على مدى العقد الماضي تصاعدت المخاوف الأمريكية من عودة روسيا وصعود الصين، ففي عام 2013م، وصل الرئيس شي جين بينج إلى سدة الحكم لتخرج بكين من نطاق الإقليمية إلى رحاب العالمية عبر مشروع الحزام والطريق كاستراتيجية عالمية، وتنافس بقوة على مكانة الاقتصاد الأول عالمياً، كما وقفت روسيا بحسم في أوكرانيا وقامت بضم شبة جزيرة القرم عام 2014م، مما دفع واشنطن لاعتبار البلدين التهديد الرئيسي الذى يواجهها، وصدرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2017م، متضمنة نص صريح على ذلك مستخدمة مصطلح "قوى المراجعة" للإشارة إلى روسيا والصين اللتان تحاولان تغيير الوضع الراهن، وتسعى لخلق عالم لا يتوافق مع المصالح والقيم الأمريكية، ليبدأ فصلاً جديداً من سياسات المواجهة والاحتواء التي أعادت للأذهان زمن الحرب الباردة بتفاصيل وآليات مختلفة اقتصادية واستراتيجية.
على الصعيد الاقتصادي استخدمت الولايات المتحدة سلاح العقوبات والقيود التجارية في مواجهة كل من الصين وروسيا. ورغم أن التطور الاقتصادي الهائل للصين خلال العقود الثلاثة الماضية تم في البداية بمباركة أمريكية وأيدت واشنطن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001م، ووضعت الشركات الأمريكية الصين في قلب سلاسل إنتاج الاقتصاد العالمي، وشهد حجم التبادل السلعي بين البلدين نموًا سريعًا منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في الصين في أواخر سبعينيات القرن العشرين، لتصبح الولايات المتحدة والصين أهم الشركاء التجاريين، إلا أن هذا لم يكن لصالح الولايات المتحدة بالضرورة حيث استمر ارتفاع العجز التجاري الثنائي الأمريكي لصالح الصين ليبلغ 375.6 مليار دولار عام 2017م.
كان دونالد ترامب أول من عبر عن انزعاج واشنطن الشديد من هذا ووعد خلال حملته الرئاسية عام 2016م، بخفض العجز التجاري الأمريكي مع الصين، والذي عزاه إلى الممارسات التجارية غير العادلة، وعدم وصول الشركات الأمريكية إلى السوق الصينية وسرقة بكين للملكية الفكرية. وفي 22 مارس 2018 م،قام ترامب بفرض تعريفة جمركية على منتجات صينية بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974م، بشأن «الممارسات التجارية غير العادلة» وسرقات الملكية الفكرية بقيمة 250 مليار دولار بينما جاء الرد الصيني بفرض تعريفة على منتجات أمريكية أبرزها فول الصويا بقيمة 110 مليار دولار. وتم التوسع في قائمة الشركات الصينية التي يحظر تعاملها مع شركات أمريكية دون الحصول على ترخيص مسبق، من بينها عمالقة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الصينيتين "هواوي" و"زد تي" التي أصبحتا ضمن القائمة الأمريكية التجارية السوداء.
أدت العقوبات التجارية والعقوبات المضادة إلى تراجع الصين من أول إلى ثالث أكبر مورد للولايات المتحدة بينما انخفضت الصادرات الأمريكية إلى الصين بشكل حاد، الأمر الذى أدى إلى تباطؤ نسبي في الاقتصاد العالمي. الأمر الذى دفع ترامب إلى توقيع اتفاقًا تجاريًا مرحليًا وصفه بأنه "تاريخي" مع نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي في يناير 2020م، ومثل هدنة مؤقتة في خضم الحرب التجارية بين البلدين مما سمح بعودة الارتفاع في حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة عام 2020م، بنسبة 8.3% إلى 586.72 مليار دولار أمريكي حيث تعهدت الصين شراء بضائع أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال العامين التاليين، وتشمل الواردات السلع المصنعة وموارد الطاقة والخدمات والمنتجات الزراعية. إلا إنه في يوليو 2021 م، أعلنت الصين فرض عقوبات على عدد كبير من الأفراد والمؤسسات الأمريكية من أبرزهم وزير التجارة السابق في الولايات المتحدة ويلبور روس ردًا على العقوبات الأمريكية التي فرضتها واشنطن على مسؤولين صينيين في هونج كونج.
أما فيما يتعلق بروسيا فإن العقوبات الأمريكية سلاح تم توظيفه منذ العهد السوفيتي، وعلى خلفية انضمام شبه جزيرة القرم لروسيا في مارس 2014م، وفى إطار عدد من الإجراءات التصعيدية والعقابية التي قادتها واشنطن والاتحاد الأوروبي لمواجهة موسكو، ومعهم كندا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، تم فرض حزم متتالية من العقوبات على روسيا طالت ثلاثة قطاعات أساسية وهي قطاع النفط والمصارف والصناعات العسكرية الروسية يتم تجديدها باستمرار.
وقد اتسعت هذه العقوبات وتعمقت مع اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022م، على نحو لم يسبق له مثيل حتى في زمن الحرب الباردة، بهدف الضغط علي موسكو لوقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا. وقد تضمنت العقوبات حزمتين، اقتصادية وثقافية، في استهداف واضح ليس فقط للاقتصاد الروسي، ولكن الروح المعنوية العامة في الداخل الروسي. ورغم أهمية الأخيرة حيث شملت الرياضيين الروس ورموز الأدب والفن الروسي، ووقف بث القنوات التليفزيونية والمنصات الإخبارية الروسية، إلا إن العقوبات الاقتصادية تظل هي الأكثر إيلاماً. ولعل أكثرها تأثيرًا تجميد ألمانيا لخط "نورد ستريم2" الروسي لتصدير الغاز إلى أوروبا، وإقصاء روسيا عن نظام سويفت الذي يسمح بتحويل الأموال بين الدول المختلفة، وتجميد أصول مملوكة للبنك المركزي الروسي وبنوك روسية للحد من إمكانية وصول روسيا لمواردها المالية بالخارج، ومنع الشركات والحكومة الروسية من الحصول على أموال من الأسواق الأمريكية والأوروبية، وتتبع الأصول الروسية والعمل على تجميدها، سواء كانت مملوكة لأشخاص أو شركات مملوكة للدولة بما فيها الشركات المملوكة لوزارة الدفاع. كما إنها المرة الأولى التي يتم فيها فرض عقوبات على البنك المركزي لإحدى دول مجموعة العشرين الكبرى. يضاف إلى هذا، إغلاق 36 دولة أوروبية والولايات المتحدة وكندا مجالها الجوي وموانيها أمام روسيا، وفرض عقوبات على مسؤولين وشخصيات روسية بارزة، منهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، والمتحدث باسم الكرملين ديمتيرى بيسكوف، وعدد من رجال الأعمال الروس، وأكثر من 300 من البرلمانيين الروس، وذلك بهدف إحداث ركود اقتصادي، وفوضى في القطاع البنكي، وإثارة حالة من عدم الرضا وعدم الاستقرار في روسيا.
على الصعيد الاستراتيجي لجأت الولايات المتحدة إلى الأحلاف العسكرية لتطويق البلدين، ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي ومعه حلف وارسو فقد استمر حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذى تقوده واشنطن وأخذ يتسع في عضويته ويتمدد باتجاه روسيا حتى أصبح على حدودها المباشرة في لاتفيا وواصل التقدم باتجاه أوكرانيا وجورجيا. ورغم الحرب الأوكرانية فإن الناتو يواصل تمدده بقبول ترشيح فنلندا والسويد لعضويته.
كذلك تم إعلان الشراكة الدفاعية بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، تحالف "أوكوس"، في 15 سبتمبر 2021م، على غرار الناتو، لمواجهة الصين وتطويقها واحتواء تمدد النفوذ الصيني في منطقة شرق آسيا. ويعد "أوكوس" إحياء وتأكيد على استمرار ما يعرف بتحالف العيون الخمس، أقدم شراكة استخباراتية في العالم حيث تعود إلى أكثر من سبعة عقود منذ توقيع اتفاقية "يوكوزا" UKUSA في الأربعينيات من القرن الماضي، وهو ترتيب لمشاركة المعلومات الاستخباراتية بين خمس دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويشمل الصناعة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة. كما تم إحياء تجمع "كواد" أو "الحوار الأمني الرباعي"، الذى يضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، وعقد أول اجتماع له في مايو 2007م، ووصف بالناتو الآسيوي. إلا إنه جُمد تحت ضغط من الصين حتى إحياءه مجدداً عام 2017 م، ولكن ليس على مستوى القمة. ومع وصول بايدن إلى البيت الأبيض تم عقد ثلاث قمم، كان أخرها في مايو 2022م، بطوكيو حيث أكدت الدول الأربعة معارضتهم لكافة محاولات تغيير الوضع القائم بالقوة، وخصوصًا في منطقة المحيط الهندي الهادئ، كما اتفقوا على مشروع للمراقبة البحرية لتعزيز مراقبة التحركات الصينية في المنطقة. وخلال القمة أكد الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا تعرضت إلى هجوم من الصين في تصعيد واضح اعتبرته بكين انتهاكًا لمبدأ "صين واحدة" والتزامات الولايات المتحدة في هذا الخصوص، ووصل التصعيد مداه مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكية، نانسي بيلوسى، لتايوان في 2 أغسطس 2022م، رغم اعتراض بكبن على الزيارة وإطلاقها العديد من التحذيرات والتهديدات لواشنطن حال إتمامها.
على صعيد آخر، برز الفضاء الإلكتروني كأحد مجالات التنافس والصراع بين القوى الكبرى، وظهر لأول مرة مفهوم الحرب السيبرانية التي يعتبرها البعض حروب المستقبل، ولا تقل خطورة عن الحروب التقليدية من حيث التهديد الذى تنطوي عليه وحجم التدمير الذى يمكن أن تؤدى إليه أخذاً في الاعتبار السرعة الفائقة، والانتشار الواسع، وكونها تتم بأساليب يصعب تتبعها في كثير من الأحيان، فمثل هذه الهجمات السيبرانية تتم بالتحكم والسيطرة على أجهزة الحاسبات والمعلومات والشبكات الإلكترونية والبنية التحتية المعلوماتية والمهارات البشرية المدربة للتعامل مع هذه الوسائل، وتزداد حدة المواجهة بين واشنطن وكل من موسكو وبكين في ضوء الاتهامات المتبادلة بتوجيه هجمات على أهداف حيوية. وتعزز واشنطن من قدراتها السيبرانية حيث وقع الرئيس السابق ترامب مرسومًا في 16 أغسطس 2018م، يلغي بموجبه التوجيه الرئاسي لسلفه باراك أوباما لتنظيم استخدام الأسلحة السيبرانية ضد معارضي الولايات المتحدة، رقم 20 لعام 2012م، على النحو الذى يخفف القيود المفروضة على شن هجمات سيبرانية ضد معارضي واشنطن. وقد ظل مضمون هذه الوثيقة سري حتى عام 2013، عندما كشف الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن عن عدد من الوثائق السرية المتعلقة بعمل أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية. كما أعلنت واشنطن عزمها التعاون مع شركائها الدوليين لتعزيز أمن الفضاء السيبرانى، وفى هذا السياق أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، في 6 يوليو 2018م، إنشاء مركز للعمليات السيبرانية في الحلف، وتطوير المركز الخاص بالدفاع السيبراني الذى أنشأ في تالين عام 2008م، ويشارك في أعماله 20 دولة، وتم منحه وضع منظمة عسكرية دولية وينظم تدريبات دولية سنوية على الدفاع السيبرانى.
في مواجهة خطوات وسياسات واشنطن لاحتواء روسيا والصين يسعى البلدان إلى كسر حلقة التطويق الأمريكية من خلال مجموعة من الإجراءات على المستوى الثنائي وعبر أطر متعددة تجمعهما ودول أخرى، في مقدمتها التحرك الجاد باتجاه نظام اقتصادي عالمي جديد بآليات موازية لتلك التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، أهمها التخلي عن الدولار في التعاملات التجارية وكذلك في تسديد قيمة الطاقة الروسية وقيم الأسلحة أيضاً، وذلك عبر تطوير نظم تقوم على استخدام العملات الوطنية بين روسيا والصين وعدد آخر من الدول في الفضاء السوفيتي السابق حيث بلغت حصة التجارة بالعملات الوطنية في الاتحاد الأوراسي الذى يضم روسيا وأربعة من الجمهوريات السوفيتية السابقة 75%، وكذلك مع تركيا وفيتنام، وفى إطار مجموعة بريكس التي تضم البلدين إلى جانب كل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وخلال قمة بريكس الأخيرة يوم 22 يونيو تم الإعلان عن أنه يجري العمل على إنشاء عملة احتياط دولية على أساس سلة عملات "بريكس". ويقوض هذا من نظام بريتون وودز الذى مكن واشنطن من الهيمنة على الاقتصاد العالمي بآليات عدة يمثل اعتماد الدولار كعملة وحيدة وأساس للتداول والعمود الفقري له، ومن ثم فإن ضرب الدولار يعنى شلل هذا النظام وانهياره. لقد كانت هيمنة عملة واحدة على المعاملات الدولية استثناءً لا سابق له في التاريخ، ولاشك أن حلحلة وضع الدولار كعملة عالمية مهيمنة ستؤثر حتماً على الاقتصاد الأمريكي، وتفقد واشنطن أداة هامة للتأثير الدولي، وتعد مؤشر قوي على التحول باتجاه نظام اقتصادي عالمي جديد.
كذلك تتجه البنوك المركزية في العالم، للاستعانة باليوان الصيني، ضمن سعيها لتنويع احتياطاتها من العملات الأجنبية، وفي بادرة تشير للتراجع التدريجي لهيمنة الدولار، في ظل التوترات التي تعصف بالساحة السياسية العالمية، ارتفعت نسبة مديري الاحتياطي في البنوك المركزية الذين يستثمرون أو ممن لديهم الرغبة في الاستثمار في اليوان، من 81% في 2021م، لنحو 85% خلال العام الجاري، وفقاً لمسح أجرته مؤسسة "يو بي أس" الاستثمارية، على 30 من البنوك المركزية الرئيسية في الفترة بين أبريل ويونيو 2022م، وجاءت زيادة الرغبة في العملة الصينية، بعد تجميد القوى الغربية لنحو 300 مليار دولار من احتياطي موسكو من العملة الصعبة، كجزء من العقوبات التي تفرضها على روسيا، كما أثرت المخاوف المتعلقة بالتضخم الأمريكي، والجهود التي يبذلها الاتحادي الفيدرالي لمحاربته، على الشعور قصير الأجل تجاه الدولار، وأكد 54% من المديرين الذين شملهم المسح اتجاههم للاحتياطي باليوان.
يضاف إلى ذلك العمل على إنشاء أنظمة مصرفية ومالية مستقلة عن نظام "سويفت" الدولي، الذى تهيمن عليه الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار أطلقت روسيا خلال عام 2018 م، نظام الدفع الخاص بها "إس بي إف إس" (SPFS)، ويتم من خلاله التحويلات المحلية بين البنوك الروسية. وأعلن البنك المركزي الروسي أن هذا النظام يمكن لجميع المتعاملين في الداخل والخارج استعماله، وهو مرتبط بنظام البنوك فى الصين. كما يمكن لروسيا إجراء التحويلات المالية باستخدام أنظمة أخرى، ومنها على سبيل المثال، نظام "كروس بوردر" الصيني للتحويلات المالية. ومع إعلان شركة "ماستركارد" و"شركة "فيزا" تعليق خدمات بطاقاتها البنكية في روسيا، بدأت البنوك الروسية في الاعتماد على النظام الصيني للمدفوعات "UnionPay" في إصدار البطاقات، وهو نظام معمول به في 180 دولة، كما تم اعتماد البطاقة الروسية "مير" من جانب عدد متزايد من الدول، وهي بطاقة مصرفية روسية تعمل بواسطة منظومة دفع وطنية، أُطلقت في عام 2015م، ويتم التعامل بها في دول مثل تركيا وفيتنام وأرمينيا وأوزبكستان وبيلاروسيا وكازاخستان وغيرها. وإزاء القيود الأمريكية والغربية على تصديـر التكنولوجيـا إلى روسـيا، وفـرض عقوبـات على بعـض الكيانـات والشركات التكنولوجية الروســية اتجهت موسكو إلى الصيـن لسـد الفجـوة التكنولوجية وتعويـض غيـاب الشركات الغربيـة بالسـوق الـروسية.
كما تم تدشين مؤسسات مالية دولية في محاولة لطرح بدائل للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ففي عام 2015م، تم إطلاق اثنين من هذه المؤسسات، الأولى البنك الآسيوي الذى أعلن عن تأسيسه الرئيس الصيني شي جين بينج، برأس مال 100 مليار دولار، وبدأ عملياته في يناير 2016م، وتبلغ مشاركة الصين في رأس مال البنك 30,34%، مما يجعلها أكبر المساهمين إذ ستحتفظ بـ 26,06% من مجموع الأصوات فيه. وتعتبر الهند ثاني أكبر المساهمين به، تتبعها روسيا فألمانيا كما يضم حلفاء رئيسيين لواشنطن مثل أستراليا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والفلبين وكوريا الجنوبية. والثانية بنك بريكس للتنمية لتمويل المشاريع التنموية ومشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء وصندوق الاحتياطي النقدي التابع له لمواجهة آثار التقلبات في أسواق المال، برأسمال 200 مليار دولار للمؤسستين. وخلال عام 2021 م، تم ضم عدد من الدول للبنك رغم كونها ليست عضو مجموعة بريكس وهى مصر والإمارات وأوروجواي وبنجلاديش.
يتزامن هذا مع تعزيز التعاون الاستراتيجي بين موسكو وبكين على المستويين الثنائي والمتعدد أيضًا، فخلال قمة 4 فبراير 2022 م،أعلن الرئيسان شى وبوتين شراكة "بلا حدود" بين البلدين، و"حقبة جديدة" في العلاقات الدولية تضع حد للهيمنة الأمريكية، كما أعلنا معارضتهما لأي توسيع للناتو مستقبلاً، ودعمت بكين مطلب روسيا بضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. ومن جانبها، أبدت روسيا دعمها لصين واحدة وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، ومعارضة أي شكل من أشكال استقلال الجزيرة. واستنكر البلدان دور التحالفين العسكريين الغربيين اللذين تقودهما الولايات المتحدة: الحلف الأطلسي وحلف "أوكوس"، باعتبارهما يقوضان الاستقرار والسلام العادل في العالم. وأكدا عزمهما العمل معًا ضد الولايات المتحدة لبناء نظام دولي جديد يقوم على أساس رؤيتهما الخاصة لحقوق الإنسان والديمقراطية.
من ناحية أخرى، أجرت موسكو وبكين سلسلة من المناورات العسكرية البحرية والجوية في رسائل واضحة لواشنطن وحلفائها حول مستوى التعاون الاستراتيجي والذى قد يصل فعلياً مستوى التحالف، واستعدادهما للدفاع عن أمنهما ومصالحهما في المنطقة. فقد نفذت روسيا دوريات جوية مشتركة مع الصين فوق المحيط الهادئ، في 24 مايو 2022م، غطت أجواء بحر اليابان وبحر الصين الشرقي وغربي المحيط الهادئ، وذلك في إطار تعزيز التعاون الدفاعي الثنائي، وبعد يوم من تهديد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالتدخل عسكريا إذا قررت الصين غزو تايوان خلال قمة "كواد" بطوكيو. سبقها إجراء سفن حربية روسية وصينية أول دوريات مشتركة لها غربي المحيط الهادئ ومناورات عسكرية نفذت في بحر اليابان في أكتوبر 2021م، عبرت خلالها سفن البلدين السفن مضيق تسوجارو الذى يفصل بين الجزيرة الرئيسية في اليابان وجزيرة هوكايدو الشمالية للمرة الأولى، ما اعتبرته وزارة الدفاع اليابانية تحركات "غير عادية". وجاءت رداً على إعلان تحالف "أوكوس" في سبتمبر من نفس العام. وفي يناير 2022م، انضما إلى إيران في النوع نفسه من التدريبات في شمال المحيط الهندي، في رسالة للرد على محاولة إنشاء ناتو آسيوي نواته تحالف "كواد" الرباعي، ومحاولات واشنطن نقل الصراع إلى جبهة جديدة "المحيط الهندي- المحيط الهادئ". وكانت منظمة شنغهاي التي يقودها البلدان قد قبلت إيران كعضو كامل في قمتها يوم 17 سبتمبر 2021م، وتم توقيع الاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني في طهران في 27 مارس 2021م، وهي اتفاقية مدتها 25 عاماً بين البلدين، تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والعسكرية والأمنية. كما إن الاتفاق الذى تم توقيعه بين شركة "غازبروم" الروسية وشركة النفط الوطنية الإيرانية خلال زيارة الرئيس بوتين لطهران يوم 19 يوليو 2022 م، يتيح لروسيا التواجد في جزيرة "كيش" وسط مياه الخليج للتنقيب واستخراج النفط الإيراني، وفى تطوير حقل بارس الشمالي، وهذان الموقعان سيمكنان موسكو من متابعة تحرك جميع القطع البحرية في الخليج بما في ذلك تلك التابعة للأسطول الخامس الأمريكي.
في السياق ذاته، قامت روسيا بإصدار عقيدة عسكرية بحرية جديدة في 31 يوليو 2022م، تتضمن مواجهة التهديدات التي تفرضها الهيمنة الأمريكية على المحيطات، وحماية المصالح الروسية في القطب الشمالي والبلطيق والكوريل والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر المتوسط التي تعتبر مهمة لضمان الأمن القومي الروسي، وتعزيز نقاط الدعم اللوجستي للأسطول الروسي في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وإقامة شراكة استراتيجية مع الهند وتعزيز التعاون مع كل من إيران والسعودية والعراق. ورداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، قامت الصين بقطع كل الاتصالات العسكرية مع الولايات المتحدة، وبدأت مناورات عسكرية بالذخيرة الحية على نطاق واسع في 6 مناطق محيطة بتايوان تعتبر الأضخم على الإطلاق في المنطقة وتمثل تطويقاً عسكرياً لتايوان خلال الفترة من 4 وحتى 7 أغسطس، كما إنها المرة الأولى التي تحلق فيها الصواريخ الصينية فوق تايوان، ويطلق فيها الجيش الصيني ذخيرة حية ونيران مدفعية بعيدة المدى فوق مضيق تايوان منذ أزمة التسعينات من القرن الماضي.
في ضوء ما سبق، يشهد النظام الدولي تغيرات هيكلية على مستوى القوى الفاعلة والتفاعلات فيما بينها، على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي. صحيح إن مثل هذه التحولات بدأت قبل الحرب الأوكرانية بسنوات إلا إن الحرب سرعت منها وعمقت من تداعياتها. إن مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية تختلف كثيراً عن سابقتها. ولعل أبرز أبعاد هذه التغيرات الهيكلية حالة الاستقطاب المرن التي تبلورت ونضجت على خلفية الحرب في أوكرانيا. من الواضح أن الولايات المتحدة لم تستطع عرقلة روسيا والصين أو شق الشراكة الاستراتيجية بينهما بل إنها زادت هذه الشراكة قوة ومتانة ونقلتها لمستويات نوعية لم تكن متصورة. هذا في حين زادت من التباعد بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو وكل من روسيا والصين، ولم يعد الحديث يدور حول تقريب الهوة ودفع التعاون بقدر ما يركز على وقف التصعيد والحيلولة دون الانزلاق لحرب عالمية ثالثة تشعلها بؤر ساخنة في القرم وتايوان قد تفجر حربًا لا منتصر فيها ولا مهزوم.