شهدت بعض مناطق العالم تنظيمات إقليمية عديدة تعكس مفهوم الأمن الإقليمي كمفهوم وسيط بين الأمن الوطني والأمن العالمي ومن تلك التنظيمات: تجمع الآسيان، الاتحاد الأوروبي، حلف الناتو، الاتحاد الإفريقي، جامعة الدول العربية، وتجمعات فرعية أخرى عديدة، وقد أسهبت العديد من الدراسات وخاصة الغربية منها في تقديم مقارنات بين تلك المناطق ومنطقة الخليج العربي في محاولة للإجابة عن تساؤل مفاده لماذا لم تشهد تلك المنطقة منظومة للأمن الإقليمي تضم كافة أطرافها في ظل كونها أحد أهم مناطق العالم أهمية قاطبة؟، تستهدف هذه الورقة تحليل مفهوم الأمن الإقليمي وتطوره، كما تتناول بعض الصيغ التي أثيرت بشأن تأسيس منظومة للأمن الإقليمي في تلك المنطقة، بالإضافة إلى تحليل دور حلف الناتو تجاه تلك المنظومة وصولاً إلى نتائج الورقة.
أولاً: الأمن الإقليمي: المفهوم .. النشأة .. التطور
تعددت الدراسات التي تناولت مفهوم وتطور الأمن الإقليمي ومن بينها أطروحة الدكتوراه لكاتب الورقة بعنوان (تطور الأمن الإقليمي الخليجي منذ عام 2003م: دراسة في تأثير استراتيجية حلف الناتو)، وقد حدد الباحث مفهوماً للأمن الإقليمي ارتكزت عليه تلك الأطروحة وهو" إدراك مجموعة من الدول تتباين أوزانها النسبية وأنظمتها السياسية وتنتمي إلى إقليم جغرافي واحد لضرورة إيجاد صيغة أمنية لإدارة الصراعات وضبطها فيما بينها للحيلولة دون تفاقمها بما يهدد مصالحها الحيوية، بل وجود إحداها إذا كانت تصنف ضمن مفهوم الدول الصغرى، ويتباين هذا الإدراك من إقليم لآخر وفقاً لطبيعة الوحدات المكونة للإقليم من ناحية والعلاقات فيما بينها من ناحية ثانية والعلاقة بين الإقليم ونظام الأمن العالمي من ناحية ثالثة ويتم التعبير عن ذلك الإدراك بمؤسسات وإجراءات لهذا الأمن من أجل استمراريته"، وقد تطور مفهوم الأمن الإقليمي بتطور العلاقات الدولية ذاتها، حيث ظهرت نظريات الإقليمية، والإقليمية الجديدة وغيرها من الإسهامات النظرية التي لا يتسع المجال للخوض فيها ولكن الأمر الأهم هو أن الأمن الإقليمي كمفهوم يجد سنده القانوني في ميثاق منظمة الأمم المتحدة والذي تضمن فصلاً كاملاً وهو الفصل الثامن بعنوان" في التنظيمات الإقليمية" وتضمن ثلاث مواد وهي " 52،53،54"، حيث نصت المادة 52 على أن "ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحاً فيها ومناسباً ما دامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها..."، وقد استكمل نص المادتين 53و54 الهدف من تأسيس تلك التنظيمات وهو التكامل مع جهود الأمم المتحدة لتحقيق الأمن والسلم الدوليين بما يحقق مبادئ الأمم المتحدة ومقاصدها على أن تكون المنظمة الأممية على اطلاع بما تتخذه تلك التنظيمات من إجراءات وهو ما تشهده ممارسات الواقع بالفعل عندما يضطلع أحد تنظيمات الأمن الإقليمي بإدارة صراع ما فإنه يقوم بإبلاغ مجلس الأمن بما يتخذه من إجراءات، ووفقاً لهذا المفهوم فقد تأسس الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتجمع الآسيان والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، ثم مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يوصف بأنه تنظيم دون الإقليمي لأنه تأسس بدوره وفقاً لنص المادة التاسعة من ميثاق جامعة الدول العربية حيث نصت على" لدول الجامعة العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذا الميثاق، أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض. والمعاهدات والاتفاقات التي سـبق أن عقدتها، أو التي تعقدها فيما بعد دولة من دول الجامعة مع أية دولة أخـرى، لا تلـزم ولا تقيـد الأعضاء الآخرين"، وعلى الرغم من اختلاف مناطق العالم التي شهدت ظهور مثل تلك التنظيمات فإن ثمة أسس مشتركة ميزت تلك التنظيمات أولها: البعد الجغرافي وربما تعززه الروابط التاريخية والثقافية إلى حد كبير، وثانيها: الرغبة المشتركة فيما بين أطراف المنظومة الإقليمية في إيجاد إطار جماعي يكون مظلة لتعزيز العلاقات والحفاظ على المصالح بل وإدارة الصراعات وحل النزاعات كلما أمكن ذلك من خلال الجهود الإقليمية التي ربما تكون أكثر فاعلية من أروقة منظمة الأمم المتحدة التي تشهد اصطفافات وتباينات في الرؤى تعكس توازنات للقوى بما يعوق حل بعض القضايا الخلافية وخاصة المياه والحدود، وثالثها: أن الأمن الإقليمي في تلك المناطق تم التعبير عنه من خلال هياكل تنظيمية لها ميثاق ملزم لكافة دوله الأعضاء يتضمن حقوقاً وواجبات، بل أن المرونة والتكيف ظلتا سمتان لتلك المواثيق بتطور السياق الإقليمي والعالمي على حد سواء.
ثانياً: الأمن الإقليمي ..تجربة دول الخليج العربي
قبيل الخوض في تجربة الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي تجدر الإشارة إلى أحد أبرز المؤلفات وهو كتاب "تحليل النظم الإقليمية :دراسة في أصول العلاقات الدولية الإقليمية" للدكتور محمد السعيد إدريس الصادر عام 2001م، والذي تضمن إطاراً نظرياً مهماً لتحليل التفاعلات التي تدور في أقاليم العالم كافة وتكون بين ثلاث قوى وهي القوة المناوئة أو المهيمنة وهي التي ترفض أي تدخلات خارجية في شؤون الإقليم وتسعى للهيمنة الإقليمية استناداً على تفوقها في القوة إما عددياً أو نوعياً وهي في حالة الخليج العراق سابقاً وإيران حالياً، أما القوة الثانية فهي القوة التدخلية وتعبر عنها كافة القوى الكبرى والمنظمات الدفاعية التي لها مصالح جوهرية في الإقليم ومن ثم تقوم بالتدخل حال تعرض تلك المصالح للخطر وتمثلها كافة القوى الكبرى الغربية وحلف الناتو، ومن أبرز تلك التدخلات تأسيس إدارة الرئيس ريجان لتحالف الراغبين لحماية ناقلات النفط خلال الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات وكذلك تحرير دولة الكويت عام 1991م، وصولاً للغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، وما بين هذه وتلك توجد القوة الموازنة وهي القوة التي تضطلع بدور مهم لضبط الصراع ما بين القوتين السابقتين والحيلولة دون بلوغه حد الصدام العسكري وتعبر عنها دول الخليج العربي التي نجحت في تأسيس منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981م، كأحد أبرز الردود الخليجية الجماعية تجاه اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية وكذلك الثورة الإيرانية ، بالإضافة إلى العديد من التطورات العالمية الأخرى التي كان لها انعكاس على أمن منطقة الخليج العربي، وبغض النظر عن توصيف مجلس التعاون أحياناً يتم تناوله ضمن تنظيمات الأمن الإقليمي وأحياناً أخرى يوصف بأنه تنظيم دون الإقليمي كما سبقت الإشارة، ولكن المجلس تأسس جامعاً مانعاً أي يضم الدول الخليجية الست تأسيساً على روابط تاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية ويحول دون انضمام أطراف إقليمية أخرى لتلك المنظومة، وبنظرة مختصرة على أداء المجلس تجاه تهديدات أمن دول الخليج العربي والأمن الإقليمي عموماً يمكن القول بأنه نجح في حماية دوله الأعضاء استناداً إلى ثلاثة مؤشرات الأولى: أن بقاء المجلس ذاته وانعقاد اجتماعاته سواء على مستوى القمة أو الوزارية ينهض دليلاً على إدراك دوله الأعضاء لحتمية بقاء هذا التنظيم كمظلة جماعية للتعبير عن مصالح تلك الدول والدفاع عنها في ظل تجميد أعمال تنظيمات مماثلة" اتحاد المغرب العربي"، وانهيار تنظيمات أخرى "مجلس التعاون العربي " الذي تأسس عام 1989م، بمبادرة من العراق بعد انتهاء الحرب- العراقية الإيرانية وضم العراق ومصر والأردن واليمن الشمالي وتفكك مع الغزو العراقي للكويت عام 1990م، والثاني: قدرة مجلس التعاون- رغم محدودية قدراته العسكرية مقارنة بالأطراف الإقليمية – على تحقيق الأمن الذاتي والإقليمي لدول الخليج العربي ومن ذلك دور بعض دول المجلس تجاه أحداث البحرين عام 2011م، ثم التحالف العسكري لدعم الشرعية في اليمن2015م،بما يعكس تجذر مفهوم الأمن الجماعي ضمن الممارسات الدفاعية لدول المجلس، فالمادة الثانية من اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك الموقعة عام 2000م، تضاهي المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو ،وتنص المادة الثانية من تلك الاتفاقية بعنوان العدوان والتهديد على أن" تعتبر الدول الأعضاء أن أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها وأي خطر يتهدد إحداها إنما يتهددها جميعاً"، فضلاً عن وجود إطار أمني تطبيقاً لتلك الاتفاقية وهو قوات درع الجزيرة التي تمت الموافقة على تأسيسها عام 1982م، وما شهدته من تطورات حتى اليوم بهدف أن تكون قوة ردع حقيقية لدول الخليج العربي، والثالث: على الرغم من الأزمات التي واجهها المجلس ومثلت انقساماً حاداً بين بعض دوله فإنه بقي بل شهد تطورات مهمة في الجوانب العسكرية كان آخرها في 22 نوفمبر 2021م، من خلال افتتاح القيادة العسكرية الموحدة الجديدة لدول الخليج في المملكة العربية السعودية وتضم تلك القيادة قوات درع الجزيرة ومركز الدفاع الجوي ومركز القيادة البحري.
ثالثاً: صيغ الأمن الإقليمي: دول الخليج وإيران "افتراق لا وفاق"
مع أهمية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإن الأزمات والصراعات التي كانت- ولاتزال- تشهدها منطقة الخليج العربي قد أثارت تساؤلات حول إمكانية تأسيس منظومة للأمن الإقليمي تضم دول الإقليم الثماني "دول الخليج العربي والعراق وإيران" ،تلك التساؤلات التي وجدت إجابات لها على المستويين الأكاديمي بل والعملي، فأكاديمياً ظهرت دراسات عديدة استهدفت المقارنة بين أقاليم مختلفة من العالم من بينها الإقليم الخليجي، وعملياً ظهرت عدة مقترحات سواء من جانب دول الخليج العربي ذاتها أو من جانب الأطراف الإقليمية، فخليجياً وخلال قمة مسقط عام 2001م، قررت دول الخليج العربي قبول عضوية اليمن في عدة مؤسسات خليجية وهي مجلس وزراء الصحة لدول الخليج، مكتب التربية العربي، مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية، دورة كأس الخليج العربي لكرة القدم، كما حرص مجلس التعاون على تعزيز أواصر العلاقات مع العراق بالنظر لمحاولات إيران ممارسة الهيمنة والتأثير على العراق وخاصة بعد الغزو الأمريكي وصولاً للوقت الراهن، بل إن دول الخليج العربي أرادت تعزيز دور مجلس التعاون في مواجهة التحولات التي شهدها العالم العربي عام 2011م، ومثلت تهديداً أمنياً غير مسبوق لها ومن ثم فقد أقرت القمة التشاورية لقادة دول الخليج العربي في مايو 2011م، مقترحًا بضم كل من الأردن والمغرب لعضوية مجلس التعاون وهو الذي شهد انقساماً في مواقف دول المجلس تجاهه، ومع أهمية تلك المقترحات فإن الأهم هو ما يرتبط بمفهوم الأمن الإقليمي لدول الإقليم الثماني المتشاطئة، دول الخليج والعراق وإيران، فالأخيرة تبقى المعضلة الأساسية بشأن ترتيبات الأمن الإقليمي على الرغم من أن دول الخليج العربي لم تعارض أي دور إقليمي لإيران ولكن يجب أن يتأسس ذلك الدور على مبادئ وقواعد القانون الدولي ذات الصلة باحترام سيادة الدول واستقلالها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، بل أن الدعوة لضم إيران لمنظومة الأمن الإقليمي قد جاءت أحياناً من بعض دول الخليج العربي ذاتها، فخلال مؤتمر" العالم العربي والعالم "الذي عقد بالكويت في 11 فبراير 2013م، دعا رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني إلى تأسيس "منظمة الدول المطلة على الخليج للتعاون لتضم إيران" مؤكداً على أنه "لابديل للطرفين عن التعايش"، فضلاً عن انعقاد خمس جولات للحوار بين المملكة العربية السعودية وإيران حتى أغسطس 2022م، بالإضافة إلى وجود تمثيل دبلوماسي بين إيران وأربع دول خليجية بعد إعادة كل من الكويت والإمارات لسفيرهما في إيران العام الحالي 2022م، بيد أن ثمة معوقات تواجه أي مقترحات لتأسيس منظومة للأمن الإقليمي الخليجي وأهمها أن تحقيق الأمن الإقليمي في أوروبا وهي التجربة التي دائماً ما يشار إليها كنموذج يمكن الاحتذاء به في منطقة الخليج العربي، كان نتيجة توازن القوى وهو جوهر معوقات تحقيق الأمن الإقليمي في الخليج العربي حيث تسعى إيران لتوظيف الفجوة مع جيرانها من دول الخليج العربي في ممارسة دور الدولة المناوئة والمهيمنة، فمنذ عام 2006 وحتى عام 2019م، طرحت إيران خمس مبادرات لأمن الخليج العربي كان آخرها مبادرة بعنوان "هرمز السلام" عام 2019م، والتي استهدفت وفقاً للتصريحات الرسمية الإيرانية "تأمين الملاحة البحرية في المنطقة" وأنها متاحة "لمشاركة دول المنطقة"، إلا أن تلك المبادرات لم تأخذ بالاعتبار وجود تنظيم يضم دول الخليج العربي الست وكذلك لم تتضمن سبلاً لإنهاء الملفات الخلافية بين إيران وجيرانها من دول الخليج العربي وهي الحدود والتدخلات الإيرانية في شؤون الخليج ودعم إيران للميلشيات المسلحة في دول الجوار والسعي لامتلاك أسلحة نووية وتطوير أجيال متعاقبة من الصواريخ التي تطال عمق الأراضي الخليجية، بمعنى آخر لا تريد إيران أن تتخلى عن مفهوم "شرطي الخليج" وأن تكون نتائج الصراع في الخليج العربي هي "معادلة صفرية" أي مكاسبها تكون بالضرورة خسارة للدول الخليجية ولاشك أن ذلك المفهوم يكرس للأمن بمعناه العسكري بعيداً عن المفهوم التعاوني للأمن الذي مثل أساساً لنجاح تنظيمات الأمن الإقليمي في مناطق أخرى من العالم وتضم دولاً تتباين في أحجامها بل ونظمها السياسية، ولاشك أن استمرار إعلاء إيران لمفهوم الثورة بعيداً عن الدولة يمثل معضلة أخرى تتوازى مع جهود متسارعة للتسلح وإبقاء منطقة الخليج العربي ومناطق جوارها في حالة من التوتر المزمن.
رابعاً: هل ينهض حلف الناتو بدور تجاه ترتيبات الأمن الإقليمي في الخليج العربي؟
أجمعت كافة الدراسات على أن للدول الصغرى ثلاثة خيارات دفاعية وهي الأمن الذاتي، التحالفات الإقليمية والدولية، سياسة الحياد، ولاشك أن جميعها ترتبط على نحو وثيق بمفهوم تحقيق توازن القوى وهو التحدي الأكبر لتلك الدول، ومن ثم فقد حرصت دول الخليج العربي على تأسيس شراكات أمنية مع القوى الكبرى في العالم والتنظيمات الدفاعية "حلف الناتو"، ولتحديد الدور الذي يمكن أن يضطلع به الحلف تجاه ترتيبات الأمن الإقليمي يتعين تحديد علاقة الحلف ورؤيته لأطراف المنظومة الإقليمية ذاتها، فقد أطلق الحلف مبادرة استانبول للتعاون مع دول الخليج العربي عام 2004م، وتضمنت 6 مجالات للتعاون الأمني وانضمت إليها كل من الإمارات والكويت والبحرين وقطر فيما بقيت كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج إطار تلك المبادرة، لم تستهدف المبادرة تأسيس منظومة للأمن الإقليمي لسبب بسيط مؤداه أن مبدأ الحلف الحاكم لهذا النوع من المبادرات هو "نساعدكم لتساعدوا أنفسكم" بما يعنيه ذلك من أن الحلف ضامن للأمن وليس صانع له، وتتمثل رؤية الحلف لإيران في كونها مصدر تهديد للأمن الإقليمي ولكن دون وجود مؤشرات لإمكانية مواجهة الحلف لإيران عسكرياً وإنما من خلال ممارسة الردع اعتماداً على الفجوة في القوة العسكرية بين الحلف وإيران، وكذلك تعقيدات البيئة الإقليمية في الخليج بالإضافة إلى تقييم الحلف لدرجة التهديد الإيراني ذاته، ففي أعقاب الهجوم على منشآت النفط السعودية في سبتمبر 2019م، قال ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف "إن إيران تزعزع استقرار المنطقة بالكامل"، أما رؤية الحلف للعراق فتتثمل في دعم قدرات قوات الأمن العراقية من خلال بعثة الحلف لغرض تدريب تلك القوات فخلال الفترة من 2004م، وحتى 2011م، موعد عمل انتهاء البعثة الأولى للحلف تم تدريب 15000 من قوات الأمن العراقية، ثم الإعلان عن بعثة أخرى في عام 2018م، وفي فبراير 2021م، قرر الحلف زيادة أفراد بعثته التدريبية في العراق من 500 إلى 4000 فرد، ويعني ما سبق أن دور حلف الناتو تجاه ترتيبات الأمن الإقليمي يتمثل في دعم قدرات الشركاء وفق برامج تدريبية واستشارات محددة وممارسة الردع تجاه أطراف أخرى يرى الحلف أنها تمثل تهديداً لأمن الخليج العربي.
ومع الأخذ في الاعتبار أنه تم إطلاق العديد من المقترحات التي أعقبت إطلاق تلك المبادرة سواء لأمن الخليج العربي "مفهوم روسيا للأمن الجماعي في الخليج 2019"، "مبادرة الصين في 2021 " تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط"، أو مبادرات تستهدف تحقيق الأمن الإقليمي عموماً وليست بالضرورة أن تضم دول الخليج الست ومنها مقترح تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي "ميسا" الذي لم ير النور، التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي بقيادة الولايات المتحدة عام 2019م، وعضوية 6 دول من بينها ثلاث دول خليجية، بالإضافة إلى مبادرة المملكة العربية السعودية لتأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن عام 2020م، ويستهدف من بين أهدافه الحفاظ على أمن الملاحة البحرية، وهي صيغ أيضاً لا تضم كل أطراف المنظومة الإقليمية ذاتها لسبب مؤداه أن بعضاً من تلك الأطراف هو مصدر تهديد الأمن الإقليمي ذاته، والبعض الآخر لا يرغب في الانضمام لصيغة التحالفات ذاتها، ومن ثم تثار تساؤلات عن الدور المحتمل لحلف الناتو سواء تجاه أمن الملاحة البحرية أو ترتيبات الأمن الإقليمي عموماً، وواقع الأمر أن أي دور مستقبلي متوقع لحلف الناتو تجاه ترتيبات الأمن الإقليمي الخليجي يرتبط على نحو وثيق بعدة عوامل أولها: طبيعة تلك الترتيبات ذاتها، لأن تدخل الحلف في مراحل المفاوضات الأمنية لتأسيس هذا النوع من الترتيبات ربما يثير الكثير من التوترات لاستمرار الصورة الذهنية عن الأحلاف وارتباطها بحقبة الحرب الباردة وممارستها خلال تلك الحقبة، على الرغم من أن بعض الدراسات أشارت إلى أنه من بين الأخطاء الاستراتيجية لحلف الناتو خلال التدخل العسكري في أفغانستان عام 2001م، هي أن الحلف لم ينخرط في المفاوضات السياسية بالتوازي مع الأعمال العسكرية، وثانيها: طبيعة الأدوار الدولية ذاتها تجاه أي ترتيبات للأمن الإقليمي، حيث نجد أن كافة الدراسات التي تناولت تلك الصيغ وخاصة الغربية منها أشارت إلى أن أمن الخليج العربي ليس شأناً إقليمياً بل دولياً ومن ثم يجب أن يكون للقوى الكبرى والمنظمات الدولية دور في أي ترتيبات مستقبلية لأمن تلك المنطقة ولكن من منظور ضمان الأمن في صيغ مختلفة ومنها كمراقبين، وثالثها: حدود الدور الذي يمكن أن يضطلع به حلف الناتو في مهام أمنية خارج أراضي دوله الأعضاء إذ توجد قيود على هذا الأمر سواء ما يرتبط منها بالتأثير الأمريكي داخل الحلف في ظل إسهام الولايات المتحدة بحوالي 75% من ميزانية الحلف، أو مضمون المادة الخامسة التي تحدد التدخل العسكري لحلف الناتو للدفاع فقط عن دوله الأعضاء.
خلاصات الورقة
- مع أهمية توافر العديد من العوامل التي تمثل أسساً مهمة لبناء منظومة أمن إقليمي في منطقة الخليج العربي وخاصة الجغرافية فإن فكرة الانتقال من المقدمات إلى النتائج لاتزال تسيطر على مضامين المبادرات التي تطلق لهذا الغرض دون الحديث عن العوامل الوسيطة وهي طبيعة تلك الهياكل المقترحة توافقاً أو تقاطعاً مع الأطر الراهنة بالفعل.
- تتمثل المعضلة الأساسية في منطقة الخليج العربي في الخلل في توازن القوى ما بين أطراف تسعى للهيمنة وأطراف تدخلية وثالثة موازنة ترى في الشراكات الأمنية الدولية خيارها الاستراتيجي ومن ثم يظل الصراع محتدماً بين الأطراف الإقليمية ونظيرتها الدولية.
- عند الحديث عن بناء منظومة للأمن الإقليمي الخليجي لابد من تحليل الفجوة بين الأقوال والأفعال في الخطاب الإيراني، ففي الوقت الذي تطالب فيه إيران أن تكون جزءًا من ترتيبات الأمن الإقليمي فإنها تسعى لتطوير أسلحة تقليدية وغير تقليدية، فضلاً عن تنامي النفوذ الإيراني في دول الجوار بما يعنيه ذلك من استمرار ممارسة مفهوم "شرطي الخليج".
- مع أهمية الدور الذي يضطلع به حلف الناتو من خلال تأسيس شراكات في مناطق مختلفة من العالم بيد أن الحلف ضامن للأمن وليس صانعًا له ولا ينفي ذلك أن الأمن البحري وأمن الطاقة قضيتان لا تزالان تحظيان باهتمام الحلف بما يعنيه ذلك من استمرار أهمية شراكات الحلف مع دول الخليج العربي ومن ثم الارتباط الوثيق بين أمن الحلف وأمن دول الخليج العربي.