array(1) { [0]=> object(stdClass)#12963 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 170

مقارنة المنجز النقدي لسعد البازعي: الاحتكاك بالآخر لا الانغماس والذوبان في شخصيته

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2022

تُستعملُ مفردةُ " الذات " في هذه القراءة بدلالة تتعدى الحدود الفردية، إلى التعبير عن الكيان الجمعي الملتحم بروابط العرق واللغة والأرض والتاريخ والحضارة. ومن ثم تُستعمل للدلالة على كليّة الكيان العربي، أو الذات المجتمعية العربية. أما مفردة " الآخر " فهي تُشير – بالمقابل – إلى الكيان المغاير لهذه الذات، والمختلف عنها في جميع العناصر – السابق ذكرُها – والذي يمثل لها – في الغالب – ذاتًا مُضادة، مختلفة. لكنّ هذا المختلف " يُشكل جزءًا من نظرتنا إلى الذات، سواء تقدَّم إلينا بوصفه شريكًا متساويًا، أو في هيئة غَازٍ، أو تاجر، أو مُبشر، أو باعتباره كيانًا متغطرسًا أو مهادنًا، فالآخر حالٌ في المجال الوجودي للهوية، إنه يمثلُ، وبشكل مفارق، موضوعَ إغراء، ومنبعًا للحيطة والحذر ". وهذا المختلف يثيرُ –على الصعيدين الثقافي والحضاري– إشكالية خاصة، تتمثلُ في ضرورة الاحتكاك به، والإفادة منه – من ناحية – وضرورة الحذر من الانغماس فيه والذوبان في شخصيته التي تلتهم معالم الذات -وخصوصيتها -من جهةٍ أخرى.

وقد شغلت العلاقةُ بين الذات والآخر حيزًا كبيرًا من اهتمامِ النقد العربي الحديث الذي تباين طرحُه ورؤاه حول تفاصيلها الإشكالية، وذلك على صعيد النقد الأدبي، والأدب المقارن، ونقد النقد.  كما شغلتْ هذه العلاقة حيِّزًا كبيرًا من مؤلفات الناقد السعودي الكبير، الدكتور سعد البازعي، سواءً ما كان عنوانُه دالًّا على هذا الموضوع بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. ومن أبرز هذه المؤلفات:

  • مقاربة الآخر، مقارنات أدبية.
  • قلقُ المعرفة، إشكاليات فكرية وثقافية.
  • استقبال الآخر، الغرب في النقد العربي الحديث.
  • المُكوّنُ اليهودي في الحضارة الغربية الدراسات السابقة.
  • استشراق الحكاية، ألف ليلة وليلة في القصة الأمريكية.
  • مواجهات السلطة، قلق الهيمنة عبر الثقافات.
  • هجرة المفاهيم، قراءات في تحولات الثقافة.
  • فضلاً عن مقالاته المتعلقة بهذا الموضوع – في المواقع الإلكترونية والمجلات المتخصصة – وما أُجري معه من حوارات ذات صلة.
  • إشكالية الانتماء الغربي للمثقف العربي.

إن مطالعة الرحلة العلمية للبازعي، توضح انشغاله المُبكّر بتفاصيل العلاقة بين الذات والآخر، فقد دارت رسالته التي حصل بموجبها على درجة الدكتوراه -في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات -حول " صور العرب والمسلمين في الآداب الغربية. لكن البازعي يشيرُ إلى محطةٍ زمنيةٍ تالية، اتخذ فيها وعيُه بهذه الإشكالية بعدًا أكثر عمقًا، وذلك حين قرأ كتاب الاستشراق للكاتب والناقد الفلسطيني الأصل " إدوارد سعيد " – عام 1978م – بعد أن أخبره به أحدُ أساتذته الأمريكيين. وقد توقف البازعي عند هذه المحطة، ووصفَ أهميتها – في مقدمة كتابه " مقاربة الآخر " – حيث يقولُ:

" قرأتُ الكتابَ لتتغيرَ بقراءته خارطةَ مشروعي البحثي، ولأنتقلَ بذلك من براءتي الأولى التي تمثلتْ بهدف دراسة الأدب الأجنبي، لإغناءِ الأدب العربي بروافده، إلى الهدف المغاير، والأكثر خبرة، وهو دراسة الأدب الأجنبي، للكشفِ عن جوانب قصوره في تناول الثقافات الأخرى ".

 

وفي مقدمة كتابه " القلق المعرفي "، كشفَ الدكتور سعد البازعي عن نوع القلق المقصود في عنوان الكتاب، ووصفه بعدة صفاتٍ، يُفهمُ منها اتسامُ هذا القلق بالسمة الإيجابية، وأنه قلق مُلهم، مُحفّز على السؤال وباحث عن الجديد، وعن القديم الذي أصبح متداولاً معروفًا بهدف إعادة قراءته، يقول في ذلك:

" الاطمئنان الداخلي هو نقيضُ القلق، والقلقُ هو مصدرُ المعرفة، والناتجُ عنها في الوقتِ نفسه.  فالعلاقةُ جدلية -أو دائرية -يُفضي آخرُها إلى أوّلها. وما يصدقُ على المعرفة، يصدقُ على الإبداعِ في كافة مجالات النشاطِ الإنساني، فَمِن القلقِ يرتفعُ مدُّ الإبداع الإنساني، تنوّعًا وعمقًا. وبالتأكيد، فإن القلق المقصود هو ما ينتجُ عن عدم الاطمئنان إلى الجاهزِ والسهل من الأجوبةِ والحلولِ، وليس القلق المَرضِي الناتج عن خللٍ نفسيٍ ". وقد أكّد البازعي هذه القصدية الدلالية لمفردة " القلق " باستدلاله بعبارة عميقة الدلالة للناقد اللبناني مارون عبود، هي قولُه: " إن المفكرين الحقيقيين قليلٌ في هذا الورى، والمُشكّكين الحقيقيين أقلُ منهم. أمّا المطمئنون إلى كل شيءٍ فملءُ الأرض. وأفتكُ أوبئةِ الإنسانِ، ذلك الاطمئنانُ الداخلي، مرضُ الدّهماء الذين يعومون في زَبد أنفسهم، ولا يغوصون في لُجّتها. تُلهيهم ثرثرةُ الساقية عن ثرثرةِ النهرِ الهادئ حيثُ الحيتانُ الضخمةُ التي تبتلعُ حوت يونان ..." كما يستدل بقول " نيتشه ": القناعاتُ أخطرُ عداوةً للحقيقةِ من الكذب ".

  • يثيرُ سعد البازعي أكثر من إشكالية ذات تعلّقٍ بمسألة الأثر المتبادل بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، منها ما طرحه في كتابه " قلق المعرفة " حول " الانتماء الغربي للمثقف العربي " متسائلاً: ما مدى عروبة النتاج الفكري والإبداعي لمثقفين مبدعين ومفكرين ومبدعين، مثل ألبرت حوراني، وإدوارد سعيد، والطاهر بن جلّون، وآسيا جبار، وأمين معلوف، ومحمد آركون، وغيرهم من المئات، ممّن عاشوا، أو يعيشون في الغرب منذ أمدٍ طويلٍ ، أو وُلدوا هناك ، ويعملون في مؤسساتٍ غربية ، وبعضهم لا يستعمل العربية في الكتابة أو حتى القراءة . " ويدلفُ من خلال هذه الإشكالية إلى أخرى أكثر تعقيدًا، وذلك في إشارته إلى أن مسألة الانتماء ليست مرتبطة بالمكان، وليست مُشترطة بالوجود المادي وسط جماعة ٍما، " الانتماء الغربي أكثرُ شموليةً من أنْ يُحصر في المقيمين، أو حتى المولودين في الغرب من ذوي الانتماء العربي، فهو انتماءٌ يشملُ حتى المقيمين في البلاد العربية نفسِها، بل إنّ من أُولئك-مثقفين وعلماء ومفكرين -من يفوقُ في صلته بالغرب وبثقافته بعضَ المقيمين فيه والعاملين فيه. "

ويتوقفُ متسائلاً – لا مُجيبًا – عن منطقة الانتماء الحقيقية لكلِ اسمٍ من هذه الأسماء التي أشار إليها -فيما سبق -فيستعرضُ – على سبيل المثال -ميلاد – ونشأة – ألبرت حوراني في بريطانيا، من والدين لبنانيين، ثم عمله مع " أرنولد توينبي " و" هاملتون جب "، وقول حوراني – الصريح -إنه في عداد العلماء والمؤرخين الأوروبيين ". وهنا يتساءلُ البازعي: هل حوراني على نفس القدر من الأوروبية مثل أرنولد توينبي؟ وهل هو لبناني مثل الذين وُلدوا وعاشوا في لبنان؟

ويطرحُ البازعي الأسئلةَ ذاتها حول " إدوارد سعيد " الباحث الأمريكي المنحدر من أصل عربي فلسطيني، و يشيرُ إلى الوجوه المتعددة لإدوارد سعيد: الوجه الذي واجهَ بعض المستشرقين ، والوجه الذي توفر على دراسة نماذج الأدب الغربي – ونال الدكتوراه من خلال هذه الدراسات – مثل دراسته حول: ييتس، وجين أوستن، وجوزيف كونراد ، ووجه الناشط السياسي الحامل جواز سفر أمريكي ، وتقديمه ذاته بضمير " الأنا " المنتمي إلى أمريكا . يسجل البازعي سمات تلك الوجوه المتعددة لإدوارد سعيد، ويشيرُ إلى أن اهتمام الأخير بالثقافة العربية الإسلامية، إنما انطلق من دائرة فكره العلماني الحريص على " إشاعة رؤية تنويرية ليبرالية تحارب التأثير الديني أو التقديسي على النتاج الفكري بشكلٍ خاص " وهنا يتساءلُ البازعي:

" إلى أي حدٍ كان سعيدُ عربيًا، وإلى أي حدٍ كان أمريكيًا؟ "

  • أسباب الانبهار العربي بالمنجز الثقافي الغربي.

وفي الصفحات التي خصصها للكتابة عن " قلق التنوير " ، يطرح البازعي سؤالاً افتراضيًا حول الأسباب التي دفعت الثقافة العربية باتجاه فرنسا، استنارة بما لديها ؟ ،  وهو سؤالٌ  يبحثُ في  ما خلف هذه الاستنارة ، يبحثُ في  أدواء الثقافة العربية ، وأسباب انبهارها بالآخر ، واندفاعها إلى مُنجزه الثقافي اندفاع المُفتقر المُعوز ، لا اندفاع الندّ المُكافئ . يقول البازعي  في إجابة عن سؤاله: " لم يكن ذلك سوى  نتيجة طبيعيةٌ  أو اندفاع طبيعي من ثقافاتٍ في وضعٍ مُتدنٍ - من الناحية المعرفية والمدنيّة - إلى ثقافاتٍ حقّقت الكثيرَ في مراتب الرّقيّ "  كما يطرحُ أسئلته  حول كيفية الاستنارة – سواءً  بالثقافة الفرنسية أو بغيرها – وأسباب التأثر بشخصيات ونماذج غربية بذاتها، وغير ذلك من الأسئلة التي أطلق عليها " أسئلة النوافذ " مستلهما بعض أسطر شعرية للشاعر اللبناني "جوزيف  حرب ، هي قوله:

فتحتُ في الجدارِ نافذةً

لا كي أرى ما قد ترى عيني من الشّرفة

بل كي أرى الغُرفةْ

من هذا المنطلق، يتساءلُ سعد البازعي: على أي النوافذ يا تُرى ينفتحُ التنويرُ العربي؟ ولعل الإجابة تتمثلُ في ذلك البدء المباشر في مواجهة المسألة، والذي يتضحُ في قوله: " لقد اتجه كثيرٌ من المفكرين العرب إلى التنوير الأوروبي وفي ذهنهم حاجاتٌ محليّة مُلحّة، هي نقلُ مبادئ ذلك التنوير إلى بيئتهم العربية، وبأي ثمنٍ في كثيرٍ من الأحيان ". ويضرب لهؤلاء مثلا بالتنويريّ اللبناني " فرح أنطون ". ويتوقف البازعي عند سؤالٍ طُرح في مقدمة كتاب " ابن رشد وفلسفته " -لفرح أنطون -ويصفُ هذا السؤال بأنه سؤالُ النهضة، وهو: " كيف نستطيعُ أن نتلقّف مظاهر التقدم العلمي والتّقني والثقافي من الغرب الرأسمالي، الذي يُفرضُ علينا في كل الأحوال، دون أن نُخلّ بانتمائنا إلى موروثنا؟ " . كما يشيرُ إلى التوجه العلماني لفرح أنطون، الذي دفعه إلى الدعوة لمجاراة التمدن الأوروبي الجديد، ومزاحمة أهله، حتى لا يُجرفُ أهلُ الشرق، ويصبحوا مُسخرين لغيرهم. " . وهنا يوضح البازعي أن فرح أنطون – ومن يمثلهم من مفكري العرب – يستندون في مجاراتهم للغرب على دعامتين، هما:

الاستعانة بنماذج بعينها من الموروث العربي الإسلامي، مثل نموذج ابن رشد الذي أُعجب به الغرب، ودافعوا عن فلسفته، جنبًا إلى جنب الإفادة من المُعطى الحضاري الغربي.

وبصدد العبارة التي أطلقها الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ: " الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا "، يقول البازعي: " إنَّ تهميش الفوارق الحضارية هي من السمات الرئيسة للمشروع التنويري العربي، وهي من استراتيجيات التفكير العربي في هذا المضمار: الإنسان واحد، والعقل واحد، والحضارة واحدة. " ويرد البازعي على مقولة الشاعر الإنجليزي بقوله: " صحيح أن في العالم الآن حضارة واحدة، لكن هذا لا يعني أنّ الكل ينتمي إليها بنفس القوة، أو يُسهم فيها بنفس المقدار "

أما علاقة التنوير العربي بالآخر الغربي فعلاقة مباشرة، ذلك أن التنوير في رأي البازعي – وكثير من النقاد -ليس الاستنارة بالعقل والثقافة على إطلاقهما، وإنما هو: " ذلك اللونُ من الطرح الفكري والثقافي العام، الذي نجدهُ عند بعض الكتّاب والمفكرين العرب، والذي جاء نتيجة التأثر بالأنوار الفرنسية تحديدًا "

أمّا مبادئ التنوير الفرنسي التي اعتمدها المثقفون العرب التنويريون، فهي:

  • الإيمان بالعقل كسلطة عُليا في فهم الظواهر والحكم عليها، بدلاً من البُعدين، الروحي والخيالي.
  • السعي للخلاص من سلطة الماضي أو الموروث، انتصارًا لحضارة الإنسان وواقعه.
  • الإعلاء من شأن العلم بمعناه الدنيوي التجريبي.

وبعد أن يسجل البازعي على رواد التنوير العربي انحصارهم في تقسيمات حادة بين عدة ثنائيات، منها: الشرق والغرب، النور والظلام، ...إلى آخره، يضرب المثل بفؤاد زكريا باعتباره امتدادًا لفرح أنطون وسلامة موسى في منهجية التعامل مع الثقافة الغربية، وضرورة التماهي معها. ويسوق على لسان فؤاد زكريا ما يعدُّ تلخيصًا لمبدأ التنويريين في التعامل مع حضارة الغرب وثقافته، وهو قوله:

" من الواجب ألَّا يجد المثقفون في هذه المنطقة من العالمِ – على وجه التخصيص – حرجًا في مسايرتهم للحضارة الغربية، لأن هذه الحضارة ذاتها لم تتحرج في الماضي من استخلاص دعامتها الأساسية من حضارات الشرق الأوسط.". وفؤاد زكريا ممّن يرون أن الحضارة الغربية هي المتفوقة في هذه اللحظة، وأنّ الحضارات الأخرى لا تملك سوى ماض مجيدٍ تعتزُ به.

يُذكِّر البازعي بأن الحضارة الغربية في أخذها وإفادتها من الحضارة العربية، كانت حريصة على المبدأ الانتقائي، وأنها لم تتحرج في  الإفادة من بعض العلوم التطبيقية العربية والإسلامية، ومنها الطب والرياضيات، لكنها كانت شديدة الحساسية في أخذ الفلسفة من الفارابي وابن سينا وابن رشد، فلم يتم ذلك إلا بعد صعوبات، كالتي واجهها الإمبراطور فردريك الثاني حاكم صقلية - في القرن الثالث عشر  الميلادي – نتيجة تحمسه للعلوم العربية، حتى اتُّهم بتحوله إلى الإسلام، وكذلك طلاب العلم الأوروبيون الذين كانوا يقبلون إلى الأندلس للتعلم، والذين تم اتهامهم بالتخلي عن هويتهم ولغتهم.

وقد انتهى البازعي – من خلال هذا الاستعراض لعلاقة الحضارات ومنهج تعاملها مع بعضها بعض – إلى نتيجة، مفادُها: " أن الحضارات يتكئ بعضها على بعض، لكنها إذ تفعلُ، فإنها تمارسُ انتقائيّةً، بعضُها تلقائي وبعضها متعمّد، تفرضه طبيعة تكوينها وظروفها البيئية وعمقها التاريخي بموروثاته وطموحاته، وليس هذا مناقضًا للانفتاح الحضاري، وإنما هو مرشدٌ ومنظمٌ له، سعيًا للاستقلالية، وحفاظًا على التنوع والاختلاف. "

  • وأورد البازعي إشارة مهمة على لسان باحث ألماني، عرفه عن قرب -وتواصل معه -تفيدُ أن العرب لم يشاركوا في الحضارة المعاصرة -والمقصود الغربية بالطبع -" سواء بأن يكون منهم خبراء في التاريخ الغربي، أو مبدعين في الفنون المختلفة، ويقصد الفنون الغربية. ففي حين نجدُ يهودا مختصين في الدراسات الإسلامية، وكوريين أو يابانيين يعرفون الموسيقى الغربية، ويبدعون من خلالها. لا نجد عربًا يفعلون ذلك ."، و يتفق البازعي مع الباحث الألماني في ما يتصل بافتقار المجتمع العربي إلى المتخصصين – أفرادًا ومراكز - معرفيًّا في  الحضارة الغربية، لكنه يرفض ما يدعيه اتهام الغرب للعرب بعدم إسهامهم في الحضارة العالمية في الوقت المعاصر ، مشيرًا إلى أن هذا الرأي يحمل مغالطة كبيرة، إذ لا ينكرُ أحدٌ أن للعرب إسهامًا في الحضارة العالمية المعاصرة، على الصعيد الفني وغيره ، ولكنَّ – وهنا تكمن لفتته المهمة – "الباحثَ الأوروبي لا يتصور إمكانيةً للإسهام الحضاري خارج التشكيل الحضاري الغربي، أي ضمن المعايير والأطر التي تطرحها الحضارةُ الغربية " بما يُعدّ وجهًا من وجوه الهيمنة الغربية .
  • وفي محاولة منه لتفسير التناقض بين اتصاف المجتمع الغربي بالمدنيّة والتقدم، واتصافه بهمجية التعامل مع الشعوب المغايرة له -التي لا يراها إلا من منطق استعلائي واستعماري – يطرح سعد البازعي مقولة مهمة للمفكر الفرنسي " إدغار موران " – الذي وُلد بعد الحرب العالمية الأولى – من كتابه " ثقافة أوروبا وبربريتها "، يصف فيها العلاقة بين بربرية المجتمعات ومظاهر المدنية فيها والحضارة، يقول:

" في الإمبراطوريات الكبرى، تطورت داخل المدن / الدول عواملُ الانحراف والجريمة، وظهرت فيها آلهةٌ كاسرة ومحاربة: تطالب بالقضاء التام على العدو. إن بربرية الحروب لا تنفصل، فضلاً عن ذلك، عن الأزمنة التاريخية، فتاريخ المجتمعات الكبرى هو تاريخ الحروب التي لم يهدأ لها ساكنٌ، كما وضح ذلك غاستون بوتول ، مؤسس علم الحرب ، ومع ذلك فهذه

المجتمعات أنتجت إلى جانب البربرية ازدهارَ الفنون والثقافة وتطور المعرفة وظهور نخبة مثقفة. وهكذا فالبربرية تشبه جزءًا مكونًا للحضارات الكبرى. ".

هذه البربرية استمرت في رأي المفكر الفرنسي خمسة قرونٍ، " في آخر المطاف، نلاحظُ اندفاعًا هائجًا لخمسة قرونٍ من البربرية الأوروبية، خمسة قرونٍ من الغزو والاستعمار والاستعباد "، لكن هذه القرون لم تكن بربرية محضة، بل حدث فيها كثيرٌ من المبادلات الحضارية والامتزاج الثقافي الذي يصفه البازعي بأنه " بربرية مركبة ".

وتتعدى البربرية في رأي البازعي دلالة إدارة الحروب، إلى أمور قد تفوقها بشاعةً، " أمورًا تشمل الرقّ وتدمير الأنسجة الاجتماعية والثقافية المغايرة، بل وفرض القوانين الخانقة للحريات ونهب الثروات " 

  • في ختام هذه الوقفة العاجلة، نستطيعُ الإشارة إلى ما اتسمَ به الطرح النقدي للدكتور سعد البازعي بالعمق والدقة إلى الحد الذي يصلحُ أن يكون لبنةً مستقلة في عموم الرؤية العربية حول إشكالية الذات والآخر، وما يكتنفها من تفاصيل شائكة تحتاجُ إلى مزيد من الطرح والرؤى المتباينة.
مقالات لنفس الكاتب