شكل الغزو العراقي للكويت أحد أخطر الأحداث العبثية التي ألمت بالاقتصاد العربي بصفة عامة والاقتصادات الخليجية بصفة خاصة وأثرت عليهما سلباً من حيث الآثار المدمرة التي لحقت بالثروات العربية المدمرة من منشآت مدنية وعسكرية وبنية تحتية وآبار نفط ومحطات كهرباء وغيرها والمقدرة من قبل صندوق النقد العربي بأكثر من (450) مليار دولار من جانب، وتعريض مستقبل العمل الاقتصادي العربي المشترك لمخاطر جسيمة من جانب آخر.
وكانت التداعيات الاقتصادية للغزو مدمرة على أغلب البلدان العربية لاسيما التي كانت لها عمالة تشتغل بدول الخليج العربي والعراق، وتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 3% عام 1990 إلى 2%، عام 1991م، والناتج المحلي الإجمالي العربي من (%1.2) إلى (7%)، وكان الدمار الناجم عن الحرب هائلاً في الكويت والعراق حيث توقف النشاط الاقتصادي تماماً في مناطق واسعة من البلدين خلال الأزمة، كما تأثرت دول أخرى مثل مصر والأردن بسبب توقف تحويلات العاملين المغتربين وعائدات الصادرات. واستمرت التداعيات الاقتصادية للغزو حتى بدء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م.
وسوف نتناول في مقالنا هذا تأثير غزو الكويت وتحريرها على الاقتصادات الخليجية في المرحلة السابقة، والتداعيات التي مازالت مستمرة على هذه الاقتصادات، وبيان الحلول الممكنة لتعظيم مردود اقتصادات مجلس التعاون، وكيف يتجاوز العراق المعضلة الاقتصادية التي يعيشها حالياً، وكيف سيكون هيكل وحجم الاقتصاد العراقي في المدى المنظور والبعيد.
أولاً- النتائج الاقتصادية لحرب تحرير الكويت على الاقتصادات الخليجية والعربية
واجه النشاط الاقتصادي مع بداية التسعينات في الدول النفطية بشكل عام ودول مجلس التعاون بشكل خاص تراجعاً في نمو القطاعات غير النفطية، نتيجة لتراجع الاستثمار وجهود التنمية خلال الغزو العراقي للكويت، كما تأثرت بدرجات متباينة الدول غير النفطية التي تعتمد بشكل كبير على الموارد الخارجية في تمويل برامجها الإنمائية، سواء من تحويلات العاملين، أو تصدير بعض السلع الاستهلاكية على دول الخليج، أو من خلال تلقي الدعم المالي منها، حيث تعرضت لمشاكل اقتصادية واجتماعية واختناقات مالية ضخمة مع عودة عمالتها المغتربة، وانحسار صادراتها إلى منطقة الخليج، وتأثر موارد الدعم، كما تعرض قطاع السياحة فيها إلى خسائر جسيمة. وأنحسر النشاط الاقتصادي المحلي مما أدى إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بنسبة 1.3% عام 1990م، و7% عام 1991م، بواقع
(-13.0) للمجموعة الأولى التي تضم دول مجلس التعاون والعراق والجزائر وليبيا،
و(-2.5%) للمجموعة الثانية التي تضم الدول العربية غير النفطية.
جدول (1) معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للوطن العربي (متوسط النمو السنوي بالأسعار الثابتة)
السنة |
المجموعة الأولى |
المجموعة الثانية |
الوطن العربي |
80/1985 |
-4.9 |
-7.9 |
-5.5 |
1990 |
-3.3 |
2.0 |
-1.3 |
1991 |
-13.0 |
-2,5 |
-7.0 |
المصدر: صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 1992، أبو ظبي، 1992، ص 40
وقدرت خسائر دول الأوبك، وأغلبها من الدول العربية بنحو (12) مليار دولار بسعر صرف الدولار آنذاك. نتيجة تراجع الإنتاج بنسبة 16% وهبوط سعر البرميل بنحو 10 دولارات. وارتفعت معدلات البطالة بنوعيها المقنعة والصريحة. ومع اضطرار الحكومات إلى زيادة الإنفاق على الأمن الداخلي وغيره ارتفعت الأسعار وزادت معدلات التضخم بصورة ملحوظة، الأمر الذي قاد إلى انخفاض مستوى الاستهلاك لاسيما في أوساط الطبقات الفقيرة ذات الدخول المحدودة بسبب البطالة.
أما على الصعيد الخارجي، فقد ازدادت عجوزات مدفوعات معظم البلدان العربية وموازينها التجارية لأسباب عديدة، من بينها انخفاض عوائد التصدير والسياحة وما يتبعها من خدمات الطيران ومشابهها، علاوة على انخفاض التحويلات النقدية للعاملين في الخارج، وزيادة الحاجة إلى الاستيراد السريع للأسلحة ووسائل الدفاع والغذاء. يضاف إلى كل هذا الأموال الضخمة التي هُربت من العالم العربي إلى الخارج لانعدام الأمان والثقة محلياً والبحث عنهما في الخارج. وكانت أشد الأثار على الاقتصاد العراقي والكويتي، وفيما إيجاز لذلك.
1) النتائج الاقتصادية على العراق:
بالرغم من تمكن الحكومة العراقية من تخفيف العبء الاقتصادي والمالي عن العراقيين طيلة فترة الحرب، بيد أنها لم تتمكن من تخفيف هذا العبء بعد تحرير الكويت، عندما بدأت الحكومة بدفع أعباء خدمة الديون المتراكمة، والتي ناهزت (8) مليارات دولار أمريكي من أصل (80) مليار دولار، كانت قد أصبحت واجبة السداد. ويمكن أيجاز أهم العوامل المؤثرة في الاقتصاد العراقي بالآتي:
أ- المقاطعة الاقتصادية:
قادت المقاطعة الاقتصادية الدولية الواسعة إلى خفض إنتاج النفط بنسبة (86%)، حيث انخفض الإنتاج اليومي من (3.3) مليون برميل قبل غزو الكويت، إلى أقل من نصف مليون برميل. وهذا أثر كثيراً على الاقتصاد العراقي الذي بات ممزقاً، حيث تقلص الاستيراد بنسبة (90%) والصادرات بنسبة (97%)، طبقاً للشهادة المقدمة إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي. أما الحكومة العراقية، فقد قدرت الخسائر الناجمة عن المقاطعة خلال الأشهر الستة الأولى، قبل بدء العمليات بنحو (17) مليار دولار، منها (10) مليارات دولار خسائر تصدير النفط، و(5.1) مليار دولار خسائر توقف الإنتاج المحلي، مليار دولار زيادة نفقات الإنتاج، و(700) مليون دولار خسائر تأخير مشروعات التنمية، علاوة على مليار و300 مليون دولار خسائر أخرى.
ب- الخسائر العراقية:
لم تقتصر الحرب على تدمير المرافق العسكرية، بل تجاوزتها إلى البنية التحتية للعراق وقطاعاته الاقتصادية، واللافت أن تدمير المرافق العراقية، لم تكن الغاية منها التأثير في مسار النزاع، بل الضغط على العراق، بعد انتهاء الحرب، إذ لن يمكنه إصلاحها من دون المساعدات الغربية. وأشارت دراسة للأمم المتحدة، أن مجمل نفقات ما دمرته الحرب، يتخطى (232) مليار دولار.
ج- خسائر القطاع النفطي:
وصل إنتاج نفط العراق نتيجة الحرب إلى 300 ألف برميل يومياً، بينما كان ينتج نحو 3 ملايين برميل يومياً قبل الحرب. وحسب أسعار ذلك الوقت تكون خسارة العراق من فقدان إنتاجه النفطي أكثر من 15 مليار دولار، وبلغت خسائر الإيرادات النفطية وفقاً لتقديرات العراق، (22) مليار دولار سنوياً.
د- انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي:
حقق الاقتصاد العراقي نمواً تخطى (24%) عام 1980م، لكن سرعان ما تراجع محققاً انكماشاً طيلة عقد الثمانينات من القرن الماضي، بسبب الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988م)، حيث وصل إلى (-3.12%) في عام 1989م، ونتيجة للغزو العراقي للكويت تراجع النمو بشكل كارثي، حيث وصل إلى (-64.05%) عام 1991م، بعد ذلك حقق تعافيًا خلال الفترة (1995-2000م)، حيث وصل إلى( 16.9%) في عام 2000م، لكن سرعان ما حقق الاقتصاد العراقي انكماشاً بعد الغزو الأمريكي حيث وصل إلى (-33.66%) عام 2003م، وبعد ذلك ارتفع معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي من (1.67%) عام 2005م، إلى (4.7%) عام 2015م، ثم حقق انكماشاً عام 2020م، بنسبة (-10.37%)، نتيجة لتداعيات كورونا.
المصدر: من إعداد الباحث بالاعتماد على: البنك الدولي، قاعدة بيانات مؤشرات التنمية العالمية
2) الأثار على الاقتصاد الكويتي:
قدر تقرير صندوق النقد العربي خسائر الكويت بسبب الغزو العراقي بنحو (160) مليار دولار نتيجة دمار أصاب آبار النفط وخطوط الأنابيب ووسائل الاتصالات الهاتفية والنقل العام ومرافق الكهرباء، كما أن المباني الحكومية قد دمرت لحد كبير، والسجلات الرسمية والأجهزة والمعدات قد نُهبت.
وغني عن البيان، فإن الدمار كان مقصوداً، ولم يكن نتاج المعارك الحربية. إذ دُمرت خمس محطات لإنتاج الكهرباء، وأعطبت اثنتان أخريان. كما أن ثلاثاً من كل أربع محطات تحلية المياه، قد أصابها التدمير والتخريب. وباتت الطرق غير صالحة، بسبب تحركات الآليات المدرعة والدبابات عليها. كذلك، نهبت أو دُمر (50%) من مركبات ومعدات النقل والخدمات. ويمكن إيجاز الخسائر الكويتية من جراء الحرب بما يلي:
أ- خسائر القطاع النفطي:
وصل إنتاج نفط الكويت إلى 400 ألف برميل يومياً من 2.5 مليون برميل من قبل، بخسارة أكثر من مليوني برميل يومياً. وبحساب أسعار ذلك الوقت تخطت خسارة الكويت السنوية عام 1990- 1991م، أكثر من 6 مليارات دولار، كما قامت القوات العراقية، قبيل تحرير الكويت بإحراق أكثر من (700) بئراً، وقدرت كميات النفط المحترقة من تلك الآبار، ما بين (2 و6) مليون برميل يومياً، تفاوتت قيمتها بين (30و90) مليون دولار، علاوة عن الإضرار البيئية الناجمة عن تلوث الهواء، وحجب أشعة الشمس، وتكوين بحيرات نفطية، تفسد التربة، وإفساد البيئة البحرية، نتيجة تسرب كميات كبيرة من النفط في مياه البحر.
ب- خسائر قطاع الصناعات التحويلية:
تعرضت الصناعات التحويلية لأكثر من (50%) من عمليات التخريب والنهب، وتخطت خسائرها عدة مليارات من الدولارات، وهو ما أدى إلى فقدان أصحابها دخولهم المباشرة، علاوة على فقدانها أسواقها في داخل الكويت وخارجها.
ج- خسائر قطاع الإسكان والبناء والتشييد:
بلغ عدد سكان الكويت في منتصف عام 1990م، نحو (2.2) مليون نسمة، يشكل غير الكويتيون منهم نحو (73%). وتشكل هذه النسبة قوة شرائية كبيرة، وهي تمثل الفئة الرئيسة من المستأجرين للوحدات السكنية. وبعد الغزو، انخفض عدد الوافدين للكويت، وتراجع نشاط القطاع العقاري، وكذلك قطاع البناء والتشييد.
د- خسائر القطاع التجاري:
كان القطاع التجاري يشكل مصدراً رئيساً لعدد كبير من الأسر الكويتية، ونتيجة للاحتلال العراقي، تم نهب مخازن التجار من المواد والسلع والبضائع المستوردة والمُخصصة للبيع في الكويت. وانعكس تراجع القطاع التجاري، على قطاعات أخرى، كالقطاع المصرفي الذي يعتمد على اعتمادات التجار لتمويل الاستيراد.
ه- الموازنة العامة:
سجلت الموازنة العامة الكويتية بعد الحرب مباشرة خلال السنة المالية (1991-1992) عجزاً قدره (17.7) مليار دولار. لكنها تمكنت من تخفيض هذا العجز إلى (6) مليارات دولار بعد تحسين القدرة الإنتاجية للقطاع النفطي.
وغني عن البيان، فإن العجز في السنة الأولى بعد التحرير كانت نتيجة للأعمال غير الاعتيادية التي خُصص لها مبالغ، ضمن الإنفاق العام، والتي ترتبط بنفقات التحرير، وإعادة تشييد بعض المنشآت الأساسية، وبناء الجيش الكويتي، علاوة على انخفاض الإيرادات النفطية، والاستثمارات الخارجية. كما اضطرت دولة الكويت للاستدانة من أسواق المال العالمية، فاقترضت (5) مليارات دولار لمدة خمس سنوات.
وتجدر الإشارة إلى أن العوامل المشار إليها أعلاه، قد شكلت ضغوطاً على الخزينة العامة الكويتية في الأعوام الثلاثة، التي تلت الحرب. وفي ظل العوامل الاقتصادية الدولية التي كانت آنذاك متسمة بالركود وانعكاساتها على اقتصاديات النفط، فإن قدرة الكويت على تحقيق إيرادات مالية كبيرة من النفط بقيت محدودة. ولقد شهدت الأسواق النفطية في ديسمبر 1993م، تراجعاً كبيراً في أسعار النفط، مما قاد إلى التأثير في الإيرادات المالية للخزينة العامة الكويتية.
جدول (2) مؤشرات الاقتصاد الكويتي (1990-1994)
البيان |
1990* |
1991** |
1992 |
1993 |
1994 |
إنتاج النفط ( بآلاف البراميل في اليوم الواحد) |
1.937 |
460 |
1.060 |
1.690 |
1.870 |
الصادرات النفطية( بآلاف البراميل في اليوم الواحد) |
1.850 |
370 |
1.035 |
1.794 |
1.905 |
متوسط سعر تصدير النفط ( للبرميل الواحد) |
14.55 |
- |
- |
14.07 |
13.48 |
العائد من تصدير النفط ( مليار دولار ) |
6.3 |
0.86 |
6.22 |
10.00 |
11.18 |
الناتج المحلي الإجمالي ( مليار دولار) |
18.16 |
10.81 |
18.82 |
23.65 |
24.24 |
نصيب الفرد من الدخل ( دولار) |
8.527 |
5.222 |
13.404 |
16.538 |
13.245 |
إجمالي الإيرادات العامة ( مليار دولار) |
7.634 |
2.234 |
8.055 |
9.199 |
8.860 |
إجمالي النفقات العامة(مليار دولار) |
12.144 |
21.128 |
14.255 |
14.980 |
14.794 |
قيمة الفائض أو العجز بالموازنة ( مليار دولار) |
-4.51 |
-18.89 |
-6.20 |
-5.78 |
-5.93 |
ملاحظات: * من يناير 1990 حتى يوليو 1990 ** من سبتمبر 1991 حتى ديسمبر 1990
المصدر: مجلة الإيكونيميست، وحدة الاستخبارات الاقتصادية Unit Intelligence Economist
ثانياً- الخيارات الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي:
أثرت عملية غزو العراق للكويت عام 1991م، إيجاباً على مسيرة التكامل الاقتصادي الخليجي الذي هو عنصر جوهري لتماسك مجلس التعاون وضرورياً من أجل الاستقرار السياسي والرفاه في الخليج، حيث ارتفعت وتيرة التعاون الاقتصادي والتجاري بين تلك الدول، انطلاقاً من إيمان قادة دول الخليج بأهمية التكامل والتعاون لمواجهة التحديات التي تواجه الدول الخليجية بعد حرب الخليج الثانية، وفي ظل اقتصاد عالمي يتجه صوب التكتلات والتجمعات الإقليمية، فعلى سبيل المثال ارتفعت نسبة التجارة البينية الخليجية من (5.9%) بعد غزو العراق إلى قرابة (9.1%) عام 2019م، وارتفعت القيمة من (8.6) مليار دولار عام 1991 إلى (91.3) مليار دولار عام 2019م، كما ارتفعت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين دول المجلس من (3.6) مليار دولار خلال الفترة (1990-2003م) إلى حوالي (64) مليار دولار عام 2018م.
إن تعزيز التكامل الاقتصادي الخليجي- في مجالات الأمن الغذائي والدوائي، وتوظيف الاقتصاد المعرفي، والتكامل اللوجيستي- المرتكز على الرؤى والخطط التنموية الوطنية كخيار لدول مجلس التعاون للعشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين يتطلب وجود قوانين وأنظمة مالية منسقة وقطاع مالي قوي تحكمه قواعد عادلة ومحددة بصورة جلية، وتوفر أنظمة مناسبة للنقل الجماعي عبر الحدود، والإسراع في الربط السككي بين دول مجلس التعاون، علاوة على تهيئة متطلبات الاقتصاد الرقمي الذي يشكل المحور الرئيسي للثورة الصناعية الرابعة، وتعزيز التعامل مع الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتوجه نحو الرقمنة، وتعزيز الاستثمارات الخليجية البينية، وتوطين رأس المال الخليجي في مشاريع التكامل وفق أسس تجارية واقتصادية طبقاً لممارسات الحوكمة الفضلى. وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع التجمعات الاقتصادية المماثلة. بالإضافة إلى توفير بيئة استثمارية مريحة قادرة لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة وفتح المجال أمام القطاع الخاص للتعامل مع المستثمرين الأجانب".
وتجدر الإشارة بأن الظروف التي مرت بها دول مجلس التعاون لاسيما مع تزايد دور التجمعات الإقليمية في التأثير على العلاقات الاقتصادية الدولية والسياسية، أثبتت أن التكامل الاقتصادي الخليجي يُعد بحد ذاته مطلباً تنموياً، يتم في إطاره تنسيق جهود التنمية، ويحقق في ذات الوقت كياناً اقتصادياً خليجياً متماسكاً يستطيع مجابهة التطورات الخارجية، بصلابة أكبر.
ثالثاً- هيكل وحجم الاقتصاد العراقي في المدى المنظور والبعيد، وكيفية مواجهة المعضلة الاقتصادية:
لم ينه الغزو الأمريكي المعاناة والتحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي الذي باتت اقتصاداً ممزقاً يعاني من اختلالات هيكلية، وأصبح مثالاً لاقتصاد غنيمة بامتياز، حيث تتقاسم إيراداته الريعية النفطية وإيرادات المنافذ الحدودية الأحزاب والميليشيات التي باتت تمتلك مكاتب اقتصادية داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية، حيث تخطى حجم الأموال التي تم نهبها وتحويلها للخارج أكثر من (450) مليار دولار كانت كفيلة بإعادة بناء اقتصاد حديث قادر على تخطي المعضلات الاقتصادية التي ورثها عن النظام السابق. فالعراق يصنف اليوم ضمن أسوء (12) دولة من حيث تفشي الفساد بالعالم، حيث بات الفساد يشكل منظومة مستدامة متغلغلة في مفاصل الدولة، وإننا نرى بأنه لا يوجد اليوم اقتصاد عراقي حقيقي، بل توجد بؤر للموارد الاقتصادية تسيطر عليها أحزاب وميليشيات لا يهمها سوى تراكم الثروات على حساب الشعب الذي يعيش منه (12) مليون شخص دون خط الفقر الوطني لعام 2020 يشكلون أكثر من 31% من سكانه.
المصدر: وزارة التخطيط- اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة، التقرير الطوعي الوطني الثاني للمتحقق من أهداف التنمية المستدامة 2030، بغداد، 2021، ص37
وتجدر الإشارة، إلى أن الاقتصاد العراقي يواجه اليوم خللاً هيكلياً عززته السياسات الاقتصادية الخاطئة للإدارة السياسية التي تولت حكم العراق بعد عام 2003م، حيث يهمين قطاع النفط على بنية الناتج المحلي بنسبة (57%)، أما القطاعات الإنتاجية الزراعة والصناعات التحويلية، فلم تمثل سوى (4.77%) و(1.67%) على التوالي في عام 2020.
Source:https://data.albankaldawli.org/indicator/NY.GDP.MKTP.CD?locations=IQ
سيواجه الاقتصاد العراقي نتيجة لسوء الإدارة الاقتصادية تحديات كبيرة لتحقيق معدلات نمو حقيقية في القطاعات غير النفطية بسبب استمرار العجز بالموازنة العامة نتيجة للتقديرات المبالغ فيها فيما يتعلق بالنفقات الجارية على حساب الإنفاق الاستثماري المهم في تحقيق النمو الاقتصادي الذي يعزز من الاستدامة المالية التي شهدت تدهوراً كبيراً والتي تتجسد بالعجز المستدام للموازنة طيلة الفترة (2010-2021)
Source: International Monetary Fund, World Economic Outlook, April 2021
وساهم اعتماد الحكومة العراقية على القروض الخارجية لتمويل العجز في الموازنة العامة في زيادة حجم المديونية الخارجية والتي ناهزت (48) مليار دولار عام 2020م، وباتت تُشكل تحديًا للاقتصاد العراقي للخروج من دائرة الاقتصاد الريعي.
Source:http://fred.stlouisfed.org/series/IRQDGDPGDPPT
وبالرغم من امتلاك العراق لثروات هيدروكربونية هائلة من النفط والغاز، حيث تقدر احتياطاته من النفط الخام (148.8) مليار برميل تشكل (8.8%) من الاحتياطي العالمي، كما جاء العراق بالمرتبة (11)عالمياً في احتياطي الغاز وبمقدار (132.22) ترليون قدم مكعب، غير أن هذه الموارد لم تستغل لبناء اقتصاد ديناميكي قادر على خلق فرص العمل من خلال التنوع في الأنشطة الاقتصادية.
ولمواجهة المعضلة الاقتصادية في العراق، قامت الحكومة بوضع الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي التي تسعى لتحقيق هدفين استراتيجيين، الأول هو الشروع في برنامج إصلاح فوري لمعالجة العجز في الموازنة لتوفير المساحتين الزمنية والمالية لتطبيق خطط الاصلاح على الأمد المتوسط. بينما يسعى الهدف الثاني إلى وضع الاقتصاد والموازنة على مسار مستدام يمكن للعراق بعده أن يقرر ويختار الاتجاه الاقتصادي بشكل نهائي. وبهذا، تحتاج الإصلاحات الفورية والإصلاحات على المدى المتوسط بين 3 إلى 5 أعوام لتطبيقها. وحددت الورقة محاور الإصلاح بالآتي:
المحور الأول: تحقيق الاستقرار المالي المستدام ومنح فرصة لتحقيق الإصلاحات الهيكلية الأخرى.
المحور الثاني: تحقيق إصلاحات اقتصادية استراتيجية وتوفير فرص عمل مستدامة.
المحور الثالث: تحسين البنى التحتية الأساسية.
المحور الرابع: توفير الخدمات الأساسية وحماية الشرائح الهشة أثناء عملية الإصلاح وبعدها.
المحور الخامس: تطوير الحوكمة والنظم القانونية لتمكين المؤسسات والأفراد من تطبيق الإصلاحات.
إن نجاح خارطة الطريق لمواجهة المعضلات التي تواجه الاقتصاد العراقي، تتطلب وجود إدارة اقتصادية كفؤة بعيدة عن هيمنة القوى السياسية والميليشيات، تتولى مواجهة الفساد وسوء الإدارة والشروع في خطة للتنويع الاقتصادي تجعل من الاقتصاد العراقي اقتصاداً ديناميكياً قادرًا على توفير فرص عمل لائقة لجميع العراقيين، وتقلل من الاعتماد شبه الكلي على القطاع النفطي في تمويل الموازنة العامة.