بنظرة فاحصة لأحداث العام المنصرم (2022م) يتضح أن دول مجلس التعاون الخليجي قد أعادت اكتشاف قوتها الناعمة ،وأجادت تفعيلها وأحسنت استخدامها في الداخل والخارج، فرغم الأحداث العالمية التي أثرت على قدرات الدول بمختلف أحجامها، خصوصًا منذ اندلاع أحداث ما يسمى بثورات الربيع العربي التي أدت إلى تعطيل مسيرة التنمية في الدول التي شهدت هذه الأحداث ، وخلفت في بعضها صراعات داخلية مازال بعضها مستمرًا ؛ما جعل عدد من هذه الدول تتحول إلى دول رخوة وتقفز فيها الجماعات المسلحة إلى السلطة، ثم جاءت جائحة كورونا التي ألقت بظلال كثيفة على اقتصادات العالم ، وفرضت إغلاقًا للحدود ما أدى إلى انكفاء الدول وتوقف سلاسل الإمداد، ثم ما لبث أن عانى العالم من تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية، حيث ارتفعت أسعار الطاقة والغذاء، إضافة إلى معاناة دول الاتحاد الأوروبي الصناعية التي تئن تحت أزمة نقص إمدادات الطاقة وانعكاس ذلك على القدرات الاقتصادية لهذه الدول خاصة مع نقص إمدادات الطاقة الروسية، كما أوجدت هذه الحرب صراعًا مفتوحًا بين روسيا والغرب ومواجهة ضمنية مع حلف الناتو، تبعها فرض حصار اقتصادي على موسكو ومحاولة عزلها عن المجتمع الدولي ما أوجد حالة توتر في العالم.
وفي ظل هذا التوتر العالمي وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، نجحت دول مجلس التعاون في الإبحار بأمان وسط هذه الأمواج العاتية، فقفز الاقتصاد الخليجي إلى المرتبة الثانية عشرة عالميًا خلال العام المنتهي ليبلغ الناتج الإجمالي 1.68 تريليون دولار، وكانت حصة السعودية من هذا الاقتصاد ما يقترب من النصف (49.6%)بناتج 833.5 مليارات دولار، ومع هذا النمو الاقتصادي أعادت دول الخليج اكتشاف القوة الناعمة لديها في مجالات عديدة ولعبت أدوارًا مهمة على الساحة الإقليمية والدولية ، واستخدمت أوراقها بذكاء واحترافية في التعامل مع القضايا الشائكة، وهذا ما تجلى في موقفها المحايد والموضوعي من الحرب الروسية / الأوكرانية ، ورفضها استخدام القوة في النزاعات الدولية وضرورة الارتهان للقانون الدولي والتعامل بمقتضاه، وهذه المواقف الخليجية المعتدلة جعلت دول المنطقة مقصدًا لزعماء العالم وخاصة الدول الكبرى والعظمى، فقد استضافت جدة منتصف العام الماضي قممًا من ثلاثة مستويات مع الرئيس الأمريكي بايدن (قمة أمريكية ـ سعودية، وقمة أمريكية ـ خليجية، وقمة أمريكية ـ عربية). كما استضافت الرياض في العام نفسه قممًا بذات المستوى مع الصين (قمة صينية ـ سعودية، قمة صينية ـ خليجية، قمة صينية ـ عربية)، ونجحت المملكة في الحفاظ على أسعار النفط في الأسواق العالمية وحافظت على استمرار الإمدادات رغم المؤثرات العالمية السلبية فقد تعاملت باحترام مع قرارات أوبك ـ بلس في إطار تعاون الدول المصدرة للنفط لكي تحقق التوازن بين العرض والطلب.
وقبل أن ينتهي العام أيضًا شاركت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في اللجنة الرباعية الخاصة بالسودان والتي قادت إلى توقيع الاتفاق الإطاري في خطوة مهمة لإنهاء الصراع في السودان وإنهاء معاناة الشعب السوداني الشقيق، وفي ذلك رسالة مهمة جدًا للمنطقة والعالم مفادها أن دول الخليج تتفاعل بإيجابية مع محيطها العربي وتعمل على إنهاء الصراعات الداخلية في الدول الشقيقة، وهذا ما تفعله المملكة أيضًا تجاه استقرار اليمن وتطبيق مخرجات الحوار اليمني والالتزام بخيارات الشعب اليمني، والقرارات الأممية.
وعلى صعيد القوة الناعمة الخليجية أيضًا نظمت دولة قطر فعاليات دورة كأس العالم لكرة القدم 2022م، وسلط نجاح هذه الدورة الضوء على تطور المجتمع الخليجي وقدرة دوله على تنظيم الفعاليات الأممية والدولية والتعامل مع الآخر بطرق عصرية وحضارية، وكان أيضًا لفوز المنتخب السعودي على منتخب الأرجنتين الذي حصل على كأس البطولة لاحقًا دويًا كبيرًا أكد قدرة الكرة السعودية على التفوق وتحقيق الانتصارات والوصول إلى العالمية، وكذلك ما حققه المنتخب المغربي من إنجازات مهمة جدًا في الدورة ذاتها ، أكد تفوق الكرة العربية بصفة عامة، وكذلك نجاح دورة مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة قبل نهاية عام 2022م، أضاف إنجازًا للقوى الناعمة الفنية والثقافية السعودية، وزاد من ذلك حصول عدة جامعات سعودية على تصنيف متقدم على مستوى الجامعات العربية والعالمية، بل الأولى عربيًا هي جامعة سعودية.
كل ذلك وغيره يؤكد أن دول الخليج تستثمر في القوة الناعمة استثمارًا جيدًا وتستطيع أن تحقق من خلالها إنجازات إقليمية ودولية جنبًا إلى جنب مع القوة السياسية والاقتصادية والقوة الصلبة الأخرى بمختلف صورها، وهذا ما نأمل تطوره وزيادة تأثيره في مقبل الأيام.