array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 152

غياب سياسة عربية موحدة إزاء إثيوبيا يجعلها قوة إقليمية تهدد الأمن القومي العربي

السبت، 01 آب/أغسطس 2020

 تسير إثيوبيا بخطوات حثيثة نحو بناء قدراتها الذاتية بما يؤهلها لأن تكون قوة إقليمية يُعتد بها فى شرق القارة الإفريقية، وذلك منذ تسلم الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب إثيوبيا مقاليد السلطة بها عام 1991م. لكن هذا الطموح الإثيوبى يتقاطع بشكل أو بآخر مع مصالح بعض الدول العربية، وفى مقدمتها مصر والسودان والصومال، وهو ما يمثل تهديدًا للمصالح الوطنية لتلك الدول، وخصمًا من قوة النظام الإقليمي العربي.  

      وبالرغم من ذلك، فالتعامل العربي مع إثيوبيا، لا يزال ينطلق من نزعات فردية، تتمحور حول المصالح الوطنية المباشرة لكل قطر عربي على حدة، دون ملامح لرؤية عربية مشتركة حول كيفية التعاطى مع إثيوبيا، من منظور الأمن القومي العربي، خاصة أنها ترتبط بعلاقات وثيقة مع بعض القوى الدولية والإقليمية، التى ربما تتعارض مصالحها أيضًا مع المصالح العربية، خاصة إسرائيل وتركيا وإيران.   

       لذا يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على توجهات السياسة الخارجية الإثيوبية، ومظاهر التهديد الإثيوبي للأمن القومى العربي، وأثر ذلك على المصالح الوطنية لبعض الدول العربية، والنظام الإقليمي العربي ككل، مع تناول أنماط التعامل العربي مع إثيوبيا، والعوامل المؤثرة فى تشكيلها، وذلك من خلال المحاور الآتية:

أولاً-توجهات السياسة الخارجية الإثيوبية:

     هناك العديد من المحددات الداخلية والخارجية التى ساهمت فى تشكيل السياسة الخارجية الإثيوبية والتأثير فى توجهاتها، وذلك فيما يلي:

1- محددات السياسة الخارجية الإثيوبية:

      على المستوى الداخلي، تعاني إثيوبيا تاريخيًا من عقدة أنها دولة حبيسة بلا منافذ على البحار، وأنها تقع على هضبة مرتفعة، تجاورها دول منخفضة نسبيًا، مما ساهم فى ترسخ إحساسها بالعزلة، حيث تؤكد إثيوبيا دومًا أنها جزيرة مسيحية وسط بحر مسلم. كما أن اشتراك إثيوبيا فى حدود طويلة نسبيًا، ومتداخلة سكانيًا، مع ست دول أخرى يزيد من مشكلات الجوار، ويصبغ علاقاتها بجيرانها بظل من الشك.

      ومع التنوع الديني واللغوي بإثيوبيا، وصعوبة إدارة ذلك المجتمع التعددي، ظلت النظم الحاكمة بإثيوبيا غير قادرة على تحقيق الاندماج الوطني بين شعبها، مما ساهم فى إثارة المشكلة القومية داخل الدولة، خاصة أن الدستور يسمح للجماعات القومية بالحق فى تقرير المصير، مما أدى لتنامي مطالب الجماعات المضطهدة بالانفصال عن الدولة المركزية، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لكيان الدولة ذاتها، ويعتبر أبرز العوامل المؤثرة فى سياستها الخارجية.

      كما أن ضعف القدرات الاقتصادية الإثيوبية بوجه عام، وموجات الجفاف المتلاحقة التي تضرب الدولة، تضع اقتصادها فى مأزق مستمر، وتجعلها فى حالة اعتماد دائم على القروض والمعونات الخارجية. لكن وضعها كأكبر قوة عسكرية فى القرن الإفريقى قياسًا بحجم القوات المسلحة والإنفاق الدفاعي يمنحها نوعًا من التفوق العسكري النسبي مقارنة بمحيطها الإقليمي المباشر، ويزيد من اعتماد القوى الدولية والإقليمية عليها لدى تنفيذ أي ترتيبات بالمنطقة.

       وبخصوص المحددات الخارجية، فأهمها الحرب ضد الإرهاب، والتنافس الدولي على الموارد الاستراتيجية والنفيسة، والسيطرة على طرق التجارة العالمية، وعدم الاستقرار الأمني بالصومال والسودان، والطموحات الإقليمية الإريترية، وثورات المنطقة العربية.

2- المصالح الوطنية ودوائر الحركة السياسية:  

       تحرص إثيوبيا على ضمان وتعظيم مصالحها الوطنية والتى يأتى فى مقدمتها: الحفاظ على وحدتها وسلامتها الإقليمية، وتأمين منفذ مباشر على البحر الأحمر، والاستفادة من الموارد المائية المتاحة لديها، وإصلاح أوضاعها الاقتصادية المتدهورة، وتدعيم دورها كقوة إقليمية، بما يتناسب مع ميراثها التاريخي والحضاري. لذا تتعدد دوائر الحركة بالنسبة للسياسة الإثيوبية، فتحتل دائرة القرن الإفريقي مركز الصدارة، نظرًا لارتباطها المباشر بالدور الإقلميي القائد الذي تطمح فى الوصول إليه. يضاف إلى ذلك دوائر أخرى هي: حوض النيل، والبحيرات العظمى، والتجمعات الإقليمية الإفريقية، والشرق الأوسط.

ثانيًا-مظاهر التهديد الإثيوبي للأمن القومي العربي:

       تؤكد إثيوبيا دومًا أن سياستها الخارجية تنطلق من مجموعة من المبادئ أهمها: التنمية الاقتصادية، واتباع منهج السلام، وقيام العلاقات مع العالم الخارجي على أساس المصالح المشتركة، واحترام كل طرف للآخر، والعدالة والمساواة، وحل الخلافات عبر سياسة الحوار.

       لكن الممارسات تكشف عن فجوة واسعة بين المبادئ النظرية والسلوكيات الفعلية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الإثيوبية مع الدول العربية المجاورة لها، أو التى تشترك معها فى حوض نهر النيل، فى ظل تقاطع وتنافس المصالح، والارتباطات الخارجية لإثيوبيا، والتى تجعلها فى بعض الأحيان أداة لتهديد الأمن القومي العربي. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك:

1- تهديد الأمن المائي لمصر والسودان:

       تؤكد أديس أبابا رفضها للنمط القائم لتقاسم المياه بحوض النيل، مشددة على حقها المطلق فى الاستفادة من مواردها المائية فى مجالات الري وتوليد الطاقة، دون الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تلزمها بالتنسيق الكامل مع شركائها فى حوض النيل. وقد تجلى ذلك لدى التوقيع على اتفاق عنتيبى فى مايو2010م، حيث تنصلت إثيوبيا من الاعتراف بالحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر والسودان، ورفضت الالتزام بمبدأ الإخطار المسبق، ودفعت دول المنابع لتبنى موقفها بشكل كامل. وهو ما تكرر لدى تدشين سد النهضة فى أبريل2011م.

       إذ تبنت إثيوبيا خطابًا شعبويًا، بغية حشد التأييد الداخلي والخارجي لمشروع السد، وتوحيد القوميات الإثيوبية حول هدف أسمى، حيث تحرك نظام رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي على ثلاثة محاور هى: تبشير الشعب الإثيوبى بالرخاء المرتبط بإنشاء السد، وتأجيج المشاعر القومية المعادية لمصر، وتحميلها أوزار تدني المستوى التنموي بالبلاد، وتسويق المشروع باعتباره مشروعًا إقليميًا عابرًا للحدود، لاكتساب التأييد الإفريقى للمشروع.

 

       خاض زيناوى مفاوضات ماراثونية طويلة الأمد لفرض السد كأمر واقع، وإدارته كمشروع سيادي. وعارضت إثيوبيا كافة المقترحات لإيقاف العمل بالسد قبل بيان جدواه وآثاره الجانبية. وحجبت كافة المعلومات المتعلقة بتصميمه وآثاره ومعامل الآمان به وتمويله. وتمسكت بإجراء مفاوضات مباشرة بين أطراف الأزمة، وعدم مشاركة وسطاء خارجيين، أو اللجوء للآليات القانونية للتسوية. وهي السياسة التى استمرت فى عهد رئيسى الوزراء هيلاميريام ديالسين وآبى أحمد، رغم توقيع مصر على اتفاق إعلان المبادئ فى مارس2015م.

       تجلى الخداع الاستراتيجى الإثيوبى بعد ذلك فى أربعة إجراءات هي: الزعم باحتمال تأجيل افتتاح السد حتى العام 2022م، والانسحاب من مسار مفاوضات واشنطن فى نهاية فبراير 2020م، بذريعة الحسابات المتعلقة بانتخاباتها البرلمانية، وإنكار الملء الأول للسد فى يوليو2020م، والتخطيط لسحب ملف الأزمة من مجلس الأمن الدولي لكي يديره الاتحاد الإفريقى، بما يساعد أديس أبابا على استكمال ملء السد والانفراد بتشغيله.

       هنا رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق شامل ملزم، مؤكدة قبولها بالتوقيع على قواعد استرشادية لملء وتشغيل السد يمكن تغييرها مستقبلاً بمجرد الإخطار، دون اشتراط موافقة مصر والسودان. كما تنصلت من تحديد مفهوم الضرر ذي الشأن الذي يحتمل حدوثه إثر تشغيل السد، والتعويضات المناسبة التي ستلتزم بها إثيوبيا، أو تعريف مفهوم حالة الجفاف الممتد، وتحديد كميات المياه المنصرفة في تلك الحالة، مع ترحيل القضايا الخلافية الفنية والقانونية الأخرى إلى لجنة يتم تشكيلها لدى التوقيع على اتفاق.

       على التوازى، شن الإعلام الإثيوبى حملات ضد مصر، فاتهمها بالتمسك باتفاقات استعمارية، وإفشال المفاوضات وتبنى مخطط تخريبى ضد إثيوبيا، وتقويض التنمية فيها. وصرح رئيس الأركان الإثيوبي فى مارس 2020م، بأن جيش بلاده مستعد للتصدي لأي هجوم عسكري يستهدف سد النهضة. كما افتعلت إثيوبيا مشكلات حدودية مع السودان، لإيصال رسالة إلى الخرطوم مفادها أن الاستقرار الأمنى بالبلاد سيصبح تحت التهديد حال رفض السودان للسياسة الإثيوبية فى إدارة أزمة السد. وكان من الواضح استفادة إثيوبيا من البيئة الدولية والإقليمية المواتية لها خلال المفاوضات، خاصة محور، واشنطن، تل أبيب، أنقرة، الدوحة.

      والخلاصة، إن نجاح إثيوبيا فى تمرير السد بمواصفاته المجحفة الحالية ينذر بعواقب وخيمة أهمها: انتكاس السياسة المائية لمصر والسودان، وتأثر إنتاج الطاقة بالدولتين، وتهديد السلم الاجتماعى فيهما. كما أنه يمنح إثيوبيا تفوقًا نسبيًا فى إدارة التفاعلات السياسية بحوض النيل والقرن الإفريقى، وربما يدفعها لاستخدام ورقة المياه فى الضغط على مصر للسماح بإيصال مياه النيل لإسرائيل، وهو ما سيكون له تبعات بالغة الخطورة على مسار القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والأمن القومي العربي بوجه عام.

2- إضعاف الدولة في الصومال:

       سعت إثيوبيا لبسط نفوذها على الصومال، بغية استمرار حالة الانقسام فى البلاد، لتظل الصومال أسيرة لمعادلة الحكومة المركزية الهشة والدويلات المتصادمة معها، فلا يفسح ذلك المجال لتبلور نظام مركزى قوي، قد يسعى لاستعادة إقليم أوجادين، أو يحرم إثيوبيا من استخدام الموانئ الصومالية مثلما فعلت إريتريا منذ عام 1998م، أو يطالبها بمقابل كبير فى سبيل استخدام الموانئ على نحو ما فعلت جيبوتى. ويفسر ذلك التمسك الإثيوبى بإجهاض التيارات التى تطالب بإحياء مشروع الصومال الكبير، وسعيها لقطع الطريق أمام أي احتمالات لعودة الصومال كمنافس لها بالقرن الإفريقى، خاصة بعد التجربة الإريترية.

       كما تستهدف إثيوبيا تأمين حدودها الشرقية مع الصومال، والتى يبلغ طولها 1640 كم. لذا فهى تحتفظ بوجود عسكرى شبه دائم بالصومال منذ عام 2006م. كما وقعت اتفاقات أمنية لمراقبة الحدود معها، بغية تدمير معاقل الحركات المعارضة الإثيوبية داخل الصومال، وأهمها جبهة تحرير أورومو، وجبهة تحرير أوجادين وغيرهما.

       وتتطلع إثيوبيا أيضًا لاستضافة الصومال مقر الأسطول البحري، الذي تسعى إثيوبيا لتدشينه. وقد تبدت أهمية ذلك مع مصادقة البرلمان الإثيوبي في ديسمبر2018م، على مشرع قانون لإعادة بناء القوات البحرية. وكذا بعدما وقعت إثيوبيا اتفاقاً مع فرنسا فى 14 مارس 2019م، لمساعدتها في بناء قواتها البحرية. كما تسعى أديس أبابا للنفاذ إلى الموانئ الصومالية، والحصول على نصيب من كعكة الموارد النفيسة والاستراتيجية المكتشفة بالبلاد، والهيمنة على السوق الصومالى، حيث تتجاوز قيمة المبادلات التجارية مع الصومال– بما فيها صومالى لاند-المليار دولار.

       فى غضون ذلك، نجحت أديس أبابا فى التأثير بالسلب على مسار جهود المصالحات الوطنية بالصومال، والتمركز بالموانئ الصومالية، والمشاركة في الاستثمارات الأجنبية بتلك الموانئ. ففي مارس 2018م، وقعت أديس أبابا اتفاقاً مع هيئة موانئ دبي العالمية وحكومة صومالى لاند فى مارس 2018م، لتصبح بموجبه إثيوبيا شريكاً استراتيجياً بميناء بربرة بنسبة 19% فيما تحتفظ موانئ دبي بحصة 51% في المشروع وهيئة الموانئ بأرض الصومال بحصة 30%

       وقد بلغ التاثير الإثيوبى على القرار السياسى الصومال حد تطويع الموقف الصومالى من أزمة سد النهضة، لكي يتسق مع السياسة الإثيوبية. وبالفعل تراجعت مقديشيو عن تأييدها لقرار جامعة الدول العربية الصادر في 4 مارس2020م، خلال الدورة رقم 153 لمجلس الجامعة، والذي أكد التضامن مع موقف مصر الخاص بسد النهضة، ورفض أي إجراءات أحادية إثيوبية.

3- الهيمنة على الاقتصاد والموانئ بجيبوتي: 

       تدرك إثيوبيا أن "موقعها" كدولة حبيسة لا يتسق مع " موضعها" كأكبر دول القرن الإفريقي. لذا ترى إثيوبيا جيبوتى بمثابة المنفذ البحري الأساسي أمام التجارة الإثيوبية، حيث تمر90% من الصادرات والواردات الإثيوبية عبر الموانئ الجيوبوتية على خليج عدن ومضيق باب المندب. وتعتبر رسوم المرور التى تحصلها إثيوبيا من هذه التجارة من أهم مصادر الدخل القومي لجيبوتى.

       لذا حرصت إثيوبيا على الهيمنة على الاقتصاد فى جيبوتى، ونقل مستوى العلاقات معها من التعاون إلى حد التكامل، أو بالأحرى الهيمنة على مقدراتها، بعد تكبيلها بالعديد من الاتفاقيات التي تتيح لها استخدام الموانئ الجيبوتية والهيمنة على اقتصاد البلاد. ومن ذلك اتفاقية عام 2002م، التي قبلت بموجبها جيبوتى بمنح إثيوبيا فرصة دائمة للوصول للبحر، وطريقًا بدون عوائق لنقل البضائع والسلع، والاستفادة من ميناء جيبوتى وخدمات الشحن والمرور والمسائل الأخرى ذات الصلة.

       كما تقضي الاتفاقية بتمتع الرعايا الإثيوبيين بالحصانات والامتيازات اللازمة داخل جيبوتي، وإنشاء إثيوبيا قسم خاص لمتابعة الأنشطة فى ميناء جيبوتي، والتزام هيئة ميناء جيبوتى بإبلاغ إثيوبيا بأي زيادة فى رسوم استخدام الميناء والخدمات الأخرى قبل إقرارها بستين يومًا على الأقل. وقد تبدت أهمية النفاذ الإثيوبي لجيبوتي بعد توقيع الحكومة الإثيوبية لعقود للتنقيب عن النفط والغاز مع إحدى الشركات الصينية، وتبنيها مخططاً لإنشاء خط أنايبب لتصدير الغاز الطبيعي من إقليم أوجادين إلى موانئ التصدير عبر جيبوتي.

 

4- تنفيذ المخططات الأمريكية فى القرن الإفريقي:

       سعت إثيوبيا إلى تقديم نفسها إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الحليف الإقليمى القادر على تنفيذ المخططات الأمريكية الرامية إلى إعادة ترتيب الأوضاع في القرن الإفريقي، بما ترتبط به من تداعيات سلبية على أمن بعض الدول العربية.

       في هذا السياق، أيدت أديس أبابا مشروع القرن الإفريقي الكبير الذي كان بين أغراضه محاصرة السودان، وفصل جنوب السودان عن الدولة المركزية. واستغلت الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، لتحقيق أهدافها بالصومال. إذا قدمت للاستخبارات الأمريكية معلومات تفيد بوجود عناصر لتنظيم القاعدة بالصومال، وأن هذه العناصر تستفيد من الدعم العسكري والمادي الإريتري. ثم تدخلت عسكرياً– بدعم أمريكي كامل-للإطاحة باتحاد المحاكم الإسلامية فى ديسمبر2006م، دعماً لحكومة عبد الله يوسف، قبل أن تعود لمساندة اتحاد المحاكم بعد وصول قائدها شيخ شريف شيخ أحمد إلى سدة الحكم فى يناير2009م، وذلك فى مواجهة المعارضة الإسلامية، المتحالفة مع تنظيم القاعدة بالقرن الإفريقي. كما تتولى إثيوبيا حالياً قيادة قوات الاتحاد الإفريقي بالصومال
" أميصوم"، دعمًا لنظام الرئيس فرماجو، رغم أن قرار نشر تلك القوات يحظر مشاركة دول الجوار الصومالي فيها.

5-  تأييد مخططات القوى الإقليمية:

      لم تتورع إثيوبيا عن تأييد مخططات القوى الإقليمية بالقارة الإفريقية، والتى يتقاطع معظمها مع مصالح الدول العربية، خاصة إسرائيل وتركيا. فبالنسبة لإسرائيل، تبنت إثيوبيا سياسة رسمية معلنة ترى أهمية اتباع سياسة متوازنة بين العرب وإسرائيل. فأكدت احترامها لحقوق الشعب الفلسطيني.

       لكن الموقف الإثيوبي الفعلي يغلب عليه الانحياز لإسرائيل. إذ تنظر إثيوبيا لعلاقاتها مع إسرائيل باعتبارها علاقات تاريخية وصحية وقوية، خاصة منذ تسوية قضية " تهجير يهود الفلاشا"، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين فى نوفمبر1993م. ويبدو ذلك واضحاً بالنظر إلى السلوك التصويتى لإثيوبيا بالجمعية العامة للأمم المتحدة إزاء قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، ومثال ذلك رفضها إدانة إسرائيل لدى التصويت على إنشاء الجدار العازل بالأراضى المحتلة، وتأييدها لترأس السفير الإسرائيلى دان دانون للجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة.

       أما تركيا، فينظر صناع السياسة الإثيوبية إليها كسوق واسعة وقريبة، وكدولة قطعت شوطاً مهماً على طريق نبذ التطرف الديني، والإصلاح السياسى والتطور الديموقراطى، وأنها لا تشكل تهديداً آنياً أو مستقبلياً للأمن القومى الإثيوبى. لذا وثقت أديس أبابا العلاقات مع أنقرة، واستفادت جداً من خبراتها التفاوضية فى ملف سد النهضة، ساعية لاستنساخ تجربة سد أتاتورك، الذي استدعى تشييده خوض تركيا لمفاوضات ماراثونية مع العراق وسوريا، استمرت منذ 1983م، حتى اكتمال البناء عام 1992م، ليتم فرض الأمر الواقع على الدولتين، حيث تتمسك تركيا بنظرية هارمون. وتصر على استخدام مصطلح النهر "العابر للحدود" وليس النهر الدولي، وكأن نهر النيل هو نهر إثيوبى خالص، ثم عبر حدود إثيوبيا، متجها صوب السودان ومصر.

ثالثًا المواقف العربية إزاء التهديدات الإثيوبية:

       بينما تسعى إثيوبيا لتحقيق مصالحها الوطنية المباشرة، واستغلال حالة التنافس أو العداء بين العرب وبعض القوى الإقليمية والدولية الأخرى، فإنه حتى الآن لا توجد سياسة عربية متسقة إزاء إثيوبيا وقضاياها، حيث تتعامل الدول العربية مع إثيوبيا من منطلق مصالحها الوطنية الضيقة، دون اكتراث ببعد الأمن القومي العربي الأشمل. وقد اتضح ذلك فى ملفات عديدة، أهمها أزمة سد النهضة، وأمن البحر الأحمر، والقضية الفلسطينية.  

        فبالنسبة لأزمة سد النهضة، ظل هذا الملف محورًا لتوتر العلاقات المصرية السودانية منذ عام م2011م، حيث تمسكت مصر بضرورة التحديد الدقيق لجدوى السد ومواصفاته الفنية وآثاره الجانبية المحتملة، فيما تماهى نظام الإنقاذ الوطنى (1989-2011م) مع الموقف الإثيوبى خلال الأزمة، فأيد السودان إنشاء السد، ووقعت الدولتان اتفاقاً دفاعياً فى مايو2014م، لتشكيل قوات مشتركة لتعزيز أمن الحدود، ومواجهة أي عدوان خارجي محتمل، دون اكتراث بالدراسات التى تحذر من التداعيات الكارثية للسد على السودان، خاصة فى حال انهياره. وكان نظام الإنقاذ يرى إثيوبيا كحليف استراتيجى يمكن التعويل عليه فى خدمة المصالح السودانية، باعتبارها دولة المقر للاتحاد الإفريقي. وأكبر قوة عسكرية واقتصادية بالقرن الإفريقي، والحاضنة لمفاوضات تسوية الصراعات السودانية.  

       وبالرغم من اتجاه الحكومة الانتقالية الحالية بالسودان نحو الاعتدال منذ مايو2020م، ورفضها التوقيع على اتفاق ثنائي لملء وتشغيل السد، وتحذيرها من أي إجراءات منفردة من جانب إثيوبيا فى هذا الشأن. لكن ذلك لا ينفي أن الموقف السوداني من سد النهضة كان من أهم نقاط القوة التى استثمرتها أديس أبابا فى إنشاء السد والقيام بالملء الأول. 

       أما دول الخليج العربى، فقد كانت مصر تطمح فى تدشين مبادرة عربية شاملة لتسوية أزمة سد النهضة، تقوم على مبدأ الطاقة مقابل المياه، وذلك بدعم خليجى. لكن ذلك لم يحدث، حيث تنظر بعض دول الخليج لإثيوبيا كمصدر مهم للمياه العذبة وكوجهة استثمارية واعدة فى قطاعات الري والزراعة والطاقة. بل إنها وقعت اتفاقات عديدة للتعاون الاقتصادى مع أديس أبابا، بعيداً عن التنسيق مع مصر.

       وفى هذا السياق، زاد اعتماد الإمارات على إثيوبيا فى تأمين احتياجاتها من اللحوم والبن. وتكرر الأمر بالنسبة للكويت وقطر والبحرين، حيث يملك مستثمرو هذه الدول مئات الشركات الاستثمارية بالسوق الإثيوبية. وقد انعكست هذه المواقف الفردية على موقف الجامعة العربية، التى لم تؤمن الحد الأدنى من التضامن اللازم مع مصر خلال أزمة سد النهضة إلا فى مارس2004م، وذلك بإصدار بيان تأييد للموقف المصري، تحفظ عليه كل من السودان والصومال.

       أما قضية أمن البحر الأحمر، فقد أخفقت الجامعة العربية لسنوات مديدة فى تبني سياسة موحدة أو متسقة إزائها، حتى بعدما تنامت ظاهرة اختطاف السفن بخليج عدن، بل إن هناك مطالبات عربية بضم إثيوبيا إلى النظام الأمني المزمع تدشينه بالإقليم، رغم أنها ليست من ضمن الدول المشاطئة للبحر الأحمر.

       اتصالاً بذلك، لم يكن هناك موقف واضح للجامعة العربية إزاء السياسة الإثيوبية بالصومال، خاصة بعدما تركت الجامعة هذا الملف للاتحاد الإفريقي، وأنه لا توجد مشاركة عربية فاعلة ضمن قوات الاتحاد الإفريقي بالصومال، حتى من جانب مصر، التى لا تشارك فى بعثة أميصوم، مما مهد الطريق أمام أديس أبابا للتوغل فى الصومال. وهو ما تكرر بالنسبة لإريتريا، حيث ظلت مصر مترددة فى توثيق علاقاتها بها، خوفًا من إثارة حفيظة إثيوبيا، حتى استفاقت على توقيع اتفاق المصالحة الإثيوبي-الإريتري فى يوليو2018م، برعاية كاملة سعودية إماراتية.  

       وبالنسبة للقضية الفلسطينية، فبالرغم من الانحياز الإثيوبى لإسرائيل لكن ذلك لم يؤثر فى المواقف العربية إزاء إثيوبيا، ولو بمجرد التهديد بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، أو مراجعة الاتفاقيات التجارية وسحب الاستثمارات. حتى أن حركة التجارة والاستثمار العربى، خاصة الخليجي نحو إثيوبيا لم تتغير تبعاً لذلك. وكذا لم تتأثر قيم القروض والمساعدات التنموية والإنسانية العربية إلى إثيوبيا. بل إن الدول العربية اعتمدت على آلية المساعدات التنموية والإنسانية فى النفاذ إلى الداخل الإثيوبي، وتحقيق مصالحها الوطنية المباشرة، دون محاولة استثمار ذلك في تحقيق المصالح القومية العربية. وهنا يبرز دور المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (باديا)، والصندوق الكويتى للتنمية الاقتصادية العربية فى تقديم القروض والمنح إلى إثيوبيا، خاصة فى قطاعات الطاقة والطرق.

رابعًا-تفسير ردود الأفعال العربية:

       بالرغم مما تمثله إثيوبيا من تهديد قائم ومحتمل للأمن القومي العربي، إلا أن الدول العربية ظلت تسعى بالأساس لتحقيق مصالحها القطرية الضيقة، دونما اكتراث بقضايا الأمن القومي العربي، بما فى ذلك القضية الفلسطينية، التى يفترض أنها تمثل هماً عربياً مشتركاً. وهناك العديد من الأسباب التي تفسر تلك المواقف العربية من إثيوبيا، لعل أهمها ما يلي:

1 تراجع تيار الفكر القومي فى الإطار العربي، وذلك منذ أن أصاب التصدع النظام الإقليمى العربي مع الغزو العراقي للكويت عام 1990م، حيث أدى ذلك إلى انقسام الدول العربية ما بين مؤيد للكويت وداعم للعراق. والأخطر من ذلك أن مسألة القومية العربية تراجعت بشكل كبير فى الوعي الجمعب للشعوب العربية، التى أصبحت تغلب مصالحها القطرية على المصالح القومية العربية، بل إنها أصبحت أكثر اهتماماً بقضايا الأقليات والطائفية على حساب القضايا العربية الشاملة.

2-عدم قدرة جامعة الدول العربية على اتخاذ مواقف جماعية إزاء القضايا العربية بوجه عام، وحتى عدم قدرتها على مساندة الدول العربية فى مواجهة التهديدات التى تحيق بها. وربما يستمر هذا الأمر فى المستقبل المنظور فى ظل القيود الكثيرة التى يتضمنها ميثاق الجامعة العربية ذاته، والذي يكبح قدرتها على اتخاذ مواقف فاعلة إزاء قضايا النظام الإقليمى العربى، حتى أنها تفشل فى بعض الأحيان فى مجرد الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ لمواجهة الأزمات العربية. 

3-انشغال الدول العربية بمشكلاتها الداخلية، خاصة بعد ثورات المنطقة العربية منذ عام 2011م، التي تجاوزت آثارها إسقاط بعض النظم العربية وتهديد سلطة البعض الآخر، إلى حد تهديد بنية الدولة العربية وتعريض سلامتها الإقليمية للخطر، على نحو ما يحدث الآن فى سوريا واليمن وليبيا وتونس وغيرها. ولعل ذلك هو ما يفسر عدم تفاعل دول المغرب الغربي حتى الآن مع الموقف المصري إزاء إثيوبيا خلال أزمة سد النهضة. بل إن العاهل المغربي قام بزيارة إثيوبيا في نوفمبر2016م، وهو ما فسره البعض آنذاك بأنه رد على استقبال القاهرة لوفد من جبهة البوليسايو.

خاتمة:           

      تشكل إثيوبيا أحد أبرز مصادر تهديد الأمن القومي العربي القائمة والمحتملة، سواء بالنسبة للأمن المائي لمصر والسودان، أو للأمن الإقليمي للصومال وجيبوتي، وهو ما يمثل خصمًا مباشرًا من قوة النظام الإقليمي العربي، فى ظل الدور الذي تلعبه أديس أبابا فى تنفيذ سياسات القوى الدولية والإقليمية فى القرن الإفريقي وحوض النيل.

      لكن عدم وجود سياسة عربية متسقة إزاء إثيوبيا، من شأنه إطلاق العنان لها لتنفيذ مخططاتها فى أن تكون قوة إقليمية صاعدة تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن العربي، وهو ما يقتضي ضرورة صياغة سياسة عربية متماسكة ومتكاملة، أو على الأقل تنسيق المواقف العربية، لتدارك هذا التهديد المتنامي، قبل أن يستعصي على المواجهة.

مقالات لنفس الكاتب