أتى خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ هذا العام وسط ظروف دولية استثنائية غير معهودة، وفي مرحلة مهمة من مراحل تحقيق الرؤية الوطنية، لذا نجد في خطاب خادم الحرمين الشريفين مضامين قوية تؤكد على أهمية تحقيق التوازن الأمثل بين المستجدات الدولية ومسار الرؤية. كما نجد في مضامين الخطاب الملكي ما يؤكد على الصبغة الجديدة لسياسات المملكة ومنطلقاتها، من سعي ورؤى لتحقيق مشروع وطني ملهم، قوامه، الإنسان، لا يتردد في إصلاح الهياكل والإجراءات وثقافة الأداء، وفق رؤية واضحة، تزداد وضوحًا كل يوم، ويمكن تلخيص ما يميزها في استباقيتها، وشموليتها، مع تمسكها بعراقتها وجذورها المتينة، وهناك ربط أخر مهم، نقرأه كذلك في المضامين، عن مكانة المملكة في الخارج، وازدياد متانة سيادتها عالميًا، وفق توافق استراتيجي بين صداقات المملكة في الخارج وطموحها الوطني بالداخل، ووفق توازن دقيق بين جذور المملكة العربية الإسلامية، كونها بلد الحرمين الشريفين، مع شغف المملكة وانفتاحها لاستقطاب أفضل ما هو موجود في العالم .. في خطاب الملك قطعًا، ما يدل على أن المملكة أكثر من أي وقت مضى تنظر إلى الأمن والتنمية كوجهين لعملة واحدة ... حيث تولي المملكة ضمن سياساتها الخارجية أهمية قصوى لاستقرار العالم والمنطقة من أجل رفاه مستدام وعادل للجميع.
وأود فيما يلي، الاستفاضة في تفصيل بعضًا من الجوانب التي جاءت ضمن الخطاب الملكي لهذا العام، معبرة عن منطلقات وفرص جوهرية، من الواجب التأكيد عليها لأهميتها، أوردها في النقاط التالية:
أولاً: فخر المملكة بأصالة تاريخها، وعراقة مؤسساتها، وعمق نظامها الأساسي للحكم، والمعزز لمبدأ الشورى والذي ستظل المملكة دائمًا متمسكة به، مع التأكيد على أن تاريخ المملكة ممتد منذ تأسيسها لعدة قرون، مما يجعل المملكة من ضمن الممالك الأكثر استدامة على وجه المعمورة.
ثانيًا: في توحيد المملكة على يدي جلالة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إرساء لركائز الدولة الحديثة وفق أسس جعلت منها دولة عصرية قادرة على مواكبة المستجدات والتحديات، وتذليلها، بل وتحويلها إلى فرص للتنمية والازدهار وصناعة المستقبل.
ثالثًا: من العبرة في تقدير مسيرة المملكة بين التأسيس والتوحيد، إدراك أعمق لما وصلت إليه المملكة عبر تلك المسيرة كأيقونة للاستقرار، وسط عالم متقلب، أثبتت فيه المملكة، مرارًا وتكرارًا بأنها قادرة على التطور الإيجابي، رغم التحديات، ثباتًا على مسيرة حكيمة لا تحيد عن منطلقاتها وأسسها، لا تخشى تبني التطوير و"التحول"، مع اقتباس أفضل الممارسات من العالم، شرقه أو غربه، لتخطي الصعاب وتطويع الأفضل في العالم بما يليق بطموح المملكة وهويتها وثقافتها ومنطلقاتها.
وهنا أقف بتدبر، حيال رسالة عميقة ضمن المضامين، ذكرت صراحة ضمن الخطاب، عن عظم نعمة الاستقرار الذي نعيشه اليوم، وما أدى إليه من مكانة رفيعة لنا بين الأمم، وأهمية المسؤولية العظيمة والموضوعة على عاتقنا جميعًا كمواطنين للسعي على الحفاظ على هذه النعم والتفاني في حماية المكتسبات، خاصة ونحن نرى ما يحدث لبعض من الدول التي تجاورنا في المنطقة، ومن حول العالم، من حروب وانهيارات.
رابعًا: التأكيد على الاستباقية والشمولية في طرح رؤية المملكة وتمحور كافة سياسات المملكة حول تلك الرؤية (vision -centricity)، مما يعني أن تعامل المملكة مع الملفات المعقدة في الداخل أو الخارج أصبح اليوم أكثر من أي وقت سابق استباق للرؤى، وهذا بدوره يعني رسم صور ملهمة للمستقبل والعمل على تحقيقها من خلال مشاريع ضخمة تلهم البشرية (مثل نيوم وذا لاين) للتأكيد، رؤية المملكة الاستباقية اليوم لا تستقرئ المستقبل فحسب!!! إنما تسعى إلى رسم المستقبل والمساهمة في بنائه، وبالتالي فإن بناء المستقبل من منظور المملكة يجب أن يتحقق من خلال مشاريع عملاقة، غير تقليدية، ملهمة للحراك الاقتصادي الاجتماعي في الداخل ومحفزة لشركاء النجاح من الخارج.
والمملكة أكثر من أي وقت مضى، كما أتلمس من مضامين الخطاب، ترى أهمية تحقيق رؤيتها الملهمة من خلال شراكات دولية استراتيجية فاعلة ومع دول صديقة من حول العالم، وفق رؤيتها، وبناء على الاحترام العميق والمتبادل بين ثقافات الدول، مع السعي الدؤوب لتوطيد القواسم المشتركة معها، بما يتخطى المصالح الآنية إلى الصالح المستدام، بتوافقية واضحة على قاسم مشترك من المبادئ والقيم.
خامسًا: يلاحظ في الخطاب الملكي، كذلك، تأكيده على أن أوتاد التنمية في المملكة بنيت، وتبنى، على مميزات واضحة مرتبطة بمميزاتها التنافسية والنابعة من موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية، لذا جاء ذكر الطاقة على سبيل المثال ضمن الخطاب، كأحد أهم أوتاد التنمية في المملكة، وفي ذلك دلالة واضحة على فلسفة السيادة والتنمية التي تنتهجها المملكة اليوم، فتحول المملكة التدريجي من اقتصاد النفط إلى بيت عالمي للطاقة، والطاقة المتجددة تحديدًا، دال وبقوة على فكر المملكة الراهن والذي يسعى إلى أن تكون المملكة الشريك الدولي الفاعل على سلاسل الإمدادات والقيمة المضافة للطاقة دوليًا، بالإضافة إلى موقع المملكة الجيوغرافي المميز والذي يضعها في صميم ومنتصف سلاسل الإمدادات، لكافة الموارد، وعلى وجه العموم...
لذا، واختلافًا عن الماضي، حينما كانت العلاقات مع بعض الدول متقلبة وفق المصالح الآنية، فإن سياسية المملكة اليوم تؤكد على ضرورة الوصول إلى توافقية استراتيجية مستقرة مع دول الشراكة، حيث أن طبيعة الاستثمار المطلوب اليوم لتحقيق الاستقرار والأمن، كما في الطاقة المتجددة مثلاً، يتطلب شراكات دولية تعاضدية فاعلة بين الدول مما يحافظ على استقرار الاستثمارات الضخمة بينها ومما يضمن تطور الصناعات التحولية بشكل مطرد فيها، وبما يضمن الرفاه والاستقرار لمستقبل الإنسانية جمعاء ..
سادسًا: نضج رؤية المملكة حيال العلاقة المهمة والفاعلة بين الطاقة وحماية البيئة والاستدامة الاقتصادية أدى إلى اختلاف جذري ومهم في سياسات المملكة الحالية تجاه البيئة، يمكن ملاحظته مقارنة بسياسات المملكة الدولية السابقة، والتي كانت حتى عهد قريب، تتردد بعض الشيء في تبني أجندة الاستدامة ، بينما تتبناها اليوم بشكل قوي غير مسبوق، متخطية بذلك تخوفها السابق من الأجندات الراديكالية التي تتخذ من حماية البيئة ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى مع محاربة تلك الأجندات لكل ما له علاقة بصناعة البترول ومشتقاته كون البترول وصناعته، من وجهة نظرها ، العدو الأول للبيئة والإنسانية، بينما يلاحظ من الخطاب الملكي هذا العام، رسالة واضحة وقوية من المملكة عن توليفتها الجديدة كبيت للطاقة المتجددة مقدمة المملكة اليوم كدولة ساعية إلى حماية البيئة وداعمة لكافة الحلول الممكنة لتقليص الانبعاثات الكربونية، مع إيمانها العميق بأن للبترول ومنتجاته دورًا مهمًا لدعم الرفاه الإنساني، ولقد نجحت المملكة فعلاً في إبراز صوت الحكمة عن ضرورة إيجاد تلك التوليفة البرغماتية بين منتجات البترول التقليدية مع الانتقال التدريجي إلى بدائل أخرى مثل الهيدروجين الأزرق والأخضر بالإضافة إلى دعم المملكة الا محدود اليوم لكافة الجهود المتزنة من أجل حماية البيئة، بل وتخطيها استباقيًا إلى الأجندة الخضراء، مع قيادة المملكة لهذه الأجندة ضمن حدود دولتها، انطلاقًا منها إلى الشرق الأوسط ككل، بالإضافة إلى دعمها القوي لأجندة البيئة والاستدامة دوليًا.
سابعًا: ربط الأمن والتنمية كمخرج واحد يجب التأكيد عليهما سويًا، داخل المملكة وخارجها،
حيث أن قناعة المملكة ازدادت مع مرور الوقت بأن الأمن والتنمية وجهان لعملة واحدة لذا ترى المملكة أهمية التعامل مع الملفات الإقليمية مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان بشكل ينقلها من مجرد كونها دول ذات تحديات هيكلية مستمرة تعيقها من إدارة ذاتها بشكل متزن، أو بناء مؤسساتها بشكل مكتمل، وغير قادرة اليوم على إرساء قواعد السلام والتنمية داخليًا (بسبب التدخل غير المشروع لدول أيدولوجيتها غير تنموية مثل إيران)، إلى دول شريكة في التنمية الاستراتيجية وحليفة على سلاسل القيمة المضافة الدولية.
ثامنًا: القناعة العميقة لدى المملكة بأهمية المؤسسات الدولية متعددة الأطراف وضرورة تقويتها وتعزيز قدرتها على التعامل مع التحديات الدولية وبشكل عادل، ومن ذلك مجابهة ما اشتد مؤخرًا من صراع قطبي بين الدول العظمى ورغبة المملكة في التزام الحيادية البناءة، والتي تؤهلها للقيام بدور فاعل كوسيط سلام في النازعات الدولية، مع عدم تردد المملكة على التصويت ضد أي تعدي دولي (مثل تصويتها ضد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا)، وهنا من المهم إبراز أن خطاب الملك ـ حفظه الله ـ أكد على ضرورة التزام الحكمة والحنكة وأخذ دور الوسيط العادل ما أمكن لتكون المملكة مرجع الثقة لأطراف النزاع مؤكدة رغبتها الدائمة في حماية وتعزيز بيئة دولية محفزة على التنمية المستدامة العادلة.
أخيرًا وليس آخرًا: قرأت ضمن خطاب الملك بأن المواطن في المملكة هو دائمًا المحور الأساسي والأول للتنمية،Citizen- centricity، جاء ذلك في عبارات عديدة ضمن الخطاب، مثل "تمكين المواطن"، وصون حياته، وتهيئة الحماية والرعاية له، وتعزيز الكرامة له، ودعم أنظمة التطوير والاستقرار الاجتماعي له، تحقيقًا لجودة الحياة وأقصى المنافع له، هذه العبارات جاءت صراحة ضمن خطاب الملك، تبعًا لها فإن المواطن، وبناء منظومة كاملة لجودة الحياة له والبيئة المحيطة به، يصبح الأساس والمنطلق للتنمية في المملكة، ومن ذلك، كما هو واضح من مضامين الخطاب، فإن المرجع في تقييم مدى نجاح أي من الخطط التنموية والسيادية في المملكة، لأي من أجهزة الدولة فيها، خاصة الخدمية، يجب أن يقيم باستمرار وفق مؤشرات علمية يعاد مراجعة نتائجها مرارًا وتكرارًا، بحيث تكون هذه المراجعة من صميم صنع القرار في المملكة، لتجويد المخرجات وإتقانها وإحسانها من خلال العلاقات التكاملية بين أجهزة الدولة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية..
ومن جعل الإنسان في المملكة والعالم صميم للتنمية، تأكيد الملك، حفظه الله، على مكافحة الفساد داخل المملكة والتعاون على مكافحته دوليًا، حيث أن الفساد آفة تقضي على مقومات التنمية ولا تسمح بترجمة حراك أي رؤية أو طموح إلى نتائج مرضية، وقد تعمدت ذكر هذا الجانب المهم من خطاب الملك في آخر التحليل لأن في هذا الجانب تذكير مهم لي ولكل العاملين في كافة أجهزة الدولة، عن أهمية وضع المواطن نصب أعيننا حين صياغة السياسات ومتابعة التنفيذ وحين التحقق من النتائج وفي كل ما نقول ونفعل.
ختامًا لو صح لي تلخيص أقوى رسالة أستمدها من مضامين خطاب الملك فهي أن المستقبل ليس "للأقوى" ... إنما لصاحب الرؤية القوية... والقادر على تحقيقها رغم التحديات الآنية من خلال تطويع وتحويل هذه التحديات إلى فرص مستدامة لتحقيق النجاح ... ولو أن هناك فرق يجب إدراكه بين الحلم والرؤية، فالجواب عليه ضمن خطاب الملك هو أن الرؤية هي حلم يتحقق من خلال واقع يطوع ثم يؤصل ويبنى على أرض الواقع يؤكد عليه من خلال النتائج الواضحة والحقائق والأرقام التي تقاس وتحقق.
هذه هي المملكة اليوم أصيلة آمنة، برغماتية حالمة، وسطية معتدلة، ملهمة وواثقة من نفسها ...