الثقافة والفنون بمختلف أنواعها، تمثل الجزء الأهم من مكونات القوة الناعمة العربية التي استطاعت في مراحل زمنية كثيرة أن تكون موازية للقوة الخشنة ومتفاعلة معها، أو ربما متقدمة عليها، ففي تجارب سابقة لعبت القوة الناعمة دورًا مهمًا في خدمة القضايا العربية الكبرى ،خاصة عندما كانت مقومات القوة الخشنة العربية ضعيفة نسبيًا ، و كانت مواطن القوة الناعمة أكثر حضورًا وتنوعًا وتأثيرًا في المحيط الجغرافي العربي بل تجاوزته إلى العالمية، وكانت مساندة لقضايا الأمة ومنها نيل الاستقلال وانقشاع الاستعمار الغربي الذي جسم على صدر الأمة طويلًا.
وتجسدت القوة الناعمة العربية في الكتب والروايات، والصحف والمجلات وكانت الإذاعة رائدة في نقل صوت الأمة إلى الخارج بما حملت من غناء وبرامج وطنية هادفة وبرامج موجهة بلغات أجنبية إلى المجتمعات المستهدفة ثم جاء التليفزيون منذ بداية الستينيات، إضافة إلى الجامعات والمدارس والمكتبات و السينما، والمسرح، والمؤتمرات، وغيرها، وقد حققت هذه الأدوات نجاحات قوية، واستطاعت حشد الجماهير العربية خلف قضاياها العادلة، وجذبت قوى عالمية للوقف معنا، ولعل هذه النجاحات التي تحققت في النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن العشرين كانت لها مقومات النجاح رغم الأمية والفقر ومحدودية انتشار التعليم ، أو حتى صعوبة امتلاك الراديو لدى غالبية أبناء الشعوب العربية، وقلة شاشات العرض السينمائي أو المسارح، إلا أنه كان وقتئذ للعرب خطابًا إعلاميًا ومنتجًا ثقافيًا متقاربًا مالم يكن موحدًا، رغم تباين الأيدولوجيات التي اجتاحت المنطقة في تلك الفترة إلا أن الاختلافات العربية كانت أكثر انضباطًا ولم تتسلل إلى الشعوب.
ولكن رغم زيادة أدوات القوة الناعمة وتنوعها وسهولة وصولها للجميع وعبورها للحدود في الوقت الحاضر إلا أن هذه القوة حاليًا أصبحت سببًا في الفرقة والانكفاء أكثر من التقارب حيث طغت السياسة والخلافات على الخطاب الإعلامي والثقافي العربي ولاسيما بعد أحداث ما يسمى بثورات الربيع العربي، حيث ارتفعت وتيرة التناحر العربي، وزادة حالات الاستقطاب التي أوجدتها جماعات الإسلام السياسي والدول الخارجية التي تقف خلفها، لشق الصفوف العربية وحتى داخل الدولة الواحدة بدخول دول إقليمية بثقلها في المضمار الإعلامي الموجه إلى الدول العربية سواء من على أراضيها أو من على الأراضي العربية نفسها وهذا ما فعلته إيران وتركيا للتأثير على الشارع العربي واختطافه تحت شعارات دينية وهي في الواقع شعارات قومية فارسية وتركية ، لتنفيذ مشاريع تقسيم الدول العربية بين المشروعين الفارسي والتركي، وهذا ما تؤكده دراسة بين يدي توضح مدى تغلغل وسائل إعلام الدولتين في الداخل العربي والتي تم استخدامها في إطار التحضير لثورات الربيع العربي أو لزيادة إشعال هذه الأحداث المؤلمة، وللقارئ أن يعلم المشروعات الإعلامية التي افتتحتها تركيا داخل الدول العربية إضافة إلى تلك التي تعمل داخل تركيا، وأخرى استهدفت إفريقيا و آسيا الوسطى، وكانت ذات تأثير كبير جدًا ، ففي الدول العربية وحدها افتتحت تركيا ( وكالة الأناضول ـ القسم العربي، الموقع الإخباري لقناة تي آر تي العربية، ديلي صباح العربية، الموقع العربي لصحيفة يني شفق، ترك برس، أخبار تركيا، نيو تورك بوست، تركيا الآن 2، وتركيا بالعربي) وعند الحديث عن نموذج واحد فقط من هذه النماذج الإعلامية التركية الموجهة إلى الداخل العربي نجد أنه عند إغلاق مقر وكالة الأناضول بالقاهرة كان يعمل به 80 صحفيًا جميعهم من جماعة الإخوان الموالية لتركيا و50 مراسلًا في العالم العربي، ولديها موقع على الفيس بوك يتابعه 5.5 مليون متابع، إضافة إلى 962 ألف متابع على تويتر،
إضافة إلى أن دراسات أخرى موثقة تكشف مدى اختراق تركيا وإيران لمراكز أبحاث ومنظمات مجتمع مدني في أوروبا وأمريكا بقصد تمرير وجهة نظر الدولتين إلى دوائر صناعة القرار الغربية، ومن ثم التأثير على القرار الغربي والأمريكي لصالح الدولتين، وكل ذلك يأتي خصمًا من الرصيد العربي في الغرب، بل لتشويه الصورة العربية وإلصاق تهم الإرهاب والتطرف بالشخصية العربية.
وهذا التحدي يتطلب إعادة النظر في استخدام القوة الناعمة العربية على أسس جديدة تبدأ بنبذ الخلافات، وإبعاد تقلبات السياسة عن الخطاب الإعلامي والمنتج الثقافي العربي، ويكون التعاون في إطار مؤسسات عربية مشتركة مستقلة تعمل لخدمة المشروع العربي وحمايته من الاختراق وتحصين الشباب من الانزلاق أو التغييب والتسطيح تحت شعارات براقة خادعة تدغدغ المشاعر لسرقة العقول العربية، ويكون ذلك تحت إشراف مؤسسات عربية مستقلة خارج تقلبات السياسة.