إذا كانت أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة عام 1962م، التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك، أسست لبداية الاهتمام بدراسة علم إدارة الأزمات الدولية فإن الأزمة الأوكرانية الحالية أضافت أبعاداً جديدة لذلك العلم كونها مثلت اختباراً حقيقياً لكافة المفاهيم ذات الصلة بمضامين ومسارات الأزمات وهي الردع وتحقيق توازن القوى والأمن الإقليمي وتأثير سياسات الدولة العازلة على الصراعات الدولية وغيرها من المفاهيم، فكيف يمكن تفسير بلوغ الصراع الأطلسي- الروسي مداه إلى ما يمكن اعتباره "حافة الهاوية" ؟ تساؤلات عديدة أثارتها الأزمة الأوكرانية والتي يجمعها تساؤل محوري هل نحن أمام استراتيجية أطلسية استهدفت استنزاف القدرات العسكرية الروسية؟ أم أن الطرفين كان لديهما إدراك تام باندلاع أزمة محددة مسبباتها دون إدراك مآلاتها؟
أولاً: الأزمة الأوكرانية: كاشفة أم منشأة لاحتدام الصراع الأطلسي-الروسي؟
تعددت تعريفات الأزمة الدولية إلا أن أهمها تعريف الأستاذ الدكتور مصطفى علوي سيف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والذي تتلمذت على يديه، يقول في رسالته للدكتوراه عام 1981م، بعنوان "سلوك مصر الدولي خلال أزمة 1967م" الأزمة الدولية هي موقف ينشأ عن احتدام لصراع شامل طويل وممتد بين دولتين أو أكثر وذلك نتيجة سعي أحد الأطراف إلى تغيير التوازن الاستراتيجي القائم، مما يشكل تهديداً جوهرياً لقيم ومصالح الخصم الذي يتجه إلى المقاومة، ويستمر هذا الموقف لفترة زمنية محدودة نسبياً يتخللها لجوء الأطراف إلى القوة العسكرية ،كما ينتهي هذا الموقف إلى إفراز نتائج مهمة تؤثر في النظام الدولي الفرعي القائم"، ذلك التعريف الذي يتسم بالشمول والواقعية يمكن من خلاله تفسير اندلاع الأزمة الأوكرانية على هذا النحو والتي لم تكن منشأة للصراع الروسي- الأطلسي بل عكست تطور ذلك الصراع من مستويي التلاعب والتوريط إلى حافة الهاوية التي تعني بقاء كافة السيناريوهات قائمة، فالمعضلة الأساسية لذلك الصراع تتمثل في تمدد حلف الأطلسي ضمن سياسة "الباب المفتوح" لضم أعضاء جدد، مع أنها لم تكن المرة الأولى التي تعلن دول انضمامها للناتو حيث انضمت إليه العديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق إلا أن روسيا لديها قناعة أن الهدف الاستراتيجي للناتو الذي استطاع التأقلم مع متطلبات ما بعد انتهاء الحرب الباردة مع انهيار نظيره الشرقي" وارسو"، هو محاصرة روسيا ومن ثم الحد من نفوذها المتنامي وطموحاتها في استعادة مجد الاتحاد السوفيتي السابق، ذلك الإدراك الروسي للمخاطر الأطلسية الذي يفسر قرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات، وصولاً إلى اتفاقية مينسك الموقعة عام 2015م، في أعقاب قمة جمعت رؤساء أربع دول وهي روسيا، وأوكرانيا، وفرنسا، وألمانيا واستهدفت وضع حد للنزاع في منطقة دونباس "المعلنة حكماً ذاتياً "جنوب شرقي أوكرانيا، وعلى الرغم من أن ذلك الاتفاق تدور كافة بنوده حول المسار المستقبلي بين الحكومة الأوكرانية وهاتين المنطقتين المعلنتان حكماً ذاتياً وهو الاتفاق الذي تبناه مجلس الأمن الدولي من خلال قرار أممي في هذا الشأن، فإن روسيا رأت أن عدم تنفيذ بنود ذلك الاتفاق ومن بينها إجراء إصلاح دستوري في أوكرانيا يستهدف أن تكون اللامركزية عنصراً أساسياً في نظام الحكم يعني وجود توجهات لدى النخبة الحاكمة الأوكرانية ليس فقط بعدم تنفيذ ذلك الاتفاق بل السعي للانضمام لحلف الناتو ففي حين رأى الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش "2010م –2014م" أنه ليس ثمة حاجة لانضمام أوكرانيا للناتو وأنه يتعين عليها الاستمرار في سياسة عدم الانحياز، بينما في حقبة الرئيس الحالي زيلينسكي تم البدء في اتخاذ خطوات عملية للانضمام للناتو حيث صادق البرلمان الأوكراني تشريعاً عام 2017م، على طلب الانضمام للناتو، فضلاً عن إقرار البرلمان الأوكراني تعديلات دستورية عام 2019م، تعيد التأكيد والتمسك بانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو معاً وهو ما اعتبرته روسيا تحدياً لأمنها القومي، بمعنى آخر وفقاً لتعريف الدكتور علوي المشار إليه بشأن مضمون الأزمة الدولية "تغيير توازن القوى القائم ومن ثم تهديد مصالح وقيم الخصم"، فالسلوك الروسي في تلك الأزمة يشبه نظيره الأمريكي إبان أزمة الصواريخ الكوبية المشار إليها، فالمسألة لم تكن مجرد مخاوف بشأن نشر صواريخ روسية بعيدة المدى في كوبا بل في تغيير موازين القوى وممارسة الردع العنيف من جانب الاتحاد السوفيتي تجاه الولايات المتحدة إذ لا تبعد كوبا سوى 90 كم عن ولاية فلوريدا، وهي المخاوف ذاتها التي سادت لدى صانع القرار الروسي بشأن مساعي أوكرانيا لنيل عضوية الناتو، فعلى الرغم من أن انضمام جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق للناتو وهي التشيك وبولندا والمجر ليتوانيا، لاتفيا، استونيا و سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا كان تهديداً للأمن القومي الروسي فإن الحسابات الاستراتيجية لروسيا في المسألة الأوكرانية تبدو مغايرة لكونها تعكس مفهوم "الدولة العازلة" والتي أجمعت كافة التعريفات على أنها تفصل بين حدود قوتين كبيرتين لدى كل منهما من مصادر القوة ما يكفي لردع الآخر ولكن لا توجد لأي منهما قوات داخل تلك الدولة العازلة، إلا أن طبيعة النظام السياسي الحاكم وتوجهاته في تلك الدولة يكون محدداً أساسياً من محددات ومسارات الصراع بين هاتين القوتين، بما يعني أن وجود توجهات لدى النخبة الحاكمة في أوكرانيا للانضمام للناتو كان إيذاناً بخروج نمط الصراع المنضبط بين روسيا وحلف الناتو إلى سياسة حافة الهاوية، أخذاً في الاعتبار أن الدولة العازلة تظل بين خيارين كلاهما مر فليس بمقدورها تحديث قواتها العسكرية دون الاعتماد على حليف خارجي وهو في حالة أوكرانيا إما روسيا أو حلف الناتو عموماً والولايات المتحدة على نحو خاص وفي حال حصولها على دعم طرف سيكون رسالة عدائية للطرف الآخر، وهو الأمر ذاته حال قررت تلك الدولة الانضمام لتكتلات كالاتحاد الأوروبي أو تحالفات مثل الناتو، بما يعنيه ذلك من أن سياسة الحياد تعد هي الخيار العقلاني لاسيما إذا كانت تلك الدولة تقع على نقاط تماس بين قوى متصارعة بما يعني ليس فقط إمكانية تورطها في صراعات لا تهدد أمنها القومي بل تهديد بقائها كدولة مستقلة ذات سيادة وخاصة إذا كانت تعاني من إشكالية هوية تعد سبباً جوهرياً منشأً لصراع داخلي يتقاطع مع عوامل خارجية محركة لذلك الصراع والمحصلة النهائية أن ذلك النوع من الدول يتعين عليها مواجهة معضلات ثلاث كبرى بشكل متزامن وهي الهوية والتكامل والأمن.
ثانياً: الحسابات الاستراتيجية للناتو وروسيا ضمن إدارة الأزمة الأوكرانية
بعيداً عن الخوض في تفاصيل الحرب الأوكرانية والتي أضحت مثار الاهتمام الرئيسي للعديد من الباحثين مع دخولها الشهر الرابع ومع صعوبة وضع ما دأب عليه بعض الباحثين "سيناريوهات مستقبلية" لسبب أن الأزمات تحمل كافة التوقعات فإن ذلك لا يعني صعوبة وضع تقييم استراتيجي لحسابات أطرافها وأعني بها هنا روسيا وحلف الناتو، صحيح أن المواجهات العسكرية الآن بين روسيا وأوكرانيا إلا أن ذلك ليس سوى عرض يرتبط على نحو وثيق بجذور الصراع الروسي- الأطلسي وبالعودة إلى أطروحة الدكتور علوي مجدداً فقد حدد ثلاثة يمكن من خلالها الحكم على إدارة الأزمات نجاحاً أو إخفاقاً وهي أهداف أي طرف في أزمة دولية عموماً وتتمثل في: تفادي الحرب المباشرة، الحفاظ على مكانة وقوة الدولة ومصالحها القومية، تأثيرها مستقبلاً على تسوية على أزمات مماثلة بين الأطراف ذاتها، فكيف يمكن تطبيق تلك المحددات على تفاعلات الأزمة الأوكرانية الراهنة؟
- حرص الناتو وروسيا على تفادي الحرب المباشرة
على الرغم من الصراع الممتد بين روسيا والناتو على مدى عقود فإن هناك حرص على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة بل أنه تم تأسيس مجلس الناتو- روسيا عام 2002م، لمناقشة القضايا الخلافية بين الجانبين و توقفت أعماله غير ذي مرة عامي 2014 و2019م، إلا أنه انعقد في يناير 2022م، ولم تسفر المحادثات عن نتائج ملموسة، وبعيداً عن تلك الآلية، فقد لوحظ أن كافة تصريحات أعضاء الناتو وفي مقدمتها أمريكا أكدت أن الحلف لا يرغب في مواجهة عسكرية مع روسيا، ففي أول تصريح له بعد دخول القوات الروسية أوكرانيا قال الرئيس بايدن " ليس لدينا نية لمحاربة روسيا" ومن ثم فإن عدم الاستجابة لطلب أوكرانيا بفرض منطقة حظر جوي على أوكرانيا لا يجب تفسيره من منظور ميثاق الحلف فحسب الذي لا يقدم دعماً عسكرياً لدولة ليست عضواً في الناتو، بل من منظور عدم تحديد حلف الناتو ما يطلق عليه "الخطوط الحمراء" لروسيا خلالها المواجهات العسكرية مع أوكرانيا بما يؤكد أن الحلف لديه تحديداً مسبقاً لأهدافه، بل ذهبت بعض التحليلات وهي واقعية بأن الحلف حدد لذاته "خطوطاً حمراء" وليس لروسيا ومضمونها عدم التورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا ،صحيح أن الأزمة تخللتها حروب كلامية بين الرئيسين الروسي- والأمريكي، واتهامات متبادلة بشأن تطوير واستخدام أسلحة بيولوجية و كيماوية، إلا أن ذلك لم يعكس مؤشرات على وجود نوايا متبادلة لدى الطرفين الأطلسي- الأمريكي- والروسي في الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة لأسباب ثلاثة الأول: دور الاتصالات في إدارة الأزمات الدولية، ففي تقديري أن هناك اتصالات على مدار الساعة بين كافة الأطراف ضمن مستويات مختلفة، حيث تعد سمة لإدارة الأزمات الدولية سواء الخطابات المتبادلة خلال أزمة الصواريخ الكوبية والتي تم الكشف عنها لاحقاً، أو عندما قامت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بشن هجمات صاروخية على مواقع سورية عام 2018م، رداً على شن النظام السوري هجمات كيمائية في منطقة الغوطة الشرقية، فلم تكن هجمات الدول الثلاث بدون تنسيق مع القوات العسكرية الروسية المتواجدة في سوريا، وفي الأزمة الأوكرانية بالرغم من إخفاق جهود الوساطة الفرنسية لحلها فإن تصريحات صدرت عن الرئاسة الفرنسية في مارس2022م، مفادها أن ثمة حاجة "للمحافظة على قناة حوار مع الرئيس الروسي"، والثاني: ربما سادت قناعة لدى حلف الناتو بانتهاج استراتيجية تستهدف "توريط روسيا" في الأزمة الأوكرانية بما يحقق هدف استنزاف القوة الروسية دون الحاجة لمواجهة عسكرية معها من جانب الناتو وذلك على غرار أزمات إقليمية أخرى مثل الغزو العراقي للكويت عام 1990م، ففي تصريح له في إبريل قال الأمين العام للناتو" الحلف مستعد لدعم كييف في حرب قد تستمر سنوات"، إلا أن تلك الرؤية ربما جانبها الصواب فربما لم تكن هناك تقديرات حقيقية لشراكات روسيا الاقتصادية حول العالم ودورها في سوق النفط والغاز العالمي، ،فضلاً عن أنه حال انتصار روسيا في تلك الحرب فإن ذلك يعني واقع جيواستراتيجي جديد يمثل تحدياً هائلاً لأمن الجبهة الشرقية للحلف يضاف إلى الوجود الروسي في سوريا وشراكاتها مع دول شمال إفريقيا والخليج وهي ذاتها مناطق شراكات الناتو، أما السبب الثالث: فيرتبط بموازين القوى الأطلسية- الروسية، صحيح أن روسيا ربما ليس لديها النفوذ السياسي الذي يضاهي قوة دول الناتو عموماً وأمريكا خاصة، بيد أنها لاتزال قوة نووية فروسيا لديها حوالي 6500 رأس نووي أي ما يقارب إجمالي نصف القوة النووية في العالم مقابل 6150 رأس نووي لدى أمريكا، بالإضافة إلى تميز الجانبين في القدرات السيبرانية، مع الأخذ بالاعتبار تفوق حلف الناتو مجتمعاً على العتاد العسكري الروسي التقليدي، وقد تجاوز الإنفاق العسكري لدول حلف الناتو مجتمعة تريليون دولار في عام 2021م، في مقابل 1,981 مليار دولار حجم الإنفاق العسكري الروسي، بما يعني تحقق مفهوم الردع المتبادل بين الجانبين.
- الحفاظ على قوة الدولة ومصالحها القومية
ربما يكون من الصعوبة بمكان تحديد حسابات الربح والخسارة لكافة الأطراف المعنية بالأزمة الأوكرانية سواء تلك المباشرة أو غير المباشرة، إلا أن الأهم هو أن تلك الأزمة لا تعد ضمن المباراة الصفرية وهي أحد اقترابات نظرية المباريات الشهيرة في تفسير الصراعات الدولية، بمعنى أن مكاسب طرف ما تعد بالضرورة خسائر للطرف الآخر، ولكنها مباراة غير صفرية إذ أنه لدى كل طرف خسائر تختلف بشكل نسبي ووفقاً لمدى أهمية وتأثير تلك الخسائر انطلاقاً من حسابات أطراف الأزمة.
وقبيل تحديد مصالح الطرفين ( حلف الناتو وروسيا ) في تلك الأزمة فإن إدارة الأزمة بالعودة مجدداً للدكتور علوي" يقصد بها استخدام الدولة لأدوات ضاغطة وتوفيقية بما يعزز سياستها ويضعف سياسة الخصم أو على الأقل يقلل خسائرها إلى أدنى حد ممكن"، وفي الأزمة الأوكرانية وبتحليل تصريحات مسؤولي الحلف ودوله فإن المصلحة الأساسية تتمثل في الحفاظ على تماسك الحلف الذي تأسس على مبدأ التضامن وأن أمن دوله كل لا يتجزأ ، بمعنى آخر فإن فقدان الحلف لآلية الردع يعني التشكيك في جدوى وجوده وهو ما يفسر رد الحلف على تطور الأزمة الأوكرانية والتي تمثلت في ثلاثة مسارات الأول: إعلان الولايات المتحدة وجود خطط لتعزيز القدرات الدفاعية الجوية لدول الناتو وخاصة أنظمة باتريوت وثاد، بالإضافة إلى تأكيد ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف الناتو أن هناك" مئات الآلاف من دول الحلف في حالة تأهب قصوى، وأن هناك 100 ألف جندي أمريكي متواجدين في أوروبا و40 ألف تحت القيادة المباشرة للحلف"، فضلاً عن تأكيد الأمين العام للحلف بأن الناتو بصدد مناقشة خطة استراتيجية أسماها" تكيف الحلف على المدى البعيد " من خلال وجود عسكري دائم على حدوده وستكون الملف الأبرز في قمة الحلف المقبلة في يونيو 2022م،والثاني: العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا والتي أشارت التقديرات إلى تأثيرها على الاقتصاد الروسي الذي تراجع أدائه بنسبة 8% وخسارة الروبل الروسي 30% من قيمته أمام العملات العالمية، زيادة التضخم بنسبة 20%، والثالث: استمرار لغة التهديد دون الإعلان عن خطط محددة ومن ذلك على سبيل المثال تأكيد الأمين العام لحلف الناتو على أن " أي هجوم بسلاح كيماوي سوف يغير تماماً من طبيعة النزاع"، أما روسيا فمصلحتها الأساسية تتمثل في وقف تمدد الناتو في مجالها الحيوي وفي الوقت ذاته تجنب المزيد من الخسائر الاقتصادية، صحيح أن اقتصادات الدول الغربية لم تنج هي الأخرى من تلك العقوبات مما يؤكد حالة الاعتمادية المتبادلة والتشابك الكبير بين اقتصادات دول العالم، فخلال اجتماع للرئيس بوتين مع مستشاريه الاقتصاديين في 12 مايو 2022م، قال " إن استمرار العقوبات على روسيا، سيؤدي حتماً إلى نتائج أكثر تعقيداً واستعصاءً على الاتحاد الأوروبي ومواطنيه، ففي بعض الدول الأوروبية اقترب مؤشر التضخم من 20%، وفي منطقة اليورو، ارتفعت أسعار السلع الأساسية أكثر من 11%"، واستمرار الحرب يعني المزيد من الضغوط الداخلية على الرئيس بوتين، فضلاً عن إمكانية تغير بعض المواقف الدولية، الأمر الذي يفسر استخدام روسيا للأساليب الضاغطة والتوفيقية معاً، فعلى الرغم من ضراوة المواجهات العسكرية والتي يسعى كل طرف للإعلان عن تكبيد الآخر خسائر فادحة فإن روسيا لم تغلق الباب أمام التفاوض مع أوكرانيا فخلال لقائه أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة في موسكو إبريل 2022م، قال الرئيس الروسي بوتين" رغم حقيقة أنّ العملية العسكرية مستمرة، ما زلنا نأمل في أن نتمكّن من التوصّل إلى نتيجة إيجابية من المفاوضات"، وبشكل مواز استطاعت روسيا توظيف الأساليب الضاغطة من خلال استعراض قواتها العسكرية كرسالة محددة للغرب حال قرر الاشتباك العسكري مع القوات الروسية في أوكرانيا ومن ذلك مؤشرات ثلاثة الأول: الإعلان في إبريل 2022م عن صاروخ سارمارت الباليستي الجديد العابر للقارات والذي يتضمن القدرة على توجيه ضربات نووية لأمريكا لقدرته حمل عشرة رؤوس نووية، والثاني: إطلاق روسيا عملية محاكاة في الخامس من مايو 2022م، تضمنت إطلاق صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية وذلك على خطوط التماس مع دول البلطيق" لاتفيا ،ليتوانيا، إستونيا"، والثالث: تصريح ديمتري روجوزين رئيس وكالة الفضاء الروسية في 8 مايو 2022م، أن "روسيا لديها القدرة حال شن حرب نووية بتدمير دول الناتو في غضون نصف ساعة".
- تأثير الأزمة الأوكرانية مستقبلاً على تسوية أزمات مماثلة بين الأطراف ذاتها
إن الأزمة الأوكرانية تعد تطوراً بالغ الأهمية والخطورة في آن واحد ليس فقط بالنسبة لمنظومة الأمن الأوروبي بل لكافة أطرافها وهو ما سينعكس على هيكل النظام العالمي، ففي دراسة صدرت عن مؤسسة راند الأمريكية عام 2016م، التي تمول من الجيش الأمريكي بعنوان" فهم النظام الدولي الحالي" كانت خلاصتها محاولة الإجابة عن تساؤل هل النظام العالمي الذي تأسس على مدى سبعة عقود لايزال آمناً بالنسبة للمصالح الأمريكية وما هي أبرز التحديات؟ وكانت الإجابة أنه لم يعد آمناً ومن أهم تلك التحديات مدى نجاح أمريكا في منع سيطرة قوة معادية على مناطق نفوذ لها، ومن ثم في ظل مضامين استراتيجيات الأمن القومي لكل من روسيا وأمريكا والتي تضمنت أن الدولتين يمثلان تحدياً خطيراً كل منهما للآخر، فإن نتائج الحرب في أوكرانيا سوف يكون لها تأثير سواء في أوروبا أو على مستوى العالم، صحيح أن التحولات الكبرى في هيكل النظام العالمي قد جاءت على أنقاض حروب كبرى على غرار الحرب العالمية الثانية والتي أسفرت عن منتصرين وخاسرين إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون هو السيناريو ذاته بالنسبة للأزمة الأوكرانية والتي توصف بأنها "حرب اللاخاسرون واللافائزون"، ولكن الواقع الأوروبي والعالمي الجديد سوف يكون مرتبطاً بخمسة أمور أولها: تأثير نتائج تلك الأزمة على العلاقات الأوروبية- الأمريكية، فقد لوحظ أن الدول الأوروبية هي الأكثر تضرراً لكونها في خط المواجهة مع تداعيات الأزمة ليس أقلها أزمة لاجئين غير مسبوقة حيث بلغ عددهم وفق تقديرات أممية 10 ملايين لاجئ حتى نهاية مارس 2022م، فضلاً عن عدم قدرة معظم الدول الأوروبية إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي، بل قبول البعض الشروط الروسية بدفع قيمة الغاز بالروبل، وبالتالي فإن من نتائج الأزمة تسارع وتيرة جهود الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية ومن ذلك التقرير الذي صدر عن المفوضية الأوروبية في 12 مايو 2022م، بعنوان "أوجه القصور في القدرات الدفاعية الأوروبية وسبل معالجتها" حيث سيكون موضوعاً رئيسياً لقمة دول الاتحاد نهاية مايو 2022م، وثانيها: رؤية الناتو لمستقبل الصراع مع روسيا، في ظل إصرار الأخيرة على الحد من توسع الحلف الذي أعلن عن استمرار انتهاج سياسة الباب المفتوح و سعي كل من السويد وفنلندا الانضمام للحلف، حيث تشترك الأخيرة البالغ عدد سكانها 5,5 مليون نسمة في أطول حدود للاتحاد الأوروبي مع روسيا والتي تبلغ 1340كم، ورغم تحذير الرئيس الروسي نظيره الفنلندي من أن انضمام فنلندا إلى الناتو والتخلي عن وضعها المحايد سيكون "خطأ"، إلا أنه حتى كتابة هذه السطور يلاحظ مضي كل من الدولتين قدماً في إجراءات الانضمام للناتو بما يعني احتدام الصراع الروسي- مجدداً على جبهات أخرى وربما بوسائل أخرى مثل نشر صواريخ بعيدة المدى بما يعني إمكانية أن يشهد العالم تكرار سيناريو أزمة الصواريخ الكوبية مجدداً، وثالثها: استراتيجية أمريكا لإدارة الصراع مع روسيا سواء في أوكرانيا التي لا تزال تحظى بدعم مادي كبير ومن ذلك إقرار الكونجرس الأمريكي حزمة مساعدات في 10 مايو 2022م، بلغت 44 مليار دولار، أو نقاط التماس أخرى تبدو فيها وبوضوح ملامح حرب باردة جديدة، ورابعها: الاستراتيجية الروسية الجديدة في أوكرانيا حال تحقيق الانتصار وخاصة إمكانية نشر صواريخ بعيدة المدى بما يعني تهديد الأمن القومي لدول الناتو المحاذية وهي الدوافع الأساسية لروسيا لغزو أوكرانيا، وخامسها: نمط التحالفات والشراكات الدولية ذاته فالأمر لا يقتصر على الأطراف المباشرة للأزمة بل في ظل وجود قوى صاعدة" الهند، الصين" فيلاحظ أن الدولتين قد استطاعتا إدارة تلك الأزمة بما يعزز من مصالحهما بشكل كبير، والنتيجة الحتمية لذلك إمكانية ظهور هيكل جديد لتوزيع القوة في النظام العالمي في أعقاب انتهاء الأزمة الأوكرانية.
الخلاصات الاستراتيجية للورقة
- الأزمة الأوكرانية لم تكن منشأة للصراع الروسي-الأطلسي بل كاشفة لتجذر ذلك الصراع وديمومته الذي اتخذ طابعاً عنيفاً، صحيح أنه لن يصل حد التصادم العسكري المباشر لامتلاك الطرفين قوة ردع متساوية إلا أنه سوف يرتب آثاراً مهمة في أوروبا والنظام العالمي ككل.
- فرضت الأزمة الأوكرانية حتمية إحداث تحول جذري في مسألة الاستقلال الذاتي لأوروبا بشقيها الاقتصادي والأمني.
- على الرغم من التحديات التي رتبتها الأزمة الأوكرانية بالنسبة لحلف الناتو بيد أنها لحظة فارقة في تاريخ الحلف الذي شهدت استراتيجياته الدفاعية تغيراً غير ذي مرة وبالتالي تمثل فرصة سانحة لاستعادة قوته وتأثيره مجدداً كأقوى تحالف دفاعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.