ما زال ميثاق الجامعة العربية مهترئًا، وقاصرًا، عن تحقيق ما يضمن خدمة المصلحة العربية العليا، بشكل أكثر فعالية وكفاءة، وبما يتلاءم والتطورات المحلية والإقليمية والدولية، التي حدثت منذ عام 1945م. وهو العام الذي أقر فيه الميثاق الحالي، ونشأت على أساسه جامعة الدول العربية، كمنظمة لدعم التضامن فيما بين الدول العربية. وذلك، رغم ما أدخل عليه لاحقًا من تعديلات وبروتوكولات إضافية، شكلية. وما زال الواقع الدولي والإقليمي يحتم تفعيل ودعم "العمل العربي المشترك"، بإصلاح جذري، يتضمن (ضمن ما يتضمنه) تعديل هذا الميثاق، ليواكب المستجدات التي حدثت طوال العقود الثمانية الماضية. ومن ذلك، وجوب تعديل قاعدة التصويت، لتصبح ملزمة بالأغلبية، بدلاً من الإجماع.
هناك، في الواقع، ترتيبيان استراتيجيان رئيسيان، لضمان الأمن الوطني، والإقليمي لدول الخليج العربية بخاصة. إما الاعتماد على داعم أجنبي قادر على الحماية، وإما تقوية الذات، وتكوين تكتل تكاملي مع الأشقاء الأقربين، يجعل من أعضائه (مجتمعين) قوة تحمى أمنها، دون ارتهان، وتبعية، لأي قوى أجنبية طامعة. ولا شك، أن الخيار الثاني (الاعتماد على الذات الجماعية) هو أفضل وأبقى، وبمراحل. فالتكامل العربي / الخليجي، وتطوره (الممكن) لاتحادً عربيً خليجي، أو عربي صلبً... يرتقي، مع مرور الزمن، إلى درجة القوة الكبرى التي تحمي مصالح منسوبيها، كأفضل ما تكون الحماية. لهذا، وعند الحديث عن: الشروع في تنمية اتحادية خليجية وعربية فعلية، لمواجهة التحديات والتهديدات الكبرى، التي تواجه دول الخليج، بصفة خاصة، والأمة العربية، بصفة عامة، وخدمة المصالح العربية المشتركة، يكون من المناسب أن "نذكِّر" بأهم وسيلة... لتحقيق هذه الأهداف النبيلة... ألا وهي: التكامل، والتضامن البيني الوثيق، والاتحاد. مدركين بأن الوضع السياسي العربي الحالي، في معظم البلاد العربية، لا يسمح – كما يبدو -بإصلاح "جامعة الدول العربية"، إصلاحًا حقيقيًا. ففي ظل الأوضاع السياسية الراهنة، لا يمكن توقع إصلاح حقيقي، ناهيك عن تضامن فعلي، أو اتحاد. فمن العبث توقع أمور من أطراف لا تكترث بها، أو تعاديها. ولكن تفاقم التحديات، واستشراء التهديدات، ربما يبرر أن إثارة هذا الموضوع الآن، والذي يمكن تحقيقه، دفاعًا عن جميع المعنيين، ولصالحهم.
****
في حقل السياسة والعلاقات الدولية، تعني كلمة "الوحدة" (Unity) بصفة عامة: الاندماج الكامل أو شبه الكامل، فيما بين أطراف دولة ما، أو بين دولتين أو أكثر من دول العالم. وذلك الاندماج يكون في كل مجالات الحياة العامة: الاقتصاد، السياسة، الأمن، الاجتماع، وفى شتى جوانب كل منهم. فعندما نتحدث (مثلاً) عن مدى "الوحدة الوطنية" في دولة ما، يكون المقصود هو: مدى اندماج مناطق وأطراف تلك الدولة مع بعضها البعض، في كل مجالات الحياة العامة المذكورة.
أما مصطلح "الاتحاد" (Union)، فيعني بصفة عامة: الترابط والتضامن التام، أو شبه التام، فيما بين أطراف دولة ما، أو فيما بين دولتين أو أكثر من بلدان العالم. إن "اتحاد" عدة دول قد يصل إلى درجة ظهور دولة واحدة... تتكون من تلك الدول. ولكن، تظل كل دولة (أو منطقة) محتفظة بمعظم خصوصيتها... محافظة على ذاتيتها، من خلال حكم نفسها ذاتيًا...بالقانون الذي ترتضيه غالبية أهلها، على ألا يخالف القانون "الاتحادي" الأعلى.
* * * *
ومعروف أن كل منطقة من مناطق العالم (سواء تجسدت في دولة مستقلة، أو كانت جزءًا من دولة قائمة بذاتها) تتميز عن غيرها بخصوصية معينة... وغالبًا ما تهدف للحفاظ على تلك الخصوصية، عبر التأكيد (المتوازن) على ذاتيتها. ونظرًا للتطورات التي لحقت عالم اليوم (ورؤى المستقبل) أصبح من الضروري على كثير من الدول أن تترابط وتتضامن، مع غيرها من الدول...استجابة لحتميات التجاور الجغرافي والتماثل الاجتماعي والأيديولوجي، وتحقيقًا للمصالح المشتركة المؤكدة، ودفعًا للأخطار المشتركة، بشكل جماعي. فالمواجهة الجماعية للأخطار المشتركة أكثر فاعلية (بمراحل) من المواجهة المنفردة لتلك الأخطار. بمعنى أن "الاتحاد" أصبح حتميًّا... في كثير من الحالات والظروف، التي تمخضت عنها تطورات هذا العالم... ومنها التقدم الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات، وترابط مصالح الأمم والشعوب، بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
*****
تحت إلحاح الحاجة، أو الضرورة المُلِحة، لتعاون وتضامن الدول المختلفة فيما بينها، ابتكر علماء ومفكرو السياسة، الصيغ الاتحادية (القانونية – السياسية) المختلفة... التي يمكن أن تحقق الفائدة الكبرى للدول، المتمثلة في الحفاظ على أكبر قدر ممكن من السيادة والذاتية، وفى ذات الوقت قطف ثمار التضامن والتكامل مع آخرين... من خلال تبني التنظيم والتكتل الدوليين. فاستحدثت عدة صيغ اتحادية... يمثل كل منها اتحادًا مختلفاً من حيث مدى التلاحم، وطبيعته ونتائجه. إن الهدف الرئيس لكل من تلك الصيغ، هو: تحقيق درجة معينة من التضامن فيما بين الدول الأعضاء... مع الإبقاء على قدر معين من ذاتية أولئك الأعضاء. وذلك الهدف يمثل معادلة... يصعب (ولكن لا يستحيل) تحقيقها، بشكل معقول، يرضي كافة الأطراف المعنية -في كثير من الأحوال – كما هو مألوف، خاصة في بعض مناطق العالم الثالث. ومن ذلك المنطقة العربية.
****
غير أن أفضل وأرقى الصيغ الاتحادية – على الإطلاق – هي صيغة الاتحاد الفيدرالي (Federalism)... والذي يمكن أن يعرف بأنه عبارة عن: دولة واحدة، مكونة من ولايات أعضاء... متحدة في ظل دستور عام، يوزع السلطة بين الولايات والحكومة المركزية المشتركة... وبحيث يضمن للولايات حكم وإدارة معظم أمورها الداخلية، بينما تتولى الحكومة المركزية المشتركة إدارة العلاقات الخارجية، والدفاع عن الدولة، وبعض الأمور العامة للولايات ككل.
وهو، بذلك، يمثل أقوى أشكال الاتحاد الدولي. حيث تنصهر الدول الأعضاء في بوتقة واحدة... هي الدولة الفيدرالية الواحدة الجديدة.
إن معظم دول العالم الهامة في الوقت الحالي، تتخذ شكل الدولة الفيدرالية... فهذا الشكل يراعي تياري الذاتية (الاستقلال) والتضامن (الاتحاد)... وخاصة في الدول الواسعة المساحة، المتنوعة السكان، كأفضل ما تكون المراعاة... إذ يترك للولايات حق تسيير أمورها الداخلية، وتشريع وتنفيذ ما تتطلبه ظروفها الخاصة من سياسات، وفي الوقت نفسه، يخلق كيانًا واحدًا ... يجمع تلك الولايات في المسائل المشتركة الرئيسية، ويمثلها كوحدة واحدة أمام الغير. وقد اعتبر كثير من الكُتَّاب الشكل الفيدرالي كأقوى وأنسب أشكال الاتحاد الدولي، وعلى المستويين القومي والدولي. ويشير أولئك إلى "نجاح" معظم الاتحادات الفيدرالية الحالية، كبرهان على صحة هذا الاعتقاد.
* * * *
ويمكن أن يبدأ التضامن البيني، فيما بين دول معينة، بإقامة اتحاد "كونفدرالي" (Confederation ) ، كما فعلت دول الخليج العربية الست، عندما أقامت "مجلس التعاون لدول الخليج العربية". وهناك فارق جذري بين الكونفدرالية، والفيدرالية، كما هو معروف. والاتحاد الكونفدرالي يعني: تكتل يتكون من دول تتفق فيما بينها، بموجب معاهدة دولية، على إقامة هيئة مشتركة، تمنح سلطات سياسية محددة، تمكنها من الإشراف على بعض سياسات حكومات الدول الأعضاء، مع احتفاظ كل من تلك الحكومات بكامل استقلالها.
وكثيرًا ما يتطور الاتحاد الكونفدرالي إلى تكامل يقوى مع مرور الزمن. حتى أنه يمكن أن ينتهي بإقامة اتحاد فيدرالي، والتحول بذلك، إلى اتحاد أقوى، بمراحل، من وضعه الاتحادي الأول.
****
اتحاد دول الخليج العربية الست:
إن مجلس التعاون لدول الخليج العربية هو الآن عبارة عن: منظمة دولية حكومية إقليمية شاملة ... أي "اتحاد كونفدرالي"، ما زال تضامن أعضائه فيما بينهم محدودًا. وهناك دعوات لتدعيم هذا التكتل، تهدف – كما أظن -إلى: "تقوية" هذا الاتحاد .... عبر: رفع درجة تماسكه وانصهاره، مع بقاء "صيغة " – وشكل -الاتحاد على ما هي عليه.
إن كل منطقة من مناطق العالم – تقريبًا – تتميز (كما أشرنا) بخصوصية معينة. وغالبًا ما تحاول الحفاظ على ذلك التميز، عبر التأكيد "المتوازن" على ذاتيتها وسيادتها. ولكن ظروف العالم اليوم تكاد تحتم "الاتحاد" فيما بين الدول المتجانسة فيه... وأن "الوحدة " (الاندماج التام) لا تحافظ على ذاتية الدول الأعضاء، بقدر ما يساعد "الاتحاد" على حماية تلك الذاتية، بشكل متوازن... لذلك، فإن الصيغة الاتحادية هي أكثر عملية وواقعية من صيغة الوحدة.
وموضوعنا هنا يتعلق بقضية "الوحدة" العربية، أو الخليجية... وهي القضية الكبرى – أو هكذا يجب أن تكون – في العلاقات العربية – العربية، بل والسياسة العربية عامة. إن من أكبر المميزات التي يمكن أن يحسد عليها العرب (من قبل الدول الأخرى) هو توفر أقوى عناصر الاتحاد فيما بين الدول العربية الحالية. حيث يربط هذه الدول ببعضها: الدين الواحد، والأصل الواحد، واللغة، والعادات الواحدة، التاريخ المشترك، التجاور الجغرافي، المصالح المشتركة، الأخطار المشتركة. وهذه الروابط هي أقوى وأمتن فيما بين دول مجلس التعاون الخليجي. فالأمة العربية، من المحيط إلى الخليج، هي أمة واحدة، تقريبًا. ولا يمكن اعتبارها مجرد مجموعة من الدول المختلفة (كالدول الأفريقية الناشئة، أو دول جنوب آسيا، مثلًا)، حيث لا رابط قوي فيما بينها، سوى "التجاور الجغرافي".
والمفروض أن يستغل العرب هذه "العوامل" الإيجابية للاتحاد والتضامن... فيسعون فعلاً لتكوين كيان عربي موحد... له في العالم أهمية الدولة الكبرى، في المدى الطويل – على الأقل. وربما يتوجب أن يكون تحقيق ذلك الهدف، هو هاجس كل العرب، وبخاصة الخليجيين. وبحيث لا ينحصر الفكر والجهد العربيان في إطار "القطرية" الانعزالية.
إن تكوين اتحاد خليجي، أو حتى عربي موحد، أصبح أمرًا حتميًّا... إذا أراد العرب أن يكون لهم مكان تحت الشمس، في هذا العالم وعالم المستقبل. فالمستقبل لن يكون مشرقاً، إلا بالاتحاد والتضامن. وأن عالم الحاضر والمستقبل هو عالم الكيانات الكبيرة، ولا مكان يذكر فيه للكيانات الصغيرة المتشرذمة. وأن "القطرية" الضيقة لن تؤدي إلا إلى التفكك، وذهاب الريح. وليكن التحدي الصهيوني -الاستعماري والرغبة في التنمية، ومواجهة التحديات الأخرى، حافزًا يدعم هذا الاتجاه.
وفي الوقت الذي تتهافت فيه كثير من الدول المختلفة – والتي ترتبط فيما بينها بروابط واهية – على التقارب والتلاحم، وتكوين الكيانات الأكبر المرهوبة الجانب، نجد أغلب الدول العربية تتقوقع على نفسها (ورغم أن بعضها يدعو للاتحاد العربي) وتؤكد على ذاتيتها ... مقدمة "القطرية" على أي اعتبار، وإن كان مفيدًا ومنطقيًّا. وهذا من أكبر ما يثير الاهتمام في العلاقات البينية للدول العربية. ولكنه "الاستعمار"... بدلاً من أن يكون خطرًا مشتركًا... دافعًا للاتحاد، أصبح خطرًا مشتركًا معيقاً للاتحاد. إذ نجح (حتى الآن) في ضرب الأمة العربية في "مقتل"... وحال فيما بينها وبين التآزر والاتحاد، بوسائل جهنمية شتى معروفة.
ويحسن أن يلجأ العرب لتحقيق اتحادهم الشامل المرجو إلى أنجع "الصيغ" العملية لمثل هذا الاتحاد، والتي شهدت التجارب الدولية المتنوعة لها، بالنجاح والكفاءة والفاعلية (كـ "الفيدرالية"، مثلاً، وغيرها). ويجب التدرج في تبني الإجراءات الاتحادية المختلفة. فإن تعذرت "الفيدرالية"، فلا بأس من " كونفدرالية" متماسكة وقوية.
****
وفى العصر الحالي، فإن الصيغ التضامنية فيما بين دول العالم المعاصر تنحصر في: المنظمات الدولية الحكومية بأنواعها، وفى مقدمتها: المنظمة الدولية الحكومية الإقليمية الشاملة.... والتي هي، في الواقع، تسمى "الاتحاد الكونفدرالي". بالإضافة إلى الصيغة الفيدرالية. كما أن كل "اتحاد" له "مستويات" انصهار يمكن قياسها. فكل من "الاتحاد الأفريقي" و "الاتحاد الأوروبي" – مثلًا -عبارة عن: اتحاد كونفدرالي – شكلًا ... ولكن "درجة" اتحاد الاتحاد الأوروبي حاليًا أكبر بكثير من درجة انصهار الاتحاد الأفريقي. وهكذا.
والواقع، أن مضي فترة زمنية طويلة (نسبيًا) على استقلال كل من الدول العربية (عدا فلسطين) قد رسخ ذاتية كل قطر عربي... فأصبح لكل بلد عربي خصوصية... تميزه كثيرًا عن غيره من الأقطار الشقيقة، ناهيك عن الأقطار الأخرى. لذلك، فإن الواقعية تتطلب نبذ فكرة الوحدة (الاندماجية) والاستعاضة عنها بفكرة الاتحاد. فنقول (مراعاة للدقة العلمية والضرورة العملية): "الاتحاد العربي"، بدلاً من "الوحدة العربية"... المهم، هو ألا تنبذ فكرة الاتحاد، هي الأخرى، فيما بعد. وختامًا، يجب أن ندرك، جميعًا، أن الاحتماء بالأعداء، والمراهنة على الطامعين، مآله الخيبة والخسران المبين.