شهدت منطقة الخليج منذ فجر التاريخ اهتمامًا كبيرًا من القوى الدولية والامبراطوريات المتعاقبة، إضافة إلى القوى الإقليمية مع تغير واختلاف أسباب هذا الاهتمام، وإن كان الموقع الجغرافي، والمكانة الدينية، والجيوسياسية، والاقتصادية هي القاسم المشترك للتنافس على المنطقة خلال التاريخ القديم والحديث ، ثم زاد هذا الاهتمام مع تصاعد حدة الصراعات في التاريخ المعاصر لمتغيرات دولية وإقليمية وتنافس القوى الكبرى، وواكب ذلك ظهور مزايا اقتصادية مع بداية حقبة النفط في منطقة الخليج منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ، وبعد أن بدأت الحرب الباردة و انسحاب بريطانيا من منطقة شرق السويس.
وتجسيدًا لهذا الاهتمام صدرت عدة مبادرات من الدول الكبرى تجاه أمن منطقة الخليج خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط عامة، وهذه المبادرات عكست اهتمام القوى الكبرى بمنطقة الخليج، وبالقدر نفسه عبرت عن طموح وتنافس هذه القوى المؤثرة في النظام العالمي، وأيضًا جسدت أهمية منطقة الخليج بالنسبة للمصالح الاقتصادية لها ولأمنها القومي، وكذلك أوضحت المد والجزر في العلاقات الدولية وطبيعة الصراع الدولي السائد في كل حقبة تاريخية وأيضًا تركيبة القوى الإقليمية المؤثرة في منطقة الخليج.
ولعل أهم هذه المبادرات بدأت مع مبدأ الرئيس الأمريكي الأسبق داويت أيزنهاور في الخامس من يناير 1957م، في رسالة وجهها إلى الكونجرس حول الوضع في الشرق الأوسط، وكان ذلك في قمة اشتداد صراعات الحرب الباردة وبهدف مواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي، وملء الفراغ الذي تركه انسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة وتضمن (أنه بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأمريكية، أو العون من القوات المسلحة الأمريكية إذا ما تعرض هذا البلد للتهديد من دولة أخرى)، وفي 25 يوليو 1969م،عشية انسحاب البريطاني من منطقة الخليج العربي أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عن تغييرات في ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تحت وطأة حرب فيتنام، وركزت عقيدة نيكسون على التحول من التدخل العسكري المباشر لمساندة حلفاء أمريكا، واستبداله بدعم اقتصادي وعسكري للحلفاء، ثم جاء مبدأ كارتر في 3 يناير 1980م، ليتوافق مع المصالح والمخاوف الأمريكية في تلك الفترة والتحديات التي واجهت هذه المصالح بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان وقيام الثورة في إيران ضد حكم الشاه ونص هذه المبدأ صراحة على السماح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في منطقة الخليج العربي، وأوضح أنه يجب "أن نعمل بأقصى جهدنا ونظهر أفضل ما لدينا للحفاظ على أمن هذه المنطقة غاية الأهمية"، وبعد ذلك تبدلت مبادئ الرؤساء الأمريكيين حسب متطلبات كل مرحلة تجاه حرب الخليج الأولى والثانية ، طبقًا للظروف السائدة وتأثيرها على المصالح الأمريكية.
وبعد أن لاح في الأفق بوادر الانسحاب الأمريكي من المنطقة وتوجهها شرقًا، نحو الصين، بدأ اهتمام روسي/ صيني بالمنطقة تحسبًا لاستراتيجية ملء الفراغ على غرار ما حدث عقب الانسحاب البريطاني من منطقة شرق السويس، فجاءت المبادرة الروسية وتعديلاتها لأمن الخليج والتي طرحها وزير الخارجية الروسي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 يوليو 2019م، في اجتماع مع ترويكا خليجية وتتكون من تسعة بنود ورغم أن المبادرة تتضمن نقاطًا إيجابية إلا أنها غير مكتملة وفيها انحياز إلى إيران فهي تعتبر مسألة بناء الثقة بين دول مجلس التعاون وإيران سابقة على حل المشكلات القائمة ومنها الملف النووي الإيراني، والقدرات الصاروخية الإيرانية، ودور إيران الإقليمي ودعم الميليشيات المسلحة في المنطقة ،بينما ترى دول مجلس التعاون الخليجي أن تسوية النزاعات هي التي ترسي مبادئ الثقة وليس العكس.
وطرحت الصين مبادرة من خمس نقاط لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط خلال الدورة التاسعة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني ـ العربي في 6 يوليو 2020م، وركزت في مجملها على تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، أي تضمنت إطارًا عامًا للتنمية وفق المسعى الصيني لتعزيز التنمية وتطوير العلاقات الاقتصادية مع الشرق الأوسط ، وبما يحقق مصالحها بالشراكة مع دول المنطقة المورد الأساسي للصين في مجال الطاقة والسوق الواسعة لتصريف منتجاتها، ومع ذلك تظل هذه المبادرة مهمة وجاءت من شريك اقتصادي هام لدول المنطقة، لكنها ركزت على التنمية دون إرساء الدعائم الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة وتوفير بيئتها المطلوبة وهو الأمن القائم على استئصال أسباب النزاعات والقلاقل التي تثيرها إيران في منطقة الخليج، وكذلك يجب أن يكون لهذا الأمن ضمانات وشراكات دولية على أرض الواقع.
إذن ما هي البدائل العملية المطروحة لنجاح مبادرة أمنية شاملة لمنطقة الخليج؟ في اعتقادنا يجب أن تكون هذه المبادرة نابعة من دول منطقة الخليج نفسها، وبأدواتها وفلسفتها وبما يحمي مصالحها ويحقق أمنها، على أن تكون النواة الأولى لهذه المبادرة هي دول مجلس التعاون الخليجي الست بتوحيد وتحديث قوات الدفاع عن المنطقة بجهود ذاتية ، ودعم ومساعدة القوى الدولية والدول الكبرى الداعمة لاستقرار المنطقة مع فتح الباب أمام الدول الشقيقة والصديقة للانضمام تحت قيادة خليجية موحدة متفهمة للمخاطر والتحديات الإقليمية والمتغيرات الدولية، مع فتح الباب أيضًا أمام القوى الإقليمية من غير الدول العربية للتفاهم والحوار حول الأمن الإقليمي باعتبار أن المظلة الخليجية هي ذات طبيعة دفاعية وليست هجومية ولا تستعدي أحدًا، وكل ما تسعى إليه هو استقرار منطقة الخليج، والمقصود بهذه الدول إيران وتركيا على وجه التحديد، وعلى إيران أن تعي رغبة دول مجلس التعاون الخليجي في تثبيت الأمن وعدم التدخل في شؤون الآخرين وعدم الاعتداء على دول الجوار ، وكونها دول ليست طامحة أو طامعة في التوسع الجغرافي، وليس لديها أجندات خفية أو معلنة لتصديرها أو تنفيذها خارج حدودها، وعلى إيران أن تلتزم بمنطق الدولة وسياسات العلاقات الدولية القائمة على مبادئ القانون الدولي والتعايش السلمي ومنهج الحوار الإيجابي، وليس منطق الثورة الذي ظلت تعيش طهران تحت مظلته منذ العام 1979م، وإذا استوعبت طهران منطق الدولة وتراجعت عن سياساتها التدخلية التي انتهجتها طيلة العقود الماضية سوف تجد نفسها في حوار مع دول مجلس التعاون وهو الحوار الذي تؤكد عليه دول المجلس وعملت ومازالت تعمل من أجله وفق سياسة معلنة وصريحة هدفها استقرار منطقة الخليج والتعايش السلمي.