فطنت دول مجلس التعاون الخليجي منذ وقت مبكر لأهمية الاستثمار في بناء الاقتصاد وتنوعه وتقويته وتحقيق التنمية المستدامة في شتى مجالاتها، لذلك شجعت القطاع الخاص وقدمت له الحوافز وأزالت من أمامه معوقات كثيرة لتحقيق معادلة توطين الاستثمارات الوطنية والخليجية في دول مجلس التعاون من جهة، وجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة من جهة أخرى، وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذت دول المجلس العديد من الإجراءات ولعل من أهمها تهيئة بيئة تشريعية جاذبة، وتطوير هذه البيئة بما يتناسب مع مقتضيات حاجة المستثمرين وتطورات العصر، وبما يقدم الضمانات الكفيلة بحماية الاستثمارات في وقت تشتد فيه المنافسة، ولعله كانت من أهم التحديات التي تواجه جذب الاستثمارات إلى المنطقة هي البيئة التشريعية والقانونية التي تحمي هذه الاستثمارات، مع تبسيط إجراءات التقاضي، وتوفير العمالة المدربة والمؤهلة، وسهولة انتقال رؤوس الأموال، وكذلك نسبة تملك الشريك الوطني في المشاريع المشتركة مع نظيره الأجنبي؛ وبالفعل قطعت دول مجلس التعاون شوطًا كبيرًا في تحقيق ذلك، ووضعت منظومة متطورة وحزم تحديثات في البيئة التشريعية، ومازالت هذه الدول تعكف على تقديم المزيد من التطوير في هذا المجال لزيادة تدفق رأس المال سواء الداخلي أو الخارجي، ونأمل أن تسرع دول المجلس وتيرة هذه الإصلاحات بقدر الإمكان لما لذلك من تأثير إيجابي وسريع على ترغيب رؤوس الأموال للمساهمة في تنفيذ المشروعات الكبرى التي تطمح في تحقيقها الرؤى التنموية الوطنية لدول المجلس، وبعضها يمتد لعشر سنوات أي 2030م، والبعض الآخر يمتد إلى 2040م، وتركز هذه الرؤى في مجملها على توسيع القاعدة الاقتصادية، وتنويع مصادر الدخل، عبر إقامة مشروعات عملاقة سواء تنفذها الحكومات منفردة، أو بالشراكة مع القطاع الخاص، أو يضطلع بها القطاع الخاص بمفرده، وكذلك لها أهداف متنوعة وأبعاد متعددة تتجاوز الشأن الاقتصادي المباشر إلى التنمية المستدامة سواء كانت تنمية مجتمعية، ديموغرافية، تعليمية، صحية، حضارية، صناعية، سياحية، تجارة، نقل، وخدمات، وغير ذلك ، كما تصبو إلى تحقيق نقلات حضارية متكاملة لتوطين الوظائف، وإيجاد فرص عمل حقيقية للشباب الذين تزداد أعدادهم سنويًا، وكذلك توطين اقتصادات المعرفة واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتوطين الصناعات المتطورة المدنية والعسكرية منها، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من بعض هذه المنتجات خاصة الغذاء والصناعات المتقدمة.
كل هذه الاحتياجات والتحديات، مع وجود المزايا النسبية في كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي واضحة لصانع القرار لذلك جاءت الرؤى الوطنية واضحة في أهدافها ومراحل تنفيذها، وأدوات وبرامج وخطط التنفيذ، وصيغ متنوعة لمشاركة الحكومات والقطاع الخاص، بل زيادة دور القطاع الخاص الذي أصبح شريكًا في شركات عملاقة تنوعت بين الإنتاج الصناعي والزراعي والسياحي والترفيهي إضافة إلى الخدمات اللوجستية، كما تتبنى حكومات دول المجلس خططًا طموحة لطرح العديد من الشركات الكبرى للخصخصة وإدخال القطاع الخاص الوطني في تملك أسهمها.
وفي إطار توفير الأموال للاستثمارات الطموحة ضخت الصناديق السيادية الوطنية في دول المجلس الكثير من الأموال، وقامت بدورها الريادي الذي يتناسب مع ممتلكاتها واحتياطاتها ودورها المحوري، ومن الضروري التعويل في المرحلة القادمة على أهمية عودة الأموال المهاجرة للقطاع الخاص الخليجي لتقوم بدورها في دعم الرؤى التنموية الوطنية في إطار من المسؤولية الاجتماعية، وكذلك على البنوك التجارية المحلية أن تقدم سياسات مرنة للإقراض خاصة لدعم قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي يقوم بها شباب رجال الأعمال من الجنسين لتقوية هذه الأنشطة الهامة والتي تمثل أكثر من 80% من حجم النشاط الاقتصادي في العديد من دول العالم.
وعلى الحكومات ومجالس الشورى في دول المجلس مراجعة قوانين الاستثمار بشكل دوري لتقديم الحوافز والتسهيلات التي يحتاجها القطاع الخاص والاستثماري والتوسع في ضمان حقوق الجميع مع الاستفادة من تجارب الدول الناجحة في هذا المجال خاصة في ظل وجود منافسة دولية وإقليمية محمومة على جذب الاستثمارات، ويتبقى أن الاستثمار في المنطقة وبناءً على تجربة المملكة العربية السعودية فهو آمن حيث تعيش المملكة ودول المجلس حياة أمنية مستقرة وتتمتع بسياسات واضحة واقتصادات قائمة من الأساس على حرية الاقتصاد والأسواق المفتوحة وبدون قيود أو اقتصادات موجهة، وكذلك حكومات تعمل وفق توجيه القيادات السياسية لراحة المستثمر ودعم القطاع الخاص والعمل من أجل مصلحة المواطن وتذليل كافة العقبات سواء في الصناعة ،أو التجارة، أو الخدمات وغيرها من أنشطة الأعمال، كما أن المملكة ودول المنطقة فتحت الباب للاستثمارات السياحية والترفيهية وهي من المجالات الواعدة والمبشرة والتي تستوعب عمالة كثيفة ولعل المشروع السياحي الذي تعمل على تهيئته المملكة العربية السعودية على مجموعة جزر شاسعة ممتدة على مساحة كبيرة في البحر الأحمر قبالة سواحل المملكة وغيره من المشروعات الموازية لهذا المشروع وفي مناطق مختلفة خير دليل على دعم هذا المجال الواعد والمبشر، وإضافة إلى ذلك فإن تنوع البيئة والتضاريس وزراعة المحاصيل والنباتات المختلفة وفر في المملكة فرصًا كبيرة لزراعة النباتات الطبية والعطرية والفواكه المختلفة ما يوفر مجالًا واسعًا لتوطين صناعات دوائية، وأخرى للعطور، أو صناعة تعليب وتصدير الفاكهة.
وفي الختام، يظل المناخ الاستثماري في المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي متميزًا جدًا وجاذبًا وفيه مزايا قد لا تتوفر في كثير من دول العالم المختلفة سواء من حيث الحوافز، أو المناخ السياسي الآمن والمستقر، أو توفر الموارد الطبيعية، أو سعة الأسواق وقدرتها الشرائية المرتفعة، وقربها من مناطق ودول العالم الأخرى وما تتمتع به من شبكات طرق ومواصلات وموانئ ومطارات، وأسواق مفتوحة بدون مكبلات وبيروقراطية، كل ذلك يجعل من المنطقة سوقًا مثالية للاستثمار وتوطين الصناعة، ويظل كل المطلوب هو عرض الفرص المتاحة والممكنة والترويج لها بطرق مدروسة وصحيحة عبر ورش عمل أو مؤتمرات ومعارض في الداخل والخارج، وتقديم دراسات جدوى للفرص الاستثمارية، أو ما تحتاج إليه دول المنطقة من مشروعات أو منتجات، والتعريف بما يطرأ على البيئة التشريعية من تطوير وتحسين، وفي اعتقادنا أن ذلك من أفضل الطرق للوصول إلى المستثمر الجاد والطموح.