بعد أن تضع الحرب الروسية / الأوكرانية أوزارها سوف يتغير المشهد الدولي في علاقات الدول ببعضها، البعض يرى أن هناك عودة لقطبين الأطلسي وروسيا من جديد، ولكن من المتوقع وهو الأرجح أن يحصل العالم على تعدد أقطاب ليس ثنائي وليس حتى ثلاثي بل متعدد، بمعنى أن الصين والهند وأوروبا (المنفصلة عن الأطلسي) كلها سوف تكون أقطابًا بشكل ما، وربما يكون فرصة للعرب إن استطاعوا أن يجمعوا قدرتهم ومواردهم قد يكونوا قطبًا في هذا التعدد.
ما سوف تخلفه هذه الحرب في الغالب هو سابقة خطيرة (احتلال جزء من دولة من قبل دولة أخرى طامحة في أراضيها) الأسباب مختلفة، ولكنها قد تسمع في أماكن أخرى كونها سابقة وخاصة في إقليم الخليج.
علمنا التاريخ أنه بعد أي صراع طويل ومرير كما الحربين العالميتين الأولى وبالتحديد الثانية، تختفي أو تضعف تدريجيًا بعض القوى وتظهر غيرها. بعد الحرب العالمية الثانية شهدت الامبراطورية البريطانية (التي حتى وقتها لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس) شهدت تراجعًا لم يتوقف حتى اليوم، وتغير العالم مما عرف بـ (امبراطوريات) إلى دول وطنية كبيرة، اختفت الامبراطورية العثمانية وكذلك النمساوية، وتقلص حجم ألمانيا (بل قسمت) حتى فترة أخيرة.
إذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار فإن المتوقع أن تتراجع القوة الأمريكية والتي سادت بعد الحرب العالمية الثانية. قد يأتي بعض المؤرخين في المستقبل ويقارنوا بين ساعة الصفر للأفول البريطاني وكانت حرب السويس عام 1956م، وبين الخروج (المذل) للقوة الأمريكية في أفغانستان عام 2021م، قد تكون الأخيرة ساعة الصفر للتراجع الأمريكي كقوة لا منافس لها في العالم، هذا لا يعني أن الاتحاد الروسي سوف يحل في مكان بارز بعد الحرب، فقد تنهكه الحرب الأوكرانية وتترك ذيولها على الاقتصاد وأيضًا السياسة الداخلية والتركيبة القائدة في موسكو.
إذن نحن أمام مشهد سريع التغير على المستوى العالمي وكذلك على المستوى الإقليمي، ويحتاج إلى جهد فكري لسبر غور (موقف دول الخليج العربي) من التغيرات الهيكلية القائمة في العالم وفي الجوار.
التغير في القوة على المستوى الإقليمي واقع مشاهد كما سوف يظهر للقارئ من تشريح للقوتين الإيرانية والتركية، وهما القوتان التي اعتقدتا أنهما يمكن أن يهيمنا على الإقليم، كلاهما يعني الكثير من المشكلات الداخلية إلى توهن تطلعهما للهيمنة، الذي تضخم قبل سنوات قلائل، ويعود اليوم إلى حجمه الطبيعي ولكن هذا التراجع قد يشكل خطرًا من خلال محالة تعويضه في الجوار.
التطورات في إيران:
يفرض المشهد الإيراني الذي تتابع صور حركة الرفض في شارعه وتتوسع وتتعاظم إبان شهر سبتمبر وأكتوبر 2022م، يفرض العودة إليه من جديد لقياس قدرته على التمدد في الجوار، والشعوب عادة تتعلم من تجاربها.
في الانقلاب على الشاه محمد رضا بهلوي، وكان يطمح إلى هيمنة في الجوار أيضًا بل ويعلن ذلك إلى درجة أنه ادعى أنه (شرطي الخليج) وسلح بأفضل الأسلحة الأمريكية المتوفرة آن ذاك، وبعد أن سخن الجو العام الشعبي ضده نتيجة لتراكم سوء إدارته هرب من إيران، اعتقد أنه سوف يكرر ما فعله قبل ذلك التاريخ بربع قرن تقريبًا كان ذلك في عام 1953م، يهرب من البلاد لروما لفترة، ثم يعود إليها، بعد أن تعمل الأجهزة (وظيفتها) في القمع، لم يدر بخلده ولا مستشاريه وقتها أن (الوضع قد تغير) فخرج عام 1979م، ولم يعد. درس الشاه استفاد منه النظام الذي تلاه والقائم على أطروحات (مذهبية/ دينية)، بأن أدوات القمع يجب أن تستخدم إلى آخر رصاصة في البندقية وضد آخر متظاهر، ومن جديد لم يستطع أن يقتنع أن (الوضع قد تغيير) ولم يتعظ نظام الملالي أن الشاه قبله كان يملك أقوى أجهزة القمع المعروفة وقتها وهي (السافاك)! .
التناقض في النظام القائم جلي، ليس لأنه يريد تطبيق مقولات وسلوكيات لم يعد لها قبول في المجتمعات الإيرانية، وتذكرنا بما فعله رضا بهلوي عندما أجبر المصلين في المساجد استخدام الكراسي كما الكنائس! بل حتى في التسمية (الجمهورية) لأول مرة في التاريخ تصبح القيادة في جمهورية (دائمة) لشخص غير منتخب حتى وفاته، وربما أيضًا يورثها !!
ما نشاهد أمامنا على سبيل اليقين أن (القائد الدائم)، (أو المجموعة القيادية) في أي دولة، الذي يكره الاعتراف بالأخطاء، لا يستطيع أن يصلحها، هذا ما مر علينا فيما عرف بربيع العرب، الإنكار المطلق للتحولات التي قد جرت في المجتمع وتجاهلها تقود بالضرورة إلى تغيير القائم.
أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبها النظام الإيراني و لا زال يرتكبها في حق شعبه قائمة على الفكرة الخطأ التي قال بها الخميني منذ بداية الانقلاب (تهران نيست، بغداد نيست، إسلام هست) أي لا طهران ولا بغداد فقط إسلام ،والتي بنيت عليها نصوص في الدستور يمكن أن تضم على بعضها في شعار ( تصدير الثورة) وسيادة ( الأمة بقيادة رجال الدين على العالم ) بجانب فراغ تلك المقولة إلا أنها خطرة، خامنئي زاد على ذلك الشعار بالقول تبريرًا ( إن لم نحارب خارج ايران، سوف نحارب داخلها) أي أن تصدير الثورة ضرورة لبقاء النظام و اتقاء للأسوأ ، أو بوليصة تامين لثبات النظام واستمراره .
ما تبين أن تصدير الثورة خلق الفرص المتتالية للإخلال بالنظام في الداخل، فقد شهد الإيرانيون أن ثروتهم المادية تصرف على عملاء في الخارج ولم يستطيعوا الهيمنة التامة على الدول التي غرر ببعض مواطنيها لاتباع الهوى الإيراني، وإن استطاعوا أن يقعدوا الدولة التي لهم نفوذ فيها عن القيام بمهماتها.
في الذهن لبنان، الذي استولى فيه حزب ممول بكافة احتياجاته من طهران، على أساس بيع فكرة (تحرير فلسطين) وهي فكرة صدقها فقط البسطاء، وبعد عقود من صرف المال الإيراني، شهدنا الحزب يشارك في (التطبيع الفعلي) من خلال ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، أي لا حرب ولا عدوان ولا مناوشات حتى مع الجار الذي (رسمت حدوده) وسلمت إلى الأمم المتحدة، وتم شكر الولايات المتحدة علنًا على جهودها! استخدم الحزب فقط (كبندقية للإيجار) في حروب إيران في الجوار ومن يقتل هم مواطنون لبنانيون!
في العراق خربت الدولة ولكن لم تخرب مقاومة المجتمع العراقي للنفوذ الإيراني، يكفي السماع لوسائل الإعلام العالمية وهي تصف الأحزاب الموالية لإيران بأنها (تابعة) والمقاومة العراقية تتسع وتشمل معظم قطاعات المجتمع كما تشهد عليه وسائل التواصل الاجتماعي العراقية.
أما تمويل الحرب الأهلية في اليمن فقد انتجت الفقر والمرض والعوز وغياب الدولة، باحتضار في أي مكان (كانت محط محاولات التصدير للفكر الإيراني فاشلة) وفي بعض نتائجها شلل للدولة وتبديد للموارد.
أمام ذلك (الاستثمار الرديء) الصادر من فكرة فاسدة، خسرت المجتمعات الإيرانية أموال طائلة هي في أمس الحاجة لها، وضاع جيل كامل في وسط الشعارات، كما خسرت فرص النمو الطبيعي في القرن الحادي والعشرين الذي اكتشفت الأجيال الجديدة أنه باستمرار خضوعها سوف تخسر أكثر، خاصة وأنها تشاهد في الجوار بلدان شرعت في التطور على كل الجوانب، واكتفى متخذ القرارات في طهران بتراكم (أجهزة الطرد المركزي) على أساس فكرة رديئة أيضًا أنها تحمي النظام! تنبهت الشعوب الإيرانية أن القضية الأساس ليست (اختلاف مذهبي) هي فقط حجة ساذجة، الأساس هي صرف الموارد الإيرانية على أتباع دون أن يحقق هؤلاء الأتباع أي نتائج تذكر، والأولى أن تصرف تلك الموارد على الشعب، كما تنبه أن (العداء للأخرين) هو استنزاف للمواطن في الوقت الذي يرسل أبناء النظام الكبار أبناءهم للدراسة في الخارج.
المعادلة التي لا يريد متخذ القرار في طهران الالتفات إليها وهي (لا مجال لتغيير النظام من الخارج، تلك فكرة قديمة لم تعد صالحة أو مطبقة، تتغير الأنظمة من الداخل) بسبب سوء سياساتها، ولان الوضع الداخلي لا يمكن استخدام القنابل النووية ضده، فالنتيجة من جديد (عمى في استخدام الموارد) التي كان يمكن أن توظف لصالح الناس.
استمرار الإضرابات والمظاهرات و الاعتصامات في إيران تنبئ ( بفصل جديد) في تاريخ إيران الحديث، و هو فصل تتجمع مفرداته للعالم، أمام وسواس النظام الإيراني للاستحواذ و استخدام القوة المفرطة في قمع المحتجين، سوف يجعل من إيران أضعف، و لكن أكثر خطورة، و ذلك الوضع بالنسبة للخليج أمر يقع في إطار ( الأمن الوطني) فلم تعد إيران قادرة على الهيمنة أو استمرارها في الجوار، ولكنها أكثر خطورة و النظام ينزف من الداخل ومع ذلك يشارك في حرب بعيدة في أوكرانيا من خلال إرسال طائرات مسيرة تستخدم في تلك الحرب، مراهنًا على أن ( محوره) سوف ينتصر و بالتالي يكرر ذلك في الجوار الخليجي ، لذا فإن تحوط دول الخليج من هكذا تطورات يأتي على رأس الأوليات .
التطورات في تركيا:
اجتهد عدد من الفنيين الأمريكان ونظرائهم الأتراك للبحث عن موقع تليفزيوني مناسب يمكن أن ترسل منه رسالة إيجابية للعالم لاختياره كخلفية لخطاب السيد جورج بوش الابن بعد انتهاء اجتماع قمة حلف الأطلسي في اسطنبول في نهاية عام 2004م. كان المكان مُطِلًّا على الجسر القائم على البوسفور، والذي يربط آسيا بأوروبا، ومن خلفه تبدو مآذن مسجد «أورطه كوى» الشهيرة. وقتها قال الرئيس الأمريكي، مخاطبًا النخبة التركية أمامه، وعلى رأسهم السيد رجب طيب أردوغان: «بلادكم مع 150 سنة من الديمقراطية والإصلاحات الاجتماعية تؤهلكم لقيادة المستقبل في الشرق الأوسط كمثال للتلاؤم بين الشرق والغرب لأنكم جزء من الاثنين .. دخولكم إلى أوروبا سيكون مهمًا للتجسير بين العالم المسلم وبين الغرب، وسوف يعزز الديمقراطية والحريات الشخصية». كان خطابًا تاريخيًا وقتها، حيث «النموذج التركي» هو المثال الذي تروّج له الليبرالية الغربية، وكانت ترى فيه الموقف الصحيح ضد التشدد الإيراني من جهة والتباطؤ العربي في الإصلاحات المنشودة من جهة أخرى، فكانت نجاحات تركيا وقتها مضرب الأمثال ومَحَطّ الآمال، من جهةٍ ديمقراطية وتعددية وحريات على خلفية إسلامية، ومن جهةٍ أخرى سلام مع الجوار ونجاح اقتصادي. عام 2004م، لم يكن قد مضى على حزب العدالة والتنمية في الحكم غير سنتين، كان قد استطاع أن يحصد نتائج ثلاثين عامًا من العمل الجاد من حكومات سابقة بدأت بالمصلح توركت أوزال، (رئيس الجمهورية التركية الثامن 1989-1993م)، ذي الخلفية العرقية الكردية. إصلاحات «أوزال» في كل من المجال الاقتصادي (تطوير التشريعات التركية لتتلاءم مع التشريعات الأوروبية) وفى المجال السياسي (السماح لكل الاجتهادات السياسية بتنظيم نفسها)، هي التي أقلعت بالاقتصاد التركي ووضعت تركيا في حالة من الأمل. وبدأ حزب العدالة والتنمية يحصد النتائج. إلا أن الأمر سرعان ما تبدّل، فقد أخذ السيد أردوغان على نفسه أن يسير وراء الإصلاحات الكثيرة بممحاة قلم، بل حتى الإصلاحات الأكثر قِدمًا، ومنها إصلاحات كمال أتاتورك تم شطبها تدريجيًا.
كان ممنوعًا بقانون الجمع بين رئاسة الحزب (أي حزب) ورئاسة الحكومة والرئاسة الأولى، فجمع الأوليين، ثم أضاف إليهما الثالثة، في مسيرة تسمّيها المعارضة التركية التي تنامت الطريق إلى «تركيز السلطة» .. بعدها هجر سفينة أردوغان على مراحل عدد من كبار رجال الدولة من مساعديه الأكثر حنكة واحداً إثر آخر ومازال الحبل على الجرار. وسار السيد أردوغان في شبه سياسة ثأرية من كل ما اعتقد أنه عطّل توجه تركيا إلى أوروبا، وهي عدم اعتراف بقوته وتحويل مضامين خطاب بوش إلى برنامج تنفيذي! تحول إلى الجنوب، واكتشف أولًا القضية الفلسطينية، فدخل في تلاسن وحرب إعلامية مع إسرائيل من دون أن يقطع العلاقة الاقتصادية والعسكرية الوثيقة معها، ولكن موقفه التلاسني أكسبه الكثير من الجماهيرية عربيًا في أجواء عاطفية شديدة البُعد عن الحسابات السياسية الواقعية. لم تكن تركيا تسير اقتصاديًا بشكل تصاعدي بعد سنوات قليلة من عام 2004م، الذى شهد قمة صعود النموذج التركي، وبدأ سريعًا في التراجع حتى وصلت إلى عام 2015م،عندما تنامى الشعور بخيبة الأمل لدى قطاع تركى واسع، فكانت محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016م، وقتها تفجرت الأزمة، وهى كأي أزمة تبدو غير مُتوقَّعة ومُرْبِكة وكارثية لمن تحِلّ به، إلا أنها في الغالب تراكمات تتصاعد على مر سنين، وأساسها فقدان العلاقة الواقعية بين ما يجري على الأرض والوهم السياسي الذى تحمله نخبة حاكمة، هذا بالضبط ما حدث، تحوّلت تركيا من صفر مشكلات مع الغير إلى (كلٍّ) من المشكلات في الداخل والخارج: المصالحة مع الكُرْد فشلت، والوضع الاقتصادي تأَزَّم، وزاد التضخم، وتراجعت الليرة، التركية وضمرت الصادرات، وذهب أردوغان إلى أماكن كثيرة بحثًا عن تعويض، من سواكن في السودان إلى الخليج إلى ليبيا. تُرجم الامتعاض الداخلي من تلك السياسات بعد ذلك في صناديق انتخابات بلدية اسطنبول الكبرى، الذي رفض نتائجها الأولى حزب العدالة، وأُعيد الانتخاب في يونيو 2019م، وفاز بشريحة واسعة المعارض أكرم إمام أوغلو، الذي نافس بن علي يلدريم، القريب من أردوغان، رئيس حكومته السابق! بل خسر الحزب بلدية أنقرة الكبرى وعددًا من البلديات الأخرى. على جانب آخر، فُتحت المحاكمات والسجون، وحتى المنافي، لمعارضين أتراك، وزُجَّ بعدد ضخم منهم بمحاكمة أو بغيرها، فغاب ذلك البريق للنموذج التركي، وظهر أن تركيز السلطة في يد شخص واحد هو قتل لروح الديمقراطية والتنمية معًا، كانت النخب التركية قبل ذلك تفاخر بأن في المسيرة الطويلة منذ أتاتورك كان الأتراك يعودون دائمًا إلى صناديق الانتخاب لأنها القول الفصل!
مع الابتعاد عن الواقع، حتى تلك الفكرة تحولت في مجتمع الخوف الذي أشاعه «حكم الشخص الواحد» إلى أمل بعيد. المؤسف أن رجب طيب أردوغان لا يعرف من اللغات إلا التركية، ولو كان يجيد الإنجليزية فإن أفضل هدية يقدمها له بقية المخلصين حوله هو فيلم المبدع مصطفى العقاد «عمر المختار»، الرجل الليبي الصلب، الذي قاوم الاحتلال الإيطالي في مطلع القرن الماضي (منذ قرن تقريبًا) لمدة عشرين عامًا، وكانت المقاومة بالبنادق والخيول أمام الرشاشات وحاملات الجند والطائرات. وقتها سوف يعرف عجينة الشعب الليبي، الذي أرسل جنوده وبعض مَن جنّدهم للحرب ضده.
المفارقة أن جناحي ليبيا، وهما تونس والجزائر، يطالبان اليوم فرنسا بالاعتذار عن المآسي التي ارتُكبت إبان استعمار البلدين. يأتي السيد أردوغان إلى الحج والناس راجعة، فيقرر استعمارًا تركيًا لليبيا ركونًا إلى أن الإمبراطورية العثمانية كانت هناك في وقت غابر من الزمن! إن الانقطاع عن الواقع بَيِّنٌ لا لبس فيه، وتمددٌ لا قِبل للأتراك بحمله! المؤسف أن الوضع سوف يسوء قبل أن يتحسن، فالوضع الداخلي التركي يشهد تذمرًا يتسع بين النخب التركية جراء الوضع الاقتصادي والحروب الخارجية، كما يسوء بسبب تعقُّد القضية الكردية في الداخل إلى جانب القبضة البوليسية التي تتابع وتُسكت المعترضين، ومن جانب آخر يعادى أردوغان ليس فقط الجوار الأوروبي، بل حتى الحليف الأمريكي، الأول عن طريق إغاظته بالسماح للمهاجرين بالعبور إلى أراضيه، والثاني بشراء أسلحة حديثة من دولة صُمِّمت فلسفة الحلف الأطلسي على مناوأتها! بل هو في الطريق إلى تناقض تكتيكي مع حليف مؤقت في سوريا، وهو روسيا، التي يتصادم معها في الصحراء الليبية! اليوم ليس ببعيد من فشل سياسة التوسع التركي في مناطق قريبة وبعيدة من تركيا، فحقائق الاقتصاد والسياسة، وحتى الجغرافيا، مقرونة بالتضييق على الحريات، لن تسمح للسيد أردوغان بالبقاء خارج الواقع لفترة طويلة، لذلك فان التدخل التركي في كل من سوريا والعراق والامتداد إلى الخليج يعبر عن رغبة في السيطرة وشهوة في التوسع يتوجب التحوط لها.
أهمية دول الخليج
الصراع بين روسيا والغرب الأطلسي في أوكرانيا أطلق ما أصبح معروفًا من عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا أثرت بشدة في الاقتصاد الروسي وأصبح لها تداعيات عميقة، إلا أن تلك العقوبات على تعددها خلقت في نفس الوقت (نتائج مرتدة) على الاقتصاد في دول الحلف الأطلسي وفي العالم، مما تسبب في ارتفاع الأسعار وتسارع التضخم شبه المنفلت، وخاصة ارتفاع أسعار الطاقة (نفط وغاز). والأخير الذي يسمى (الطاقة) هو مسرح الصراع الاقتصادي، ترغب روسيا في هذا الصراع أن (تحرم دول حلف الأطلسي) من أي فائض للطاقة، وترغب من جهة أخرى دول الحلف أن تتوفر مصادر أكثر يسرًا للطاقة لتخفيف النتائج المرتدة للعقوبات والتي أساسها ارتفاع أسعار الطاقة. تلك أهداف المتصارعين و المتحاربين وهي متناقضة تمامًا، و لان دول الخليج هي أحد أهم مصادر الطاقة في الوقت الحالي و ربما القريب، فإنها محط الصراع ، وقد وجدنا في الأشهر الأخيرة أن المنطقة أصبحت ( محجة) لكبار القوم من الجانبين، كل يرغب أن تكسب وجهة نظره السباق .فقد زار المنطقة كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، كما زارها رئيس وزراء بريطانيا بورس جونسون ، كما زارها وزير خارجية روسيا الاتحادية سيرجي لافروف واجتمع مع وزراء خارجية مجلس التعاون ،انتهى الأمر بقدوم رئيس الولايات المتحدة مع عدد من الكبار في وسط يوليو 2022م، لاجتماع قمة خليجية / أمريكية. تلك مؤشرات تقودنا إلى أن الروس يريدون أن تبقى أوروبا (عطشى) للطاقة، والأطلسي يرغب أن يتجاوز حاجة أوروبا للطاقة من روسيا ويعوضها من حوض الخليج، مما خلق ما يمكن أن يعرف بـ (الدبلوماسية الاقتصادية)
ليس سرًا أن دول الخليج في مرحلة صعبة بين الطرفين، وليس سرًا أنها في موقف صعب، فصراع الكبيرين ليس له نهاية قريبة بل وله تداعيات دولية، وهو يقع في (كسر إرادة الآخر) فروسيا مصممة على نصر في أوكرانيا والأطلسي مصمم على حرمانها من هذا النصر ،و الانحياز بلا طرف به مخاطر لا يمكن تجاهلها وحتى الحياد بين الطرفين والذي قد يفسره طرف أنه مضر لمصالحه قد يطلق تداعيات أمنية خطيرة على المنطقة إذا أخذنا في الاعتبار ما سنته الحرب على أوكرانيا من سابقة، وهي أن أي ادعاء لدولة لمصالح لها في الجوار يمكن أن تكون ذريعة للقفز على ذلك الجوار .
و الجوار الخليجي (دول مجلس التعاون) لا تخلوا من تلك القوى التي تدعي لأسباب مذهبية و تاريخية أو مصلحية أن أمنها مهدد ما لم تغير في تركيبة الجوار، وفي الذهن كل من إيران و تركيا و حتى إسرائيل وأي قوة من القوتين المتصارعتين ترى أن مصالحها قد تضررت بشكل كبير جراء سياسات اقتصادية خليجية، وهي في مرحلة حرب، لا يستبعد أن توعز لاي من قواها الحليفة أن تعبث في الفضاء الخليجي الداخلي، أما من خلال إثارة مشكلات داخلية من المعروف أن للدول أذرع فيها مطيعة وجاهزة لتنفيذ أجندتها، أو اضطراب أمني في إمدادات النفط الدولية كمثل إغلاق المرور لمضيق هرمز .
المصالح الاقتصادية الخليجية بين الطرفين:
لدول الخليج مصالح اقتصادية في كل من ورسيا الاتحادية و دول الأطلسي ( أمريكا وحلفاؤها) فترتبط دول الحليج باتفاقات مع روسيا فيما عرف ب ( أوبك + 1) وهو اتفاق لتنظيم أسعار النفط على المستوى العالمي، لا تستطيع و ربما لا تغرب دول الخليج المنتجة للنفط أن تخل به (حتى بعد معرفة أن روسيا تبيع نفطها لمن تسميهم الدول الصديقة بحسومات كبيرة )، كما جزء غير يسير من استثمارات دول الخليج توظف في روسيا في مجالات الطاقة والنقل البحري و الخدمات اللوجستية وقطاع تقنية المعلومات، أكبر الشركاء مع روسيا هي المملكة العربية السعودية و دولة الإمارات، إلا أن معظم تلك الاستثمارات من شركات خاصة أو مشتركة، بمعنى أن الدولة ليس لها قدر كبير في الاستثمار . أما العلاقة الاقتصادية بين دول الخليج ودول حلف الأطلسي، فهي متجذرة وتاريخية وتقدر الاستثمارات الخليجية في أوروبا بحوالي 130 مليار دولا، بما فيها استثمارات الصناديق السيادية
بعض مراكز البحث في تصوراتها للمستقبل الأمني في الخليج تعتمد على دراسة متغيرين:
الأول أن أسعار النفط ستكون على مستوى معقول من الارتفاع ولكنها لن تبقى مرتفعة، فهناك جهد جدي وتقني في البحث عن البدائل في دول الأطلسي، وهي متعددة منها الطاقة النووية (النظيفة) ومنها مصادر أخرى في أماكن مختلفة في العالم، ومنها طبعًا الطاقة المتجددة، وتتجه تلك المجتمعات بالفعل إلى الاستبدال السريع لمصادر الطاقة، واليوم لا يخلو مرأب سيارات في البنايات الكبيرة أو تجمعات التسويق في الغرب من محطات شحن كهربائي للسيارات. المحصلة أن النفط لن يكون بتلك القيمة التي وصل اليها في السنوات الثلاث الأخيرة، كما أن أسعار السلع والخدمات سوف تظل على مستواها العالي، والمعادلة في النهاية هي أن أموال أقل سوف تدخل خزائن دول الخليج المنتجة للطاقة وفي نفس الوقت مبالغ أكبر تحتاجها الشعوب للوفاء بنفس المستوى من المعيشة، مما سوف يطلق أزمات اجتماعية وسياسية وخاصة أن الخطط البديلة في عدد من هذه المجتمعات تعمل بكفاءة أقل بسبب الثقافة الإدارية السائدة ومستوى الاستهلاك المرتفع، انتشار الفساد ببعضها.
الثاني: سابقة أوكرانيا وربما تايوان سوف تفتح شهية القوى المتوسطة في الإقليم لمد نفوذها إما باحتلال سافر أو هيمنة مغلفة بأغلفة منها مذهبي ومنها مصلحي ومنها استباقي. في الذهن القوة الإيرانية والتي ترتكز على نصوص في وثائقها الرسمية (الدستور) أو قصص التاريخ السابق على أحقيتها (الشرعية) في الهيمنة، و تخلط بين الدولة وسياستها والمذهب، وتستخدم قوى في داخل المجتمعات المجاورة (اختلط عليها مفهومان الأمة و الوطن) كي تجندها لتوسيع نفوذها، تركيا ليست بعيدة عن استخدام الفرصة التي هيأتها السيولة في المشهد العالمي، ليس فقط لمد نفوذها في الجوار (شمال العراق و شمال سوريا) بل استقطاب جماعات لاستخدامها في حروبها في أمكان أخرى من ليبيا و أذربيجان، السيولة في المشهد الدولي تستفيد منها إسرائيل ويدها الطويلة والتي لا يبدو أنها تهتم أو تقيم وزنًا بما يسمى ( القانون الدولي) فالواضح أن الكل يريد أن يستفيد متحالفًا مع آخرين من الفرصة التي وفرتها ذريعة الحرب في أوكرانيا .
لقد خلقت ( الزوبعة) الأمريكية في الاحتجاج على أوبك بلس في الحفاظ على هيكل أسعار النفط من خلال ضبط الإنتاج، والحملة السياسية ذات الهم السياسي الداخلي الأمريكي واستقصاد المملكة العربية السعودية بما يعرف في التعبير الدبلوماسي Over heating the relations عمل سياسي أخرق ودليل على مخيلة سياسية فارغة من المبادرات والفهم، وقد يتطور إلى مواقف أكثر شدة، حيث تبدو الولايات المتحدة ( الإدارة الحالية) فاقدة لفهم التطورات العالمية الحادثة وتعيش في فقاعة سرعان ما تكشف، كما فعل السيد باراك أوباما مؤخرًا ، إن سياساته في المنطقة أفقدت الحكمة !
القدرة الخليجية على مواجهة التحديات
أمام تلك التحولات لا يوجد جهد سياسي على الأرض أو حتى بحثي من خلال مؤسسات ومراكز خليجية للحديث عن تصورات (كونفدرالية) تخلق المناعة الأمنية للمجموعة الخليجية، حيث أن عددًا من دول الخليج غنية وفي نفس الوقت تفتقد إلى المساحات في الأرض والتواجد البشري الكثيف حتى يكون الاعتماد أحاديًا على القوة الذاتية، أما المخاطر فإن أي دولة في الإقليم يتم اختراقها بالضرورة سوف يفيض ذلك الاختراق على الدول المجاورة بكل سوءاتها. والاختراق ممكن في بعض تلك البلدان كما نشهد يوميًا في وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى تدريب وتسليح ودعم إعلامي مشهود. المؤسف أن هذا الموضوع الخطير والذي يناقش على رؤوس الاشهاد في المؤسسات البحثية الخارجية مسكوت عنه في مؤسسة مجلس التعاون مع أن ذلك من صلب أعمالها لتكوين تصور مشترك بين نخب الخليج فيما يخص المخاطر المحيطة بأوطانهم، فمن الأفضل نقل موضوع أمن الخليج في مؤسستنا من (الموقد الخلفي) إلى (الموقد الأمامي) ذو الأولوية القصوى، وخلق وعى حول أهميته في ضوء التغيرات الهيكلية القائمة في العالم وفي المنطقة.
يحتاج الأمر أن تجاوز (الأمور الصغيرة) فالكل اليوم مهدد بطريقة أو أخرى، ودون شد الأزر الجماعي سوف تتعرض هذه المنطقة إلى مخاطر.