array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 187

انخراط الأطراف الإقليمية في التفاوض لحل الخلافات من مصلحة أمريكا والسعودية

الخميس، 22 حزيران/يونيو 2023

مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة قوة عالمية كبرى، إن لم تكن الأكبر على الإطلاق، مدعومة بأحد أكبر الاقتصادات على مستوى العالم واستثمارات الشركات الخاصة التي تغطي كافة أنحاء الكرة الأرضية. فضلاً عن ارتفاع مستويات المعيشة الأمريكية لتصبح من بين الأعلى عالميًا، وهيمنة الدولار الأمريكي على التجارة الدولية. وعلى الصعيد العسكري، تنعم القوات الأمريكية بقدرات تقليدية وغير تقليدية مذهلة، بما يشمل ذلك قواتها البرية، والجوية، والبحرية، إلى جانب الفضاء والأمن السيبراني. وتعتبر كافة هذه القطاعات مُجهزة ومدعومة بأنظمة سلاح بالغة التعقيد. كذلك تضطلع واشنطن بدور ريادي في مجال القوة الناعمة، في ظل تموضع الجامعات الأمريكية ضمن قائمة أفضل الجامعات على مستوى العالم، ونجاح صناعة السينما والترفيه والرياضة الأمريكية في جذب الجمهور العالمي.

ومع ذلك، تظل "القوة" مصطلحًا نسبيًا؛ أي أن هيمنة الدول لا تُقاس بالقدرات التي تتمتع بها فقط، بل على نفس القدر من الأهمية، تُقارن بحجم القدرات التي يمتلكها الخصوم والمنافسون. فعلى مدار العقود القليلة الماضية، استطاع المارد الصيني أن يتحول إلى أسرع الاقتصادات نموًا على مستوى العالم، كما نجحت شركات وأنظمة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الصينية في أن تتنافس مع نظيراتها الغربية. في حين يتواكب ذلك مع عملية تحديث وتطوير كبرى تخضع لها القوات العسكرية الصينية. وبينما يظل مستقبل روسيا ضمن بنية النظام العالمي مرهونًا إلى حد كبير بنتائج الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا، فلا يزال الدب الروسي صاحب الترسانة الأكبر عالميًا من الأسلحة النووية، فضلاً عن مكانة موسكو كأحد أكبر منتجي النفط والغاز على الساحة العالمية، واحتفاظها بحق الفيتو أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أخيرًا، تعتبر التكنولوجيا الأوروبية من بين الأفضل على مستوى العالم، فيما ينعم الاتحاد الأوروبي ببنية اقتصادية ضخمة ومتنوعة، وسجل تاريخي حافل (سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا) من العلاقات والروابط التي تجمع بين دول القارة العجوز وقارات إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، ومنطقة الشرق الأوسط.

هذا الاستعراض الموجز يعني أنه اليوم ونحن في عام 2023م، ربما لا تزال الولايات المتحدة مُحتفظة بمكانتها كقوة عالمية مُهيمنة، إلا أن منافسيها على الساحة الدولية يقتربون من تقليص الفارق. أي أن القوة الأمريكية ليست في تراجع، بل إن أعداء وخصوم واشنطن يقطعون أشواطًا كبيرة، وهي الحقيقة التي وجد صناع السياسات الأمريكية صعوبة بالغة في القبول بها. فقد أصبح النظام العالمي والولايات المتحدة في عام 2023م، مختلفين اختلافًا جذريًا عما كانوا عليه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991م.

الولايات المتحدة والنظام الناشئ في الشرق الأوسط

تنعكس التغيرات التي خضعت لها الدول العربية والنظام العالمي عبر السياسات الأمريكية المتبعة في العالم العربي. بالعودة إلى عام 1945م، عندما التقى الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت مع العاهل السعودي الملك عبد العزيز بن سعود على متن السفينة الأمريكية "يو إس إس كوينسي"، كانت الولايات المتحدة قد انفردت حينها بزعامة العالم على المستويين العسكري والاقتصادي، مُستفيدة من حالة الدمار الشبه كامل التي حلت على كل من أوروبا، وروسيا، واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية. في حين أن غالبية الدول العربية كانت لا تزال قيد مرحلة بناء الدولة. وبعد عقود عدة، نجحت المملكة العربية السعودية من اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي كبيرين وبرز نجمها الصاعد كقوة رائدة للعالم العربي والإسلامي إن لم يكن لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها. وجاءت القمة العربية التي عقدت بمدينة جدة السعودية نهاية مايو الماضي، لتعكس وتبرز هذه القيادة السعودية الحازمة والواثقة.

 منذ زمن بعيد، خرج وزير النفط السعودي الشيخ أحمد زكي يماني بتصريح يُشير إلى أن "العصر الحجري لم ينته بسبب نقص الحجارة، وعصر النفط سوف ينتهي قبل أن ينتهي النفط". وبرغم من استمرار الجدل بشأن متى قد ينتهي الاعتماد العالمي على النفط والغاز الطبيعي، إلا إن العديد من الدول والشركات الخاصة اتجهت بالفعل للاستثمار بشكل كبير في مصادر الطاقة المتجددة، والطاقة النووية، وغيرها من مصادر الطاقة البديلة. وحتى مع احتمالات احتفاظ المعدن الأسود بنصيب الأسد في مزيج الطاقة العالمي خلال المستقبل المنظور، لكن ستأتي مرحلة ما، عاجلاً أم آجلاً، ستُكتب فيها النهاية لعصر النفط. وانطلاقاً من هذه الخلفية، يُبادر قادة دول الخليج في كل من المملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات باتخاذ خطوات جادة من أجل تقليص الاعتماد المفرط على العائدات النفطية وتنويع مصادر الاقتصاد. وتحتاج هذه الجهود المكثفة من أجل إصلاح الاقتصاد، وتدعيم دور القطاع الخاص، إلى جانب جذب الاستثمارات الأجنبية، وتسريع وتيرة الابتكار والإبداع، إلى تحقيق استقرار سياسي وسلام إقليمي. من ثم، فإن حالة انعدام الاستقرار والحروب الأهلية التي تشهدها كل من ليبيا، وسوريا، واليمن تحمل عواقب مدمرة ليس فقط على شعوب هذه الدول بل على دول المنطقة بأكملها. وبالتالي، خلص القادة العرب إلى استنتاج مفاده أن المصالحة والحوار مع الخصوم السابقين هما السبيل الأصلح من أجل إنهاء الحروب الأهلية، ووضع حد للمعاناة الإنسانية، وبدء عملية التعافي الاقتصادي.

تركيا، إيران، السودان، وسوريا

 الدرس المستفاد من الحروب الممتدة في كل من ليبيا، واليمن، وسوريا يؤكد أن الحروب بالوكالة يخسر فيها الجميع، بينما المصالحة الدبلوماسية يجني الجميع ثمارها. وفي ضوء ذلك، تولى قادة المملكة مؤخرا زمام المبادرة من أجل معالجة الأزمات الإقليمية بالأخص في كل من تركيا، وإيران، والسودان، وسوريا. وفي أواخر مايو الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن دول خليجية قامت بإيداع أموال نقدية لدى البنك المركزي التركي، بهدف المساعدة في دعم استقرار الاقتصاد التركي وتجنيب البلاد أزمات مالية وسياسية. إذ تعد تركيا قوة إقليمية كبرى، في ظل تعداد سكاني يصل إلى 80 مليون نسمة، فضلاً عن كونها عضو بحلف شمال الأطلسي" ناتو"، وصاحبة موقع جغرافي استراتيجي وسجل تاريخي حافل من المشاركة مع العالمين الإسلامي والعربي. وعلى مدار سنوات عدة، ظلت علاقات أنقرة مع كل من المملكة، والإمارات، ومصر متوترة، إلا أنه مؤخرًا أدرك قادة الدول الأربع أن المصالحة والتعاون يُساهمان في دعم السلام الإقليمي، والاستقرار السياسي، والنهضة الاقتصادية. ومن شأن هذه المُقاربة الجديدة أن تُساعد في دفع عملية السلام الناشئة داخل ليبيا وعدد من بلدان المنطقة. ورغم توتر العلاقات بين نظام رجب طيب أردوغان وواشنطن على مدار سنوات عدة، إلا أن ذلك لم يمنع الأخيرة من دعمها لجهود المصالحة التركية العربية، إدراكًا منها لأهمية الدور الاستراتيجي الذي تضطلع به أنقرة في العديد من الأزمات الإقليمية والعالمية.

على الجانب الآخر، كان يُنظَر إلى العداء بين الرياض وطهران، طوال عقود عديدة، بوصفه المُحرك الرئيسي للتوترات المُتأججة داخل كل من العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، ودول أخرى حول العالم. وبينما قد يحمل ذلك شيئًا من الصواب، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن الشعوب الخليجية والشعب الإيراني قد تعايشت جنبًا إلى جنب من آلاف السنين في ظل روابط ثقافية، وديموغرافية، واقتصادية قوية. حتى أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما كان قد صرح قبل وقت وجيز من مغادرته البيت الأبيض، بأن الحروب والفوضى التي تعم المنطقة لن تنتهي سوى من خلال توصل الجانبين السعودي والإيراني إلى سبيل من أجل تشاركهما الجوار. وفي مارس الماضي، أعلنت الرياض وطهران التوصل لاتفاق بشأن تطبيع العلاقات بين البلدين ومنذ ذلك الحين، عقد كبار مسؤولو البلدين لقاءات للتباحث بشأن العديد من المبادرات التي من شأنها خدمة مصالح الشعبين والمنطقة بشكل عام.

 وقد ساهم اتفاق المصالحة السعودية-الإيرانية منذ لحظة الإعلان عنه في أن تتخذ المفاوضات حول إنهاء الحرب الأهلية في اليمن مسارًا إيجابيًا. ومن جانبها، أبدت واشنطن ترددًا بشأن منح مباركتها لاتفاق الرياض وطهران نظرًا للعداء التاريخي المُتأصل في العلاقات الإيرانية – الأمريكية، بل وذهب المسؤولون الأمريكيون في التشكيك في وفاء طهران بالتزاماتها، معربون في الوقت ذاته عن دعمهم لأية جهود تبذل في سبيل دعم استقرار الشرق الأوسط.

على الصعيد السوداني، شهدت البلاد في وقت سابق من هذا العام اندلاع اشتباكات بين الفصائل العسكرية المتنازعة في الداخل، مما تسبب في مقتل وتشريد المئات بل الآلاف من المواطنين الأبرياء. وتُمثل هذه المأساة الإنسانية المتكشفة، تحديات اقتصادية، وسياسية، وأمنية للسودان، ومصر، ودول أخرى.  لذلك تعاون الجانبان الأمريكي والسعودي من أجل إقناع ممثلين عن قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بالتوقيع على "إعلان جدة"، الذي ينُص على التزام الجانبين بحماية المدنيين في السودان. ويقر هذا الإعلان الذي تم التوقيع عليه في 11 من مايو الماضي، بالتزام طرفي النزاع على تسهيل العمل الإنساني لتلبية الاحتياجات الطارئة للمدنيين بموجب ما ينص عليه القانون الإنساني والدولي. وتماشيًا مع النهج التدريجي، الذي حظي بقبول كافة الأطراف. ومن المقرر أن يتم التباحث بشأن ترتيبات مقترحة من أجل عقد محادثات لاحقة -مع ممثلين عن المجتمع المدني السوداني وشركاء إقليميين ودوليين-حول وقف دائم للأعمال القتالية. وبالتشاور مع قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يتطلع الوسطاء إلى عقد مباحثات مع المدنيين في السودان وشركاء إقليميين ودوليين حول المشاركة في جولات متعاقبة من المحادثات.

تُمثل القمة العربية المنعقدة بمدينة جدة في مايو الماضي، المثال الأكثر وضوحًا على إعلاء مبدأ المصالحة والحوار مع الخصوم السابقين، بدلاً من سياسة المواجهة وخوض حروب بالوكالة. فبعد وقت قصير من اندلاع الحرب الأهلية في سوريا خلال عام 2011م، اُتخذ قرار بطرد دمشق من الجامعة العربية. وبينما يمكن للمرء أن يجادل بشأن جدوى عزل سوريا من عدمه، تقول الحقائق على الأرض أن الحرب السورية لم تجلب سوى شرور الفوضى وانعدام الاستقرار للملايين من أبناء الشعب السوري ودول الجوار. وبحسب بيانات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، اضطُر أكثر من 14 مليون سوري للفرار من بلادهم، وتم تشريد نحو 6.8 مليون مواطن في الداخل، في حين يعيش حاليًا نحو 90 % من الشعب السوري تحت خط الفقر. كما انتقل نحو 5.5 مليون لاجئ سوري للعيش في دول الجوار: تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، ومصر، ودول أخرى حول العالم. وبالتالي، أضحى يتعين على دولة مثل لبنان، ذلك البلد الصغير والفقير، فتح ذراعيها لاحتضان أكثر من مليون سوري فروا من بلادهم، وهو ما يضاهي قرابة ربع إجمالي تعداد الشعب اللبناني.

وحتى الآن لا تزال العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة ضد سوريا ونظام الرئيس بشار الأسد سارية بشكل كامل، حيث يُبقي المسؤولون الأمريكيون والغربيون عينًا حذرة على تحركات الحكومة السورية، وإعادة تأهيل الرئيس الأسد سياسيًا. وقد جاء تعقيب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية حول مشاركة بشار الأسد بالقمة العربية، بالتأكيد على وضوح موقف بلاده بشأن عدم تطبيع العلاقات مع حكومة الأسد وعدم دعمها لكل من يقوم بذلك. فإن إدارة جون بايدن، كغيرها من الحلفاء الأوروبيين، تعهدت بالحفاظ على سياسة العزل والضغط ضد الرئيس بشار الأسد، وعارضت واشنطن أية خطوات لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، مشيرة إلى أهمية أن يسبق ذلك إحراز تقدم في جهود التوصل لحل سياسي للنزاع الدائر. وبينما تدعو دول مثل الأردن، والجزائر، والإمارات إلى تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، يُكثف المشرعون الأمريكيون جهودهم لتمرير جولة جديدة من التشريعات لمعاقبة حكومة الأسد ودرء أية محاولات مستقبلية للتطبيع مع النظام السوري. وقد يعكس هذا التحول، تراجع شهية واشنطن حيال الانخراط داخل المنطقة وتحول أنظارها صوب التحديات المُحدقة في الشرق والاكتفاء بسياسة المقعد الخلفي في كل ما يتعلق بالشأن العربي. وقد قلل المسؤولون الأمريكيون من أهمية الإيحاء بأن ظهور الأسد بين أقرانه داخل جامعة الدول العربية يمثل لحظة تحويلية في المنطقة، رافضين فكرة الربط بين التقارب العربي مع سوريا، الذي يأتي دون رغبة واشنطن، والتصور الذي يتشاركه كثيرون في العالم العربي بشأن تراجع الدور الأمريكي في المنطقة.  فبحسب الفهم الأمريكي، يأتي هذا التقارب في إطار رغبة الدول العربية في تعديل سياساتها من أجل تسوية الأزمات بعد تقييمها للأوضاع والتطورات الراهنة.

في السياق ذاته، ربما خلصت حسابات إدارة بايدن إلى أن المنطقة ماضية صوب التطبيع بأي حال من الأحوال، لكن ذلك لا يمنع أن تُطالب القوى الإقليمية على الأقل نظام الأسد بتقديم بعض التنازلات. وقد يشمل ذلك عودة اللاجئين السوريين مع الالتزام التام بحمايتهم إلى جانب العمل على منع أو على تحجيم الاتجار غير المشروع في مخدر "كبتاجون"، الذي يعد أحد أكثر الحبوب المخدرة رواجا بين الشباب من طبقة الأثرياء في المنطقة. وتعمل الأردن والمملكة العربية السعودية على مكافحة هذا النوع من المخدرات الذي يُعتقد أنه يتم تصنيعه داخل سوريا وتهريبه إلى دولهم. وعلى الرغم من عدم دعم واشنطن للتطبيع مع سوريا، إلا إنها قد لا تتمكن من منعه، مستبعدة في الوقت ذاته، أن تسعى الدول العربية لتحدي سلسلة العقوبات المفروضة على النظام السوري، والتي تستهدف منع تنفيذ الاستثمارات الكبرى. 

 وقد شهد شهر مايو الماضي تقديم مشروع قرار أمريكي من قبل مُشرعين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على رأسهم رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول بهدف تشديد العقوبات المفروضة على النظام السوري ومنع اعتراف الحكومة الأمريكية بنظام الأسد، في مسعى لترسيخ السياسات الأمريكية الصارمة حيال ما يحدث في سوريا. ويجادل المسؤولون الأمريكيون بأن التقارب المتزايد بين العرب وسوريا سيكون أثره محدودًا على الحملة الأمريكية الجارية ضد العناصر المتمردة في الشمال السوري، حيث تتمركز المئات من القوات الأمريكية من أجل منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

من جانبه، أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، تعقيبًا على تلك التحفظات الأمريكية، تفهم بلاده للموقفين الأمريكي والأوروبي، مشددًا في الوقت ذاته على الحاجة لتبني نهج جديد ومختلف من أجل مخاطبة التحديات القائمة حاليًا (مثل أزمة اللاجئين، والاتجار في المخدرات، وانعدام الاستقرار السياسي". من ثم، فإن هذه الاستراتيجية الإقليمية الجديدة لن تنهض سوى باتباع نهج الحوار، من منطلق أن التفاوض لا يقتصر فقط على الأصدقاء والحلفاء، وأن السلام بطبيعة الحال يعني إنهاء الخلافات مع الخصوم لا الأصدقاء. ونظرًا إلى أن المملكة وغيرها من الدول العربية جزء أصيل من تكوين المنطقة، فإنهم أكثر دراية وفهمًا لطبيعتها عن أي قوة خارجية أخرى. كما أن التقارب مع سوريا يعكس اعتراف العواصم العربية بأن الجهود السابقة لتشكيل جبهة معارضة كبيرة ضد نظام الأسد، وسياسة تغيير النظام السوري التي تزعمتها واشنطن لم تفض سوى إلى إفساح المجال أمام صعود تنظيم الدولة الإسلامية. وخلال محادثاتهم السرية، أبدى المسؤولون الأمريكيون تأييدهم أيضًا للاستنتاج الذي توصل إليه نظراؤهم العرب، بشأن محدودية جدوى جهود تغيير النظام السوري التي بدأت إبان حكم إدارة أوباما، بل وأنها سمحت في نهاية المطاف، للجماعات المتطرفة بتحقيق مكاسب على الأرض، وأن تتدخل روسيا عسكريًا في الحرب خلال عام 2015م.

 لذلك، يأمل الدبلوماسيون العرب بأن يُسهم التطبيع مع سوريا -إن اتخذ مساره الصحيح-في فتح المجال أمام عودة ملايين من اللاجئين، بما يُتيح الفرصة أمام الدول العربية لمحاولة إقناع واشنطن وأوروبا بتخفيف العقوبات من أجل المساعدة على إعادة بناء الوطن السوري الذي دمرته الحرب. وتعتبر هذه الخطة الموضوعة بشأن اللاجئين التي تأتي بزعامة عربية وبالتنسيق مع الأمم المتحدة والأطراف الدولية الأخرى من أصحاب المصالح، وسيلة اختبار لمدى جدية الرئيس الأسد وموثوقية وعوده بتنفيذ إصلاحات. فيما يظل ملف المساعدات الاقتصادية إلى سوريا مغلقًا، الى أن يستشعر الدبلوماسيون العرب تقدمًا ملموسًا في قضية اللاجئين السوريين.

الآفاق المستقبلية

على مدار عقود طويلة، شهدت منطقة الشرق الأوسط صراعات إقليمية محتدمة، وحروبًا أهلية، وتوترات طائفية وعرقية، وبلغت هذه الاضطرابات أوجها مع بداية أحداث ما بات يعرف بـ "الربيع العربي" في عام 2011م، وترتب على ذلك ركودًا اقتصاديًا وانعدام استقرار سياسي. ونظرًا إلى أن منطقة الشرق الأوسط تتمتع بموارد طبيعية هائلة ورأس مال بشري لم يُستغل بعد، حرص قادة المملكة العربية السعودية على التعاون مع نظرائهم في دول المنطقة وبالتشاور مع الحلفاء الدوليين، من أجل محاولة تغيير هذه الديناميات ووضع المنطقة على المسار الصحيح وتسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الجارية. على أن تكون لغة الحوار أساسًا لتسوية النزاعات المشتعلة بما يشمل ذلك: العراق، وإيران، ولبنان، والسودان، وسوريا، وتركيا، واليمن، وكذلك الصراع العربي -الإسرائيلي. حيث أكدت القمة العربية الأخيرة على أن القضية الفلسطينية كانت وستظل القضية المحورية للعالم العربي والإسلامي.

وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، شهدت ديناميات العلاقات بين الولايات المتحدة ودول المنطقة تغيرًا في ظل اتهام بعض القادة العرب لواشنطن بتهميش المنطقة لصالح التركيز على المنافسة أمام الصين وروسيا. وبالرغم من أن فكرة تخلي الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط قد يكون مبالغا بها، لكنها لا تأتي أيضًا من فراغ لاسيما في ظل تنامي الاهتمام والتركيز الأمريكي على "صراع القوى العظمى" الذي يتزامن مع الانتفاضة التي تشهدها الساحة السياسة الأمريكية في الداخل، وتنامى الاستقلالية الأمريكية في استخدام الوقود الأحفوري (حيث أصبحت الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على واردات المنطقة من النفط والغاز)، وهي العوامل التي دفعت العديد من زعماء المنطقة إلى التحوط في رهاناتهم.

ورغم هذه التصورات والمفاهيم المتضاربة، ينبغي التأكيد على أن واشنطن ستظل الشريك الأمني الرئيسي للعالم العربي. وكما هو حال الشراكات، قد تختلف قائمة الأولويات للحلفاء بين الحين والآخر، لكن بلا أدنى شك أنه من مصلحة واشنطن، والمملكة العربية السعودية وسائر دول العالم أجمع، الحفاظ على استقرار ونهضة المنطقة وأن تنخرط الأطراف الإقليمية المتخاصمة في مفاوضات سلمية من أجل تجاوز خلافاتهم بدلًا من اللجوء لخيار استخدام القوة.

مقالات لنفس الكاتب