منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021م، أعطت حركة طالبان إشارات متناقضة، بشأن مقدار التحول الذي طرأ على فكرها وأيديولوجيتها وخطها السياسي، وهو ما دعا الآراء بشأنها إلى الانقسام بشكل كبير.
في المضمون، تبدو الحركة محافظة على موقفها؛ ولم يدفعها ثقل السنوات العشرين الماضية إلى التراجع عن مبادئها، ما برز من نضالها الطويل، وتصميمها على العودة للحكم، ودخولها في مفاوضات ندية مع الإدارات الأمريكية لعامين، حتى تمكنت من إجلاء الاحتلال لآخر جندي أمريكي والعودة إلى الحكم مجددا. لكن وفق التصريحات الصادرة عن قادتها في الأيام الأولى حرصت الحركة على تأكيد الانطباع بأنها قد تغيرت وأُصقلت سياسيا.
ولا يزال قدر من الانطباع الأول بشأن طالبان مستقى من ممارساتها خلال فترة سيطرتها على الحكم بين 1996 و 2001م، وهي الممارسات التي اتسمت بالعنف والإقصاء ضد الخصوم، والتطبيق الحرفي للحدود والشريعة، وإنكار حقوق المرأة؛ وتطبيق عقوبات الرجم والجلد والشنق، وحظر الصور والموسيقى والرياضة والتلفزيون، والتعامل بقسوة مع مختلفي العقيدة والمذهب، وفي عام 2001م، أقدمت على تدمير تماثيل بوذا، وفقاً لما اعتبروه تفسيرا للشريعة.
فهل ما زالت حركة طالبان عند المبادئ نفسها التي كانت عليها بين 1996- 2001م؟، وأي من مبادئها وأسسها الأيديولوجية قد تغير؟ وما القوى الدافعة للتغيير، وتلك الدافعة لعدم التغيير؟ وما علاقتها بطالبان باكستان وداعش؟ وتأثير ذلك عليها وعلى فكرها؟ ثم هل أصبحت أكثر مرونة في التعامل مع النساء؟
المواقف بشأن التحولات الأيديولوجية طالبان:
تمثل الآراء التي يتم تداولها حاليا بشأن التحولات الفكرية والأيديولوجية لطالبان محاولة مبكرة لاستكشاف التغيرات التي طرأت على فكر الحركة، والتي تمكن من توقع قدر من سلوكها المستقبلي، لأنه يصعب القياس على فترة حكمها السابقة أو الفترة الانتقالية الراهنة، كمؤشر على التوجهات الأساسية للحركة مستقبلا، ولذلك فإن قدرا من البحث يعتمد على الاستشراف والتقدير في ضوء المعلومات الأولية، أكثر مما يؤكد نتائج قاطعة بشأن المستقبل.
وفق ذلك، يمكن الإشارة إلى ثلاثة اتجاهات بشأن تقدير واقع التغير في فكر الحركة ومستقبل تحولاتها:
الاتجاه الأول: طالبان تغيرت.. وسوف تتغير:
فمن خلال رصد تصريحات قادة الحركة وسلوكهم في الأيام التالية على الانسحاب الأمريكي، يتضح أن هناك رغبة في تقديم صورة جديدة عن الحركة، فلم يقدم أي من قادة الحركة على إطلاق تصريحات متشددة في الإعلام، وإنما جاءت أغلب التصريحات معتدلة وتعطي الانطباع بالانفتاح والتغيير والتواضع وتعزيز نهج البراجماتية. ولقد غيرت 20 سنة من الانخراط في المعارك ضد الاحتلال الأمريكي، الكثير من الوضع الداخلي للحركة، وجعلت عملية صنع القرار والمشاورات داخلها أكثر تعقيدا من قبل، ويشير المتحدث باسم الحركة محمد نعيم إلى أن "هناك تغيرات كبيرة ليس فقط في الإمارة (الإسلامية)، ولكن في جميع أنحاء العالم، فقبل 25 سنة كانت الإمارة جديدة على الحكم، والآن لديها تجارب مفيدة في التعامل والتعايش".
ومن خلال استطلاع عشرات الفيديوهات المنشورة على اليوتيوب، والتي أعدها يوتيوبرز أفغان قبيل الانسحاب الأمريكي واثناءه وبعده، يتضح أن هناك درجة كبيرة من إتاحة حرية التعبير، برزت في حديث الشارع الأفغاني بحرية عن مخاوفهم من حكم الحركة في ظل انتشار قوات أمن الحركة، حيث عبر كثير من الشباب الأفغاني وأصحاب المحلات عن عدم ترحيبهم بحكم طالبان، وركز غالبية من تحدثوا على تدني الوضع الاقتصادي، في مقابل تحسن الوضع الأمني. وقد أتاح مسؤولو الحركة بأنفسهم لبعض اليوتيوبرز حربة التسجيل مع الناس.
وبالنسبة للقادة السياسيين للحركة ومسؤوليها، فإن الاعتبارات الجيلية لها تأثيرها؛ فأعضاء الحركة ممن كانوا في الأربعين في تسعينيات القرن الماضي أصبحوا الآن في الستينيات أو السبعينيات، ومن كانوا في الثلاثينيات أصبحوا في الخمسينيات أو الستينيات، وهكذا..، ما يعني أن أغلب كوادر الحركة انتقلوا نقلة بيولوجية عبر الزمن.
وعلى جانب آخر، فإن القادة الميدانيين، الذين أتيح الحوار معهم في الأقاليم الأفغانية المختلفةقاليزم، لم يعطوا الانطباع بأي شيء يدعو إلى القلق أو الخوف، بل أعطوا الانطباع بالانفتاح والرغبة في خدمة المواطنين، وكرر البعض منهم بشكل مستمر عبارة (المجاهدون في خدمتكم). ولكن أغلبهم يرفق حديثه بكلمات قلائل هي أن كل شيء "في دائرة الشريعة" أو "حسب ضوابط الشريعة الإسلامية"، مع التأكيد على أن التغير (نحو الالتزام بالشريعة) سيأتي من نفسه وبشكل تدريجي من الناس، وهذه العبارات الغامضة هي ما تثير القلق، وتذكر بطالبان الماضي.
ومما يلفت الانتباه أنه من فرط ما أظهرته حركة طالبان من انفتاح في أيامها الأولى، طالب النائب السابق لرئيس البرلمان الإيراني علي مطهري، حكومة إبراهيم رئيسي بالسير على درب حركة طالبان الأفغانية في "الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية، مؤكدا إن طالبان أكثر حكمة من المسؤولين الإيرانيين، بسبب التزامها بالاتفاقيات الإقليمية والدولية ورغبتها في إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة"
وقد يكون إعطاء الحركة هذا الانطباع بالانفتاح مقصودا أو طبيعيا، في الأيام الأولى، ولا يعكس أيا من نواياها بشأن الوضع المستقبلي، وهو الذي لن يخضع فقط لآراء قادتها أو زعمائها أو مرشدها الروحي، وإنما للتجاذبات والاستقطابات داخلها، وهي الاستقطابات المرجح أن تزداد بعد تولي السلطة.
ولكن على خلاف ما تقدم، أشارت دراسة مهمة صدرت عام 2017م، إلى تغيرات خطيرة شهدتها طالبان؛ وأنه بينما كانت الحركة تجسد في السابق إسلامًا "تقليديًا"، وسعت إلى التعبير عن مفهوم معين للإسلام كامن في قرى البشتون الجنوبية، فقد أصبحت خلال مرحلة التمرد/ أو النضال ضد الاحتلال، أقرب إلى شكل الإسلام السياسي الذي اعتنقه العالم العربي. وبينما تأسست أيديولوجية طالبان في السابق على نظرية المعرفة الدينية الخاصة، التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعض تقاليد الفضيلة البشتونية الريفية، فإنها أصبحت تشبه إلى حد كبير النوع "الحديث" من التفكير الإسلاموي الموجود في تنظيمات تتراوح بين الإخوان المسلمين والقاعدة.
ويعزز ذلك قول البعض أنه بالنسبة لطالبان فإن "السلام لا يعني إنهاء القتال، بل يعني إنهاء الاحتلال الأمريكي"، وأنه بعد رحيل الولايات المتحدة، ستعمل طالبان على تصفية حساباتها وإعادة تأسيس الإمارة الإسلامية، ولكن في مقابل ذلك يؤكد البعض أن طالبان تغيرت وأن ما لحق بأيديولوجيتها خلال فترة النضال ضد الاحتلال الأمريكي وانخراطها في الجهاد العالمي سوف تسعى لتغييره، ذلك أن الجهاد العالمي كأس مسموم، فهو يوفر الخطاب الشرعي للدفاع عن النفس ضد "العدوان الصليبي"، لكنه يجلب معه تكتيكات مثل التفجيرات الانتحارية وقطع الرؤوس التي تنفر الشعب وتنشر الانقسام داخل الصفوف، وذلك مسار لن تستطيع طالبان السير فيه.
الاتجاه الثاني: الحركة لم ولن تتغير:
يشير هذا الاتجاه إلى أن مقاتلي الحركة لا يزالون يتمسكون بدوافعهم الدينية الرئيسية، وسوف يحاولون تجديد الحكم الاستبدادي الشمولي. وذلك ما عبرت عنه أيضا المستشارة السابقة للرئيس أوباما لوري واتكينز، التي أكدت أن الحركة لن تتغير وأنها ستطبق ما طبقته في الماضي، مشيرة إلى أن التعبير الأمريكي الذي يقول أن "النمر لا يتغير" ينطبق على طالبان.
وضمن وجهة النظر هذه يؤكد البعض أن كثيرا من قواعد حكم طالبان ومفهومها للشريعة لن يتغير، على نحو ما عبر وزير الثقافة الإيراني، الذي قال إن "طالبان" ليست حزبا سياسيا بل هي تيار فكري"، وأن التيارات الفكرية لا تتغير على المدى القصير، وأنها يمكن أن تغير أساليبها لكنها ثابتة على أصولها. وهنا يبدو أن الوزير الإيراني يريد أن يبعث رسالة تتعلق بإيران، أكثر مما يريد تأكيد أمر ما بشأن طالبان.
وفي الواقع الميداني، أفادت تقارير بأن الحركة أخطرت النساء بوجوب عدم مغادرة المنزل إلا في حال رافقهن الرجال، وأنه لم يعد بإمكانهن العمل أو الدراسة أو اختيار الملابس التي يرغبن في ارتدائها بحرية. ويشير البعض إلى إغلاق مدارس ومعاهد تعليم الفنون، وهو الوضع الذي واجهه الطلاب والموظفون في المعهد الوطني الأفغاني للموسيقىANIM ، بعد استيلاء حركة طالبان على البلاد. وقد يكون جزءا من هذه التقارير تفشى نتاج حالة الفزع التي انتشرت في المجتمع الأفغاني في عموم طوائفه، أو كهجوم استباقي على الحركة من استفادوا وتربحوا في ظل الاحتلال، فهؤلاء تحديدا هم الأكثر تضررا من حكم الحركة.
ولقد جاء التشكيل الحكومي، ليعزز الانطباعات بعدم تغير طالبان؛ حيث جاءت الحكومة متشددة؛ فضمت رئيس وزراء ووزير داخلية مطلوبان على قائمة الإرهاب، وتشكلت في المجمل من أعضاء الحركة، ولم تتضمن أي عرق غير بشتوني، باستثناء وزير واحد يمثل العرقية الطاجيكية التي تمثل 25% من سكان أفغانستان، ولم تشتمل على أي ممثلين عن طائفة الهزارة الشيعية الذين يمثلون 15% من السكان، فضلا عن عدم تمثيل طوائف عديدة أخرى مهمة مثل الأوزبك، كما همش التشكيل الحكومي تمثيل المرأة التي تمثل أكثر من 50% من السكان.
الاتجاه الثالث: تفاوت التغيير بين الخارج والداخل:
هذا الاتجاه، ربما يكون هو الأكثر قربا إلى الواقع والتحقق؛ فشرعية طالبان تستند إلى مجتمع تقليدي والتماسك الداخلي للحركة يعتمد على احتفاظها بمبادئها وشرعيتها كحركة جهادية ودينية، تحتاج لإبراز وتأكيد اختلافها عن الحكومات المدنية العلمانية، وذلك سيحد من قدرتها على التغيير في الجوانب المرتبطة بتفسيراتها للشريعة، وفي الجوانب التي تعتقد بأنها ضوابط دينية، لاعتبارات تتعلق بالشرعية، ولاعتبارات تتعلق بالحاجة للحفاظ على التماسك التنظيمي.
هنا يشير البعض إلى أن التغيير الأبرز في طالبان هو في الموقف من وسائل الإعلام؛ فبينما حظرت الحركة في حقبتها الأولى 96- 2001م، مشاهدة التلفزيون، واحتكرت استخدام الهواتف، فإن أعضاءها اليوم يستخدمون كافة أنواع التكنولوجيا، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما نظرت طالبان الأولى إلى المدارس على أنها نقاط اختراق للقيم الغربية، وأصروا على تعليم الأولاد والبنات بشكل منفصل، فقد أصبح نهجهم في السنوات الأخيرة أقل تقييدًا، كما يتغير نهج طالبان تجاه حقوق المرأة، وإن كان ببطء شديد. وفي مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة في قطر، أعلنوا أن الزي الإسلامي لا يشترط على النساء إخفاء وجوههن بالبرقع، وأن الحجاب كافٍ.. بالمقابل فإن طالبان لم تتغير كثيرًا في شؤونها الداخلية، حيث ظلت كمنظمة مسلحة ذات قيادة استبدادية، ولا تفسح المجال لفتح النقاش والتداول الديمقراطي بين مقاتليها.
في ضوء ذلك، يرجح أن تظل تصريحات الحركة وأفكارها لفترة تتناوب بين التشدد والانفتاح، بهدف الحفاظ على هيكلها الداخلي أكثر من أي شيء آخر، وسوف يستمر ذلك إلى أن يتمكن أحد أجنحة الحركة من السيطرة، أو تتشكل توازنات تهمش مجموعات وتفرض الفكر المتغلب. وبالأساس سوف تتحصن الحركة في مواقفها من المرأة والفن والموسيقى والشريعة، بربطها بالأساس بالبعد الثقافي والخصوصية الثقافية لأفغانستان. وذلك ما يتضح من إعلان ممثل المكتب السياسي لطالبان في الدوحة(سهيل شاهين)، أن الحركة ترى أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تحاول تغيير التقاليد الثقافية الأفغانية، مضيفا أن النساء في أفغانستان في ظل الحكومة الجديدة لن تشعرن بالحرمان من حقوقهن. و "لن تواجهن أي مشاكل في التعليم والعمل"، لكنه أضاف في الوقت نفسه أن المرأة ستضطر لارتداء الحجاب، واصفا دعوات الدول الغربية للتخلي عن ذلك بأنها محاولة لـ "تغيير الثقافة" الأفغانية.
وهذا التصريح يشير إلى الهوامش التي تتحرك فيها الحركة الآن، والتعامل بالأوراق المختلفة في مواجهة الضغوط عليها من البيئتين الداخلية والخارجية. ويعني أن الأمور التي تعتقد طالبان بأنها أمور "شريعة قطعية"، لن تستطيع تغييرها، على الأقل في الموقف السياسي والتشريع، لكنه قد يجري التساهل لاحقا في تنفيذها على الأرض. أما المواقف التي لا يبدو للشريعة فتاوى فقهية محددة بشأنها، مثل الحقوق المدنية والسياسية، فسيكون لطالبان قدرة أعلى على التحول فيها عن مواقفها السابقة.
محددات التغيير في طالبان
سوف تتحدد دوافع التغيير في فكر الحركة وخطها السياسي والديني، وفقا لاعتبارات ثلاثة أساسية، على النحو التالي:
- تأثير 20 سنة من الابتعاد عن السلطة والصراع مع الاحتلال الأمريكي؛ فهذه التجربة بحد ذاتها أفادت الحركة وفتحت أعينها على الواقع الدولي، باحتكاكها الخارجي واضطرارها للتعامل مع دول أخرى وفتح قنوات دبلوماسية، وهنا يمكن التفرقة بين وجهتي نظر داخل الحركة، ستبدوان منقسمتين بشكل مستمر: الأولى يطرحها الهيكل الجهادي العسكري الذي قاتل وحمل السلاح (والذي ينحو إلى التشدد والمحافظة)، والثاني الجهاز الدبلوماسي الذي تفاوض مع الأمريكان. وسوف تظل الحركة لفترة مقبلة تعاني من الصراع بين وجهتي النظر.
ويبدو أن الصراع الداخلي في الحركة بدأ يتطور فعليا، وهناك صراع بين قادة شبكة حقاني (الموالية لباكستان)، والملا محمد يعقوب (نجل مؤسس الحركة الراحل، الملا عمر). الأول يعتقد أن القادة المسؤولين عن العمليات القتالية حتى الوقت الراهن يجب أن يحكموا أفغانستان، وليس أولئك الذين مارسوا الدبلوماسية، بينما يتبنى المؤسس المشارك للحركة، الملا عبد الغني برادار، الموقف المعاكس. وفي سياق ذلك الصراع، صرح الملا يعقوب صراحة بأن أولئك الذين عاشوا في رفاهية بالدوحة لا يمكنهم إملاء الشروط على أولئك الذين قاتلوا ضد المحتلين بقيادة الولايات المتحدة".
وعلى الأرجح أن يؤدي تسلمهم الحكم إلى إبراز الجانب الدنيوي في حياة طالبان، خاصة بعد مرحلة طويلة من الحرمان، وتلهف أبناء الحركة على الانخراط في الحكم والحياة، حيث يرجح أن يؤدي ذلك إلى تراجع فترة النقاء الجهادي، وبروز الصراعات الحقيقية. ولقد ساد الحقبة الأولى لحكم طالبان في أفغانستان 96- 2001م، الصراع مع الجماعات الجهادية الأخرى، ولم تكن طالبان تمثل نظام حكم أكثر من كونها حركة جهادية محلية، أما الآن فإنها تتولى زمام الحكم والمسؤولية، وهو ما يتعين عليها إبراز طريقة إدارتها للدولة وإخراج أفكارها للواقع الفعلي، والاحتكاك بمطالب المجتمع الحقيقية. ومن ثم تتحول من حركة جهاد وحركة دينية معنية بتنظيمها فقط، إلى إدارة الاقتصاد والأمن والمالية والمعلوماتية والاتصالات، لشعب بأكمله ومناطق مترامية الأطراف. وإذا لم تستطع الحركة النجاح في هذا الاختبار، فإنها ستكون عرضة لمزيد من الانقسام الداخلي.
- التحول المجتمعي الذي شهدته أفغانستان: فإلى جانب إقدام الكثير من طوائف المجتمع على الهجرة واللجوء على أثر الانسحاب الأمريكي (ليس فقط المترجمين والعملاء والمقاولين والإداريين، وإنما طوائف اجتماعية فرت بوازع الخوف من المستقبل تحت حكم الحركة)، فإن نسبة كبيرة وربما الأكبر من المجتمع الحقيقي الذي بقي في أفغانستان، تتضمن طوائف اجتماعية غير راضية عن حكم الحركة، ولم يكن كثير منهم راضيا عن الاحتلال، لكن أغلبهم كان يستفيد من الوضع الاقتصادي أثناء الاحتلال، والذي مكنهم من العيش وتحقيق المصالح. ولقد نشأ مع الاحتلال شرائح وفئات اقتصادية جديدة وأنشطة أعمال في مختلف المدن الأفغانية. وخلال العشرين عاما الماضية، جرى استيراد كل ما هو جديد وحديث ووافد من أجهزة وتقنيات وملابس. والآن تقتني المحلات والسوبر ماركات في أفغانستان كل شيء كغيرها من الدول. وهذه الفئات والأنشطة التي ازدهرت في ظل الاحتلال، هي التي يمكنها أن تجبر طالبان على التغيير.
هكذا خرج الاحتلال الأمريكي، وأبقى "كانتونات" الثقافة الغربية ونمط الحياة والقيم، وهو ما يجعل كثيرا من الشباب الأفغاني الآن يطرح آراءه بشأن تطورات المستقبل في وطنه بنفس ما يطرحه أي شاب في العالم، ويعني ذلك أن الاحتلال ضرب بالأساس عزلة أفغانستان، وأطلع الأفغاني البسيط المبتعد عن الحياة العصرية على أنماط حياة يصعب أن يجري تدجينها أو كبتها مرة ثانية. وإذا كان بإمكان طالبان في السابق أن تطبق الشريعة والحدود على النساء والمعارضين (خلف أعين الكاميرات)، فإن أدوات التواصل الاجتماعي الموجودة في أفغانستان الآن تجعل ذلك أمرا من الماضي.
- الاقتصاد والحكم ومتطلبات إدارة الدولة: يمكن للوضع الدولي أن يشجع طالبان على التغيير، ويمكنه أن يدفعها إلى العودة إلى الانغلاق والعنف. فتجربة التفاوض التي خاضتها الحركة مع الولايات المتحدة لمدة عامين، أكدت أنها طورت قدراتها الدبلوماسية والفنية والسياسية، وأنها وقفت الند للند في مفاوضات جادة خرجت منها بكل ما أرادت تحقيقه، فضلا عن ذلك احترمت اتفاقياتها، وأكملت تطبيقها حتى تحقيق كامل بنود الانسحاب. كما أن تعامل الحركة مع الخارج (روسيا والصين وتركيا وقطر والإمارات)، يشير إلى أنها أصبحت أكثر قدرة على التواصل الدبلوماسي، وأنها تطمح إلى علاقات طبيعية مع العالم والجوار. وربما يساعد على ذلك أن بعض الدول أبرقت برسائل إيجابية للحركة، وبعضها تعاون معها قبل الانسحاب وبعده، وساعدها في إكمال السيطرة على بعض المناطق، التي كانت لا تزال خارجة عن سيطرتها، وهنا يشار إلى مساعدة باكستان لطالبان في السيطرة على وادي بانشي. لذلك سوف يتحدد قدر من اتجاه الحركة إلى التشدد أو الانفتاح وفق نوعية التعامل الدولي معها في الفترة المقبلة.