رؤية المستقبل: يُنْسَبُ إلى ألبرت أينشتاين قوله إنه إذا كان التنبؤ بالمستقبل صعبًا بشكل خاص اليوم، فإن الاستعداد لذلك أمر حيوي وعاجل، لأنه "سيكون لدينا المستقبل الذي نستحقه". ويتطلب تجاوز نهج الطريقة التقليدية في قياس نجاحات العلاقات الدولية تجديد النظر العلمي لمحتواها، وضبط مؤشرات المصالح فيها، بلوغًا للغايات المرتجاة. وهنا، في هذا المقال، لا نَوَدُّ أن نكتب تاريخًا لما مضى من مسيرة العلاقات الخليجية-الأمريكية، ولا وصفة علاجية لما يمكن أن يعترض هذه المسيرة من مطبات وعقبات. وإنما تحتاج هذه العلاقات أن تُقدم لها مراكز الفكر موجهات رحلة أطول من التخطيط الاستراتيجي، وتطبيقمنهجية مختلفة لِتَخَيُّل هذا المستقبل، استنادًا إلى الوضع الحالي، ومن ثم السفر على طول مسار العودة، حتى تُقرر ما تُريد أن يكون موقف وصولها على المدى المتوسط، الذي هو بداية تصور الهدف البعيد للمصالح المشتركة. وإذا كان المستقبل هو نقطة انطلاقنا في هذا التحليل، فإننا بهذه الطريقة نتوقع التعامل مع عدم اليقين، ونتعلم كيفية إدارته في الوقت نفسه لَيُصْبِح يقينًا، وذلك بوضعنا لبوصلة نحو المسارات الجديدة، التي نعتقد أنها سَتُمَكِّن دول الخليج من تشكيل الفرص، التي تتوخى أن يجلبها المستقبل دائمًا معه. وهنا، وكمقترح عام، لا بد أن تبدأ بتحديد عوامل، أو قنوات التغيير، التي تشكل الآن اتجاهات تطورية كبيرة في علاقاتها بالغير؛ وفي هذه الحالة علاقات دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تأسست صداقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل 75 عامًا. ثم الانتقال إلى إلقاء نظرة على التصورات والسيناريوهات، التي ترسمها هذه الاتجاهات لعقود تأتي؛ في المسائل السياسية والاقتصاديةوالاجتماعية. وهذا يسمح لها، بعد ذلك، بتحليل التحديات، ومعالجة العقبات، التي تنشأ على طول الطريق نحو تعزيز تلك الاتجاهات.
إننا متفقون أن المستقبل لا يحدث فجأة دون مقدمات، فهو في الحقيقة قد بدأ بمجرد الحديث عنه، أو ينبغي، أن يُخْلَق الآن بتعميق التفكير فيه كحالة مُنْتَظَرَة، نتوقعها بِقَدْرٍ من التركيز على حيثيات الواقع، وغير قليل من الخيال. إذ يتم بناء هذا المستقبل على سلسلة من الأحداث الأكثرتأثيرًا على هذا الواقع، وتوقع تطورها وفقًا لتاريخ مسيرتها السابقة. وإذا تواضعنا على تعريف المستقبل بهذه الطريقة، فإن الواقع الذي نبنيه يعني مسؤولية كبيرة عن القرارات، التي نتخذها، والإجراءات، التي نقوم بها الآن. إذ إن قراراتنا وأعمالنا تعمل على تشكيلنا في الزمن الراهن، وهي تقودنا نحو المستقبل على طول طريق البدائل اللانهائية لخياراتنا المرغوبة.وعندما يتعلق الأمر بإعطاء شكل لرؤية هذا المستقبل، فقد يتوجب علينا أخذ الفكر العلمي كدليل لهيكلة نهجنا للوقائع المستقبلية المحتملة في الزمن والمكان.
ووفقًا لنظرية النسبية الخاصة لآينشتاين، الذي استفتحنا بقوله هذا المقال، فإن "الزمن والمكان" هو واقع تحدث فيه جميع الأحداث الفيزيائية للكون، وبالقطع غيرها من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يعني أن واقع العلاقات الخليجية-الأمريكية الراهن هو سلسلة متصلة من تبدلات الزمن والمكان، لا يمكن الهروب منها.وكل واحد من الطرفين يراقب في حركته حقائق مادية، أو موضوعية، أوجدتها تفاعلات هذه العلاقات، وكل خطوة يتخذها أي منهما نحو المستقبل ستقوده إلى نقطة جديدة في هذا الزمن المكاني، حيث تُتاح لهما فرص متعددة مرة أخرى، يعظمون فيها ما صَلُحَ من مصالح، ويصححون ما اعْوَجَ منها من تقديرات. فالمستقبل الأفضل يعني شيئًا مشتركًا لكل منهما،إنه مرتبط مباشرة بوضعهما الحالي وتطلعاتهما، التي تعتمد على الرفاهية الاجتماعية الحالية، الفردية، أو الجماعية، وعلى حالتهما الاقتصادية وظروفهما المعيشية، وخصوصية ثقافتيهما. إن التطلعات متأصلة في طبيعتنا وقدرتنا على التَخَيُّلكيف نصلح ذلك في متاهة من القرارات؟ ما هي الإجراءات الأكثر فعالية لتحقيق ذلك؟ وما هي العقبات الأكثر صعوبة لتجنبها؟ وكيف نحصل على تعدد البدائل الخاصة لكي نلتقي معًا في نوعية حياة أفضل؟ فقد تكون هذه أسئلتنا جميعاً، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الخليجية-الأمريكية فإن إجاباتها منوطة بطرفي هذه العلاقة، وهم على ذلك من القادرين.
ومثلما يرشدنا المنطق، فإنه في تحليلنا لأي قضية سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وعلاقة ذلك بالمستقبل، لا بد لنا من اختيار سلسلة من المؤشرات، التي تتجاوز نطاق الماضي إلى الحاضر، وتنفذ إلى ما هو غايات تُسْتَدْرَك في الغَدِ المأمول. وبالنظر للعلاقات الخليجية-الأمريكية، فإننا في حاجة إلى الاستدراكات، والمؤشرات، ثم السيناريوهات، التي تُمًثِل المرتكزات الأساسية لهذه العلاقات، والتي يؤثر تراكم فعلها الإيجابي على مُحرِكات هذا الحاضر، وتُشْرِك في دَفْعِهَا الجميع إلى الأمام. وعلى أن تكون الحركة، قبل كل شيء، بشكل جماعي لا تباطؤ فيه ولا تراجع، يستحثهم جميعًا القصد بأنهم مهتمون بنوعية حياة الناس، والنمو المستدام، الذي يتجاوز بعض المُعِيقَات المثيرة للقلق؛ كالحرب على الإرهاب والتطرف، وبعضها الآخر المأمول أن يتم تصحيحه، أو تسريع الطريقة، التي يتطور بها العديد من جوانبه نحو الأحسن، اعتمادًا على القرارات، التي يتخذها الطرفان؛ الخليج وأمريكا، كحكومات ومؤسسات. وبعد تقييم المسارات التطورية المحتملة لعوامل التغيير والتفاعل بينها، هناك دائمًا سيناريوهات مستقبلية محتملة لعقد من الزمن، أو أكثر، من المستقبل المنظور، الذي ستحتاج أطراف هذه العلاقة إلى وضعها وتنفيذها الآن من أجل تقريب أنفسهم من المستقبل المرغوب فيه، ووضع مجموع كل هذه الأجزاء، التي تُشكل وتخدم بِنيات المصالح المشتركة، يشكل رؤية استشرافية مُحْكَمَة.
استدراكات:
إن الإطار العام لمقالنا هذا هو العلاقات الدولية، وقد كتب هانز مورجينثاو ذات مرة أن هذه "العلاقات الدولية شيء لا يجب اعتباره أمرًا مفروغًا منه، ولكنها شيء يجب فهمه وتغييره، ولا سيما تغييره إلى ما هو أبعد من الحدود الحالية لهيكله السياسي وتنظيمه. وهنا يكمن في الواقع التبرير النظري والعملي النهائي لاهتمامنا بنظرية العلاقات الدولية". ففي حين أن العلاقات الخليجية-الأمريكية تُعَدُّ مستقرة بشكل عام، إلا أنها أحيانًا تنتابها أعراض الفتور؛ مثلها في ذلك مثل أي علاقات تتداخل فيها الأبعاد الإنسانية، وتخالطها العواطف والمشاعر، التي تظهر جليًا في حالات الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، والتقديرات الأمريكية المنحازة دائمًا لصالح تل أبيب، إذ يقف عندها كل الخليجيين، والعرب على حد سواء، في صَفٍ واحِدٍ ناقدٍ للإدارة الأمريكية. إلا أن تعدد أوجه هذه العلاقات ينقذها غالباً من التدهور، في كل مرة تُصيبها غاشية، ويرتفع بها من درك القطيعة، قدرة الطرفين على كبح التراجع، لأنها من العمق بحيث لا يمكن اختصارها أبدًا بمعادلة موجبة، أو سالبة، واحدة. وتاريخ العلاقات الخليجية-الأمريكية يُظْهِر أن الخلافات تقع بين الفينة والأخرى، غير أنها تُعَالَج بحكمة القيادات، مع قدر كبير من حسن النية، والتوقعات الإيجابية من جانب الطرفين، خاصة أهل الخليج والشعوب العربية المُدرِكين لأدوار أمريكا التاريخية.
لقد ظل الخليجيون، كما العرب، خلال عهود الاستعمار، ينظرون إلى الولايات المتحدة الدولة كنصير للاستقلال، لأنها عانت من الاستعمار مثلما عانوا، ونادت بمدأ تقرير المصير. وكثيرًا ما ناشدوها لاقناع حلفائها الأوروبيين لتنفيذ مبادئ العدالة والحرية، اتساقًا مع ما أعلنه عدد من الرؤساء الأميركيين، الذين طالبوا بحرية الشعوب كقيمة إنسانية متقدمة. فقد احتفى الخليجيون والعرب بالكثير من المواثيق الأمريكية، كتلك المتضمنة في إعلان الاستقلال، والدستور، وقانون الحقوق، الذي كان ينظر إليه على أنه التعبير الحقيقي عن أمريكا. وبرز الموقف الخليجي الإيجابي من أمريكا من خلال تأييد واشنطن للتخلص من ثقل الحكم الاستعماري الأوروبي، كتعبير عن سياسات أمريكا المناهضة لهذا الاستعمار، التي أثرت دعواتها بشكل مباشر على تقليص سلطانه على العالم العربي، وبشرت بالحرية في معظم أرجائه. وكان لاستعداد أيزنهاور الوقوف في وجه الأوروبيين والإسرائيليين في عام 1956م، تأكيدًا لهذا المعنى، وبدأ لكل العرب كتعزيز لهذه القيم.
ويذكرنا التاريخ الحديث أنه عندما بدأ الصراع العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للسيطرة على دول العالم، رأى الأمريكيون أن القيم العربية المحافظة ومعتقدات أهل الخليج الدينية تتفق مع قيمهم، وأنهم حريصون على المصالح الخاصة لأنها تدعم الاستقرار، وكانت مناقضة للشيوعية النَزَّاعَة لإعلاء شأن الملكية العامة. وقد سعى الأمريكيون لبناء قضية مشتركة مع الدول العربية الراغبة في المواجهة مع الشيوعية، وعلى رأسها دول الخليج والمملكة العربية السعودية، وهو المسعى الذي يتفق مع المبدأ الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية المناهض للهيمنة الإشتراكية على العالم. من ناحية أخرى، رأى الأمريكيون الأنظمة العربية، التي ربطت نفسها، أو بدا أنها تربط نفسها بالاتحاد السوفيتي، كجزء من التهديد الاستراتيجي العالمي، وقرروا التعامل معها وفقًا لذلك. غير أن ما فشل الأمريكيون في فهمه تلك الأيام أن هؤلاء الأصدقاء العرب المفترضون للسوفيات لم يركزوا في معاركهم السياسية على المواجهة الكونية بين الديمقراطية والشيوعية، وإنما أرادوها صراعات محلية قومية بين الرجعية والتقدمية، أضاعت على الأمة فرصًا لا تُعَوَّض.
الواقعية المطلوبة:
لقد نصت أدبيات الصراعات القومية، كما هو موضح أعلاه، على مصطلحات ذات خصوصية محلية؛ في دول كان من المفترض، في النموذج الدولي الواقعي، متابعة مصالحها العربية داخل نظام يحترب على طول خطوط الأيديولوجيا، وتتوزعه تيارات اليمين واليسار. علاوة على ذلك، كان يُفترض أن تكون الدول العربية معنية بالمكاسب النسبية والمطلقة، التي يمكن جنيها من مواقف الحياد في تلك الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين. ولكن، على العكس من ذلك، كان هناك ميل لهذه الدول للانخراط في حسابات قصيرة الأجل للمصالح الوطنية، عطلت المنافحة عنها مصالح دول أخرى شقيقة باجترار، والانجرار خلف، تلك الدعاوى التقدمية والرجعية. وكان من المفترض أن يتم الوصول إلى هذه الحسابات من خلال التقييمات المنطقية لتكاليف وفوائد الخيارات المختلفة، التي تتيحها معادلات الحياد. ومع ذلك، كان يمكن استخلاص المصالح الوطنية لكل الدول العربية؛ تقدمية كانت أم رجعية، من خلال آليات أخرى تقدم ما هو أكثر قُدسية في جِماع هذه المصالح فوق الوطنية.
إن وجهة النظر الواقعية كانت تقتضي تعديلاً طفيفًا على مصطلحات الصراع الكوني، لتؤكد قدرة الدول العربية على اختراق المسلمات السائدة في تلك الفترة. وهذا عين ما فعلته أوروبا الغربية، التي حسمت خياراتها الخاصة لصالحها ومصالحها، رغم تزاحم تيارات اليمين واليسار في مجتمعاتها. وإلى جانب تحالفها المعلن مع الولايات المتحدة الأمريكية، أبقت على تواصلها محليًا مع أشقائها في أوربا الشرقية. وعمدت بهذه الطريقة إلى التأثير على خيارات السياسة الخارجية لكلٍ من واشنطن وموسكو، فيما يلي أولوية مصالحها على تحالفاتها وصراعاتها. ونراهم يجادلون الآن بأن ذلك السلوك لم يساعد فقط أوروبا الغربية في الحفاظ على وضعها ومصالحها على حساب تقاطعات أيديولوجيا الحرب الباردة فحسب، وإنما ساهم في تعديل وتكييف قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، التي ما كان لها أن تعزز المصالح طويلة الأجل للولايات المتحدة كذلك. وكان ذلك بِمُثَابَة اختراق جوهري لخطوط الحرب الباردة المتقدمة، التي كانت تفصل أيديولوجيًا بين غرب أوروبا وشرقها، وهو ما فشلت فيه الأنظمة العربية، التي تلفعت بشعارات؛ أدنى درجة من صرامة العقائد الأيديولوجية، عطلت مصالحها على المستوى القومي.
وإذا كان من دروس نتعلمها من الآخرين، فإن فكرة الاختراق المحلي تسلط الضوء على الطريقة، التي قد تؤثر بها مواقف دول الخليج المستقبلية، على سبيل المثال، على القرارات السياسية العربية، وبما يحقق الإجماع، بالنظر إلى المصالح القومية. وبالتالي، فهي تعزز أهمية اتخاذ خطوات جماعية تجاه الولايات المتحدة، وغيرها، بما يخدم هذه المصالح، أو لتقليل، دور التحيزات الأمريكية في السياسة الخارجية إلى الحد الأدنى. وهنا، قد تنجح المؤسسات الفاعلة عبر الوطنية؛ مثل، مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبمؤازرة جامعة الدول العربية أيضًا، في التأثير على سياسات الحكومات الوطنية لِتَبَنِي هذه النظرة للمصالح الكلية. فالمؤسسات عبر الوطنية توفر المثال الأكثر وضوحًا في هذا المقام، لأن ما تنطوي عليه قدراتها الجمعية، في هذه الحالات، هو أن الحدود بين ما كان يُعتقد تقليديًا على أنه "عربي محلي" و"دولي" مصطنع، وأنه لم يعد من المفيد التفكير فيه كشرط مُمَهِّدٍ لأي غايات أبعد من معناه الاصطلاحي.
نعم، تؤكد الكثير من الأحداث، تاريخيًا، أن الدول العظمى كانت تميل، إبان حمأة الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، إلى محاولة الاستمالة؛ ترغيبًا وترهيبًا، ولكنها لم تندفع إلى درجة خلق صراعات محلية بين الموالين وغير الموالين في الإقليم الواحد، كما حدث في المنطقة العربية، وإنما كانت نَزَّاعَة للموازنة بين الدول الصديقة، وغيرها، التي تهدد بتعطيل ميزان القوى المُقَدَّر لصالحها. ومع ذلك، فإن الغياب النسبي لمحاولات الدول العربية في التأسيس لعقد التضامن العربي لموازنة تحيزات الولايات المتحدة في فترة الصراع العربي-الإسرائيلي، حتى إبان سطوة الفرز في الحرب الباردة، يُشير إلى أن هذا الافتراض كان يمكن أن يصمد لو تهيأت له الظروف الموضوعية، رغم أنه ليس بالضرورة أن هناك منهجية محددة له. لهذا، يلزمنا التحليل الآن أنه بدلاً من التركيز على التحولات في السلطة السياسية العربية، التي كانت تتزاحم وتتخاصم بها شعارات التقدمية والرجعية، والتي تم وضعها في المقام الأول من الناحية السياسية، يجب علينا وضع المصالح العربية الكلية في صلب التحليل السياسي لعلاقات دول الخليج بالولايات المتحدة الأمريكية.
التخطيط الاستراتيجي:
اليقين بأن أطراف المعادلة الخليجية-الأمريكية مهتمون بتطبيق أساليب التخطيط الاستراتيجي، منذ بدء العلاقات بينهما، لتحديد الأهداف القريبة، والمتوسطة الأجل، ومسارات العمل طويل المدى، باستخدام أدوات استقراء المستقبل، ومن خلال تحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات، وذلك لفهم كيفية التعامل معها، وتطوير مهارات تعظيم المصالح المشتركة منها. وبالنظر إلى أن هذه الرؤية من هذا المدخل، يمكن القول إن هذه ليست أطروحة مغلقة، أو قاطعة، حول كيفية تحديد العلاقات في المستقبل، بل هي تصور منهجي لإمكاناتهاعلى المدى المتوسط، وليس التنبؤ بدقة بواقع الحياة في المدى البعيد، لأن ما هو مطلوب القيام به من الآن وحتى ذلك الحين، هو ما سيحدد السيناريو النهائي للواقع، الذي يمكن أن يعيش فيه الناس ذلك المستقبل. وما على كل الأطراف إلا أن يواصلوا تسخير التقدمفي مجالات حياتهم المختلفة، حتى يتم بناء كل مرحلة جديدة على الموارد والمعرفة والأساليب، التي حصلوا عليها في المراحل السابقة بحيث تضاف الفائدة في رأس المال المعرفي في التمويل الكلي للدورة القادمة من التقدم. والفائدة المركبة لجهود العلاقات المشتركة تعني أن الأصول العامة لهذه الأطراف ستنمو بمعدل يتناسب مع قيمتها المستقبلية.
عندما يكون هناك شيء معقد في طبيعة العلاقات مع أمريكا، خاصة ما يلي روابطها مع إسرائيل، فقد تعلّم الذكاء السياسي الخليجي عَزْلَهُ، ومن ثم تعديله بتقسيم المشكلة إلى أجزاء عضوية، والبحث عن معادلات تشرح السلوك الملاحظ فيها، وتستبعد تأثيراته المباشرة على هذه العلاقات. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنهم يطبقون أبرع السياسات لتحسين وأتممة الأجزاء، التي تُشَكِّل التقاطعات البينية المستحدثة، وما يتولد عنها من حساسيات، إلا أن واشنطن لم تكن فعالة للغاية عندما يتعلق الأمر بفهم وتحسين العلاقات جراء هذه الحساسيات. ففي عالم مترابط، يوفر ناتج كل عنصر من هذه العلاقات عنصرًا آخر يعيد بدوره العنصر الأول للواقع المعاصر، وكذلك التغير المتسارع، الذي يعتبر معقدًا بما فيه الكفاية.ومع ذلك، فإن ميزةالعلاقات الخليجية-الأمريكية هي أن شبكة المصالح، التي تخلق هذا التعقيد هي أيضًا أفضل حليف لهما في إدارتها.
يعتمد المخططون في رسم هذه الاتجاهات المستقبلية، على الوثائق المنشورة، وتلك المحفوظة في الأضابير، حول مختلف مجالات العلاقات بين عواصم دول الخليج وواشنطن، التي يصلحاستخدامها كأدوات لإدارة المعرفة لمسح المسارات الحديثة عبر عرض الحقائق المختلفة. وبالمثل، في عملية تحديد كيفية تغيير اتجاهات الملفات المشتركة لعوامل التغيير، وذلك باستخدام أدوات منهجية للتحليل المنطقي لصنع القرار في البيئات المعقدة؛ خليجيًا وأمريكيًا. لذا، فإن صياغة الاتجاهات، التي تشكل حياة الناس العامة، ضرورية من أجل مشاركة ومقارنة الإحساس بهذه التغييرات وحجمها مع الآخرين بطريقة أكثر وضوحًا من استخدام الاحتمالات الاحصائية والرياضية المجردةمرة أخرى، وأن تلهم الطريقة العلمية العمل في إعداد هذا الجزء الموضوعي من الرؤية المستقبلية.وهكذا، يمكن تحديد الاتجاهات من التغييرات، التي ترسم صورة الفرص الممكنة في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إرادة التطور:
يمكننا القول إن منظور أكثر من 75 عامًا من تاريخ العلاقات السعودية-الأمريكية، ومن بعدها الخليجية، لم تفعل فيها تقلبات السياسة الدولية سوى النمو، وهذا يتحدث عن قدرة الطرفين المقارنة على التكيف مع العالم من حولهما. فقد نجت وازدهرت من خلال الحرب الباردة، والصراع العربي-الإسرائيلي، وغيره من النزاعات العسكرية في الشرق الأوسط، والتغيرات في النماذج الحكومية العربية، والتوترات السياسية اللاحقة في الخليج، وأزمات الطاقة، والأزمة الاقتصادية العالمية، وما إلى ذلك من تحولات قلما تستقر فيها علاقات. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنهما اهتما دائماً بمراقبة الاتجاهات المختلفة في العلاقات الدولية من أجل التخطيط لأنشطتهما السياسية والاقتصادية المشتركة. لكن في الوقت الحاضر، لا يكفي أن نلاحظ أنهما بحاجة إلى توقع ما لم يعد التكيف التفاعلي الآني معه فعالاً بما فيه الكفاية، وإنما الضرورة تستدعي الإدراك الاستراتيجي الأوسع للمتغيرات العالمية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية. إنهما بحاجة إلى فهم ديناميات التغيير منذ اللحظة، التي يبدأ فيها، وعليهما أن يغامرا بالسيناريوهات المستقبلية المحتملة للمساعدة في صنع القرار الآن.
لهذا، يتوجب إنشاء وحدة ابتكار هذه السيناريوهات والاستشراف المشترك للمستقبل، حتى يتمكنا من استكشاف التحولات، التي ستحدثها العولمة على مستويات متعددة على هذا الكوكب، حازمة وخالية من الرضا عن النفس؛ كل هذا لفهم كيف يمكن لهذه التغييرات الموضوعية أن تؤثر على منطق علاقتهما ببعضهما، ونموذج تعاونهما، والتطور المستقبلي لمصالحهما المشتركة، التي لن تكون اقتصادية بحتة، وإنما هي تأكيد لالتزامهما لتكون هذه العلاقة متسقة مع هذه الرؤية. ومن أجل العثور على مكانها في المستقبل، والذي ستكون دول الخليج قادرة على التأثير فيه من خلال قراراتها وأفعالها، يلزمالقيام بتفكيك الواقع الحالي بحثًا عن العوامل، التي تدفع عمليات التغيير، التيتبدأ بتحديد الاتجاه من خلال تحديد الحقائق المهمة بالنسبة لها، وهو أمر يجذب انتباهها لأنه يبرز في السياق، الذي يُسْتَدْرَكبعد ملاحظتها لهذه الحقائق، وإنشاء التنبيهات لمراقبة تطورها.
ختامًا، قد تكون الحقيقة معزولة، في بعض الأحيان، ولا تحدد اتجاهًا معينًا يمكن البناء عليه، أو تضمينه في خطط المستقبل، غير أنه لا ينبغي خصمها كعامل تغييرمع الحقائق الأخرى. ومع ذلك، نرى تفاعلات متعددة تبدأ في التكوين من حول هذه الحقيقة، وروابطها بالحقائق الأخرى في هذه الحالات المتعدية للزمن والمكان. فالحقيقة ذات الصلة لها تأثير على البيئة، باعتبارها عامل، أو محرك، للتغيير، إذ يجري بعد ذلك تحليل البيانات بحثًا عن أدلة لِتَتَبُّع خط تقدمها المحتمل، وحتى يستكمل الاتجاه، الذي تم تأسيسه من خلال تقدير، وتحليل المحفزات والمثبطات المحتملة لجملة المصالح المستهدفة.على سبيل المثال، إن دول الخليج وأمريكا معنيان بالقضايا الأمنية، التي لها تأثير قوي على حدوث تطورات سلبية، أو ربما تتولد عنها فرص تعاون جديدة، إذيتم النظر إلى العوامل المتعلقة بالأمن، في هذا المنحى، على ثلاث جبهات؛ تتمثل إحداها في المخاطر، التي يساهم في وجودها البشر أنفسهم، كالحروب، والجريمة المنظمة، والإرهاب، والقرصنة، وغيرها. والثانية هي الكوارث الطبيعية الحتمية، والتي لا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير، ولكنها تؤثر قطعًا على نطاق واسع، بما فيها الأمراض الوبائية، وجائحة فيروس كرونا الماثلة الآن. وتعتبر الثالثة مستحدثة وترتبط بالعيوب التكنولوجية، التي تهدد استمرارية عالم تقني تعولم للغاية، وتؤثر فيه مُجْتَمِعًا التسريبات النووية، وانقطاعات الإنترنت، وما إلى ذلك من أخطاء التقدم التقني، التي لا يُنظر إليها على أنها تهديد، رغم أنها من الأهمية بحيث لا ينبغي التغاضي عنها.