في خطابه الذي ألقاه بوزارة الخارجية الأمريكية، يوم 4 فبراير الماضي، شدد الرئيس الأمريكي جو بايدن على ما تمثله روسيا ومعها الصين من تحد وتهديد للأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية، وأن المواجهة الأمريكية الروسية مستمرة وستزداد شراسة في المستقبل، أو على حد تعبير بايدن إن "أيام تراجع الولايات المتحدة أمام روسيا انتهت"، وأنه جرى "رفع الثمن الذي ستدفعه روسيا". ومن المعروف أن بايدن جاء من قلب المؤسسات الحاكمة أو ما يسمى بـ "Establishment" وتشبع عبر تاريخه السياسي الطويل بروح الحرب الباردة، وكان نائب أوباما وشريكه في التصعيد ضد روسيا منذ عام 2014م، على خلفية الأزمة الأوكرانية. وسبق أن أشار بايدن في مقابلة له مع تليفزيون "سي بي إس"، أن "روسيا تشكل أكبر تهديد للولايات المتحدة على الساحة الدولية".
يدعم هذا التوجه شركاء واشنطن الأوروبيون في حلف شمال الأطلسي (الناتو) حيث تضمن التقرير الذي قدمه الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرج، في الأول من ديسمبر 2020م، خلال المؤتمر الافتراضي لوزراء خارجية الحلف بعنوان "الناتو -2030: الوحدة في عصر جديد"، النص على أن روسيا التهديد العسكري الرئيسي للحلف على المدى الطويل حتى عام 2030م، مستندًا في ذلك إلى استمرار ما اعتبره "سياساتها العنيدة وأعمالها العدوانية" و"عدوان موسكو" على أوكرانيا وجورجيا. كما أشار التقرير إلى "التأثير السلبي على أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية" لأعمال روسيا النشطة في البحر الأسود وبحر البلطيق، وفي القطب الشمالي وشرق البحر المتوسط، فيما اعتبر التقرير أن الصين هي العدو العسكري الثاني للحلف، بعد روسيا، خلال السنوات العشر المقبلة.
الأمر الذي يشير إلى عودة التوتر بين واشنطن وموسكو حول مدى واسع من القضايا الدولية والإقليمية التي تشهد تناقضات هيكلية واستراتيجية بين البلدين، ويأتي في قلب هذا التصعيد منطقة الشرق الأوسط التي ستكون ساحة رئيسية للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، بآليات ومضمون يختلف جذريًا عما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة. إن الولايات المتحدة بدأت بالفعل إعادة تعريف وصياغة مصالحها في الشرق الأوسط بعد أن دخلت سوق الطاقة العالمي كمصدر، وأصبح من بين أولوياتها تحجيم النفوذ الروسي بها، وذلك في الوقت الذي يزداد الحضور الروسي في المنطقة قوة وتأثيرًا، كما تقع المنطقة في قلب مشروع الصين "الحزام والطريق"، وهي أفضل نقطة لعرقلة التمدد الصيني عالميًا.
وقد عكس تشكيل الفريق الرئاسي المسؤول عن السياسة الخارجية إدراك بايدن لأهمية المنطقة، وعزمه على إعادة تفعيل الدور الأمريكي بها ضمن توجهه العام لاستعادة الدور الأمريكي عالميًا تحت شعار "America Back". فوزير الدفاع، لويد أوستن، كان قائد القوات الأمريكية لدخول بغداد عام 2003م، ثم تولى قيادة القوات متعددة الجنسيات في العراق عام 2008، وفي 2010م، تم تعيينه قائدًا عامًا للقوات العسكرية الأمريكية في العراق، وخلال الفترة من 2013م، وحتى 2016م، كان قائد القيادة المركزية للقوات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط "سنتكوم". وكان وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، نائب مستشار الأمن القومي لأوباما وشارك في رسم العديد من السياسات والتوجهات الأمريكية خلال تلك الفترة ومنها تلك المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط. أما مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، فكان من الذين التقوا بمسؤولين إيرانيين عام 2013م، وهي الاتصالات التي انتهت بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015م.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن تصاعد التنافس الاستراتيجي بين واشنطن وموسكو في المنطقة يعنى بالضرورة غياب التفاهمات بينهما، أو اتخاذ أيًا منهما حتمًا موقفًا مناقضًا للأخرى في مختلف القضايا، فالمصالح ستظل هي المحدد الرئيسي لمواقف البلدين. ففي 26 يناير أجرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس الأمريكي، جو بايدن أول محادثة هاتفية بينهما وأعربا عن ارتياحهما التوصل لاتفاق حول تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية "ستارت3" حتى العام 2026م، الأمر الذي سيسهم في تحسين الأوضاع في مجال الأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي. كما أكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في أول اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، يوم 4 فبراير استعداد روسيا لتطبيع العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة.
ولعل أولى قضايا المنطقة التي قد تحظى بتوافق البلدين هي تلك الخاصة بالملف النووي الإيراني حيث يبدى بايدن مرونة نسبية فيما يتعلق بإيران، ولا يوجد لديه اعتراض من حيث المبدأ على العودة للاتفاق النووي مع إيران، وفى رده على سؤال حول إمكانية العودة للاتفاق النووي، قال "سيكون الأمر صعبًا .. ولكن نعم"، ويبدو إنه يريد فقط البحث عن إخراج جيد لهذه العودة لا تبدو فيها واشنطن وكأنها قدمت تنازلات لإيران بعد التشدد الذي التزم به ترامب في مواجهة طهران وإعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران الذي رأى أنه يتضمن "عيوبًا هائلة" وأصر على إبرام اتفاق جديد يتضمن برنامج إيران الصاروخي.
لقد أكد بايدن في أكثر من مناسبة أنه إذا التزمت إيران بتعهداتها المنصوص عليها في الاتفاق فإن الولايات المتحدة ستعود للعمل به إلى جانب الأوروبيين والأطراف الدولية الأخرى. لكن هل ستعود طهران إلى العمل بالاتفاقية دون مقابل، إذ ترى إيران أنها لم تحصل على ما كانت تطمح اليه من منافع اقتصادية بعد رفع العقوبات الدولية عنها. كما أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي ستجرى منتصف العام الجاري قد تشهد عودة التيار المتشدد للسيطرة على منصب الرئاسة بعد أن أحكم سيطرته على البرلمان في الانتخابات الماضية. من الواضح أن إيران هي الأخرى تمارس ضغوط وإنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات دون الحصول على مقابل مغرى، والموقف الأمريكي بات أضعف مما كان عليه عام 2015م، إذ أن العلاقات بين واشنطن وروسيا والصين تتسم بالتوتر الشديد ومن المؤكد أنهما لن تقفا إلى جانب واشنطن في مسعاها للضغط على إيران.
ووفقًا لما نشرته وكالة "بلومبيرج" الأمريكية تدرس إدارة بايدن سبل تخفيف الضغط المالي على طهران دون رفع العقوبات الاقتصادية الرئيسية عليها، بما في ذلك العقوبات على صادرات النفط الذي يعد مصدر الدخل الرئيسي لطهران. ويتمثل أحد خيارات الحكومة الأمريكية في دعم قرض من صندوق النقد الدولي لإيران من أجل مساعدتها على مواجهة التداعيات الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا، وكانت إيران قد طلبت مساعدات بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لمكافحة فيروس كورونا عام 2020م. ويتمثل خيار أخر في تخفيف العقوبات التي تمنع وصول المساعدات الدولية المتعلقة بكورونا لإيران. وفي 6 فبراير عقد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اجتماعًا افتراضيًا مع نظرائه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا لبحث كيفية التعامل مع إيران والتحديات النووية وفي مجال الأمن الإقليمي.
وتلقى هذه الخطوات الأمريكية ترحيب روسيا التي طالما شددت على ضرورة الالتزام بالاتفاق النووي الإيراني، واعتبرت أن انسحاب واشنطن منه يتناقض مع قرارات مجلس الأمن الدولي 2231، الذي أقر الاتفاق. ومن ثم تدعم روسيا كل ما من شأنه العودة للاتفاق ورفع العقوبات عن طهران، الشريك الاستراتيجي لموسكو، لما لذلك من عوائد إيجابية على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي بالنسبة لروسيا، ورأت الأخيرة أن واشنطن وطهران تحتاجان إلى خريطة طريق تسمح بالعودة لتنفيذ الاتفاق النووي في أقرب وقت. من ناحية أخرى، تحاول روسيا الدفع بمبادرتها التي طرحتها في 23 يوليو 2019م، حول أمن الخليج وبناء الثقة بين دول المنطقة والحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي. إلا أن الولايات المتحدة لن تقبل بدور روسي إلى هذا الحد وستسعى إلى تفاهمات ثنائية مع طهران، وترتيبات مع شركائها في أوروبا والخليج حيث أن أحد أهم أهداف واشنطن في المنطقة هو الحد من التمدد الروسي بها والتضييق على موسكو دبلوماسيًا واستراتيجيًا.
يرتبط بذلك التوجه الأمريكي إزاء التطورات في اليمن، فقد أعلن بايدن إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن والدفع لبدء مفاوضات للتسوية السلمية بها. وفى هذا السياق قام بايدن في 4 فبراير، وللمرة الأولى، بتعيين تيم ليندركينج مبعوثًا أمريكيًا خاصًا إلى اليمن للدفع باتجاه حل دبلوماسي، مؤكدًا أن واشنطن ستكثف جهودها الرامية إلى تحقيق تسوية سلمية للأزمة اليمنية.
كما قامت إدارة بايدن بتعليق مبيعات الأسلحة "الجارية" للمملكة العربية السعودية والإمارات حتى "إعادة التدقيق فيها" للتأكد من أنها تحقق "أهدافها الاستراتيجية"، ومن بين الصفقات التي تم تجميدها ذخيرة دقيقة للسعودية ومقاتلات من طراز اف-35 للإمارات العربية المتحدة. كما قامت إدارة بايدن بمراجعة قرار تصنيف الحوثيين في قائمة الإرهاب، وأعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 12 فبراير أن الولايات المتحدة ستلغي قرار تصنيف جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) اليمنية تنظيمًا إرهابيًا أجنبيًا اعتبارًا من 16 فبراير، "اعترافًا بالوضع الإنساني القاسي" في اليمن، مشيرًا إلى أن إدارة الرئيس بايدن أصغت إلى تحذيرات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة وأعضاء الكونجرس بشأن تأثير قرار تصنيف الحوثيين تنظيمًا إرهابيًا على توريد السلع الأساسية مثل الغذاء والوقود إلى اليمن. كما أشار إلى أن واشنطن ستبقي العقوبات المفروضة على كبار قيادات "أنصار الله"، وخاصة عبد الملك الحوثي وعبد الخالق بدر الدين الحوثي وعبد الله يحيى الحكيم، لاتخاذهم خطوات "تهدد سلام وأمن واستقرار اليمن"، وأن إدارة بايدن ستستمر في دعم تطبيق العقوبات الأممية المفروضة على أعضاء من "أنصار الله"، وسيواصل الضغط من أجل إجبار الجماعة على تغيير "سلوكها الخبيث" الذي يطول أمد النزاع ويتسبب في كلفة إنسانية باهظة. وأكد تصميم الولايات المتحدة على مساعدة حلفائها الخليجيين في الدفاع عن أنفسهم، لاسيما من "المخاطر القائمة في اليمن التي تنفذ العديد منها بدعم من إيران"، متعهدًا بمضاعفة الجهود الأمريكية، بالتعاون مع الأمم المتحدة والأطراف الأخرى، من أجل إنهاء الحرب.
وكان القرار الذي يمنع التعامل المباشر مع جماعة "أنصار الله"، الذراع السياسية للحوثيين، قد اتخذته إدارة ترامب ودخل حيز التنفيذ يوم 19 يناير 2021م، وجاء القرار الأمريكي بالعدول عنه اتساقًا مع تنامي المعارضة لقرار ترامب داخل الكونجرس الأمريكي حيث دعا نواب أمريكيون إلى التراجع سريعًا عن الخطوة، كما دعا المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، الولايات المتحدة إلى التراجع عن هذه الخطوة خشية من أن يؤثر على حركة التجارة في اليمن، والوضع الإنساني به الذي يشهد مجاعة واسعة النطاق.
ويتسق هذا مع التوجه العام لروسيا إزاء الملف اليمنى حيث التزمت روسيا الحياد مع الدعوة إلى وقف القتال والتسوية السلمية عبر المفاوضات بين الأطراف اليمنية المختلفة مؤكدة عدم دعمها لطرف دون آخر سواء كان يمني أو إقليمي. وانعكس ذلك في امتناع موسكو عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2216 بشأن اليمن، والذي تم تبنيه في 14 أبريل 2015م، استنادًا إلى مشروع عربي يحظر توريد الأسلحة للحوثيين ويؤكد دعم المجلس للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ولجهود مجلس التعاون الخليجي. وتحافظ روسيا على تواصلها مع جميع الأطراف اليمنية، فهي تعترف بالحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، ولكنها لا تدين جماعة الحوثيين، وتؤكد موسكو دعمها ليمن موحدة في الوقت الذي تبقى فيه على قنوات اتصال مع المناصرین للانفصال من الجنوب.
من ناحية أخرى، قد يدفع تعليق واشنطن لبعض صفقات السلاح للمملكة العربية السعودية والإمارات إلى تنشيط مبيعات السلاح الروسية للبلدين، ومن المعروف أن الرياض تحظى باهتمام كبير من جانب موسكو باعتبارها أكبر مستورد للسلاح في العالم بنسبة 12% من إجمالي واردات الأسلحة العالمية.
ولكن رغم ترحيب موسكو الحذر بخطوات إدارة بايدن فيما يتعلق بالملفين الإيراني واليمنى، إلا إن هذا التوافق يظل تكتيكي محدود وليس استراتيجي حيث يظل تناقض المصالح بعيدة المدى بين البلدين قائمًا في الحالة الإيرانية واليمنية. وتنظر موسكو بقلق للتحركات الأمريكية، خاصة في اليمن، وترى فيها محاولة من واشنطن لاستعادة دورها وهيمنتها على الشرق الأوسط بصفة عامة ومنطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الاستراتيجية على وجه الخصوص.
وتزداد هذه التناقضات وضوحًا ويتراجع التوافق كثيرًا في الملفات الأخرى لاسيما المتعلقة بسوريا وليبيا. وترى موسكو إن اتجاه بايدن لتقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة هو إعادة تموضع وانتشار للقوات الأمريكية ولا يحمل دلالات سياسية أو استراتيجية تتعلق بالدور الأمريكي في المنطقة بقدر ما يتعلق بأدوات هذا الدور والتركيز أكثر على توظيف الأداة الدبلوماسية بعد أن وصلت الأداة العسكرية مداها باحتلال العراق، وهو التوجه الذي بدأ مع أوباما واستمر خلال فترة ترامب وسيزداد وضوحًا بتوجهات بايدن.
فقد أشار بايدن في مقابلة مع مجلة الجيش الأمريكي "ستارز اند سترايبز" إن عصر الحروب اللانهائية يجب أن ننتهي منه .. يجب أن تنتهي هذه الحروب التي لا نهاية لها. أؤيد تخفيض القوات في الخارج لكن لا يجب أن نغفل عن مسألة الإرهاب والدولة الإسلامية". ويعنى هذا إن تركيز بايدن على الاحتفاظ بالتواجد العسكري الأمريكي، وإن تم تخفيضه، تحت مظلة الاستمرار في محاربة داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، و"ضرورة الإبقاء على الانخراط" في سوريا، ربما أكثر مما كان يتصور كل من أوباما وترامب للاحتفاظ بالنفوذ الأمريكي في سوريا والمنطقة.
يذكر أن الولايات المتحدة خفضت عدد قواتها في العراق إلى 3 آلاف جندي بنهاية شهر سبتمبر 2020م. ووصف بايدن الأوضاع في البلدان التي تنتشر فيها القوات الأمريكية، سوريا والعراق وكذلك أفغانستان، بأنها معقدة ولا يمكنه التعهد بسحب القوات الأمريكية منها بشكل كامل في المستقبل القريب. ويرى بايدن أن مهمة القوات الأمريكية يجب أن تقتصر على مساعدة الشركاء المحليين في مواجهة التنظيمات والجماعات التي يمكن أن تهدد مصالح الولايات المتحدة وشركائها ولا يجب أن تلعب أي دور سياسي في هذه الدول. ويعنى هذا الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في البلدين وتعزيزه أو إعادة تمركزه وانتشاره إذا لزم الأمر.
في هذا الإطار، قامت القوات الأمريكية يوم 5 فبراير، بنقل جنود وأسلحة ومعدات من العراق إلى قاعدة الشدادي جنوب ريف الحسكة في سوريا وذلك في إطار البدء في إنشاء قاعدة جديدة لها قرب تل علو شمال غرب اليعربية بريف الحسكة المتاخمة للحدود العراقية، وعلى مقربة من قاعدة خراب الجير التي تتخذ منها القوات الأمريكية منطلقًا لمروحياتها. وسبق وأن أدخلت القوات الأمريكية تعزيزات عسكرية إلى قواعدها شمال شرقي سوريا، يوم 23 يناير تضمنت 16 شاحنة تحمل أسلحة ومعدات لوجستية إلى حقل كونيكو شمال شرقي دير الزور. كما أرسلت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة 40 شاحنة مغلقة ومحملة بالأسلحة والمعدات اللوجيستية، إلى ريف الحسكة عبر معبر الوليد الحدودي مع العراق، وذلك لتعزيز قواعدها في المنطقة.
وتتعارض هذه الخطوات الأمريكية مع الأولويات الروسية الهادفة إلى تقليص وإنهاء أي تواجد أجنبي "غير صديق" في سوريا لاسيما الأمريكي وحلفائه الدوليين والإقليميين. وكان الرئيس بوتين قد رحب بالقرار الذي أعلنه ترامب في 19 ديسمبر 2018 بسحب القوات الأمريكية من كل الأراضي السورية بعد تحقيق ما وصفه بالنصر في الحرب على تنظيم "داعش"، والذي لم يتم رغم تحديد المسؤولون الأمريكيون مدة زمنية لذلك بين 60 و100 يومًا. فقد وصف الرئيس بوتين قرار ترامب بأنه "خطوة صحيحة" باعتبار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا غير شرعي، وأن هذا أمر ممكن، لاسيما مع السير في طريق التسوية السياسية، وليس هناك حاجة للوجود العسكري الأمريكي في سوريا للتوصل إلى هذه التسوية؛ إلا إنه شكك في التنفيذ الفعلي والكامل لها. كما سعت موسكو إلى تفكيك مخيم الركبان وإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة التنف، التي تقع على بعد 24 كم غرب معبر التنف الحدودي في محافظة حمص، وفرضت الولايات المتحدة منطقة آمنة حولها بلغت 55 كم. وتعتبر روسيا أن القاعدة والمنطقة الآمنة "ثقب أسود" نظرًا لكونها غطاء آمن لآلاف المسلحين، وفيها تم تدريب آلاف من مقاتلين "مغاوير الثورة"، ومنها انطلقت عدد من عمليات "داعش". وقد أدت سيطرة الجيش السوري على كامل ريف دمشق الجنوبي ومعظم بادية السويداء الشرقية والشمالية الشرقية إلى التقليل من الأهمية الاستراتيجية لقاعدة التنف وجعلتها معزولة ومن الصعب استخدامها للانطلاق في مواجهة دمشق وحلفائها.
على صعيد آخر، تعتبر ليبيا ساحة أخرى للمواجهة بين النفوذ الأمريكي والروسي، فمن الواضح أن توجه إدارة بايدن هو نحو إعادة الإمساك بزمام الأزمة الليبية وتقليص النفوذ الروسي إلى أدنى مستوى ممكن، وتحريك الملف الليبي في سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية وإعادة تفعيل خطوط الاتصال بين الأوساط الليبية ودوائر صنع القرار الأمريكي التي تعطلت خلال فترة إدارة الرئيس السابق ترامب، وذلك بعد فترة تراجع فيها الملف وانتقلت فيها إدارة ترامب إلى الاعتماد على تركيا في إدارة الأزمة ومواجهة التمدد الروسي بالوكالة.
وقد انعكس ذلك بوضوح في عدة خطوات أمريكية منها الدعوة التي وجهها رئيس البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة ريتشارد ميلز جونيور، بـ"الشروع فورًا في سحب القوات التركية والروسية من ليبيا.. بما فيها جميع العناصر المرتزقة والمندوبين العسكريين الأجانب" استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 23 أكتوبر2020م، وقد اعتبرت الدعوة تحولاً ملحوظًا في سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة مقارنة بسياسة ترامب. وقد قدرت الأمم المتحدة عدد المرتزقة والعسكريين الأجانب المنتشرين بليبيا في ديسمبر 2020 م، بنحو 20 ألفًا يدعمون طرفي النزاع، كما أحصت الأمم المتحدة 10 قواعد عسكرية تأوي جزئيًا أو بشكل كامل قوات أجنبية في البلاد. وتنفي روسيا أي مسؤولية لها عن وجود آلاف من عناصر شركة فاجنر الروسية في ليبيا، وكذلك سعيها لإقامة قاعدة عسكرية هناك. على صعيد أخر، دفعت واشنطن مسارات التسوية في ليبيا عبر الأمم المتحدة، الأمر الذي مكن من تحقيق إنجاز سريع تمثل في انتخاب مجلس الرئاسة لإعادة توحيد مؤسسات الدولة والإشراف على الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر من العام الجاري.
إن الخطوات الأولى لإدارة بايدن نحو قضايا المنطقة تؤكد عودة الأخيرة إلى أولويات السياسة الأمريكية ولكن بمعطيات وأدوات ستغذي التنافس بين واشنطن وموسكو وتجعل المنطقة في قلب رقعة الشطرنج العالمية بينهما.