قررت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي خوض غمار المستقبل ومواجهة متطلباته بأدوات فعالة، ووسائل تمكنها من كسب رهان المنافسة العالمية، وتؤهلها للريادة الإقليمية والدولية والتفوق في مجالات التنمية والتحديث، وكان بين أهم هذه الأدوات تطوير وتجويد (التعليم) في كل مراحله باعتباره من أهم مفاتيح أبواب المستقبل في عالم يعتمد على العلم واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية والبرمجيات، في كل مجالات التنمية والتقدم وفي كل محاولات اللحاق بركب الحياة الحديثة، وقد نجحت دول مجلس التعاون في مساعيها.
وقد حمل برنامج التحول الوطني، ورؤية 2030 في المملكة العربية السعودية الكثير من الاستراتيجيات العملية للنهوض بالتعليم عبر آليات وخطط دقيقة وطموحة في مراحل زمنية محددة للتنفيذ، وتم اعتماد المخصصات المالية لتنفيذ برامج هذا القطاع الحيوي، ولعل ما حملته الميزانية الجديدة للعام الحالي 2022م، يعبر عن اهتمام المملكة بالتعليم وتحديثه وتطويره بما ينسجم مع متطلبات العصر وتحدياته، فقد خصصت الميزانية مبلغ 185 مليار ريال، لهذا القطاع على أن تستفيد من هذه المخصصات كافة مراحل التعليم، ودعم الأبحاث والابتكار ومصادر المعرفة، كما تستهدف الميزانية إطلاق برنامج التلمذة الصناعي بزيادة نسبة الملتحقين من 18% إلى 40% وزيادة أيام التدريب العملي من 55% إلى 60% لخريجي الكليات التقنية، ومن 15% إلى 70% لبرامج الجامعات، وكذلك الاعتناء بالموهبين وزيادة فصولهم إلى 998 فصلًا للبنين والبنات، كما تم افتتاح 70 برنامجًا للتدخل المبكر في الروضات الحكومية، وافتتاح 6 فصول لتقديم الخدمات التعليمية للطلاب والطالبات المصابين بالأورام.
ومع الاحتفال باليوم العالمي للتعليم في الرابع والعشرين من يناير الماضي أعلنت وزارة التعليم بالمملكة أنها بدأت منذ عامين في تطبيق استراتيجية تتضمن 8 تحولات جديدة تهدف إلى "إعداد مواطن منافس عالميًا ـ حوكمة العمل وتنظيمه في قطاعات التعليم المختلفة والمشروعات والمباني التعليمية ـ تأسيس منظومة التعليم عن بُعد ـ تعزيز المشاركات الدولية لأبناء وبنات المملكة ـ دعم الدراسات والبحوث ـ مواءمة مخرجات التعليم مع سوق العمل وتعزيز برنامج التحول الرقمي والأمن السيبراني بما يتوافق مع رؤية 2030"، ولتحقيق ذلك اعتمدت الوزارة 52 منهجًا و34 كتابًا جديدًا وطورت 113 مقررًا دراسيًا، ورفعت نسبة الإسناد في مدارس الطفولة المبكرة إلى 36%، وكذلك اعتماد النظام الجديد للجامعات ومعالجة 451 مشروعًا تعليميًا متعثرًا.
وهذه الجهود المتميزة التي يشهدها قطاعا التعليم والتعليم العالي بالمملكة أثمرت بأن الجامعات السعودية تبوأت مراكز مرموقة ومتقدمة في التصنيف الدولي وفي معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، حيث تبوأت 6 جامعات سعودية مواقع ممتازة على تصنيف شنغهاي، و15 جامعة في تصنيف التايمز ، و14 جامعة في تصنيفات كيو إس وذلك خلال عامي 2021/ 2022م، كما أن جامعة الملك عبد العزيز جاءت في موقع الصدارة الأول على المنطقة العربية من خلال ثلاثة تصنيفات عالمية، وجاءت في المواقع ما بين 101 و150 عالميًا وهذا تصنيف مشرف لجامعة المؤسس ، هذه الجامعة الشابة التي تأسست في نهاية عقد الستينات من القرن الميلادي الماضي.
والتصنيف الدولي امتد إلى جهود وزارة التعليم التي جاءت في المركز الأول عربيًا في البحث العلمي حيث زادت نسبة نشر الأبحاث إلى 120% بأكثر من 33 ألف بحث، وقد نفذت الوزارة الكثير من مبادرات التحول الرقمي بإنشاء منصات رقمية وافتراضية للتعليم والتقويم والتدريب منها منصتي "مدرستي" و"روضتي"، ومنصتا "الاختبارات المركزية" و"قادة المستقبل" وكذلك نظام "سفير 2" لخدمة المبتعثين، ومنصة "أعمالي" لتبادل الأعمال والمراسلات.
وقبل أن ينتهي شهر يناير الماضي رعى وزير التعليم رئيس مجلس إدارة المركز الوطني الإليكتروني معالي الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ المؤتمر الدولي للتعليم والتدريب الإليكتروني لتنمية القدرات البشرية الذي نظمه المركز الوطني للتعليم الإليكتروني بالرياض، كل هذه الجهود المتسارعة والمتلاحقة تؤكد أن المملكة قررت الانحياز للمستقبل، وأنها اختارت التعليم الحديث والمتطور لتنمية القدرات البشرية ولخوض غمار المنافسة العالمية في الإنتاج والتنمية والتطوير بالاعتماد على العنصر البشري المدرب والمؤهل والمسلح بأحدث أنواع التعليم المتطور القائم على معرفة العصر وباستخدام أدواته والاستعداد للمتغيرات التي يفرضها، ولعل ما أفرزته جائحة كورونا في التعليم عن بُعد أكد على نجاح المملكة في القدرة على التعامل مع المتغيرات وما يطرأ على العالم، وهذا ما أكده أيضًا نجاح المنظومة الصحية السعودية في التعامل مع هذه الجائحة وتداعياتها.
هذه المؤشرات والإنجازات تؤكد أننا نسير في الاتجاه السليم على طريق المستقبل باستخدام أهم أدواته وهي التعليم -الأداة الأهم - التي تضمن تحقيق النجاح في التعامل مع متغيراته، وهذا يتطلب بناء "الإنسان" القادر على التكيف مع التكنولوجيا المتطورة التي تتسارع بشكل غير مسبوق، واستخدامها وتطويعها لخدمة أهدافه ومشاريعه التنموية، والتعامل مع طبيعة عالم متغير تقوده منافسة شرسة لتوفير احتياجاته من موارد قابلة للنضوب ، ما يدعو للابتكار وإيجاد البدائل سواء في الغذاء، أو الطاقة، أو الحفاظ على البيئة، أو استخدام التكنولوجيا الرقمية والتقنيات المستحدثة في الثورة العلمية الرابعة وما بعدها، والأهم مما تحقق هو الحفاظ على الإنجازات، و مواصلة مسيرة التحدي وسبر أغوار العلم بما يحقق المزيد من التميز ، وإذا كانت الجامعات السعودية ووزارة التعليم حققوا طفرات غير مسبوقة في مجالات التميز والتصنيف الدولي، فعلى القطاع الخاص أن يساير هذه الطفرات بالمشاركة الفعالة لدعم قطاع التعليم العام والجامعي والاستثمار في التعليم التطبيقي الحديث لتقديم مخرجات تعليم يحتاجها سوق العمل الحالي والمستقبلي، ومن ثم إيجاد فرص عمل مستقبلية حقيقية ويكون توطين هذه الفرص بما يفيد قطاعات الإنتاج المختلفة على أيدي أجيال مؤهلة قادرة على القيام بأعباء ومتطلبات اقتصاد المعرفة واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق طموحات المملكة التي رسمتها عبر برنامج التحول الوطني ورؤية 2030.