تحميل ملف الدراسة
تمثل الشراكة الاستراتيجية بين دول الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي أقرها مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي خطوة بالغة الأهمية في سبيل تعزيز مسيرة العلاقات بين الجانبين التي تعود إلى سنين طويلة، انطلاقًا من حاجتهما للتعاون المشترك والضرورات التي حتمت زيادة هذا التعاون وتسريع وتيرته، لا سيما مع تداعيات الصراع في أوكرانيا وما أفرزه من واقع جديد تجلى في التحديات الاقتصادية التي شملت جميع دول العالم.
ومنذ عشرات السنين عرفت هذه العلاقات تطورًا لافتًا في جميع الأصعدة، لا سيما في مجال الاقتصاد، حيث تمتاز الدول الخليجية بحرصها على تحقيق النهضة والرفاهية وتنمية مدخلاتها وترقية حياة شعوبها، وساعدها على ذلك استقرار أنظمة الحكم فيها وابتعادها عن المحاور السياسية والدوافع الأيديولوجية، وهو ما قادها إلى تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة أصبحت علامة فارقة لها، رغم اضطراب العديد من الدول المحيطة بها.
وبسبب التطور والازدهار الذي تمتاز به، أصبحت الدول الخليجية قبلة لرؤوس الأموال الأجنبية، خصوصًا من قارتي أمريكا وأوروبا، وذلك نتيجة لاكتمال بنياتها التحتية وأجواء الاستقرار والأمن الذي تنعم به، وقوة اقتصادها وتوفّر المشاريع الاستثمارية ذات الجدوى الاقتصادية العالية.
لكل ما سبق، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تتوقع الكثير من المكاسب التي يمكن أن تنجم عن الشراكة الاستراتيجية التي تجمعها مع الاتحاد الأوروبي في الكثير من المجالات الرئيسية، حيث تتضمن وثيقة الشراكة التي تم إقرارها (21) بندًا تتناول جميع الجوانب المتعلقة بتحقيق الاستقرار وأمن الطاقة، وتوطين المعرفة، والتجارة والاستثمار المشترك في منطقة الخليج خصوصًا والشرق الأوسط على وجه العموم.
ويستمد هذا التعاون الاقتصادي بين الجانبين أهميته من أنهما يمثلان معاً أكثر من 20% من الاقتصاد العالمي، وفي سنة 2020م، حل الاتحاد الأوروبي في المرتبة الأولى كأكبر شريك لدول مجلس التعاون الخليجي من حيث الاستيراد وفي المرتبة الرابعة من حيث التصدير.
وفي ظل تزايد الحاجة للحفاظ على الموارد والتنمية المستدامة والتصدي لتحديات التغير المناخي الذي بات يهدد الحياة على سطح الأرض، فإن تنمية مصادر الطاقة النظيفة والتحول الأخضر تحتل جزءًا أساسيًا من اهتمامات الجانبين، خصوصًا أن دول الخليج – ورغم أنها المزود الأساسي للعالم بالنفط ومشتقاته – إلا أنها قطعت شوطًا كبيرًا في التحول لمصادر الطاقة المتجددة، حيث يبدو ذلك بوضوح في زيادة التوجه نحو استخدام الغاز الطبيعي المسال، والاستثمارات الضخمة في موارد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في العالم، الأمر الذي يجعل تطويرها عاملاً أساسيًا في تنفيذ الاستراتيجيات المشتركة للوفاء بالالتزامات المناخية والأهداف الاقتصادية.
وقد تجلى الاهتمام الكبير للقيادة السعودية بقضايا الحفاظ على البيئة في مبادرة السعودية الخضراء التي تستهدف غرس 10 مليارات شجرة في المملكة، إضافة إلى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي تهدف بدورها إلى غرس 40 مليار شجرة، حيث يقف ولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – وراء هاتين المبادرتين بصفة شخصية ويوليهما عنايته، وذلك بهدف التصدي للزحف الصحراوي، إضافة إلى المبادرات المتعددة التي تنادي بتصفير نسبة الكربون وفق آجال زمنية محددة.
ونسبة للاهتمام المتزايد في دول الخليج بترقية واقع شعوبها وتوطين التقنية فإنها سوف تستفيد بطبيعة الحال من القدرات المتميزة للدول الأوروبية التي قطعت شوطًا كبيرًا في تحقيق النهضة والتنمية الصناعية، وفي هذا المجال فإن المملكة العربية السعودية التي تسير على هدي رؤية 2030م، تركز بصورة أساسية على اللحاق باقتصاد المعرفة وزيادة قدرات شبابها وإكسابهم المهارات التي تمكنهم من تسلم راية العمل والإنجاز.
لذلك نادت معظم برامج الرؤية بتقليل نسبة البطالة في أوساط الشباب عبر إلحاقهم بأعرق الجامعات العالمية وتمكينهم من اكتساب الخبرات اللازمة عبر برامج تدريبية حديثة. كل تلك الأهداف يمكن أن تساهم دول الاتحاد الأوروبي في تحقيقها عبر تسخير الخبرات المتراكمة لديها.
كذلك تركز رؤية المملكة 2030م، على استقطاب الشركات الأوروبية الكبرى لافتتاح فروع لمصانعها في المملكة للإسهام في توطين التقنية الصناعية، وإيجاد المزيد من فرص العمل المتميزة للشباب، لذلك حرصت السعودية على تقديم العديد من التسهيلات لتلك الشركات للاستفادة من الموقع الجغرافي المتميز للمملكة.
ولأن العلاقات بين الدول والمؤسسات أصبحت في هذا العصر تعتمد على تبادل المنافع والمصالح، فإن دول الاتحاد الأوروبي سوف تجني بدورها العديد من المكاسب من هذه الشراكة، فأوروبا التي تعتبر أكبر منتج رائد في مجال التكنولوجيا والأبحاث والدراسات سوف تستفيد بالتأكيد من علاقتها مع الدول الخليجية التي تمثّل سوقًا رائجة لتلك المنتجات، لا سيما في ظل ارتفاع القدرة الشرائية والرغبة المتزايدة في مواكبة العصر وتحديث المجتمع.
كما أن المبادرة سوف تشكل للاتحاد الأوروبي أيضًا إطارًا ديناميكيًا للتعاون مع شركائه في مجلس التعاون الخليجي لتعزيز الاستثمارات المستدامة في دول الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تعد المنطقة بوابة أساسية تصل بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وزيادة التفاعل بين الجانبين سوف يتيح حتمًا للاتحاد الأوروبي سهولة الوصول لبقية الأسواق الإفريقية والآسيوية.
ومما يعزز أهمية الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الخليجية أنها لا تقتصر فقط على الجوانب الاقتصادية، بل تشمل مجالات أخرى عديدة منها تفعيل التعاون الوثيق بين الثقافات، والتفاهم حول العمل الإنساني لأن دول الخليج العربي تولي أهمية كبيرة لتلبية الاحتياجات الإنسانية والتنموية في مناطق النزاعات، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، وأصبحت في مقدمة الجهات المانحة للمساعدات المالية، ومما يميز جهودها التقيد التام باحترام القانون الدولي والمبادئ الإنسانية التي تحكم هذا المجال وعدم ربط هذه المساعدات بأي اعتبارات سياسية، حيث يعد الدافع الإنساني هو المحرك الوحيد لها.
ومن أبرز مزايا الشراكة كذلك أنها تسهم في تعزيز مبادئ التعددية والتحول الاجتماعي وحقوق الإنسان وترسيخ المبادئ المتعلقة بتمكين المرأة، وإتاحة فرص التنقل للشباب والطلاب، والتعاون والتبادل في مجال التعليم العالي بما يؤدي إلى اكتساب المعرفة ورفع المهارات وتبادل الخبرات، إضافة إلى تحسين التفاهم والثقة المتبادلة. كما تهتم بالتصدي للخطر الإيراني على أمن المنطقة والعالم أجمع.
وإدراكا من الدول الخليجية بما يشكله البرنامج النووي الإيراني من خطر كبير على المنطقة والعالم أجمع فقد تشددت في ضرورة التأكد من التزام طهران بكافة ما سيتم الاتفاق عليه، وأبدت حزمًا واضحًا في هذا الصدد، وأشارت إلى العيوب الكبيرة التي شابت الاتفاق القديم الذي تم إلغاؤه وطالبت بتجاوزها.
ودعت الدول الخليجية في مرات متعددة النظام الإيراني للتقيد بمبادئ حسن الجوار، والكف عن تصدير الفوضى لجيرانها ووقف تدخلاتها السالبة في شؤون الدول العربية. وقد قوبل الموقف الخليجي بتأييد واضح من دول الاتحاد الأوروبي التي تفهمت حقيقة المحاذير الخليجية، وطالبت بجعل دول المنطقة عامة والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص جزءًا من مفاوضات الوصول إلى الاتفاق الجديد.
ولأن مكافحة الإرهاب والأفكار المتطرفة باتت أولوية في هذا العصر فإن هناك تنسيق كبير بين الدول الخليجية والأوروبية لاستئصاله، وقد حققت دول الخليج نجاحات لافتة في هذا المجال، واستطاعت توجيه ضربات استباقية موجعة لتيارات العنف والتطرف أجبرتها على التواري إلى جحورها.
ويبرز الدور الكبير للمملكة في القضاء على الكيانات الإرهابية في الأيديولوجية التي تتبعها حيث لا تركز فقط على العامل الأمني، بل تولي أهمية كبيرة للعامل الفكري باعتبار المشكلة فكرية في المقام الأول، لذلك تهتم كثيرًا بتفنيد الذرائع الواهية التي يتحجج بها من يقفون وراء هذه الظاهرة، وذلك عبر الاستعانة بالعلماء الموثوقين الذين استطاعوا إثبات كذب تلك الادعاءات وأن الإسلام دين الرحمة والوسطية بريء من دماء الأبرياء الذين راحوا ضحايا لعمليات التفجير والعنف التي شهدتها العديد من دول العالم.
كما دعت المملكة مرارًا وتكرارًا لتعزيز الحوار بين أتباع الأديان لتشجيع مناخ التسامح والابتعاد عن التطرف وترسيخ ثقافة التسامح بين البشر ومواجهة دعوات الإقصاء والتصنيف السالب، وفي سبيل ذلك أنشأت مركز الملك عبد الله للحوار تحت مظلة الأمم المتحدة، ومركز اعتدال لمحاربة الفكر المتطرف، إضافة إلى دورها الكبير في إنشاء واستضافة التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب وإمداده بكل ما يلزم للقيام بالمهام المرجوة منه.
كذلك تحتل محاربة الجرائم العابرة للحدود وعلى الأخص جرائم الاتجار بالبشر وغسيل الأموال وترويج المخدرات أهمية كبرى في أولويات التعاون بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الخليجي، حيث يتم تبادل الخبرات وتمرير المعلومات ومراقبة السواحل والحدود، إضافة إلى الحفاظ على أمن الممرات المائية العالمية والملاحة الدولية.
وإن كانت دول الخليج العربي عمومًا تولي أهمية كبيرة لعلاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي فإن المملكة العربية السعودية تركز على تطوير هذه العلاقات، حيث تقوم لجنة الصداقة البرلمانية السعودية مع البرلمان الأوروبي في مجلس الشورى السعودي بدور رائد في هذا المجال وتبذل جهودًا متواصلة لترقية وتعزيز أوجه التعاون المشترك.
ويركز أعضاء لجنة الصداقة من الجانبين على زيادة نمو التبادل التجاري بين المملكة والاتحاد الأوروبي، وتعزيز وتطوير العلاقات الثنائية، وتقوية آفاق التعاون الوثيق بينهما. كما تم إطلاع أعضاء البرلمان الأوروبي خلال زياراتهم المتعددة للرياض على التغييرات والتحديثات التي تشهدها المملكة في هذه الفترة، لا سيما في ظل النهضة التشريعية الهائلة التي تشهدها والتي اشتملت على سن العديد من القوانين الجديدة وتعديل الأنظمة لتعزيز حقوق العمالة، وتمكين المرأة وضمان حقوق الطفل وغيرها من القوانين المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان.
كما تجد رؤية المملكة 2030م، اهتمامًا متعاظمًا بوصفها خارطة طريق متكاملة لتحقيق النهضة في السعودية على كافة الأصعدة، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، حيث بادرت كبريات الشركات الأوروبية للإسهام في تنفيذها وتسخير خبراتها المتراكمة لأجل تحقيق كافة أهدافها، وتقوم اللجنة بتقديم الإيضاحات التي يطلبها المستثمرون الأوروبيون عن مناخ الاستثمار في المملكة.
وكذلك تولي لجنة الصداقة البرلمانية السعودية مع البرلمان الأوروبي أهمية كبيرة لاستكمال التشريعات المتعلقة بإعفاء مواطني المملكة العربية السعودية من تأشيرات الدخول للدول الأوروبية، إيمانًا بما ستحققه هذه الخطوة من مكاسب كثيرة حال إقرارها.
وقامت وفود متعددة تمثل اللجنة بزيارات إلى البرلمان الأوروبي والعديد من دول الاتحاد، وذلك للتنسيق المشترك بين الجانبين في القضايا الاستراتيجية التي تهم الجانبين، إضافة إلى تشكيل لجان فرعية متعددة تتولى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه ومراقبة ذلك.
وتشهد العلاقات السعودية الأوروبية تناميًا متواصلًا، حيث تزايد الاهتمام منذ إقرار رؤية المملكة 2030م، وما تبعها من مشاريع عملاقة ورائدة مثل نيوم وغيره، كما قدمت المملكة العديد من حزم الدعم والتسهيلات لاجتذاب رؤوس الأموال الأوروبية والشركات الكبرى للإسهام في الجهود السعودية الرامية للحاق باقتصاد المعرفة وتوطين التقنية. كما وصلت هذه العلاقات خلال السنوات الماضية إلى أحسن حالاتها حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين المملكة ودول الاتحاد الأوروبي 45 مليار يورو سنويًا.
ونتيجة لتلك الجهود المتواصلة للجنة الصداقة السعودية مع الدول الأوروبية، وللدور الكبير الذي بذله الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإن آفاق التعاون الخليجي الأوروبي تبدو في أفضل حالاتها، حيث تم التوصل إلى اتفاق كامل بين الجانبين على حيوية وأهمية الإجراءات التي أعلنت عنها المملكة في مجال المحافظة على البيئة، واستخدام الطاقة البديلة، إضافة لإيجاد رؤية مشتركة تجاه التهديدات التي تواجه مصادر الطاقة وإمدادات النفط السعودي ودول الاتحاد الأوروبي.
لذلك فإن مستقبل هذه العلاقات على ضوء التطابق الكامل في وجهات النظر والتفاهم الكبير تجاه القضايا ذات الاهتمام المشترك يبدو مشرقًا ويعد بالمزيد من التطور والازدهار، لا سيما في ظل حرص الجانبين على تنميتها وتقويتها بما يعود عليهما بالمصلحة المشتركة.