array(1) { [0]=> object(stdClass)#13138 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 181

قرار الانتصار في الحرب الروسية/ الأوكرانية بيد البنتاغون وليس بيد روسيا أو أوكرانيا

الخميس، 29 كانون1/ديسمبر 2022

حقيقة الحرب الروسية الأوكرانية:

بعد عشرة أشهر من نشوب الحرب الروسية الأوكرانية في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير 2022م، تأكد أن الصراع الروسي / الأوكراني هو صراع دولي حقيقي وخطير، بالرغم مما يبدو بأنه صراع إقليمي بين دولتين إقليميتين هما روسيا وأوكرانيا، وكذلك تأكد أنه الصراع الأخطر الذي واجه روسيا والغرب وأوروبا وأمريكا منذ الحرب العالمية الثانية، وبعد سبعة عقود من الحرب الباردة

باختلاف درجات حرارتها في القرن الماضي والحاضر، وتأكد أن حقيقة الصراع الروسي / الأوكراني هو صراع بين الاتحاد الروسي ومعه حلفاؤه القلائل من جهة، ومن جهة أخرى أوكرانيا وأمريكا وحلف دول شمال الأطلسي العسكري (الناتو)، وهذا ما يجعل الصراع مرشحًا للتوسع جغرافيا، وسوف يتمخض عنه تغييرًا في النظام الدولي، وتغييرًا في تركيبة مجلس الأمن والأمم المتحدة.

إن جميع الدول الأوروبية والغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن الحرب حربها فعلاً، وأنها مهددة بخسائرها ومخاطرها ونتائجها، وقد أجمع وزراء خارجية الناتو قبل أيام أن أي اعتداء على دولة واحدة منها هو اعتداء على كل دول الحلف مجتمعة، فبعضها مرشح لتلقي ضربات جوية أو صاروخية، ولذا لم تعترض ولم تتوقف أمريكا ولا الدول الأوروبية عن دعم أوكرانيا ماليًا وعسكريًا ولوجستياً لخوض هذه الحرب واستمرارها، بما فيها الدولة الأوروبية الأكثر صداقة واعتمادًا على روسيا مثل اليونان.

بينما بقيت تركيا وهي عضو في حلف الناتو العسكري خارج هذا الحماس أو المخاوف الغربية، ورسمت لها منهجية سياسية خاصة، أقرب ما تكون من الوسطية من الحرب ومن المشاركين فيها، وبالأخص أنها تتهم أمريكا بدعم الحرب والاستفادة منها، وألا قرار للدول الأوروبية بسبب تبعيتها لأمريكا؛ فالموقف التركي لا يشارك الاتحاد الأوروبي دعمه للحرب مالياً ولا سياسياً ولا عسكريًا، وقد يكون من أسباب ذلك أن تركيا لم تمنح العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي من قبل، وربما بسبب بقاء العديد من المشاكل مع أمريكا ومع الاتحاد الأوروبي مثار تباعد بينهما في السنوات الأخيرة، وكذلك لتركيا العديد من المشاكل مع روسيا وبالأخص في أوكرانيا والقرم وسوريا وليبيا وغيرها، وهو ما وفر لتركيا هامشًا من المناورات السياسية والاقتصادية للاستفادة من هذه الحرب من الطرفين، كما ظهر في اتفاقيات نقل الحبوب الأوكرانية إلى دول العالم عبر تركيا، شاركت فيها روسيا وأشرفت عليها الأمم المتحدة، فضلاً عن استمرار تدفق الغاز الروسي إلى تركيا وغيرها عبر تركيا أيضًا.  

والفائدة الأولى التي تحققها الدول الأوروبية وأمريكا من دعمها لأوكرانيا هي فائدة استراتيجية وليست تكتيكية، وهذا أهم سبب لاستمرار الحرب، وهو ما جعل أوكرانيا تواصل هذه الحرب لحين تحقيق الأهداف الأمريكية والأوروبية التي خططوا لها من قبل الحرب، ولذا فإن مواصلة هذه الحرب لأشهر وسنوات وربما لعقود قادمة هو المرجح، ولو بدرجات مختلفة من قوة الصراع، لأن الرئيس الروسي بوتين لن يستسلم بسهولة، والاستسلام أو خسارة الحرب تعني نهاية عهده وسلطته، ما لم يتحرك الشعب الروسي للتنديد باستمرار الحرب والمطالبة بوقفها.

إن المكسب الأكبر لأمريكا وأوروبا من محاربة روسيا في أوكرانيا هو تنفيذ مخططاتها لأن تكون حرب الاستنزاف مع روسيا خارج أراضيها، ولا يهمها مدى الخسائر الأوكرانية ولا مدتها الزمنية، حتى لو سقط الملايين ، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الروسي سرجي لافروف بقوله: "إن أمريكا ستقاتل في أوكرانيا لأخر جندي أوكراني"، وحتى لو وصلت الحرب في أوكرانيا لدرجة استعمال الأسلحة النووية المحدودة أو المتوسطة، لأن الهدف الهام هو استنزاف القوات العسكرية والقدرات الاقتصادية والموارد البشرية الروسية بدرجة كبيرة، وهذا يستلزم أن تمتد الحرب لسنوات قادمة، وهو ما بدأت نتائجه تظهر ولو بصورة ضعيفة.

إن العالم أمام صراعات دولية كبيرة ومتواصلة ومدمرة في أوكرانيا وغيرها، ما لم يتراجع الرئيس الروسي بوتين عن أهدافه التي وضعها للقيام بعملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، أو يخضع لشروط أمريكا لإنهاء الحرب وإعلان هزيمة روسيا ونهايتها، وقبوله لشروط أمريكا ، إن بايدن أعلن عن هذه الشروط في الثاني من ديسمبر 2022م، ومن أهمها انسحاب روسيا من أوكرانيا، وهذا يشمل المقاطعات الأربع التي ضمها الكرملين لروسيا قبل شهرين والانسحاب من القرم، والشرط الثاني تحمل روسيا تعويضات خسائر الحرب، وهذا يعني قبول روسيا الاعتراف بالهزيمة، وحتى لو خضع بوتين للشروط الأمريكية فإنه لن ينجو من تحمل المسؤولية، فهو خاسر في كل الاحتمالات، وسيتم إضعاف روسيا أكثر ، ومن ثم إبقاء روسيا دولة ضعيفة وقابلة للتقسيم في المستقبل.

لقد كان من أهداف بوتين أن تكون العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا تعبيرًا عن قوة روسيا، وعن حق روسيا بالدفاع عن وجودها كدولة وشعب على هذه الأرض جغرافيًا وسياسيًا وعسكريًا، وأن تبقى روسيا صاحبة قرار سياسي وقدرات عسكرية مهيبة في العالم، كما بينه بوتين بقوله: "إن هذا القتال للدفاع عن حق روسيا في الوجود"، في أكثر من خطاب ومناسبة.

وهذا الموقف من بوتين وإن كان في ظاهره قوة إلا أنه يتضمن الاعتراف بالضعف، بأنه قد استهدف من الغرب قبل حربه في أوكرانيا وبعدها، وما ظنه دفاعًا عن حقه في الوجود أصبح ذريعة للحرب ضده والقضاء عليه، فقد وفر للغرب بتخطيطه الخاطئ ودخوله الحرب دون إعداد كامل ـ ولو بإعلانه عن عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا فقط ـ فقد وفر الفرصة لأمريكا والدول الأوروبية وحلفائها لادعاء مشروعية استعمال القوة العسكرية ضد روسيا وقيادتها، بحجة مساعدة الشعب الأوكراني، بينما الهدف الحقيقي هو إضعاف روسيا وبوتين وإرهاقهما حتى الانهيار أو الاستسلام، أو إبقائها تحت العقوبات الدولية القاسية، وتصنيفها دولة راعية للإرهاب، فالصراع الدولي ضد روسيا هو لمنع ظهور قوة عسكرية وسياسية تسعى لمركز الدولة الأولى في العالم، أو تسعى للخروج على بيت الطاعة الأمريكي.

إن تصنيف روسيا دولة راعية للإرهاب هو إخراج لها من المجتمع الدولي المقبول غربيًا وأمريكيًا، وبوصفها دولة كبرى وصاحبة طموحات دولية فإن الصراع معها سيخل بالنظام الدولي لسنوات طويلة، وما يزيد من المخاطر الدولية ما قد اكتشفته غرف العمليات العسكرية الأمريكية والبريطانية عن مدى ضعف الجيش الروسي عمومًا، وضعف السلاح الروسي التقليدي، ويبدو أن الرئيس الروسي بوتين أصبح اليوم تحت تهديد صارم من أمريكا بعدم استعمال الأسلحة النووية، بل وكأنه حتى قد منع من التهديد بها أيضاً، كما كان يفعل في الأشهر الأولى للحرب، فلم يعد التهديد باستعمال الأسلحة النووية يسمع من المسؤولين الروس، وكأن روسيا قد أرغمت على مدى ونوع الأسلحة والعمليات العسكرية التي يسمح لها بها، وهذا ـ إن صح ـ تعبير وموافقة من بوتين على إدراكه مدى قدراته العسكرية أمام أمريكا والغرب، وإنه ليس منافسًا حقيقيًا لأمريكا، وأن عليه خوض الحرب مع أوكرانيا أو مع الدول الأوروبية دون استخدام أسلحة نووية هائلة، ولا التهديد بها، وإلا فالرد الأمريكي الحاسم والحازم سيكون مدمرًا للجيش الروسي، كما هدد بذلك وزير الدفاع الأمريكي أوستن نظيره وزير الدفاع الروسي شويغو مرارًا.

   خسائر الحرب الروسية / الأوكرانية على البلدين:

إن من الحقائق القول: إن قرار الانتصار في الحرب الروسية/  الأوكرانية بيد البنتاغون، وليس بيد روسيا ولا أوكرانيا، والبنتاغون يضع خططه في إدارة الحروب في قدراتها وخطواتها وزمنها لتحقيق كل أهدافها، ولا يستعجل خطوة قبل أخرى، سواء مع هذه الحرب، أو بما يمكن أن تؤول إليه الحرب مع الصين وكوريا الشمالية وإيران وغيرها، فهو من يدير عمليات الحرب الكلية: في التجسس العسكري ضد الجيش الروسي أولاً، وبالأخص بالأقمار الاصطناعية المدنية والعسكرية بحسب التهم الروسية الحديثة، وهو الذي يخطط للعمليات العسكرية وينسق مع وزارة الدفاع البريطانية وقيادة الناتو الأمريكية الأوروبية ثانيًا، وهو الذي يعطي الأوامر للقيادة السياسية والعسكرية للجيش الأوكراني للتنفيذ، لأنه أهم أدوات الحرب، بحكم كونه شريكًا في الأرض والقوى البشرية وبنك الأهداف للعدو الروسي وتحمل الخسائر الكبرى، فأوكرانيا هي ميدان الحرب في الوقت الراهن، وهذا ما يجعل الشعب والجيش والحكومة الأوكرانية أكثر الأطراف الخاسرة بكل المقاييس، بينما سوف تدفع روسيا خسائر أكبر كلما استمرت الحرب أكثر وهو ما تراهن عليه أمريكا، وكلما دعت إلى عمليات تعبئة عسكرية في الحرب نفسها وبعدها، لأنها ستدفع تكاليف الحرب والخسائر المادية الكلية، ومنها المليارات التي دفعتها أمريكا والدول الأوروبية والغربية إلى أوكرانيا، ومنها تكاليف إعادة بناء أوكرانيا والتعويضات فيها.

إن الموقف الغربي الحقيقي يمثله اليوم الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ الذي أعلن مرارًا بأن الناتو:" لن يسمح بانتصار روسيا في هذه الحرب"، كما في اجتماع وزراء خارجية دول الناتو الأخير بتاريخ 29/11/2022م، ولأن انتصار بوتين هو تهديد للأمن الأوروبي والعالمي معاً، وحتى لا يكون الانتصار الروسي ذريعة ولا مشجعًا للدول الجامحة والخارجة عن القانون، ولذا يسعى الناتو إلى مزيد من الحصار لروسيا بقبول طلب انضمام فنلندا والسويد للحلف بعد تجاوز الاعتراضات التركية الشكلية.

مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية:

إن روسيا بما تملكه من قدرات سياسية وعسكرية تملك إطالة أمد الحرب وزمنها ولا تملك قرار الانتصار فيها، وإطالة أمد الحرب هو مشروع أمريكي في الأصل، فهي لا تعارضه لإدخال روسيا في حروب استنزافية لسنوات كما فعلت مع الاتحاد السوفيتي قبل أربعة عقود، ومع العراق منذ عام 1990 حتى عام 2003م، ولذلك ستكون تبعات حربها على أوكرانيا وخيمة جدًا على روسيا أولاً، وستكون خسارة الاتحاد الروسي أكبر من هزيمة الاتحاد السوفيتي عام 1989م، بعد انسحابه من أفغانستان، فالغرب اليوم مع روسيا كحاله مع الدول الإسلامية في التاريخ الذي خاض ضدها حروبه الصليبية الكثيرة، ولم يهدأ له بال حتى كان انتصاره الأخير في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وتقسيمها ووضع شعوبها ودولها تحت شروط الهزيمة الدائمة، فالانتصار الأمريكي على روسيا سيؤدي إلى تقسيم روسيا وفرض شروط هزيمة دائمة إذا تمكن من ذلك.

والنتائج المتوقعة على الدول الأوروبية بعد الحرب أن تصبح أكثر ضعفاً وتبعية لأمريكا من ذي قبل، لأنها ستكون في ظروف مشابهة لظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، منهكة وخسائرها المالية والعسكرية كبيرة جدًا، وستكون مشاكلها أكثر مع روسيا أيضًا، بسبب مطالبها بالتعويضات على الأضرار التي لحقت بها بسبب الحرب، وبسبب مطالبتها بالأموال وأثمان المعدات العسكرية التي قدمتها لأوكرانيا أثناء الحرب.

والخريطة الجيوسياسية في المنطقة بعد الحرب ستكون فسيفسائية هشة، لأن تقسيم دولة روسيا الاتحادية ولو بعد سنوات سيوجد العديد من الدول الضعيفة والمتصارعة والفقيرة، بالرغم مما في بعضها من قدرات طبيعية هائلة، وبما فيها من حقول ومناجم كبيرة وواسعة للطاقة، وبما فيها من موروثات صناعية كبيرة، ولكن أخطر ما سوف تواجهه من أزمات جيوسياسية لتلك المنطقة مخلفات المحطات النووية القديمة والقنابل الذرية والأسلحة النووية، التي ستكون عبئًا كبيرًا عليها، بصورة مشابهة لما واجهته روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد تحملت أمريكا والدول الأوروبية معظم تكاليف تفكيك وتدمير القنابل والصواريخ النووية التي لم تعد تصلح للاستخدام، وكانت كلفة الحفاظ عليها وصيانتها أكبر من كلفة الاستفادة منها، ولم تكن روسيا تملك القيام بذلك وحدها.

والأخطر من ذلك إذا كانت نهاية الحرب بعد استعمال روسيا للقنابل النووية المحدودة وغيرها في شرق أوكرانيا وغيرها، فإن ذلك سيتبعه استعمال للقنابل الذرية أو الصواريخ الباليستية الحاملة لرؤوس نووية ضد المواقع العسكرية الروسية، في البر والبحر، وسيكون معالجة آثارها المدمرة على الناس والبيئة كارثي، وهذا مشهد لا يمكن استبعاده إذا اضطر الرئيس الروسي بوتين اللعب بالورقة النووية الأخيرة لحسم الحرب، وقد هدد بذلك منذ بداية الحرب بأن: لا عالم دون روسيا.

 

مستقبل النظام العالمي على ضوء هذه المتغيرات:

لا مناص من تغيير النظام العالمي بعد نهاية الحرب الروسية / الأوكرانية، مهما كانت النتائج، سواء بموافقة بوتين على إنهاء الحرب بالشروط الأمريكية، أو بإعلان الكرملين طلب المفاوضات المباشرة مع أمريكا لإنهاء الحرب، أو بسبب اختفاء الرئيس الروسي بوتين عن مسرح القيادة في روسيا، لأكثر من سبب أو احتمال، وعندها ستبدأ أمريكا فرض النظام الدولي الجديد بالمشاورة مع الصين بالدرجة الأولى، وربما بدأت في ذلك في القمة الأخيرة بين القيادة الأمريكية والصينية قبل شهرين، وذلك للحيلولة دون دخول الصين في حرب مع أمريكا والدول الغربية في مرحلة انهيار روسيا الاتحادية، فالصين الشيوعية أبعدت نفسها عن الاتحاد السوفيتي في مرحلة الانهيار، ولم تحاول إنقاذه، وإن كانت تشاركه في العدو الغربي وفي المبادئ الشيوعية والاشتراكية في ذلك الوقت، وكذلك لا تسعى للدخول في حرب مع أمريكا والناتو في هذه المرحلة.

 

موقف تركيا من صراع الشرق والغرب:

حافظت تركيا على موقف متوازن قبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية وبعدها، وقد حاولت جمع الرئيسين الروسي بوتين والأوكراني زيلنسكي في مؤتمر قمة تستضيفه أنقرة قبل الحرب، ولكنها لم تنجح ولا زالت تواصل محاولتها لعقد هذه القمة الروسية الأوكرانية وهي تعلم أن هناك فيتو أمريكي يمنع الرئيس الأوكراني من لقاء بوتين، وتمنعه من التوصل لاتفاق معه لإنهاء الصراع، مهما كانت التطمينات الروسية لأوكرانيا، وقد بينا من قبل أهداف أمريكا من توريط الدولتين الروسية والأوكرانية بإشعال الحرب والاستمرار بها حتى الآن.

وذهب الرئيس التركي أردوغان إلى اتهامات صريحة لأمريكا بأنها أرادت الحرب وتعمل لاستمرارها، بل واتهم الرئيس التركي بأن الغرب كان يزود أوكرانيا بالأسلحة الخردة في الأشهر الأولى للحرب، وأنها كثيرًا ما وعدت زيلنسكي بأسلحة حديثة ومتطورة دون أن تنفذ ذلك إلا في الشهرين الأخيرين.

ضمن هذه القراءة التركية لأسباب الحرب وأهدافها لا تملك السياسة التركية إلا أن تواصل مساعيها لوقف الحرب، من باب تقديم الرؤية الدبلوماسية لطريق الحل وإنهاء الصراع، وإن لم يلتفت إليه أحد غيرها بما فيها روسيا، وحتى تتحقق الرؤية التركية لطريق إنهاء الصراع في أوكرانيا فإن تركيا تبحث عن مصالح شعبها، ومصالح تجارتها ومصانعها ومصارفها وتأمين الطاقة لشعبها في الشتاء بغض النظر عن المصادر، وإن خالفت الرؤية الأمريكية الداعية لمقاطعة روسيا.

إن قناعة تركيا بأن أمريكا تبحث عن أهدافها الخاصة فقط في التعامل مع روسيا، وبالأخص في صراعها مع أوكرانيا، بغض النظر عن آثار سياستها السلبية على شعوب العالم بما فيها الشعوب الأوروبية، وبما فيها الشعب الأوكراني، ومن باب أولى بما فيها آثارها السلبية على الشعب التركي فإن السياسة التركية تحاول عدم الخضوع للضغوط الأمريكية على تركيا وهي تعلم أن هذه العقوبات تخدم المصالح والشركات الأمريكية فقط، فلماذا تجعل من نفسها ضحية للصراعات الدولية وهي لا تقتنع بها وليست طرفًا فيها.

لذلك فإن السياسة التركية تبحث عن مصالحها أولاً، وتتجنب الخضوع للعقوبات الغربية على روسيا ـ ما استطاعت ـ ثانياً، وتتجنب الاصطدام مع السياسة الروسية ثالثًا، لأنها بحاجة إلى إبقاء علاقات حسنة مع روسيا ومع الشعب الروسي أيضاً، فقد انتقلت الكثير من الشركات الروسية إلى تركيا هربًا من العقوبات الغربية على الشركات الروسية.

لا توافق تركيا روسيا بضم أراض من أوكرانيا، ولم تعترف تركيا بضم روسيا المقاطعات الأوكرانية الأربع، ولو تمت عبر احتلال عسكري أو استفتاءات شعبية شكلية، ورفضت تركيا من قبل الاعتراف بضم روسيا لإقليم القرم عام 2014م، وطالبت روسيا بالخروج من كل الأراضي الأوكرانية المحتلة، وطالبت ولا تزال تطالب بحل المسائل المختلف عليها بين روسيا وأوكرانيا بالطرق السلمية، لأن الحل العسكري لن يحقق مصالح روسيا ولا أوكرانيا، ولكنها تدرك أن الصراع الروسي الأوكراني صراع دولي بامتياز وبأدلة قطعية.

لقد ولدت الجمهورية التركية في الحاضنة الغربية في الربع الأول من القرن الماضي، ووجدت دعمًا أمريكيًا وأوروبيًا منذ نشأتها، كما أقامت علاقات حسنة مع الاتحاد السوفيتي، ولكن وبعد تأسيس حلف الناتو عام 1949م، وانضمام تركيا له تحت الإغراءات الاقتصادية وإملاءات المرحلة السابقة على الدولة التركية وأحزابها السياسية التابعة للغرب ثقافيًا وسياسيًا، فقد بقيت تركيا ضمن المعسكر الغربي وحلف الناتو، وكان الجيش التركي هو الحاكم الفعلي للجمهورية التركية وقام بانقلابات عسكرية عديدة لتغيير الحكومة التي تخالف المصالح الأمريكية والغربية، ولكن نهاية الحرب الباردة أرجعت مكانة وأهمية تركيا إلى الوراء بالنسبة للغرب ولأوروبا، وهذا وفر لأردوغان وحزب العدالة والتنمية حرية الحركة دون ضغوط بالغة، وجعل الحكومة التركية تقيم علاقاتها الدولية باستقلالية أكبر، وكان من أخطاء الناتو مع تركيا سحبة لمنظومة الدفاع الجوي باتريوت من الأراضي التركية عام 2011م، في لحظة كانت تركيا بأمس الحاجة لها، وربما كانت أمريكا تهدف من سحبها إضعاف تركيا عسكريًا، وربما فتح الباب لدولتين شرقيتين لمحاربة تركيا وهما روسيا و إيران، بسبب اختلافهما مع تركيا في سوريا وأذربيجان والعراق وغيرها.

هذا التصرف الخاطئ من الناتو استغله الرئيس الروسي بوتين بذكاء وفتح الباب لتركيا للتزود بأحدث الأسلحة الروسية، فقدم لتركيا منظومة الدفاع الجوي س400 ومنحها حق تصنيعها في المستقبل، وهو ما أشاط غضب أمريكا والناتو بدرجة أقل، وكان جواب تركيا إما الباتريوت وإما س400، ولا تقبل أن تمنع من كليهما، وكذلك فتحت تركيا احتمالات التزود بالطائرات الحربية الروسية في حالة امتناع أمريكا منع الطائرة ف35 أو اف16 عنها، إضافة إلى أن أمريكا قد خدعت تركيا في أكثر من قضية دولية، منها في سوريا ومع السعودية ومع مصر بعد إزاحة الجيش المصري للرئيس محمد مرسي عن السلطة عام 2013م، وهو ما يتطلب منها تصحيح مسار خلافاتها في المنطقة، فضلاً عن استضافة أمريكا لمن تتهمه الحكومة التركية فتح الله جولن بالتخطيط للانقلاب العسكري عام 2016م.

هكذا وصلت الحكومة التركية إلى عدم الثقة بالسياسة الأمريكية، وقد وجدت أذرعًا مفتوحة من الرئيس الروسي بوتين وبالأخص في تقديم أوراق اعتماد الثقة بين بوتين وأردوغان، في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وغيرها، وبالأخص في تركيا نفسها، وهذا ما يلزم أردوغان بعدم نزع الثقة التركية مع روسيا قبل أن تجد تغيرًا حقيقيًا في السياسة الأمريكية نحو تركيا، وبتعبير أدق مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية.

لقد وجدت الأرضية المشتركة بين السياسة الروسية والتركية قبل حرب روسيا على أوكرانيا، وتكاد الحكومة التركية أن تكون قد أمسكت بقبضة القبان في توازنات السياسة الدولية على أراضيها، وبالأخص بين روسيا وأمريكا، فكل دولة منهما لا تريد الابتعاد عن تركيا، لأنها تعلم أن الدولة الأخرى تتمنى ذلك، بل كم تمنت أمريكا والناتو أن تدخل تركيا في حرب ضد روسيا، وكذلك كم تتمنى روسيا أن تدخل تركيا في حرب مع أمريكا شمال سوريا.

إن أردوغان هو الرهان الأكبر لبوتين لضمان المصالح الروسية في تركيا وفي السياسة التركية، قبل أن يراهن على حاجة تركيا للنفط والغاز الروسي، وقبل الرهان على ملايين السياح الروس الذين يزورون تركيا قبل غيرها، وبوتين على ثقة بأن له صديقًا في تركيا هو أردوغان قدم له الثقة المتبادلة، ليس على مستوى الصداقة الشخصية فقط، وإنما على مستوى التعاون الاستخباراتي الدولي، حتى عقدت الاستخبارات الروسية اجتماعاتها السرية مع الاستخبارات الأمريكية على الأراضي التركية في الأيام الأخيرة.  

مقالات لنفس الكاتب