array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 152

سياسات حلف الناتو تجاه ليبيا مرتهنة بموازين القوى على الأرض ونفوذ روسيا

السبت، 01 آب/أغسطس 2020

على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي"الناتو" قد تدخل في المنطقة العربية وللمرة الأولى في عام 2011م، للإطاحة بالنظام الليبي السابق تأسيسًا على قرارات أممية ودعم إقليمي، وما رآه الحلف آنذاك من تهديد الأزمة الليبية لمصالح أعضائه، فقد لوحظ عدم انخراط الحلف مجددًا في الصراع الدائر في ليبيا بشكل كبير، بل والأهم تأرجح دور الحلف تجاه قوى الصراع الليبي، بالإضافة إلى خروج الخلاف بين فرنسا وتركيا إلى العلن.

ويثير ما سبق ثلاثة تساؤلات مهمة أولها: ما هي الركائز الاستراتيجية لموقف حلف الناتو من الصراع الليبي؟ وثانيها: كيف يمكن تفسير الموقف الأطلسي تجاه الصراع الليبي؟ وثالثها: ما هو تأثير موقف حلف الناتو بشأن المسألة الليبية على الشراكات الإقليمية للحلف والصراع الأطلسي الروسي عمومًا؟

 أولاً: الركائز الاستراتيجية لحلف الناتو من الصراع الليبي

تعد الأزمة الليبية نموذجًا واضحًا لتشابك الأمن الإقليمي مع نظيره العالمي، بمعنى آخر فِإن تحديد الإطار الشامل لذلك التشابك من شأنه التعرف على موقع ليبيا ضمن استراتيجيات حلف الناتو، فعلى الرغم من قدرة الحلف على التأقلم سريعًا مع متطلبات حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة للنجاة من سهام النقد التي طالت فكرة وجوده في أعقاب تفكك حلف وارسو ، وقدرة الحلف على تأسيس شراكات عبر مناطق مختلفة من العالم كان للشرق الأوسط والخليج العربي نصيب اثنتين منها" الحوار المتوسطي 1994م، مبادرة استانبول 2004م"  فإن الحلف واجه تحديًا كبيرًا تمثل في تنامي النفوذ الروسي في ذات مناطق شراكاته وازداد الأمر حدة مع قرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم عام 2014م، والتدخل العسكري في سوريا في العام ذاته مما دفع أحد مسؤولي الحلف للقول "اعتدنا الحديث عن التهديد الشرقي والتهديد الجنوبي ولكن الجبهتين تشابكتا الآن"، وتأسيسًا على هذا الإطار العام فإن لحلف الناتو رؤية استراتيجية بشأن إدارة الصراع على جبهتي الحلف، ومع أن المسألة الليبية تعد إحدى نقاط توتر الجبهة الجنوبية للحلف فإنها تكتسب خصوصية لدى الناتو انطلاقًا من ثلاثة اعتبارات:

الاعتبارالأول: الموقع الجيواستراتيجي لليبيا كدولة جوار مباشر للدول الأوروبية أعضاء الحلف ضمن الجبهة الجنوبية للحلف أمر يجعل من أمن واستقرار ليبيا ضرورة استراتيجية لدول الحلف حيث أن أي تهديدات أمنية تواجهها  ليبيا سيكون للدول الأوروبية نصيب منها ليس أقلها الهجرة غير الشرعية التي ترى في إيطاليا بوابتها الأولى إلى بقية الدول الأوروبية ويفسر ذلك قرار حلف الناتو عام 2017م بتأسيس مركز الجنوب في مدينة نابولي الإيطالية ويتبع القيادة العسكرية للحلف لرصد التهديدات الأمنية التي تمثل تهديدًا لأعضاء الحلف من جنوب المتوسط وخاصة ظاهرة الهجرة غير الشرعية.

 أما الاعتبار الثاني فهوموقع ليبيا الجغرافي ضمن منطقة يحظى فيها الحلف بشراكة مهمة مع سبع دول متوسطية ضمن مبادرة الحوار المتوسطي والتي أطلقها الحلف عام 1994م، وتضم كل من مصر ، والمغرب، وتونس، والجزائر، وموريتانيا، والأردن، وإسرائيل، وبالتالي فإن النمو الملحوظ الذي شهدته علاقات روسيا مع دول الشمال الإفريقي ومنها ليبيا يمثل هاجساً لحلف الناتو وهو ما عبر عنه صراحة ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف خلال اجتماع وزراء دفاع الناتو في السابع عشر من يونيو2020م، بالقول" إن الحلف يشعر بقلق متزايد بشِأن الأنشطة الروسية المتزايدة في شرق البحر المتوسط في كل من سوريا وليبيا"، وهو الأمر الذي اتفق معه  الجنرال "برادفورد جيرنج  قائد العمليات في قيادة  القوات الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم" بالقول" إن روسيا تحاول تأسيس نقاط ارتكاز رئيسية في الجناح الجنوبي لحلف الناتو" ولاشك أن تلك المخاوف تفسر حرص الحلف دائمًا على إعطاء دفعة للحوار المتوسطي عمومًا، وتعزيز العلاقات الدفاعية بشكل ثنائي مع بعض من دوله، ومنها المناورات البحرية التي أجراها الحلف عام 2015م، مع المغرب، وعام 2018م، مع الجزائر ، بل تأكيد مسؤولو الحلف غير ذي مرة استعداد الحلف لدعم قوات الأمن الليبية ففي مايو 2016م، قال ألكسندر فيرشبو نائب الأمين العام للحلف"لدينا استعداد لدعم ليبيا في بناء مؤسساتها العسكرية إذا تلقينا طلبًا من الحكومة الشرعية في ليبيا"، بالإضافة إلى أن المسألة الليبية كانت دائمًا على جدول أعمال قمم الناتو خلال السنوات الماضية ومنها قمة الحلف في بروكسيل عام 2018م، التي أعلن فيها قادة الحلف استعدادهم لتطوير المؤسسات الأمنية والدفاعية في ليبيا حال تلقي الحلف طلبًا رسميًا بذلك. 

أما الاعتبار الثالث فهو: إن التهديدات التي ترتبت على احتدام الصراع في ليبيا، تعد  جزءًا من أولويات أعلنها الحلف خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وتندرج جميعها ضمن استراتيجيات الحلف للحفاظ على الأمن البحري ابتداءً بآلية المسعى النشط التي أسسها الحلف عام 2001م، كجزء من استجابة الحلف لردع تهديدات الأمن البحري في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر آنذاك، ومروراً بمشاركة حلف الناتو في عملية"صوفيا" التي يقودها الاتحاد الأوروبي لمراقبة حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا وانتهاءً بالاستراتيجية البحرية التي أصدرها الحلف عام 2011م، وتضمنت أربعة عناصر وهي الردع والدفاع الجماعي وإدارة الأزمات والأمن التعاوني، وهي  الآليات التي تضمنها وبوضوح المفهوم الاستراتيجي للحلف الصادر عام 2010م، والذي يعد ميثاقًا أمنيًا رفيع المستوى يتضمن تحديد الأولويات الأمنية للحلف وسبل مواجهتها ويصدر بإجماع الدول الأعضاء وكان للأمن البحري وأمن الطاقة نصيب وافر من مضامين ذلك المفهوم. 

 ثانيًا: تفسير الموقف الأطلسي من الصراع الليبي

تأسيسًا على خبرة الحلف في ليبيا، فضلاً عن كونها ضمن إحدى جبهتي الحلف التي يحتدم فيها الصراع الأطلسي-الروسي فإن إحجام الحلف عن الانخراط المباشر في الصراع الليبي أو بالأحرى تغير مواقف الحلف تجاه قوى الصراع الليبي، يثير العديد من التساؤلات منها: هل يمكن تفسير موقف حلف الناتو نتيجة التطورات على الأرض في ليبيا؟ أم أن ذلك الموقف يعد نتيجة لصراع محاور داخل الحلف؟ أم أن ذلك التغير يؤسس لاستراتيجية جديدة للحلف تجاه المسألة الليبية بتعقيداتها؟

وواقع الأمر أنه يمكن تفسير ذلك الموقف وفقًا لثلاثة مداخل، الأول: هو التطورات على الأرض، ففي أعقاب سيطرة حكومة الوفاق على قاعدة الوطية الجوية  الاستراتيجية في الثامن عشر من مايو 2020م، قال الأمين العام للحلف" أنه يجب على الأطراف كافة الالتزام بحظر استيراد السلاح وهذا لا يعني وضع حفتر وحكومة السراج في كفة واحدة وأن الحلف مستعد لمساعدة حكومة الوفاق، وأن تركيا حليف قوي وعضو مهم في حلف الناتو"، ولاشك أن تلك التصريحات تعكس تحولاً في موقف الحلف، فعلى الرغم من اعتراف حلف الناتو بالحكومة الشرعية فإن ذلك لم يحل دون تأييد الحلف- بشكل ضمني- للمشير خليفة حفتر إلا أن سقوط قاعدة الوطية الجوية ذات الموقع الاستراتيجي، فضلاً عن مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية في التاسع والعشرين من نوفمبر 2019م وتضمنت تعاونًا في المجالات الأمنية والبحرية، كان لها أثر في تغير موقف الحلف من قوى الصراع في ليبيا، والثاني: ربما كان إعلان الحلف تأييد حكومة الوفاق وعدم "التخلي عن مساندة حفتر" هو محاولة لرأب الصدع داخل الحلف،والذي بلغ مداه مع بلوغ الخلاف الفرنسي –التركي ذروته، إثر الإتهامات المتبادلة بين الجانبين، حيث أعلنت فلورانس بارلي وزيرة الجيوش الفرنسية انسحاب فرنسا"مؤقتًا" من عملية للأمن البحري للحلف في شرق البحر المتوسط"حراس البحر" مبررة ذلك بالقول" إنه من غير المعقول الإبقاء على السفن الفرنسية ضمن العملية مع حلفاء لا يحترمون الحظر"، وذلك في أعقاب قيام فرقاطة فرنسية في العاشر من يونيو2020م،  بتفتيش سفينة شحن تركية  كانت ترفع علم تنزانيا وذلك للتأكد من أنها لا تقوم بتهريب أسلحة إلى ليبيا،إلا أن فرنسا  وجهت اتهامات لتركيا باستهداف الفرقاطة خلال عملية التفتيش المشار إليها وهو الأمر الذي نفته تركيا، بل دخول الدولتين في تلاسنات كلامية متبادلة،بلغت مداها في مساعي فرنسا لحشد موقف أوروبي موحد بشأن فرض عقوبات على تركيا وهو الأمر الذي وجد صداه في الاجتماع الوزاري الأوروبي الذي دعت إليه فرنسا في الثالث عشر من يوليو 2020م، وعلى الرغم من اتفاق كافة الدول الأوروبية خلال ذلك الاجتماع على خطورة النهج التركي في ليبيا إلا أنه كان هناك تباينًا بين الدول الأوروبية بشأن كيفية التعامل مع تركيا، وعلى الرغم من إعلان الأمين العام للحلف عن فتح تحقيق في الحادث المشار إليه فإن ذلك لاينفي وجود خريطة تباينات  أكبر في منظمة حلف الناتو، صحيح أن الخلاف الفرنسي-التركي أبرز تلك التباينات حيث طلبت تركيا من الحلف غير ذي مرة دعمها ضد ما تراه تهديدات لأمنها جراء الأزمة السورية، بل أن تركيا وخلال قمة الحلف الأخيرة في عام 2019م، ربطت بين موافقتها على خطط دفاعية جديدة للحلف في بولندا ودول البلطيق بدعم الحلف لها في المسألة السورية، إلا أن المسألة الليبية عكست تلك الخلافات بشكل أكثر وضوحًا، ففي الوقت الذي تساند فيه فرنسا المشير خليفة حفتر وهو ما يعني التنسيق مع روسيا التي تعد التحدي التهديد الأكبر للحلف على الجبهة الجنوبية، نجد أن إيطاليا إلى جانب تركيا تدعم حكومة الوفاق، تلك التباينات التي لم تكن الأزمة الليبية منشأة لها بل كانت فصلاً جديدًا من فصول خلافات داخل الحلف منها الخلافات الأمريكية- الأوروبية حول الاتفاق النووي الإيراني، ومطالبة الرئيس دونالد ترمب للدول الأوروبية بالوفاء بتخصيص 2% من ناتجها القومي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وسعي فرنسا لدفع الدول الأوروبية قدمًا نحو تأسيس جيش أوروبي موحد ولطالما وصف الرئيس إيمانويل ماكرون حلف الناتو" بالموت سريريًا"، ولقد أكدت أزمة كورونا حجم وطبيعة تلك التباينات سواء بين الدول الأوروبية التي تتمتع في الوقت ذاته بعضوية الحلف، أو ما بين الولايات المتحدة أكبر داعمي الحلف حيث تسهم بحوالي 72% من ميزانيته الدفاعية وبين الدول الأوروبية، بل أن تصريحات المتحدث باسم الخارجية اليونانية التي انتقد فيها تصريحات الأمين العام للحلف بدعم حكومة الوفاق بالقول أنه كان يتعين "إجماع  دول الحلف على  قرارات السياسة الخارجية" إنما تعكس جانباً آخراً من تلك الانقسامات داخل الحلف، والثالث: أن تلك المواقف لحلف الناتو تجاه الأزمة الليبية تعكس تنامي اهتمام الحلف بمسارات الصراع في ليبيا وخاصة في ظل وجود مؤشرات على انخراط روسيا في ذلك الصراع وهو ما يراه الناتو ثغرة جديدة في الجبهة الجنوبية للصراع مع روسيا، وقد عزز من ذلك التوجه وضوح الدور الأمريكي تجاه أطراف الصراع الليبي من خلال التقارب بين الولايات المتحدة وحكومة الوفاق، وهو الأمر الذي اعتبره الحلف ركيزة لدور أطلسي جديد ليس فقط بشأن ليبيا ولكن  لتعزيز أهمية الحلف عمومًا في ظل محاولات فرنسية لتأسيس هوية أوروبية تتمايز عن حلف الناتو.

  ثالثًا: تأثير موقف الحلف من الأزمة الليبية على الشراكات الإقليمية والصراع مع روسيا

 مع  التسليم بأن الأزمة الليبية هي جزء من استراتيجية الحلف لإدارة الصراع على الجبهة الجنوبية كما تمت الإشارة إليه سلفًا فإن موقف حلف الناتو من تلك الأزمة قد تمخض عنه نتيجتان سيكون لهما تأثير على مصالح الحلف في تلك المنطقة:

 النتيجة الأولى: تتمثل في تأثير تلك الأزمة التي أظهرت تباينًا حادًا في المواقف ليس داخل الحلف فحسب بل بين أعضاء شراكاته التي يحرص الحلف على تعزيزها وتطويرها، بما يمكن معه القول إن هناك حالة "افتراق" وليس"وفاق" بشكل مغاير لما حظي به الحلف عام 2011م، إبان التدخل في الأزمة الليبية والذي استند إلى قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973ومضمونهما إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحظر الأسلحة والسفر، وتجميد الأصول الليبية في الدول الغربية، وإقامة منطقة حظر طيران جوي في الأجواء الليبية، كما اعتبر الحلف أن قرار جامعة الدول العربية رقم 7298 الذي طالب مجلس الأمن بتحمل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا يعد دعمًا إقليميًا آخرًا بل أن مشاركة بعض الدول الخليجية أعضاء مبادرة استانبول في العمليات العسكرية آنذاك اعتبرها الحلف اختبارًا عمليًا لشراكاته الذي لطالما أكد مسؤولو الحلف على أنه ليس "ميكروسوف الأمن في العالم" وأن شراكات الحلف يجب أن تكون ذات طبيعة تبادلية فالحلف لايمكنه تقديم الأمن على طول الدوام، إلا أن المواقف المتباينة تجاه الصراع الراهن في ليبيا تعكس افتراقًا بين الحلف وشركائه سواء في مبادرة استانبول والتي يدعم بعضها قوات المشير خليفة حفتر، وبعضها يدعم حكومة الوفاق، وكذلك أطراف الحوار المتوسطي ومنها مصر التي تعد أحد أطراف ذلك الحوار حيث لوحت بالتدخل العسكري في ليبيا وهو الأمر الذي عبر عنه صراحة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي بعث برسالة واضحة ولا لبس فيها لكل الأطراف سواء بتحديد خطوط حمراء للصراع لن يسمح بتجاوزها "سرت والجفرة" أو الإعلان عن جاهزية القوات المسلحة المصرية لحماية الأمن القومي المصري، والتأكيد على أن التدخل العسكري المصري المباشر في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية، فضلاً عن استقبال الرئيس المصري في السادس عشر من يوليو 2020م، ثلاثة وفود ليبية رفيعة المستوى تضم شيوخ قبائل ومكونات وزعامات الشعب الليبي في الشرق والغرب والجنوب والتي طالبت الرئيس المصري بالتدخل عسكريًا حال تعرض مدينة سرت لهجوم من جانب قوات حكومة الوفاق، وفي ظل  أن مصر أحد أعضاء الحوار المتوسطي فإن تطور العلاقات المصرية-الروسية يلقي بظلاله على مستقبل الحوار المتوسطي بين حلف الناتو وأطراف ذلك الحوار، حيث شهدت العلاقات المصرية-الروسية تطورًا ملحوظًا على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية خلال السنوات الأخيرة ولعل أبرزها  إعلان مصر إبرام صفقة تسلح مع روسيا لشراء نحو 20 طائرة سوخوي 35 الروسية الصنع وذلك خلال الفترة من  2021م، إلى 2022م، والتي بلغت قيمتها مليارين وربع المليار دولار وهو الأمر الذي اعترضت عليه الإدارة الأمريكية، بل أن غالبية مواقف دول الشمال الإفريقي أعضاء الحوار المتوسطي تلتقي مع التوجهات الروسية وهو ما يعد تحديًا هائلاً لحلف الناتو.

   أما النتيجة الثانية: فهي احتدام الصراع الأطلسي الروسي وخاصة أن الدور الروسي لايعد تحديًا لحلف الناتو كمنظمة فحسب بل للولايات المتحدة أكبر أعضاء الحلف وخاصة في ظل التقارب الروسي –التركي والامتعاض الأطلسي من سعي تركيا للمضي قدمًا في الحصول على منظومة الصواريخ إس 400 من روسيا ورفض إدماجها في الدرع الصاروخي لحلف الناتو، فعلى الرغم من النفي الروسي الرسمي بأن روسيا ليست طرفًا في الصراع الدائر في ليبيا فإنها من أبرز حلفاء المشير خليفة حفتر منذ عام 2014م، وهو العام  ذاته الذي شهد تعزيز التواجد الروسي في الجبهة الجنوبية للحلف من خلال التدخل العسكري في سوريا،كما أن المشير حفتر قد قام بزيارة روسيا في يونيو وأكتوبر عام 2016م، من ناحية ثانية فإن التقارب الروسي مع كل من تركيا وفرنسا عضوي الناتو يعني أن روسيا لم تعد تمثل تحديًا للحلف في جبهات الصراع فحسب بل داخل المنظمة الدفاعية ذاتها، وربما ترى روسيا في عودتها القوية إلى مناطق الصراع في الشرق الأوسط عمومًا هو إعادة تصحيح لخطأ استراتيجي كانت بداياته عام 2003م، عندما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق وصولاً إلى تدخل حلف الناتو في ليبيا عام 2011م، بالرغم من استخدام روسيا حق النقض"الفيتو" في الحالتين فإن ذلك لم يحل دون التدخل الغربي في العراق وليبيا الأمر الذي ترتب عليه  تعزيز نفوذ الدول الغربية في تلك المناطق وهو ما يعد خصمًا من النفوذ الروسي  في المناطق ذاتها وخاصة أن لروسيا نفوذ يمتد عبر سنوات في هذه المناطق خلال حقبة الحرب الباردة وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أنه خلال الفترة  ما بين 1973م، و1982م، استضافت ليبيا نحو 11 ألف مستشار عسكري روسي لمساعدة الجيش الليبي على كيفية استخدام السلاح الذي كانت تقوم ليبيا باستيراده من الاتحاد السوفيتي آنذاك، فضلاً عن علاقات روسيا مع العراق الذي كان من أكبر مستوردي المعدات العسكرية السوفيتية في الشرق الأوسط حتى منتصف الثمانينيات.

والخلاصات الاستراتيجية لتلك الرؤية تتمثل في خمس نتائج

 الأولى: أعادت التدخلات الإقليمية والدولية في الأزمة الليبية صياغة استراتيجية الحلف تجاه ذلك الصراع والتي تتمثل في محاولة إقامة توازنات بين أطراف ذلك الصراع حتى لا يخرج عن حدوده المألوفة ومن ثم قد يستدعي تدخلاً دوليًا وهو خيار تكتنفه صعوبات بالنسبة لحلف الناتو الذي لايزال في مراحل إدارة الصراع دون الانخراط فيه.

 والثانية: يتمثل التحدي الذي يواجهه حلف الناتو نتيجة احتدام الصراع في الأزمة الليبية في أن الحلف يتعين عليه التعامل مع مسارات تلك الأزمة من ناحية ورأب الصدع بين أعضائه من ناحية ثانية وهي مهمة مزدوجة تكتنفها صعوبات عديدة في ظل حتمية تعامل الحلف مع التحدي الروسي على جبهتي الحلف الشرقية والجنوبية بشكل متزامن.

 والثالثة: سياسات حلف الناتو تجاه الأزمة الليبية سوف تظل مرتهنة بموازين القوى على الأرض من ناحية، ومدى ما تتيحه تلك الأزمة من نفوذ لروسيا من ناحية ثانية حيث ستظل استراتيجيات حلف الناتو ترتبط بنتائج السياسات الروسية في الجبهة الجنوبية على نحو وثيق حيث أن زيادة النفوذ الروسي في المناطق التي يسيطر عليها المشير خليفة حفتر يعني استمرار تحدي روسيا لحلف الناتو ليس فقط في ليبيا بل ضمن المنطقة التي يحظى فيها الحلف بشراكة إقليمية.   

 والرابعة: على الرغم من أن حالة عدم الاستقرار في ليبيا تمثل تهديدًا لمصالح حلف الناتو فإن تدخل الحلف مجددًا في تلك الأزمة ليس من السهولة بمكان حيث حدد الحلف شروطًا للتدخل العسكري خارج أراضي دوله الأعضاء وهي ضرورة إجماع كافة دول الحلف على أن هناك تهديد وشيك يواجه أعضائه، ووجود مظلة شرعية دولية تتمثل في قرارات أممية حتى لا يواجه الحلف انتقادات أثيرت خلال أزمات دولية سابقة وهي الفجوة بين الشرعية والمشروعية، بالإضافة إلى طلب السلطة الشرعية في الدولة المعنية للحلف بالتدخل.

 والخامسة:بغض النظر عما ستؤول إليه الأزمة الليبية التي تحمل في طياتها سيناريوهات عديدة فإن التطورات الإقليمية الراهنة قد حدت بالولايات المتحدة غير ذي مرة الطلب رسميًا من حلف الناتو لأن يؤدي دورًا أكبر في منطقة الشرق الأوسط ابتداءً بالطلب من الحلف إرسال قوات تحل محل القوات الأمريكية في سوريا ومرورًا بمطالبة الحلف الانضمام للتحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي الذي أعلنت الولايات المتحدة عن تأسيسه عام 2019م، وانتهاءً بدفع الحلف للقيام ببعض مهام التحالف الدولي لمحاربة داعش في العراق، وسواء قبل الحلف أو أعلن رفضه لبعض المهام فإن الأمر الثابت أنه في ظل انحسار الولايات المتحدة عن بعض الأزمات بما يعنيه ذلك من إفساح المجال للنفوذ الروسي فإن ذلك يعني أن الحلف سيكون مدعوًا للانخراط بشكل أكبر ليس تجاه المسألة الليبية فحسب بل تجاه العديد من أزمات المنطقة.

مقالات لنفس الكاتب