تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي ومنذ القدم بقوة ناعمة أخلاقية نابعة من قيم وتقاليد عربية وإسلامية عريقة، بدأت منذ عصور موغلة في القدم أي ما قبل الإسلام ومرت بمراحل متعددة حتى تبلورت ووصلت إلى ما هي عليه الآن، فمنطقة شبه الجزيرة العربية كانت سباقة في اكتشاف القوة الناعمة قبل أن يعرفها العالم، فقد عرفت المنطقة الشعر والأدب وخصصت لهذه الفنون التي برعت فيها و تعد من أرقى أدوات القوة الناعمة في ذلك الوقت، مناسبات ومحافل دورية ومنها على سبيل المثال سوق عكاظ الذي شهدت له العرب كافة وكان من أكبر المنصات التاريخية للشعر العربي الفصيح، وأيضَا ما خلده التاريخ من معلقات شعرية ظلت باقية على مر العصور وحتى الآن، إضافة إلى ما جاء في دواوين العرب القديمة وما حملته بين دفتيها من قصائد الشعر الجاهلي، ثم شعر مرحلة صدر الإسلام، وأشعار العصور الإسلامية المختلفة منذ العصر الأموي والعباسي وما تلاها حيث كانت اللغة العربية وقصائد الشعر أبلغ أدوات القوى الناعمة التي عرفتها المنطقة العربية في وقت لم تكن تستخدم فيه كثير من الأمم الأخرى اللغة كأداة للآداب وتسجيل التاريخ بمحطاته وأحداثه، ثم جاء الإسلام ونزل القرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب عرفته البشرية على مدى تاريخها وكان له أبلغ الأثر في جمع وتوحيد الأمة الإسلامية في جميع بقاع الأرض.
وجاء العصر الحديث ومعه الدولة الخليجية المعاصرة التي استخدمت القوة الناعمة بشكل أخلاقي للتأثير في الآخرين عبر القدوة الحسنة والأفعال الحميدة دون إكراه، أو ضغوط، أو أجندات خفية، حيث كانت من أكثر الدول سخاءً في تقديم المساعدات والمنح للدول والشعوب الشقيقة والصديقة، والوقوف إلى جانب الدول في الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والمجاعات والحروب، وهي تقدم ذلك دون أيدولوجيات أو أهداف معلنة أو غير معلنة، وإنما نابع هذا الدور من شعور دول مجلس التعاون بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه الدول والشعوب الأخرى خرى .
وإضافة إلى ذلك قامت دول مجلس التعاون ببناء نموذجًا حضاريًا متعدد الجوانب يعد نبراسًا للعالم كله، سواء تمثل ذلك في الهوية المعمارية، أو الشخصية الاعتبارية للمدن الخليجية ومنشآتها ومبانيها، وكافة أنشطتها الثقافية والرياضية والفنية، والاجتماعية، والاقتصادية، حيث يعتبر كل نشاط خليجي قوة ناعمة في حد ذاته، ويمتد ذلك إلى حضورها الرياضي في المحافل الإقليمية والدولية، وأنشطتها الإعلامية العابرة للحدود وما تسجله من إنجازات قارية دولية، ومراكزها البحثية التي حصلت على تصنيفات متقدمة عالميًا. وكذلك تراثها الثقافي والحضاري والفني، ولعل أهم قوى ناعمة في العالم تختص بها المملكة العربية السعودية وهي ما حباها الله سبحانه وتعالى باحتضان الحرمين الشريفين واستقبال حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين وزوار مسجد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وقد تحملت المملكة هذه المسؤولية باقتدار وضربت أروع الأمثلة في خدمة الحرمين الشريفين ، وهذا ما يشهد به كل من حج أو اعتمر أو زار الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، حيث تنفق المملكة بسخاء على تهيئة الأجواء المناسبة لضيوف الرحمن ، وتعتبر ما تقدمه خدمة للحرمين الشريفين تحت شعار (خدمة الحرمين الشريفين شرف لنا) وتفعل ذلك دون منة، بل لخدمة الإسلام والمسلمين.
وتمتد القوة الناعمة إلى خططها التنموية وما تهدف إليه من تنفيذ مشروعات عملاقة، والنموذج الأوضح في هذه الخطط هو رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية التي تهدف إلى تحقيق نقلة نوعية للمجتمع السعودي وترتقي به إلى مصاف المجتمعات المتقدمة في العالم، وقد بدأت هذه الرؤية تؤتي ثمارها في كثير من المجالات، سواء على مستوى المدن الذكية الجديدة، أو في قطاع السياحة والفن، أو قطاع الصناعة، في إطار توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط كسلعة أساسية في الناتج المحلي الإجمالي ، وفي الوقت ذاته تقود المملكة جهودًا مهمة لتوفير إمدادات النفط للدول المستهلكة في كل الظروف، وامتد تأثير هذا التوجه التنموي إلى الخارج حيث أبرمت دول المجلس الشراكات الاستراتيجية مع العديد من الدول لتسريع دوران عجلة التنمية في الداخل والخارج و الاستفادة من الخبرات الدولية المتقدمة وزيادة أحجام وقيم المبادلات التجارية وتعزيز علاقتها بمختلف دول العالم والانفتاح على الشرق والغرب في إطار سياسة من التوازن والانفتاح دون انحياز أيديولوجي، أو التمييز بين دول العالم على أساس ديني أو مذهبي، أو عرقي.
وكانت المملكة العربية السعودية قد قادت جهودًا دولية مهمة للحوار بين الحضارات وأتباع الأديان والثقافات المختلفة وأسست لذلك مراكز لقيادة هذا التوجه في إطار مؤسساتي لهدف التقريب بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة، بل وبين المذاهب من أتباع الدين الواحد، و لقبول الآخر، وإلغاء الكراهية والتعصب من أجل التقارب وحل الخلافات بالحوار لا بالصراع، وكل ذلك يصب في قناة القوة الناعمة التي تقدم نموذجًا لخدمة البشرية جمعاء يُحتذى به لإنهاء الصراعات المسلحة والتعصب للدين، أو المذهب، أو العرق، أو اللون.
وعلى صعيد السلام والاستقرار الإقليمي، تقود المملكة جهودًا مهمة في إطار الدبلوماسية العامة لإبعاد شبح الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية عن منطقة الخليج والشرق الأوسط، فقبلت مبادرة استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران والعمل على التهدئة في منطقة الخليج والتخفيف من حدة الاحتقان، وكذلك تقود جهودًا إقليمية ودولية لإنهاء أزمة اليمن منذ أن نشبت هذه الأزمة وحتى الآن، وتبنت إعادة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، وتعمل على حل الأزمة السودانية بالطرق الدبلوماسية بما يخفف من وطأة الحرب الأهلية في السودان ، وهذا ما تفعله الدبلوماسية السعودية التي أرسى دعائمها ويقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ـ يحفظه الله ـ وقد تجلت هذه الجهود في نجاح القمم العربية والدولية التي استضافتها المملكة في الفترة الأخيرة سواء القمة العربية (قمة جدة 2023) ومن قبلها القمة الخليجية، والقمم الأمريكية والصينة والتركية، وما تمخض عن هذه القمم والاجتماعات من نجاح جعل السعودية في الصدارة ووضعها في المقدمة لقيادة المنطقة العربية باقتدار والاضطلاع بمهام إقليمية ودولية لخدمة المنطقة بأسرها وليس لصالح السعودية فقط، وهذا غيض من فيض من القوة الناعمة السعودية القائدة إقليميًا وعالميًا.