ما بين إصدار المفهوم الاستراتيجي الثامن في يونيو 2022م، الذي تضمن النص بشكل مباشر على أن روسيا هي مصدر التهديد الأول لأمن دوله، وأن السياسات الصينية من شأنها إلحاق الضرر بأمن دول الحلف وبزوغ تقارب روسي - صيني أماطت الأزمة الأوكرانية اللثام عن ملامحه وأهدافه وتأثيراته، ما بين هذا وذاك أضحى حلف شمال الأطلسي" الناتو" والدول الغربية عموماً على محك الاختبار وللمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة في مواجهة تلك الكتلة الجديدة، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات التي ربما نجد لها إجابات استناداً إلى مؤشرات ملموسة والأخرى لا تقل إجاباتها تعقيداً عن الواقع الراهن ذاته ،ومنها هل أدت الأزمة الأوكرانية إلى اصطفافات دولية جديدة إلى الحد الذي يمكن معه القول أننا بصدد نظام عالمي جديد؟ ما هي أوجه القوة والتأثير لدى الجانبين؟ هل نحن بصدد استراتيجيات للردع المتبادل يطول أمدها أم أنها مقدمة لمواجهة عسكرية مباشرة؟ وأخيراً ما هو تأثير تلك المعادلة الجديدة على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وخيارات تلك الدول؟
أولاً: تأثير الأزمة الأوكرانية على الاصطفافات الدولية الجديدة
على الرغم من أن انتهاء الحقبة الباردة نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات قد اعتبر نصراً محققاً للكتلة الرأسمالية التي عبر عنها حلف شمال الأطلسي"الناتو" الذي شهد صراعاً ضروساً مع نظيره "وارسو" الذي تلاشي مع انتهاء تلك الحرب فإن العديد من الدراسات لم تول اهتماماً حول طبيعة الصراع فيما بعد انتهاء تلك الحقبة، فروسيا انتهت كقوة عظمى على الصعيد الأيديولوجي بينما ظلت كقوة عسكرية ونووية يقودها رجل عمل لفترة ليست بالقصيرة في الاستخبارات الروسية بما يعني درايته الكاملة والدقيقة بمكامن القوة والضعف لدى الدول الغربية، ومن ثم فقد انتهت الحرب الباردة ولم ينته الصراع الروسي- الغربي، والخلفية التاريخية معروفة للجميع وخلاصتها ظهور استراتيجية جديدة للناتو الذي تعرض للنقد الشديد من داخل المنظومة الغربية ذاتها" إما التحول وإما الانتهاء"، فكان الخيار الأول وهو التمدد من خلال مسارين الأول تجاه دول الاتحاد السوفيتي السابق من خلال تأهيلها بهدف الانضمام للحلف ونجح بالفعل في ضم معظمها، والثانية مع دول شرق أوسطية بهدف الحوار من أجل إرساء تفاهمات مشتركة حول التهديدات الأمنية، وكلتا الاستراتيجيتين رأتهما روسيا تهديداً لمصالحها وإن كان ضم الحلف لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق هو التحدي الأكبر ، وعلى مدى عقدين من الزمان سعت روسيا لاحتواء تمدد الحلف من خلال شراكات مع دول ومناطق رأت أنها تمثل نقاط تماس استراتيجي مع الناتو، إلا أن بلوغ الصراع الحدود الروسية بشكل مباشر من خلال اتخاذ النخبة الحاكمة في أوكرانيا خطوات متسارعة باتجاه الحصول على عضوية الناتو كان إيذاناً بخروج الصراع الروسي- الأطلسي عن حدوده المألوفه الأمر الذي حدا بالرئيس الروسي فلاديميير بوتين لاتخاذ قرار غزو أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير 2022م، مما وضع العالم أمام مشهد جديد لا تقتصر أطرافه وتفاعلاته على طرفي المواجهة "الناتو وروسيا" بل ضم كلاً من روسيا والصين بل بقية دول العالم بشكل غير مباشر لسبب مؤاده إجماع العديد من الدراسات على توصيف هيكل النظام العالمي منذ انتهاء الحرب الباردة بأنه عبارة عن مثلث قمته هي الدول الكبرى ذات التأثير في مسار ذلك النظام وهي الولايات المتحدة والدول الغربية بغض النظر عن نتائج تدخلاتها العسكرية في بعض الأزمات خارج المنطقة الأوروبية فإن الحقيقة التي لامراء فيها أنها من أسست وقادت التحالفات العسكرية بديلاً عن منظمة الأمم المتحدة، وفي وسط المثلث تقف الدول الكبرى ومنها روسيا والصين وبعض القوى الأخرى ولكنها ليست لديها القدرة على التأثير في مسار النظام الدولي على الأقل عسكرياً إلى الحد الذي توصف فيه بأنها" القوة غير المكتملة"، وفي نهاية المثلث تجئ دول العالم الثالث الأخرى وهي ليست بالقليلة، إلا أن الأزمة الأوكرانية كانت إيذاناً ببزوغ ملامح هيكل جديد وهو حلف الناتو والدول الغربية في مواجهة تقارب روسي-صيني، صحيح أن التاريخ يتضمن ميراثاً من الخلافات بين الجانبين إلا أن منطق العلاقات الدولية هو أن" المصالح تتصالح" وقد بدا ذلك في مواضع كثيرة ابتداءً بالسلوك التصويتي للصين بشأن القرارات الأممية لإدانة الغزو الروسي والتي كانت سبباً في عدم وجود ردة فعل دولية قوية لإدانة ذلك الغزو، ومروراً بتوقيع الرئيسان فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ وثيقة مشتركة بعنوان "الإعلان المشترك بشأن دخول العلاقات الدولية عهداً جديداً والتنمية المستدامة" في فبراير 2022م، والتي تضمنت مطالب من الدول الغربية من بينها وقف التدخلات في مناطق ترى الدولتان أنهما مناطق نفوذ لهما آسيا والمحيطين الهندي والهادئ والدول الأوروبية ووصولاً إلى تصريح الرئيس الصيني شي جينبينغ دعمه "لسيادة روسيا وأمنها"، والأمثلة على ذلك التقارب كثيرة منها توقيع اتفاقيات طويلة الأمد بين روسيا والصين في مجال النفط والغاز والتطلع لزيادة حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024م.
ثانياً: أوجه التأثير والقوة لدى الجانبين
من المنظور العسكري التقليدي يظل حلف الناتو متفوقاً على روسيا حيث تجاوز الإنفاق العسكري لدول حلف الناتو مجتمعة تريليون دولار في عام 2021م، في مقابل 1,981 مليار دولار حجم الإنفاق العسكري الروسي، وإن كان لدى روسيا رؤوساً نووية تفوق الولايات المتحدة أكبر دول الحلف، إلا أنه من التبسيط الشديد اختزال تلك القوة في الجوانب العسكرية التقليدية وغير التقليدية، صحيح أن تلك القوة تمثل أساساً للردع، إلا أنها لا تكفي للتقييم الاستراتيجي الصحيح لثلاثة أسباب أولها: ما أوجدته جائحة كورونا من أبعاد جديدة للأمن بعيداً عن المفهوم العسكري وقدرة كل من الصين وروسيا على بناء شراكات خلال تلك الجائحة مع العديد من دول العالم من بينها دول داخل المنظومة الأوروبية ذاتها الأمر الذي حدا بأحد مسؤولي الحلف لاتهام روسيا بسعيها لشق الصف الأوروبي، وثانيها: توظيف الخطابان الروسي والصيني الأزمة الأوكرانية للحديث عن ضرورة إصلاح هيكل النظام الدولي فخلال مشاركته في أعمال الدورة 25 لمنتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي والذي يعد أحد المنتديات الدولية الكبرى والمهمة حيث ضم ممثلي 100 دولة من بينهم الرئيس الصيني شي جينبينغ، قال الرئيس الروسي فلاديميير بوتين أن" زمن الهيمنة الأمريكية وأحادية القطبية قد ولى" أما نظيره الصيني شي جين بينغ فقد قال " أن حجم التبادل التجاري مع روسيا منذ بداية العام 2022م، بلغ 65 مليار دولار مما يعد مؤشراً على مقاومة الضغوط وإمكانات التعاون بين البلدين"، وثالثها: التصنيف الغربي للدولتين روسيا كتهديد والصين كتحد وفقاً للمفهوم الاستراتيجي الثامن لحلف الناتو قد عزز من إدراك الدولتين أنهما أضحا في بوتقة واحدة بما يعني حتمية التعاون فيما بينهما وخاصة في ظل مضامين استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي بدأت إرهاصاتها في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب وصولاً إلى إدارة الرئيس بايدن ومن ملامحها الانحسار الأمريكي عن مناطق الصراعات الأمر الذي مثل فرصة سانحة لروسيا لملء أي فراغ محتمل ويمكن فهم وتحليل المبادرة الروسية لأمن الخليج العربي في عام 2019م، في ذلك السياق.
ويعني ما سبق أن كلاً من روسيا والصين لديهما نفوذ سياسي كونهما عضوان دائمان في مجلس الأمن بما يعني عرقلة كافة القرارات التي ترى الدولتان أنها تتعارض ومصالحهما، فضلاً عن نفوذهما الاقتصادي، فعلى سبيل المثال تشير التقارير إلى ازدياد الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2021م، بنسبة 8,1% وتفوق تلك النسبة توقعات الحكومة الصينية التي كان مخططاً لها وهي 6% ، أما الاقتصاد الروسي فيأتي في المرتبة الـ 11 ضمن أكبر اقتصادات العالم، وبتحقيق ناتج محلي إجمالي بلغ في العام ذاته 1,7 تريليون دولار،بالإضافة إلى حوالي 630 مليار دولار تمثل إجمالي احتياطات النقد الأجنبي لدى روسيا، وقد أثار التقارب الروسي الذي تسارعت وتيرته خلال الأشهر المنقضية من العام الحالي وخاصة على الصعيد الاقتصادي تساؤلات عديدة ومخاوف لدى الدول الغربية من أن العالم بصد بزوغ "تحالف جديد" ليس بالضرورة عسكرياً وإنما يمثل الاقتصاد والتنسيق السياسي دعامتان أساسيتان له، وقد عبر بعض مسؤولي الدول الغربية السابقين والحاليين عن تلك المخاوف من خلال مؤشرات عديدة من بينها ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر أولها: تحذير أورسولا فون دير لايين رئيسة المفوضية الأوروبية في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير 2022م، من أن " روسيا والصين تسعيان إلى تغيير القواعد الدولية القائمة"، وثانيها: مطالبة هنرى كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الدول الغربية بضرورة أن يعمل الغرب على " إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا إذا كان لايريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا" في إشارة إلى ضرورة أن يعمل الغرب على تفكيك عرى ذلك التحالف الآخذ في البزوغ من خلال احتواء روسيا وإيجاد صيغة ما لوضعية أوكرانيا ضمن منظومة الأمن الأوروبي، وثالثها:تصريح آندرو شيرر المدير العام لمكتب المخابرات الوطنية الاسترالية أن " الرئيس الصيني شي جين بينغ يخطط للهيمنة على منطقة المحيطين الهندي والهادي واستغلالها كقاعدة لتحل بلاده محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الرائدة في العالم".
ثالثاً: الردع المتبادل وبناء تحالفات وشراكات : الناتو مقابل الصين وروسيا أيهما أقرب لأهدافه؟
على الرغم من زيادة تصعيد لهجة الخطاب السياسي أحياناً بين الدول الغربية من ناحية وروسيا والصين من ناحية ثانية فإن خيار الصدام العسكري المباشر ليس وارداً على الأقل خلال المدى المنظور ، بل أن هناك تنسيق والذي كان يعبر عنه مجلس الناتو – روسيا الآلية التي استحدثها حلف الناتو للحوار مع روسيا عام 2002م، ولم يتوقف عملها سوى قبل الدخول الروسي لأوكرانيا بأسابيع قليلة، من ناحية ثانية يوجد حوار دائم بين الولايات المتحدة والصين على كافة المستويات ، ومن ثم فإن الاستراتيجيات الغربية تجاه الدولتين تتمثل في ممارسة الردع وتوظيف أوراق الضغط بعيداً عن التفكير في أي مواجهة عسكرية كما أكد على ذلك الخطاب الرسمي الأمريكي منذ بداية الأزمة الأوكرانية، وكذلك رفض حلف الناتو إقامة منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا أو اتخاذ أي إجراءات تشي برغبته في مواجهة روسيا عسكرياً في أوكرانيا، ومن تلك الاستراتيجيات المتبادلة بين الطرفين:
1-تعزيز قوة ردع حلف الناتو في مناطق التماس مع روسيا، فخلال قمة الحلف في يونيو 2022م، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن زيادة هائلة في القوات الأمريكية في أوروبا ومن ذلك زيادة عدد الطرادات الحربية المجهزة برؤوس نووية من 4 إلى 6 في قاعدة روتا على المحيط الأطلسي، بالإضافة إلى قرار الرئيس بايدن إقامة المقر الرئيسي الدائم للجيش الأمريكي الخامس في بولندا، ونشر 3500 جندي في رومانيا، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في دول البلطيق.
2- بدء حلف الناتو خطوات عملية لضم كل من السويد وفنلندا لعضوية الحلف بعد انتهاء اعتراض بعض أعضاء الحلف على تلك الخطوة، وبغض النظر عن المدة التي قد تستغرقها تلك الخطوة فإن وجود هاتين الدولتين ضمن عضوية الحلف يعني زيادة الحدود الروسية مع حدود الناتو إلى الضعف من 1300 كم إلى 2600 كم.
3- سعي كل من الولايات المتحدة وروسيا لتوظيف ما لديهما من أوراق ضغط بشكل متبادل، ففي الوقت الذي سعت فيه الولايات المتحدة لفرض كافة أنواع العقوبات على روسيا، تسعى روسيا لفتح آفاق جديدة لتعزيز نفوذها الدولي ومن ذلك الجولة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى إفريقيا نهاية يوليو 2022م، وشملت كل من مصر، والكونغو، وأوغندا، وإثيوبيا والتي اكتسبت أهميتها في ظل اعتماد العديد من الدول الإفريقية على صادراتها من القمح من روسيا بشكل أساسي وخاصة بعد التوصل لاتفاق بين روسيا وأوكرانيا بوساطة تركيا والأمم المتحدة لبدء تسيير شحنات القمح والحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية والتي فاقمت من مشكلة الأمن الغذائي العالمي، وتأتي تلك الزيارة ضمن سعي روسيا لبناء جبهة مضادة للدول الغربية وخاصة أن الاتحاد الإفريقي قد انتهج الحياد حيال الأزمة الأوكرانية، الجدير بالذكر أنه تزامناً مع جولة وزير الخارجية الروسي قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجولة مماثلة شملت كل من الكاميرون، وغيينيا بيساو، وبنين، وفي مسار ثالث قام مايك هامر المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الإفريقي بجولة موازية أيضاً شملت كل من مصر والإمارات وإثيوبيا، ومن جانبها تعمل الصين في الوقت ذاته على زيادة نفوذها في القارة الإفريقية سواء من خلال تأسيس قاعدة عسكرية لها في جيبوتي أو من خلال إيجاد سبل لتسوية الديون لدى الدول الإفريقية.
4-على صعيد مواجهة الصين فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز شراكاتها الأمنية مع كل من اليابان والهند وأستراليا، فضلاً عن تحالف أوكوس الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا بهدف تغيير توازن القوى في آسيا لردع الصين، بالإضافة إلى الزيارة التي قامت بها نانسي بلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي، لتايوان ضمن جولة آسيوية لها في أغسطس 2022م ، والتي شملت كل من سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان ، وخلال تلك الزيارة قالت بلوسي" إن زيارة وفد الكونغرس لتايوان تكرس التزام أمريكا الثابت بدعم الديموقراطية النابضة في تايوان"، بيد أنها أضافت أن "تلك الزيارة لا تتعارض بأي شكل مع السياسات الأمريكية التي تعترف بصين واحدة ولم تعترف رسميا بتايوان كدولة مستقلة"، الجدير بالذكر أن جيش التحرير الشعبي الصيني أعلن حالة التأهب القصوى عشية تلك الزيارة.
5- أما روسيا من جانبها ، فإضافة إلى استعراض قوتها التقليدية والنووية خلال الحرب الأوكرانية، فإن ثمة تطور جديد ضمن ممارسة الردع يتمثل في توقيع الرئيس الروسي فلاديميير بوتين في الحادي والثلاثين من يوليو 2022م، على مرسومين أحدهما حول العقيدة البحرية الروسية والآخر بشأن ميثاق الأسطول العسكري الروسي، وتتمثل أهم بنود الاستراتيجية البحرية الروسية الجديدة في أن السياسات الأمريكية البحرية في المياه الدولية تعد تحدياً للأمن القومي الروسي،ضرورة زيادة نقاط تموين السفن الروسية خارج حدود روسيا، تحديد مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود وشرق المتوسط نقاط تماس استراتيجي مهمة للأمن القومي الروسي، ضرورة وجود نقاط لوجيستيىة لروسيا في البحر الأحمر، وأخيراً ضرورة بناء سفن حاملة للطائرات.
رابعاً: تأثير الصراع الغربي- الروسي الصيني على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي:
على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية ليست ضمن مناطق تماس مباشر مع منطقة الشرق الأوسط فإن تداعياتها تطال تلك المنطقة لعدة أسباب أولها: أن تلك المنطقة كانت- ولاتزال- إحدى ساحات الصراع بين تلك الأطراف سواء في الشمال الإفريقي الذي يحتوي على مبادرة لحلف الناتو وهي الحوار مع 7 دول متوسطية والتي أطلقها الحلف عام 1994م، أو شراكات روسيا مع بعض من تلك الدول، فضلاً عن الساحة الإفريقية الأكبر لذلك الصراع، الصين من جهتها تسعى لتعزيز نفوذها في تلك المنطقة أيضاً من خلال سياسة القروض لتلك الدول، وروسيا من خلال ملف الأمن الغذائي والتكنولوجيا العسكرية لبعض الدول الإفريقية، بالإضافة لملف التعاون في بناء محطات نووية للأغراض السلمية، وثانيها: تداخل وتشابك المصالح بشكل كبير، فهناك دول تحصل على الأسلحة من الغرب وعلى الغذاء من روسيا الأمر الذي مثل لها مأزقاً كبيراً في مساندة هذا الطرف أو ذاك،بل أن حياد دول الخليج العربي ذاتها تجاه الأزمة الأوكرانية والتزام تلك الدول باتفاق" أوبك بلس" مع روسيا بشأن كمية النفط المنتج يمكن أن يفهم ضمن هذا الإطار، وثالثها:سعي روسيا للاستفادة من الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية التي ترى أن أولوية مواجهة التهديدات الأمنية يجب أن تكون لآسيا على حساب منطقة الشرق الأوسط والتي بدأت إرهاصاتها منذ عام 2012م، من خلال إعلان ليون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي آنذاك تلك الاستراتيجية والتي تضمنت أنه "بحلول عام 2020م، سيكون توزيع البحرية الأمريكية بنسبة 60% في منطقة آسيا- الهادي و40% في المنطقة الأطلسية، مقارنة بنسبة 50% إلى 50% إبان العقود الماضية"، ثم إعادة تأكيد وزير الدفاع الأمريكي الجنرال جيمس ماتيس في التاسع عشر من يناير 2018م، المعنى ذاته من خلال "الاستراتيجية الدفاعية الجديدة للولايات المتحدة" والتي تضمنت خمسة محاور من بينها أن التركيز الرئيسي للأمن القومي للولايات المتحدة سيكون منافسة القوى العظمى ومنها الصين وروسيا وليس الإرهاب وصولاً للرئيس بايدن الذي بالرغم من تأكيده الالتزام بأمن منطقة الخليج العربي فإن الولايات المتحدة تحجم عن ممارسة ضغوط لحل الأزمات الإقليمية التي تمثل تهديداً لأمن الخليج العربي.
ويثير ما سبق تساؤلاً مؤاده ما هي خيارات دول الشرق الأوسط والخليج العربي تجاه ذلك الصراع؟
وواقع الأمر أن الصراع الغربي مع كل من روسيا والصين لايعد أزمة عابرة وإنما سوف تترك آثارها على مجالات عديدة وفي أفق زمنية متتالية بالنظر لتشابك المصالح بشكل كبير من ناحية، وتعدد شراكات وتحالفات دول المنطقة وخاصة الصغرى منها من ناحية ثانية وبالتالي فإن هناك خيارات ثلاثة: الأول يمثل ذلك التحول النسبي في هيكل النظام الدولي فرصة سانحة لإعداة بناء تنظيمات الأمن الإقليمي والتي تنهض بدورها في تحقيق توازن القوى الإقليمي من ناحية ولا تكون عرضة للتغير بتغير النظام الدولي حيث أن دورها يعد مكملاً لمنظمات الأمن العالمي، والثاني: في ظل ما أوجدته الأزمة الأوكرانية من جوانب أخرى للأمن بعيداً عن الأمن العسكري، وخاصة الأمن الغذائي فإن ذلك يستلزم ليس فقط إعادة النظر في تهديدات الأمن القومي بل الاستعداد لمواجهتها ضمن إدارة الأزمات سواء الإقليمية أو الدولية ذات الانعكاسات الإقليمية، والثالث: أظهرت الأزمة الأوكرانية أهمية الجوانب الاقتصادية للشراكات الدولية ومن ثم يجب أن تكون محلاً للحوار بين دول الشرق الأوسط والخليج العربي والقوى الغربية الكبرى.
الخلاصات الاستراتيجية للورقة
تؤكد كافة المؤشرات على أن هناك حالة من التحول النسبي في موازين القوى العالمية على الأقل مؤشرات شراكة متعددة الجوانب بين الصين وروسيا، لا توصف بكونها تحالف بالمعنى الدفاعي على غرار حلف الناتو ولكنها شراكة تلتقي فيها مصالح الطرفين بشكل كبير.
في ظل وجود حالة من الفعل والفعل المضاد وخاصة على صعيد سعي الدول الغربية لتأسيس شراكات وتحالفات يقابلها تحركات مضادة من جانب الصين وروسيا فإن الأمر حتى الآن يبدو ضمن الصراع المنضبط ضمن توظيف كافة أدوات الردع لدى الطرفين وخاصة الغرب وروسيا إلا أن مدى ذلك الصراع يثير تساؤلات حول مآلاته بما يجعل من أهمية تأسيس منظمة للأمن والدفاع في أوروبا على غرار هلسنكي تضم الدول الغربية وأوروبا إطاراً مناسباً لتحقيق الأمن الإقليمي في تلك المنطقة لأنه سيكون مؤسساً على توازن القوى بيد أن ذلك يصطدم بالمفهوم الاستراتيجي الثامن لحلف الناتو وهو ميثاق أمني رفيع المستوى يصدر كل عشر سنوات والذي جعل مواجهة الصين وروسيا من أولويات الحلف الأمنية على مدى عقد مقبل.
تقدم الأزمة الأوكرانية بتداعياتها الراهنة والتي قد تمتد لسنوات مقبلة دروساً مستفادة للعديد من دول العالم وخاصة الدول الصغرى لإعادة النظر في مفهوم الأمن وأسس وأهداف الشراكات التي لم تعد بالضرورة عسكرية فحسب .