة على منع أي محاولة للتقارب من خلال طمس الجانب التاريخي المُشرق في علاقات المشرق بالمغرب العربي.
ومن بين القضايا التي يعمل الإعلام في الجزائر على طمسها نذكر دعم المشرق العربي للثورة الجزائرية، وهي الحقائق التي يجهلها جيل "الفايسبوك" و"التويتر". فالتاريخ المعاصر يحتفظ في ذاكرته بعديد المواقف للسعودية ومصر دعمًا للثورة الجزائرية. فقد خاضت المملكة معارك دبلوماسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل تدويل القضية الجزائرية وإطلاع المجتمع الدولي على ما يتعرض له الشعب الجزائري من جرائم على يد المستعمر الفرنسي. ومن شدة حرص قيادة المملكة على مساندة ودعم ثورة الجزائر، أنها أدرجت القضية الجزائرية على رأس أولويات سياستها الخارجية آنذاك. كما طالبت في 5 يناير/ كانون الثاني 1955م، بتسجيل القضية الجزائرية في مجلس الأمن. وفي عام 1957م، أعلنت المملكةُ أن شعارَ الحجّ لتلك السنة سيكونُ "حج الجزائر"، وهي السنة نفسها التي حمل فيها الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ الراية الجزَائريةَ داخل مبنى الأمم المُتحدة دعمًا للثورة الجزائرية. وهو ما يُؤكد أن القضية الجزائرية كانت في وجدان المملكة وقيادتها وشعبها، في ضمير دول المشرق. كما دعمّت مصر الثورة الجزائرية بالمال والسلاح والإيواء، و ليس أدلّ على هذا التلاحم بين المشرق والمغرب العربي من تلحين النشيد الوطني الجزائري على يد الملحن المصري المرحوم "محمد فوزي".
إن جحود الإعلام في المغرب العربي لفضل المشرق لا يتقصر فقط على الإعلام الناطق بالفرنسية، بل الأمر يشمل حتى وسائل إعلامية ناطقة بالعربية تعمل على بقاء الفجوة بين المشرق والمغرب العربي خدمة لمصالح فرنسا في المنطقة. وهو ما يتجلى بوضوح في العراقيل التي يواجهها رأس المال العربي في المغرب العربي، وفي كل مرة يٌحاول المستثمر العربي ولوج الأسواق المغاربية إلا ويصطدم بعديد العراقيل ظاهرها بيروقراطي وتنظيمي، لكن باطنها ذو خلفية
أيديولوجية. لكن في مقابل ذلك، يحظى المستثمرون الفرنسيون بكل أشكال الدعم والتسهيلات، وهو ما يؤكد على حقيقة ثابتة مؤداها قوة الوصاية الفرنسية على القرار السياسي والاقتصادي وفي مجال الإعلام في المغرب العربي. وهو ما يٌفسر الدور السلبي الذي يقوم به الإعلام في المغرب العربي في شيطنة دول المشرق العربي، وعرقلة رأسمالها.
ثانيًا: الإعلام في المشرق والمغرب العربي وهاجس التوجه نحو الآخر
من المآخذ على الإعلام في المغرب العربي بُعده عن قضايا وأحداث المشرق العربي، الأمر ذاته ينسحب على الإعلام في المشرق العربي، فقد ظل اهتمامه لفترة طويلة محصورًا بمنطقة الشرق الأوسط والخليج، رغم محاولات بتخصيص حيّز من النشرات لأخبار المغرب العربي، لكنها تظل قاصرة عن التغطية الفعلية لمشكلات المغرب العربي وهمومه.
ومرّد ذلك أن الإعلام في المغرب العربي ما زال لم يجد طريقه إلى المشرق لأسباب عديدة، نذكر منها القيود التي تحول دون تطوره مقارنة بالإعلام في المشرق. فالإعلام المغاربي لم يخرج من الأزمنة الاتصالية السابقة، في وقت دخل فيه الإعلام في المشرق العربي حقبة الفضاء السيبيري، إلى جانب إرادة قوية لتسويق المنتوج الإعلامي نحو البلاد العربية، وهو ما يفتقده الإعلام في المغرب العربي.
وبالرغم من أن تجربة التعددية الإعلامية في بلاد المغرب العربي تعود إلى عقود خلت، وشهدت محاولات للانتقال نحو الإقليمية إلا أنها باءت بالفشل، نظرًا لغياب الإمكانات اللازمة، وسيطرة الذهنيات البالية على الإعلام في المنطقة. الأمر الذي يؤكد أن الإعلام في المغرب العربي يفتقد لهاجس التوجه إلى الآخر خلافًا للإعلام في المشرق العربي.
هناك عوامل ساهمت في بلوغ الإعلام في المشرق العربي هذه المنزلة المتقدمة، وعلى رأسها العوامل السياسية والمالية. فقد ارتبط تطور المشهد الإعلامي في المشرق العربي بتوفر إرادة سياسية ساهمت في تطور المشهد الإعلامي المشرقي الذي تجاوز حدود الإقليم بل يمكن القول إنه وصل إلى العالمية. كما ساهمت رؤوس الأموال الكبيرة وتوفر إمكانات ضخمة، إلى جانب استقطاب أحدث التقنيات في المجال الإعلامي ما يضاهي العالم الغربي، في انتشار الفضائيات في المشرق العربي. بالإضافة إلى أن التدريب متاح بشكل دوري، الأمر الذي من شأنه رفع مستوى وأداء الإعلاميين في المشرق.
ولعّل أهم ما يُميّز الرسالة الإعلامية في المغرب العربي طابعها المحلي البحت، حيث يميل الإعلام في هذه المنطقة إلىتخصيص حيز كبير لنشاطات الحكومة، إلى جانب الأخبار الاجتماعية والفنية، مع غياب شبه تام لأخبار المشرق العربي، بالرغم من أن شعوب المغرب العربي من أكثر الشعوب اهتمامًا بالقضايا العربية.
وفي الواقع فإن المسؤولية عن هذه الفجوة بين المشرق والمغرب العربي مشتركة، فالإعلاميون في المغرب العربي لم يبادروا إلى عمل شيء باتجاه الانفتاح على نظرائهم في المشرق، وفضلوا الانكفاء على أنفسهم، وهو ما حال دون وصول منتوجهم الإعلامي إلى المشرق. في حين أبان الإعلاميون في المشرق عن عدم رغبتهم في استكشاف المنظومة الإعلامية في المغرب العربي بمبررات واهية كالتحجج بعائق اللغة، الأمر الذي تُفنده حقائق التاريخ والجغرافيا.
ثالثًا: آليات التداخل والربط الإعلامي بين المشرق والمغرب العربي
يحتاج ردم الفجوة بين المشرق والمغرب العربي توفر إرادة سياسية تفضي إلى وضع استراتيجية إعلامية عربية، إلى جانب الآليات لتطوير وتفعيل ميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي اعتمده مجلس وزراء الإعلام العرب بموجب قراره الصادر في يونيو 2007م، كوثيقة إرشادية في رصد وتقويم الأداء الإعلامي العربي وفي منح العضوية أو تعليقها أو إلغائها في الاتحادات والمنظمات العربية، وما ينبثق عنها من مجالس وهيآت في مجال الإعلام العربي.
وتكمن أهمية هذه الخطوات في أنها تُتيح للإعلام العربيبلورة رؤية واعية تُمكنه من التعامل مع النظام الدولي الحالي بكل ما يطرحه من تحديات قد تُهدد الأمن القومي للدول العربية. ولن يتأتى ذلك إلا اذا تمكن الإعلام في المشرق والمغرب العربي من تطوير خطابه الإعلامي وآلياته ووسائله على المستويين العربي والدولي.
ويُحتم ميثاق الشرف الإعلامي العربي على الإعلاميين في شطري الوطن العربي التحلي بحد أدنى من المسؤولية تجعلهم منسجمين مع المصالح العليا للدولة في علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي، قصد وضع حد للفوضى التي يشهدها الإعلام في المشرق والمغرب العربي. دون أن يعني ذلك وجود أدنى تعارض بين حرية الإعلام وضبطه، ففى كل دول العالم هناك حرية مطلقة، لكن هناك مسؤوليات مقابل تلك الحرية، ولا شك أنه في ظل وجود ميثاق شرف إعلامى ستتسع مساحة الحرية.
فالوطن العربي في حاجة عاجلة، إلى إعلام موضوعي وجاد وفعّال، يقوم بإدارة الأزمات، ولا يُسهم في صناعتها، من أجل تحقيق المصالح الاستراتيجية للدول العربية، وتسوية الخلافات العربية- عربية بالحوار السياسي، ومعالجة القضايا والجوانب السلبية بالحكمة والموضوعية، بعيدًا عن أسلوب الإثارة الإعلامية المصطنعة. وهنا يبرز دور جامعة الدول العربية كفضاء للعمل العربي المشترك، بالإضافة إلى مسؤولية وزراء الإعلام العرب الذين يتحملون مسؤولية تاريخية للقضاء على الانفلات الإعلامي في المنطقة العربية، بالنظر إلى خطورة تلك الرسائل الإعلامية على عقول الشعوب العربية. لأن استثمار الإعلام في المشرق والمغرب العربي في الأزمات قد يتسبب في تصدع العلاقات العربية-عربية. وهو ما يُحتم على الدول العربية إعادة النظر في سياساتها الإعلامية، وضرورة الرجوع إلى إعلام عربي متزّن، غايته الرئيسية خدمة المصالح العربية، وتحقيق التقارب بين المشرق والمغرب العربي.
وتزخر العلاقات الدولية بعديد الأمثلة حول الخلافات السياسية والاقتصادية بين الدول، لكن دون أن يترتب على تلك الخلافات أي انحدار إعلامي، وإنما هناك تصريحات مسؤولة ، تتحدث عن سبب الخلاف حول المصالح، وتبقى اللغة الإعلامية منضبطة، بعيدًا عن الشيطنة، والسقوط الأخلاقي.
الخاتمة :
نستنتج مما سبق أن الاعلام العربي سواء يتحمل مسؤولية كبيرة عن اتساع الفجوة بين المشرق والمغرب العربي، ومن ثم فهو بحاجة ماسة إلى ضبط ايقاعه لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية التى تواجهها الدول العربية، وفي مقدمتها التهديدات الأمنية والإرهابية، بعد أن تحول الإعلام إلى أداة ترويج للجماعات الإرهابية، سواء بدافع البحث عن السبق الإعلامى، أو لأهداف أخرى لا تمت بصلة للمصالح العليا للدول العربية. فالمنطقة العربية تمر بأخطر مراحلها التاريخية، وتتعرض لعديد المؤامرات التي تستهدف تفكيكها وإعادة رسم حدودها الجغرافية، الأمر الذي يُحتم تفعيل ميثاق عربي للشرف الإعلامي يضبط المنظومة الإعلامية لتكون الدرع الواقية للمنطقة العربية.