array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 187

العالم العربي قدم نفسه قطبًا فاعلًًا بالحياد العقلاني وفكر المصلحة بلا أنانية

الخميس، 22 حزيران/يونيو 2023

قمة جدة " تتحرك على متغير زمني ومتغير سياسي يعيد رسم استراتيجية عربية جديدة غير نمطية تعتمد على الواقعية والصراحة والوضوح والاعتماد على الذات العربي والاستقلالية المتحررة من الانحياز لتحالف على حساب الآخر.

نهج عربي جديد يقوم على فكرة الندية السياسية العربية وليست التبعية في القرار أو الفعل

فإعادة طرح رؤية جديدة مغايرة لما هو ثابت في الذهن السياسي العربي والدولي " بأن العالم العربي والخليجي محسوب على الحلف الأوروبي ـ الأمريكي.

في " قمة جدة "تم تفكيك هذا التقدير السياسي كاملاً وهذا ما جعل الصحف العالمية تركز كثيرًا على القمة، كأنها تتساءل ما الذي حدث للعالم العربي؟

مرد ذلك السؤال إنها ترى قادة دول العالم العربي يخرجون من عباءة سياسية ظلت محسوبة عليهم، ويعلنون بلغة سياسية رزينة البحث عن نهجهم السياسي الخاص، نهج يقوم على مبدأ المصالح الاقتصادية والسياسية بلا أية انحيازات أو صدامات.

أي فكرة التحرر بلا صدام، وفكرة المصلحة بلا أنانية، لعل السبب الأهم الذي يلفت انتباه الباحثين عن تفسير ظاهرة التحرر العربي يعود إلى قياس وعي القادة العرب الذين اكتشفوا منذ مجيء " جو بايدن إلى الحكم " أن أمريكا الآن ليست أمريكا السابق، وأن مبدأ تخلي أمريكا عن الحلفاء أصبح المبدأ السائد، وتبلور ذلك في موقفين مهمين:

* الأول طريقة انسحاب الأمريكيين من أفغانستان وتسلميها لطالبان وكأن شيئًا لم يحدث على مدار عشرين عامًا اعتٌبر ذلك بمثابة خيانة للشعب الأفغاني الذي وعدوه بالجنة فاكتشف بعد عشرين عامًا أنه في النار.

*الموقف الآخر هو الخنوع الأمريكي أمام ممارسات إيران في العراق بعد مقتل قاسم سليماني وحصار مليشيات إيران للسفارة الأمريكية في بغداد وضرب القواعد الأمريكية ثم سحب أمريكا لقواتها وتقليص أعداد وأدوار من تبقى، في هذا الموقف ظهرت أمريكا قوة هشة غير قادرة على حماية مصالحها فكيف يمكن أن تحمي مصالح الآخرين؟

موقف آخر أكد لدول المنطقة المقولة القديمة بلغة الشارع العربي " المتغطي بأمريكا عريان " هو السلبية الأمريكية في ردة الفعل حين وصلت صواريخ إيران إلى مقار شركة أرامكو، ومطارات المملكة العربية السعودية، وأبو ظبي، والسفن النفطية في الخليج العربي والممرات المائية العربية ـ جاء الرد الأمريكي باهتًا متناقضًا ومخيبًا.

مع تلك الممارسات الأمريكية زادت أزمة فقد الثقة بين أمريكا وحلفائها في المنطقة إلى أن جاء حسم التخلي الأمريكي عن الحلفاء صريحًا على لسان " بايدن " حين أدار ظهره للشرق الأوسط معلنًا أن المنطقة برمتها ليست في اهتماماته.

كل هذا خلق في العقلية السياسية العربية حقيقة مهمة وهي " الاعتماد على الذات في حل المشكلات العربية ومشكلات المنطقة، وأن هذا لن يتحقق إلا بإعادة تبريد مشكلات دول المنطقة بأيادي قادة المنطقة أنفسهم دون الحاجة إلى التدخلات الخارجية التي اكتشفوا بعد أزمنة وصراعات أنها تشعل أكثر ما تبرد وتعقد أكثر ما تحل.

هنا أستدعي ما قاله " أردوغان في الطائرة أثناء عودته من زيارة إلى أوكرانيا: حين أعلن الانفتاح على النظام السوري وقتها " حيث قال " يتوجب علينا أخذ خطوات متقدمة لحل المشكلات في المنطقة متهمًا أمريكا وقوات التحالف بأنهم هم الذين يغذون الإرهاب في سوريا وأنه لا يجب قطع الحوارات السياسية بين جميع الدول "

أضف إلى ذلك تصريحات سمو الأمير محمد بن سلمان " في إطار رؤيته للشرق الأوسط بأنه سيكون المنطقة الأولى تنمويًا في العالم، هذا لا يتأتى إلا بالبحث عن مشترك يجمع دول المنطقة يكون عنوانه الرئيسي هو التنمية، فالتنمية تنجح فيما فشلت فيه السياسة "

انطلاقًا من كل هذا جاءت " قمة جدة " اجتماع راسخ واضح المعالم مختلف في الحضور والنوايا يعكس الاستراتيجية الجديدة وهي تقطيع أضلاع الخلاف دون المبالغة في فكرة تصفير المشكلات.

بل تخطت الاستراتيجية العربية جغرافية الإقليم لتقدم نفسها كوسيط دولي أوروبي في أسخن صراع عالمي وهو " الحرب الأوكرانية الروسية.

تجلى ذلك في حضور " الرئيس الأوكراني زيلنسكي"، الذي قدم خطابًا كان بمثابة خطته في حل الصراع في بلده والتي تقوم على الإفراج عن السجناء السياسيين في شبه جزيرة القرم، وبناء صفقة سلام مع الروس في مجال الطاقة.

عبر موقف " زيلنسكي " قدمت القمة العربية دورًا عربيًا خليجيًا جديدًا، يؤسس لفكرة الحياد العربي في الصراع الأوكراني الروسي، والقدرة على الوقوف في منطقة وسطى من الصراعات الكبرى دون انحياز مسبق، مع الاحتفاظ بعلاقات كاملة مع كل طرف،

لعل الوساطة السعودية والإماراتية في الصراع الأوكراني أتت ثمارها في كثير من المواقف، حضور الرئيس زيلنسكي " قمة جدة جعل البعض يتوقع أنه سيغضب الرئيس الروسي وقد ينعكس ذلك على إفساد الكثير من القضايا المشتركة.

لكن حضور الرئيس بشار الأسد بنفسه مع عودة سوريا إلى الجامعة العربية خلق توازنًا زكيًا جدًا في تكريس فكرة الحياد.

فهنا موقف يرضي الروس وهناك موقف يرضي الأمريكيين والغرب وفي الحالتين أكد القادة المجتمعون أنه ليس في غايتهم إرضاء أحدًا بل غايتهم الكبرى تحقيق مبدأ المصلحة المتبادلة التي تنبني على ميثاق الأمم المتحدة وهو احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

                                    **

قمة الأفعال وليست قمة الوعود

الملفت في هذه القمة أيضًا أنها جاءت عكس السائد في كل القمم السابقة، فكل قمة تؤسس لعمل عربي مشترك تترأسه الدولة التي تتولى رئاسة القمة لمدة عام قادم، لكن هذه القمة كأنها تأتي تتويجًا لعمل عربي مشترك قد بدأ بالفعل، فهي قمة الأفعال وليست قمة الوعود.

فإعلان جده جاء كأنه كتابة توثيقية لما تم من أفعال عربية تأسست بالفعل على استراتيجية جديدة تقوم على مبدأ تكسير أضلاع الخلاف بين الدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وليس المنطقة العربية فقط. فقد سبقها بأعوام قليلة مصالحات عربية وخليجية، مثل قطر مع دول الخليج وقطر مع مصر في "قمة العلا" الشهيرة.

 ما حدث قبل "قمة جدة" بشهور مصالحات تتجاوز الجغرافيا العربية إلى الشرق أوسطية تقوم على مبدأ إعادة توصيل وربط أواصر العلاقات بين الدول الكبرى، هذه المصالحات تفكك حتمية الصراع التي زرعها الغرب خصوصًا بين الدول الكبرى في المنطقة" مصر ـ تركيا ـ إيران ـ السعودية ".

المتابع لهذا المربع الكبير الذي يربط بين الدول الأربعة الكبرى يرى دائمًا هناك ضلع مكسور بين دولتين، بين مصر وإيران، بين مصر وتركيا ـ بين إيران والسعودية وهكذا تجد تدوير الصراع قائمًا طوال العقود الماضية.

من النادر جدًا ما تستقيم خطوط التواصل بين هذه الدول الكبرى وطبعًا المستفيد الأكبر في هذه القطيعة هي إسرائيل ومن خلفها أمريكا.

مبدأ تكسير أضلاع التواصل بين الدول الكبرى في المنطقة استغلته أمريكا في الابتزاز السياسي لكل طرف، فهي تبتز دول الخليج بإيران وتبتز إيران بدول الخليج وتكرس مبدأ التخويف، وهكذا حدث مع مصر وتركيا.

بوعي سياسي أدرك قادة المنطقة بأن سياسة القطع لا تنتهي إلا بسياسة الوصل لذا رأينا وتابعنا على مدار الأشهر التي سبقت انعقاد قمة جدة تحركات تعيد تفكيك ألغام الصراع، وأعادوا وصل الأضلاع المكسورة بين الدول، تبلور ذلك في حدثين كبيرين:

الأول: السعودية ـ إيران.

الثاني: مصر ــ تركيا.

شكلت إيران خطرًا محدقًا على دول الخليج وباقي دول المنطقة، من لبنان إلى سوريا إلى العراق وصولًا إلى اليمن، ما فعلته إيران في المنطقة أحدث ضررًا كبيرًا في تفكيك الدولة الوطنية العربية وأعاد بعضها إلى ما قبل خمسينات القرن الماضي خصوصًا اليمن.

شكلت مرحلة القطيعة بين إيران والسعودية والتي استمرت منذ 2016م، حتى إعادة فتح السفارة الإيرانية في الرياض في يونيو 2023م، تاريخًا أسود حيث نقلت ممارسات إيران المنطقة إلى مربع الاقتتال المفتوح على كل الاحتمالات.

رغم استمرار الوساطة لمدة عامين عبر سلطنة عمان والعراق إلا أن المصالحة والتفاهم لم ينجحا إلا بعد التدخل الصيني، هو تدخل مهم يقدم فاعلًا سياسيًا جديدًا في المنطقة غير الفاعل التقليدي القديم " أمريكا وأوروبا".

 الفاعل هذه المرة هو " الصين " غير مرغوب فيه ولا مرحب به أمريكيًا ـ بل يخلق استفزازًا أمريكًا صريحًا كما قال جو بايدن" في القمة الأمريكية ــ الخليجية العربية في سبتمبر 2022م، حين قال "لن نترك فراغًا يملأه الصينيون ولا الروس "

لم تمضي سوى شهور قليلة وأجاب السعوديون عن سؤال الفراغ الأمريكي حين عُقدت القمة الصينية / العربية/ الخليجية بحضور الرئيس الصيني الذي قدم دولته باعتبارها الدولة التي تعتمد السلام والتنمية والانفتاح الاقتصادي وسيلة للعلاقات بين الدول ولا تنتهج سياسة خلق الأزمات والتدخل في سياسات الدول، ومبدأ الإملاءات والتبعية والاستعمار.

توجت الصين مساعيها كوسيط نزيه بتوقيع اتفاق عودة العلاقات السعودية الإيرانية والذي توج بعودة فتح السفارة الإيرانية في السعودية.

هذا خلق حالة ارتياح كبرى على عدد من الملفات فجاء اليمنيون إلى قمة جدة وهم في ارتياح كبير بعد تحريك عملية سلام يمنية وتبادل صفقات للمحتجزين والمعتقلين.

وجاء العراقيون وقد عقدوا مؤتمرًا اقتصاديًا سعوديًا نتج عنه عدد كبير من الاتفاقات المهمة خصوصًا في مجال الطاقة.

وهكذا اللبنانيون جاؤوا يطلبون من السعودية أن تكون مفتاح ضغط وتواصل مع الإيرانيين في المساعدة في إخراج لبنان من الفراغات الرئاسية الحكومية.

الأهم من ذلك أن الدول العربية ودول المنطقة أصبحت بعيدة عن صراع مسلح قد يقع بين إسرائيل وإيران في ظل تلويح إسرائيلي بهذا الصراع، بل أفشلت مخططًا لدمج إسرائيل عسكريًا في المنطقة عبر ما تم تسريبه عن تأسيس ناتوا عربي شرق أوسطي تكون إسرائيل طرفًا فيه وهذا ما أدركته الحكمة السياسية العربية ورفضته جملة وتفصيلاً.

تبريد العلاقة الخليجية ــ الإيرانية فتح حديثًا عن عودة العلاقة الإيرانية ـ المصرية التي قطعت منذ نجاح ثورة الخميني عام 1979م، وحتى الآن كل هذا سيخلق بيئة إقليمية شرق أوسطية تقوم على فكرة الوصل وليست القطع، فكرة التنمية وليست الصراع.

المتغير الآخر كان مهمًا أيضًا وهو أعاد وصل الأضلع المقطوعة بين تركيا ومصر تجلى ذلك خلال العامين الماضيين على استحياء حتى وجدنا الزيارات المكوكية لوزيري خارجية البلدين "جاويش أغلو " في القاهرة و"سامح شكري" في أنقرة وظهرت مصر داعمة لتركيا في أزمة الزلزال المدمر في فبراير 2023م. وبعد فوز الرئيس أردوغان بولاية ثانية تلقى اتصالًا من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليهنئه بالفوز ويعلنان عن عودة العلاقات الدبلوماسية قريبًا.

المحصلة

كل ما سلف انعكس إيجابًا على قمة جدة التي أسست لعدد من المبادئ العربية الجديدة، كلها تقوم على فكر التحرر والاستقلالية السياسية، الوعي في حل مشكلات المنطقة بأيادي قادة المنطقة.

التعلم من درس التاريخ السيء الذي كانت فيه الإرادة السياسية تابعة طيلة الوقت للطرف المنتصر، بغض النظر عن اتباع مبدأ المصلحة والسيادة.

العالم يتغير نحو نظام عالمي متحرر الأقطاب وليس متعدد الأقطاب وهذا هو المصطلح الذي أراه صحيحًا.

فكل دولة تصبح قطبًا حسب دورها وما تقدمه كفاعل سياسي، الصين قطب فاعل ومؤثر والروس قطب فاعل ومؤثر وقد تكون اليابان قطبًا فاعلًا ومؤثرًا، الجديد في قمة جدة أن العالم العربي يقدم نفسه قطبًا فاعلًا ومؤثرًا. فاعلًا سياسًا واقتصاديًا في الإقليم والعالم وأنه ينتهج الحياد العقلاني المبني على فكر المصلحة بلا أنانية.

مقالات لنفس الكاتب