لطالما كان شعار علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع دول أمريكا اللاتينية بسيطًا: القليل من التبادل التجاري والاستثمارات المحدودة نظرًا لاختلاف الثقافات والبعد الجغرافي. وتأتى الأرقام لتؤكد هذا الرأي: ففي عام 2018م، بلغت صادرات دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي إلى دول مجلس التعاون الخليجي 1.3% فقط من إجمالي صادرات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وبلغت واردات دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من دول مجلس التعاون الخليجي 0.5% فقط من إجمالي واردات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وعلى الجانب الآخر، بلغت صادرات الإمارات العربية المتحدة إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في عام 2018م، نسبة ضئيلة قدرها 0.6% من إجمالي الصادرات، و2.3% من إجمالي الواردات. وفيما يتعلق ببقية دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء الإمارات العربية المتحدة، بلغت الصادرات إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في عام 2018م، نسبة 1.7% من إجمالي الصادرات، وبلغت الواردات من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي 1.2% من إجمالي الواردات (بنك التنمية للبلدان الأمريكية، 2019م).
ومع ذلك، على مدى السنوات القليلة الماضية، بدأت المبادرات الجديدة الرامية إلى ربط هاتين المنطقتين في مجموعة متنوعة من المجالات غير المترابطة على ما يبدو، اتجاهًا جديدًا، أدى إلى تسارع وتيرة التبادل التجاري وقد يؤدي إلى ارتفاع مستوى الاستثمارات والتجارة بينهما بشكل مستدام.
على الصعيد السياسي، تشارك المملكة العربية السعودية مع الأرجنتين والبرازيل والمكسيك مجموعة العشرين التي تقدم تبادلات مكثفة ومنتظمة على المستوى الحكومي، فضلًا عن تنظيم اجتماعات بين قادة الأعمال وجماعات المجتمع المدني على أساس سنوي. وتُقصِر هذه التبادلات حتمًا المسافة الثقافية، كما تقدم بالفعل مساعي مشتركة وتخلق الثقة بين شركاء هذه البلدان.
وفيما يتعلق بالمجال الاقتصادي، على مدى السنوات القليلة الماضية، وضعت البلدان في كلتا المنطقتين الأسس لزيادة حجم التجارة والاستثمار. ووقعت دول المنطقة على عدد كبير من الاتفاقيات التي تنظم الاستثمار فيما بينها: إذ وقعت دول مجلس التعاون الخليجي مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر اتفاقيات الازدواج الضريبي واتفاقيات حماية الاستثمار مع الأرجنتين والبرازيل والمكسيك.
وقد منحت الخدمات اللوجستية شرط أساسي ثانٍ لتوثيق العلاقات الاقتصادية والتجارية: إذ ازدادت عمليات الاتصال والربط بشكل كبير من خلال النقل المباشر للركاب والبضائع بين شركات الطيران من الإمارات العربية المتحدة وقطر إلى المكسيك وكولومبيا والبرازيل وتشيلي والأرجنتين.
وفي سياق مماثل، أنشأت شركات الشحن طرقًا جديدة بين المنطقتين استنادَا على إدارة الشركات الخليجية للموانئ الاستراتيجية في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، مما مهد الطريق لإنشاء طرق شحن مباشرة بين البرازيل والخليج.
تتطلب الخطوة التالية لزيادة وتيرة وحجم التبادل التجاري فيما بين المنطقتين وضع استراتيجية شاملة لتوسيع نطاق التجارة والاستثمارات التي تتسق مع سياسات التنمية المحلية المحددة التي تنتهجها كل دولة عضو.
وعلى مدى العقود الماضية، سعت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي إلى تنويع أنشطتها الاقتصادية في محاولة للحد من الاعتماد على النفط. ولقد قاموا بذلك من خلال اتباع استراتيجية التكامل الرأسي لصناعة النفط، فضلًا عن تشجيع تطوير الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الألمنيوم والفولاذ والأسمدة.
وقد حققت هذه الاستراتيجيات نتائج متباينة في المنطقة، ولم تُظهر في المتوسط سوى نجاح معتدل (مشيرف، 2018م؛ صندوق النقد الدولي 2019م). ومع ذلك، كانت التجارة الدولية وكذلك الاستثمار الأجنبي المباشر استراتيجيات فعالة لتعزيز التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي والمساعدة في إيجاد فرص عمل في القطاع الخاص وزيادة الإنتاجية والنمو المستدام. وقد توسعت التجارة على وجه الخصوص بمعدل ضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2000 م، (صندوق النقد الدولي، 2019م).
وفي الوقت نفسه، اتبعت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي استراتيجية لتوسيع نطاق صادراتها، حيث ارتفعت مشاركة أكبر اقتصاداتها، وهي البرازيل والمكسيك والأرجنتين، في سلاسل القيمة العالمية التي تتراوح بين تصنيع السيارات إلى الخدمات القائمة على المعرفة (روزاليس، 2011م). وقد جعلت صادرات المنتجات الغذائية، على وجه الخصوص، البرازيل والأرجنتين، طرفين عالميين مهمين في هذا القطاع.
علاوة على ذلك، تتمتع كلتا المنطقتين بإمكانيات هائلة للنمو في البورصة نظرًا لتكامل السلع والخدمات المنتجة في كل منهما.
وكذلك شرعت دول مجلس التعاون الخليجي في التنويع من خلال آليتين مختلفتين أثبتتا نجاحهما، ولسوف تخلق أمثلة جديدة للتوسع والتنويع والتدويل لشركاتها في علاقاتها مع أمريكا اللاتينية:
أولاً، من خلال إعادة هيكلة الشركات الكبرى وتوسيع أعمالها من النفط إلى مجموعة الصناعات العالمية، والمثال الرئيسي هو شركة أرامكو السعودية، أكبر منتج للنفط في العالم، والشركة الأكثر ربحية في العالم، والمدرجة الآن في بورصة الرياض، ولديها مشاريع استثمارية استراتيجية تعمل في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية.
ثانيًا، استهدفت الصناديق السيادية الوطنية لدول مجلس التعاون الخليجي قطاعات وشركات مختلفة في دول أمريكا اللاتينية حيث استحوذت على أسهم فيها، مما ساعد على تعميق استراتيجية التنويع في المجال المحلي بالاستثمارات في الخارج. وساعدت الاستثمارات في دول أمريكيا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي على تحقيق هدفين في آن واحد: تقليل الضغوط التضخمية المحلية عندما تكون أسعار النفط مرتفعة عن طريق تخفيف الإنفاق المحلي الحكومي الذي من شأنه أن يعزز الزيادات الحادة في الإنفاق الخاص بسبب زيادة الثروة والسيولة المحلية (فيرمونتيس، 2012م)، والوصول إلى الأمن الغذائي من خلال الاستحواذ على أسهم في شركات إنتاج الأغذية. وعلى سبيل المثال، تمتلك شركة الغرافة للاستثمار، وهي شركة تابعة لصندوق الاستثمار السيادي القطري، أسهمًا في شركة أديكاغرو، وهي شركة رائدة في مجال الصناعات الزراعية في أمريكا الجنوبية، ومدرجة في بورصة نيويورك.
وتتضمن الاستراتيجية الثالثة، التي لم تُستكشف بعد، دمج الشركات العامة والخاصة وكذلك المحلية والأجنبية في المشاريع الاستراتيجية الوطنية لكلتا المنطقتين. ويعد قطاع الطاقة القطاع الرئيسي الذي يمكن أن يعمق الروابط بين المنطقتين. وهو نشاط اقتصادي ذو إمكانات كبيرة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. إن المكسيك: من خلال خصخصة بيمكس واحتياطياتها النفطية الكبيرة في خليج المكسيك، والبرازيل: من خلال تطوير احتياطيات النفط الضخمة البحرية، والأرجنتين: من خلال تطوير حقل فاكا مويرتا للغاز الصخري ورواسب النفط، والذي يعتبر ثاني ورابع أكبر احتياطيات النفط الصخري في العالم على التوالي، قد يوفرون جميعًا فرصًا تعزز التكامل الرأسي لشركات النفط وتنويع المحافظ الاستثمارية في الخليج مع تطوير موارد الطاقة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
إن مشاركة شركات كلا الإقليمين في المشاريع الاستراتيجية المشتركة واستثمارات الصندوق السيادي في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وعولمة المجموعات الصناعية في كلتا المنطقتين هي المفتاح لتوسيع الروابط الاقتصادية والتجارية، التي لا تزيد من وتيرة التعاون فحسب، بل ستعمل على تطوير من إمكاناتهم العظيمة، مانحةً فرصًا جديدة لشعوبها.