array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 189

شراكات الخليج مع التكتلات الاقتصادية والتعاون الثنائي يزيد اندماجها في الاقتصاد العالمي

الثلاثاء، 29 آب/أغسطس 2023

تعرض النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف، إلى مراجعات عقب جائحة كورونا والحرب الروسية / الأوكرانية، وتراجع دور سلاسل القيمة العالمية. ومع ظهور الصين كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية، والسعي لدور قيادي في الاقتصاد العالمي، بالتحالف مع الدول المحيطة، أصبحت العولمة نفسها محل مراجعة، وتشترك هذه التطورات جميعها في إعادة تنظيم التجارة العالمية، ومستقبل التجارة متعددة الأطراف أو الإقليمية والثنائية.

وتسعى دول مجلس التعاون إلى دعم خططها التنموية الحديثة، من خلال الدخول في شراكات ثنائية وإقليمية لتوسيع نطاق علاقاتها الاقتصادية الدولية، لتعظيم منافعها، والاستفادة مما تتيحه تلك الشراكات من فرص لتعميق التصنيع، وتنويع مصادر الدخل، وإقامة صناعات عالية التقنية ذات توجه للتصدير، والانفتاح على العالم والحيلولة دون تركز معاملاتها التجارية جغرافيا ومن حيث المنتجات، والتغلب على محددات الطاقة الاستيعابية بها، وتقليل ما يمكن أن تتعرض له اقتصاداتها من صدمات خارجية.

من هنا تبحث المقالة في وضعية الشراكات الاقتصادية الإقليمية في إطار النظام الاقتصادي العالمي متعدد الأطراف، وأثر هذه التطورات على دعم ما تحقق من نجاحات في خطط التنمية في دول مجلس التعاون وما يمكن أن تحققه من مزايا، والتغلب على ما تواجهه من قيود ومخاطر.

إنجازات وتحديات خطط التنمية في دول مجلس التعاون

انتعش النمو الاقتصادي عام 2022 في الكويت، حيث وصل إلى 7.9 %، مدفوعًا بالأداء القوي لقطاع النفط الذي نما بنسبة 13.3 %، ومع ذلك لا يزال التقدم في جدول أعمال تنويع هيكل الاقتصاد الوطني والصادرات بطيئًا، بسبب الظروف السياسية التي تعيق تنفيذ الإصلاح الاقتصادي. وترتبط التحديات الاقتصادية طويلة الأجل في الكويت باعتماده على النفط والاستهلاك المحلي، كمحركين رئيسيين للنمو، وبطء تنفيذ أجندة تنويع هيكل الاقتصاد، ورغم أن الأصول الأجنبية الكبيرة التي يحتفظ بها صندوق الثروة السيادية الكويتي، لا تزال تدعم الاستقرار الاقتصادي للبلاد، إلا أنه لا يمكن لهذه الأصول التخفيف من مخاطر انخفاض الطلب على النفط في المستقبل.

نما الاقتصاد السعودي بوتيرة عالية عام 2022م، بنسبة 8.7 % وهو أسرع معدل نمو منذ عام مدفوعًا بالتحسن في أسعار النفط الذي لايزال يسيطر على هيكل الاقتصاد الوطني، وتعزز خطة التنويع طويلة الأجل (رؤية 2030) الإصلاحات الهيكلية التي تستهدف نموًا قويًا ومستدامًا وشاملًا وأكثر مراعاة للبيئة وقائمًا على الخدمات. وتتمثل أهم المخاطر التي تواجه الاقتصاد السعودي في حدوث انخفاض في أسعار النفط بسبب انخفاض معدل نمو الاقتصاد العالمي (خاصة إذا كان للغزو الروسي لأوكرانيا آثار دائمة)، بالإضافة لما هو متوقع من ظروف مالية عالمية أكثر تشددًا، أو نتيجة لأي معوقات في سبيل تنفيذ الإصلاحات الهيكلية وفق رؤية 2030م، إما بسبب الصدمات الدولية أو بسبب تقلب الفوائض النفطية، مما يقلل من احتمالات تحقيق نمو أقوى على المدى الطويل.

يعد  اقتصاد البحرين هو الأكثر تنوعًا في منطقة دول مجلس التعاون مع نقاط القوة في الصناعات الثقيلة (أكبر مصهر للألمنيوم في العالم)، والخدمات المالية، والتصنيع، وتجارة التجزئة، والسياحة، ومن ثم يسيطر  القطاع غير النفطي على أكثر من 85 % من الناتج المحلي الإجمالي (2021)، ويستمر الاقتصاد البحريني في إظهار انتعاش واسع النطاق، وتشير التقديرات إلى أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي قد ارتفع إلى 4.3٪ في عام 2022م، ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى نمو كل من القطاع غير الهيدروكربوني والقطاع الهيدروكربونات، الذي لا يزال محركًا حاسمًا للاقتصاد حيث يمثل ما يقرب من 60 % من إجمالي إيرادات الموازنة العامة (2021)، مما يجعل الاقتصاد شديد التأثر بالصدمات الخارجية، ويمكن أن يؤدي انخفاض أسعار الطاقة والسلع الأساسية إلى خلق مصاعب تمويل النفقات العامة.

يتعافى الاقتصاد العماني بشكل جيد من صدمة COVID-19 ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى قطاع الهيدروكربونات المزدهر والانتعاش القوي في القطاعات ذات الصلة، وقد واصل الاقتصاد العماني تعافيه بعد الركود الحاد الناجم عن الوباء في عام 2020م، والتي أدت إلى تضخيم مواطن الضعف في المالية العامة وميزان المدفوعات، رغم التزام التزمت بتنفيذ إصلاحات مالية وهيكلية قوية في إطار خطة التوازن المالي متوسطة الأجل للفترة 2020-2024م، ومع ذلك، تنشأ المخاطر الرئيسية على التوقعات من الاضطرابات المتكررة المرتبطة بجائحة كوفيد-19، وعدم اليقين المحيط بالاقتصاد العالمي وأسعار النفط، والأوضاع المالية العالمية الأكثر تشددًا، وزيادة الضغوط التضخمية، مما قد يؤخر تنفيذ التصحيح المالي ويزيد من مخاطر التمويل على المدى المتوسط.

وبالنسبة للاقتصاد القطري لا يزال قطاع الهيدروكربونات يستفيد من ارتفاع أسعار الطاقة واعتدالها، ومن المتوقع أن تظل هناك فوائض كبيرة في الميزان الخارجي والمالي خلال السنوات القليلة المقبلة، وسيكون المحرك الرئيسي للاقتصاد هو تطوير مشروع توسيع الغاز الطبيعي المسال في حقل الشمال (LNG)، وعلى المدى المتوسط، سيكون التحدي الأكبر الذي تواجهه البلاد هو كيفية الاستمرار في التنويع بعيدًا عن الهيدروكربونات، حيث انخفض حجم الاقتصاد الهيدروكربوني بالنسبة إلى إجمالي الناتج المحلي في السنوات العشر الماضية،  لكن الاستثمارات لتوسيع قدرة الغاز الطبيعي المسال على مدى السنوات الخمس المقبلة ستؤثر على هذا الاتجاه، وفي هذا السياق، من شأن الإصلاحات الهيكلية الإضافية أن تعزز هدف قطر المتمثل في زيادة تنويع اقتصادها.وعلى الرغم من تراجع أسعار النفط والغاز العالمية على المدى المتوسط، فإن التوسع في إنتاج الغاز الطبيعي المسال حتى عام 2027م، من شأنه أن يعزز الزيادة التراكمية في إجمالي الناتج المحلي لدولة قطر بنسبة 15 في المائة على الأقل، ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد يواجه تحديات ومخاطر، بما في ذلك الظهور المحتمل لمتغيرات جديدة لكوفيد-19، والتقلبات في أسعار الطاقة، وتشديد الأوضاع المالية العالمية.

كان الأداء الاقتصادي للإمارات قويا في عام 2022م، حيث قدر بنسبة 6.6 % ، مدفوعًا بزيادة إنتاج النفط والتحسن في القطاعات غير النفطية، وفي الوقت نفسه، واصل إجمالي الناتج المحلي غير النفطي انتعاشه في عام 2022م، والذي يقدر بنحو 4.7٪، مدفوعًا بالنمو القوي في قطاعي البناء والسياحة، ولا تزال الإمارات مركزًا تجاريًا وماليًا وسياحيًا في المنطقة بسبب التقدم المحرز في التنويع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على الهيدروكربونات، ومع ذلك، ستواجه الإمارات بشكل متزايد منافسة إقليمية أكبر على الاستثمار الأجنبي، وخاصة من السعودية وقطر، حيث تتبنى هذه الدول خططا اقتصادية مماثلة لرؤية أبوظبي الاقتصادية والبيئية 2030 واستراتيجية دبي الصناعية 2030م، ولا يزال النشاط الهيدروكربوني هو المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية، رغم جهود تنويع الإيرادات العامة مع إدخال ضريبة القيمة المضافة، ومؤخرًا، ضريبة دخل الشركات (CIT). وتتمثل المخاطر الرئيسية للنمو الاقتصادي للإمارات في عدم اليقين العالمي، وتطور الحرب في أوكرانيا، والتباطؤ الاقتصادي العالمي المحتمل، والخلاف بين أعضاء أوبك + حول حصص الإنتاج، وبالإضافة إلى ذلك، فإن التأخير في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية من شأنه أن يقلل من احتمالات تعزيز النمو والعمالة على المدى الطويل.

مركز دول مجلس التعاون في التجارة العالمية

ساهمت دول مجلس التعاون في التجارة العالمية السلعية والخدمية بنحو 6%  عام 2022م، وتحتل دول مجلس التعاون في التجارة العالمية مراكز متقدمة من حيث مساهمتها في التجارة العالمية السلعية والخدمية، ففي عام 2022 دخلت 4 دول من المجلس ضمن أكبر 50 دولة على مستوى العالم من حيث الصادرات السلعية، وساهمت بنسبة 2.5% منها، واحتلت الإمارات المركز 11، والسعودية المركز 21، وقطر المركز 38، والكويت المركز 41، ومن حيث الواردات السلعية تضمنت القائمة كلاً من الإمارات في المركز 18 ، والسعودية في المركز 32، وعندما يتم استبعاد التجارة البينية للاتحاد الأوروبي من التجارة العالمية، تشارك دول المجلس جمعيها ضمن الدول الخمسين القائدة لتجارة السلع العالمية، و كذلك الحال من حيث الواردات السلعية لا  تتخلف منها سوى البحرين.

مساهمة دول مجلس التعاون في التجارة السلعية العالمية لأكبر 50 دولة على مستوى العالم                                                                                                                                        ( الصادرات والواردات بدون التجارة البينية للاتحاد الأوروبي) عام 2022 ( القيمة بالبليون دولار)

 

قيمة الصادرات

المساهمة %

الترتيب العالمي

قيمة

الواردات

المساهمة %

الترتيب

الإمارات

599

2.9

7

425

2

13

السعودية

410

2.0

16

188

0.9

23

قطر

130

0.6

26

33

0.2

47

الكويت

104

0.5

28

35

0.2

46

عمان

63

0.3

35

37

0.2

45

البحرين

30

0.1

50

16

-

-

المجموع

1336

2.5

------

734

3.4

 

 

المصدر: WTO, World Trade Statistical Review. 2023

وفيما يتعلق بتجارة الخدمات التجارية العالمية تضم قائمة الدول القائدة كلاً من الإمارات وترتبيها الإثنى عشر، بنصيب 2.2% وتأتي السعودية في المركز 40 بنصيب 0.4  %، ومع استبعاد التجارة البينية للاتحاد الأوروبي تدخل 4 دول من مجلس التعاون في قائمة الدول  الخمسين الرائدة والمصدرة للخدمات التجارية في العالم 2022م.

أهمية الشراكات الثنائية والإقليمية على المستوى العالمي

قبل أكثر من 75 عامًا كان التحدي الرئيسي الذي يواجه النظام التجاري بعد الحرب العالمية الثانية هو منع العودة إلى الحمائية -وهو المسار الذي أدى مباشرة إلى الكساد الكبير في عام 1930م، والانزلاق إلى الحرب العالمية الثانية. أما اليوم فقد اكتسبت الكثير من الاتفاقات الإقليمية أهمية متزايدة في مشهد السياسة الدولية كما هو الحال في حياتنا الاقتصادية، ومن الأمثلة على ذلك منطقة اليورو، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، وغيرها من الشراكات الإقليمية، حيث لا يوجد تناقض بين التطوير النشط لفرص الشراكة الإقليمية والالتزام الثابت بمبدأ النظام القائم على تعدد الأطراف.

وتعد المستويات العميقة للتكامل الاقتصادي التي حققتها دول مجلس التعاون على المستوى الدولي شهادة على دعم دول المنطقة للنظام العالمي القائم على الشراكة، وأن المنافسة الدولية الجديدة هي من أجل أسواق أوسع، والحصول على المزيد من الاستثمار الأجنبي وتكنولوجيات أفضل، وليس لبناء جدران من الحمائية الجمركية.

وتسعى دول مجلس التعاون  للاستفادة من الشراكات العالمية في ضوء ما حدث من تطور في نمط التجارة الدولية وظهور سلاسل القيمة العالمية، حيث تغيرت الأوزان النسبية لمكونات التجارة الدولية المختلفة، من خلال زيادة الاتجاه نحو التجارة داخل الصناعة  الواحدة ( أجزاء ومكونات صناعة السيارات مثلاً)، بجانب التجارة في المنتجات النهائية، مما يشير إلى تغير نمط التجارة الدولية وزيادة حجم التجارة في الأجزاء والمكونات على حساب التجارة في السلع النهائية، الأمر الذي يعطي فرصة أفضل لاندماج دول المنطقة ضمن سلاسل القيمة العالمية، من خلال منشآت متخصصة في مكونات المنتج، ولا تحتاج لمنشآت كبيرة الحجم، أحد القيود التي تتسم بها اقتصادات دول الخليج.

وتمثل سلاسل القيمة العالمية السمة الغالبة للتجارة والاستثمار العالميين في الوقت الحالي، حيث تشكل المدخلات الوسيطة أكثر من ثلثي تجارة السلع و70% من تجارة الخدمات المتداولة في جميع أنحاء العالم، ويساعد دخول دول المنطقة في شراكات مع بقية دول العالم على نجاح التخصص الرأسي في مرحلة محددة من مراحل الإنتاج المختلفة Veridical   Specialization للمنتج، ومن هنا يتم تصنيع المنتج النهائي في عدد من الدول كل منها يقوم بتصنيع جزء من المنتج النهائي.

دور دول مجلس التعاون في دعم نظام التجارة العالمي

تحتضن دول مجلس التعاون الخليجي 3 مناسبات اقتصادية تأكيدًا لمكانتها في النظام الاقتصادي العالمي، وخاصة في نظام التجارة متعدد الأطراف، بدءًا من قمة الدول الأقل نموًا الذي عقد في الدوحة  مارس   2023م، ومؤتمر COP28 في دبي في ديسمبر المقبل 2023م، والمؤتمر الوزاري الثالث عشر MC13  في أبو ظبي في فبراير 2024م، الأمر الذي جعل من المنطقة موطنًا لصنع السياسات العالمية ، ويؤكد ثقة المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدور الذي يمكن أن تلعبه دول المنطقة في إنجاح MC13 ، كما يشكل من ناحية أخرى علامة على التزام مجلس التعاون الخليجي بدعم النظام التجاري متعدد الأطراف ومنظمة التجارة العالمية.

ويعتبر المؤتمر الوزاري MC13  لمنظمة التجارة العالمية الذي تستضيفه المنطقة أحد أهم الأحداث في مسيرة منظمة التجارة العالمية الحديث، فبعد النجاحات التي حققها المؤتمر الوزاري الثاني عشر، والذي توصل إلى اتفاقيات مهمة بشأن قضايا التأهب للأوبئة، وحقوق الملكية الفكرية، وإلغاء حظر تصدير الأغذية ودعم مصايد الأسماك، يوفر MC13 فرصة لتحقيق إصلاحات مؤثرة في منظمة التجارة العالمية نفسها، والدخول في مرحلة جديدة من الإجراءات التي ستحمي مستقبل المنظمة باعتبارها هيئة دولية مرجعية تشرف على النظام التجاري متعدد الأطراف.

تتطلب طبيعة المشاكل التي تواجه الاقتصاد العالمي تعاونًا متعدد الأطراف، وإن تعددت الشراكات الإقليمية، فالعالم المجزأ لن يتمكن من الاستجابة بفعالية للمشاكل الشائعة التي تضرب العالم بأجمعه، مثل تغير المناخ والأمراض الوبائية، والحرب الروسية الأوكرانية،، حيث أكدت حاجة العالم إلى التعاون الدولي لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط والغذاء والأسمدة وغير ذلك من المنتجات الرئيسية، وهو ما يؤكد أن العالم بحاجة إلى تعزيز تعددية الأطراف و دعم الشراكات لتناسب الحقائق الاقتصادية والسياسية للقرن ال21، وبدلاً من التراجع عن العولمة de-globalization، نحتاج إلى استعادة العولمة  de- globalization والاستفادة الكاملة من التجارة كأداة لمعالجة قضايا كونية بطبيعتها مثل تغير المناخ الذي لا يمكن إنكاره.

لقد جعلت منظمة التجارة العالمية الأمور أفضل بالنسبة للأعمال، كما حدث في عقد اتفاقية تكنولوجيا المعلومات التي تلغي التعريفات الجمركية على ما يقرب من 3 تريليونات دولار من التجارة، واتفاقية المشتريات الحكومية التي تفتح أكثر من 1.7 تريليون دولار من العقود العامة السنوية للمنافسة بين الشركات الأعضاء المشاركين، واتفاقية تيسير التجارة التي تقلل من الروتين وتجعل نقل البضائع عبر الحدود أرخص وأسرع.

مزايا الشراكات الإقليمية لدول مجلس التعاون

تختلف دوافع الدخول في اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية حسب الدول والمناطق وتتنوع بين دوافع اقتصادية وسياسية وجيوسياسية وراء إبرام أي اتفاق إقليمي مع الجيران الذين لديهم حدود مشتركة ويشاركون في قدر كبيرة من التجارة عبر الحدود، وعلى سبيل المثال تم إبرام بعض اتفاقيات التجارة الحرة الأمريكية في المقام الأول لأسباب جيوسياسية، كما حدث إبان عملية السلام في الشرق الأوسط

ومن منظور السياسة العامة (خلافًا للمتطلبات القانونية لمنظمة التجارة العالمية)، فإن المعيار الأول لجعل اتفاقية التجارة الإقليمية مفيدة للدول الداخلة في الشراكة، وللتجارة العالمية ككل، هو تعميق وتوسيع نطاق التجارة بين الأطراف، أكثر مما يترتب عليها من تحويل للتجارة مع غير الأعضاء، وهو ما تحتاجه دول المنطقة، نظرًا لمحدودية الطاقة الاستيعابية لاقتصاداتها، ويدعم تكاملها الاقتصادي مع شركاء خارجيين فرص إقامة صناعات تصديرية، ويقوي من مركزها التنافسي على المستوى العالمي.

رغم أن المبدأ الأساسي للنظام التجاري متعدد الأطراف يقوم على عدم التمييز (مبدأ معاملة الدولة الأكثر رعاية)، إلا أن استثناء الاتفاقات التفضيلية، يفسر بناء على ما تقدمه النظرية الاقتصادية من أن التمييز في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى منافع من خلق تجارة بين الأطراف الداخلة في الاتفاق الإقليمي أكبر من الخسائر الناجمة عن تحويل التجارة بعيدًا عن الأطراف الخارجية.

يتمثل القاسم المشترك لأي اتفاق شراكة إقليمي في المعاملة التفضيلية للدول الأعضاء، حيث لا يمتد نطاق مزاياها لغير الموقعين، وتظل واردات المنتجات المنافسة تدفع تعريفة جمركية بنسبة معينة، وفي نفس الوقت تضمن قواعد المنشأ في إطار الشراكات التجارية، تعميق المحتوى المحلي للمنتج حتى يمكن التأهل للحصول على تعريفة صفرية أو معاملة تفضيلية أخرى في أسواق المشاركين، مما يعمق عملية التصنيع المحلية، التي تحتاجها اقتصادات دول مجلس التعاون لتنويع هياكلها الانتاجية.

وبعبارة أخرى، يمكننا أن نستنتج أن الموافقة على إجازة تكتلات إقليمية، ليس فقط لأغراض جيوسياسية، أو لأن اتفاقات التجارة الإقليمية مصرح بها بموجب قواعد الجات، ولكن على أساس أنه ستكون هناك فوائد تجارية صافية لجميع الدول التي تتاجر معها، مما يدعم التجارة البينية بين دول مجلس التعاون، وفي نفس الوقت يوسع نطاق تجارتها في حال إقامة شراكات بينها وبين شركاء خارجيين.

ويعتبر منهج الشراكة الإقليمية داعم لنظام التجارة العالمية متعدد الأطراف ومنبثق عنها، فهو في النهاية يدعم حرية التجارة العالمية وتوسيع نطاقها ، وينتهي بإزالة الحواجز الجمركية، ويوسع نطاق التخصص وتقسيم العمل الدوليين، ويكفي الإشارة إلى أن جهاز التنفس الصناعي الذي واجه به العالم وباء كورونا يتكون من 600 قطعة يتم الحصول عليها من أماكن متعددة حول العالم، وهو ما ينصرف إلى الطلب على المعدات والإمدادات الطبية عمومًا، ويفتح ذلك فرصًا للتصنيع بدول مجلس التعاون خاصة في ظروف وفرة رأس المال والتقنيات العالية التي تتطلبها مثل هذه الصناعات

ونظرا لسهولة إبرام اتفاقات التجارة الإقليمية، كما هو الحال في التجارة الإلكترونية، فإنها تفتح سبلاً لإيجاد حلول للمشاكل التي لم تحل بعد على صعيد التجارة متعددة الأطراف، الذي يتسم باستهلاك الوقت مع تعدد المصالح، ولا شك أن دول مجلس التعاون مدعوة بقوة للعب دور في إنجاح نظام التجارة العالمي متعدد الأطراف، من خلال نجاحها في تحقيق شراكات إقليمية في إطار قواعد منظمة التجارة العالمية.

من ناحية أخرى فإن ظهور سلاسل القيمة العالمية تدعم حاجة دول مجلس التعاون للشراكات الاقتصادية مع تزايد نصيب تجارة الخدمات في التجارة العالمية، وحاجة اقتصادات المنطقة لتنويع هياكلها باتجاه القطاعات الخدمية وخفض تكاليفها، حيث تدعم النفاذ إلى الأسواق العالمية وتبادل الموارد والمعرفة الفنية والتكنولوجيا.

خلاصة:

تعرض النظام التجاري متعدد الأطراف لبعض المراجعات ، إلا أنه لا يزال يعمل بنجاح، بجانب الشراكات الإقليمية، رغم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة والأزمات المستمرة في السنوات الأخيرة - جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا والصدمات المناخية -  وما نتج عنها من اضطرابات في التجارة وما أثارته من تساؤلات حول ما إذا كان النظام التجاري متعدد الأطراف لا يزال يعمل، وليس من الوارد الفكاك منه إزاء الخطر الذي يهدد الرخاء العالمي إذا تفككت التجارة إلى كتل متنافسة، لذا  من مصلحة العالم اليوم إعادة العولمة بدلا من إلغاء العولمة.

تقدم دول مجلس التعاون دعمًا مستمرًا لمنظمة التجارة العالمية، ونظام التجارة العالمي متعدد الأطراف، إلا أن الشراكات الإقليمية مع التكتلات الاقتصادية الإقليمية، أو التعاون الثنائي في مجال التجارة الدولية يزيد من اندماجها في الاقتصاد العالمي، ويفتح فرصًا أوسع للتنمية في الداخل، ويساعد في مواجهة ما تتعرض له اقتصادات المنطقة من قيود ترد على القدرة الاستيعابية.

ويمكن أن تتضمن اتفاقات التجارة الإقليمية أحكامًا موضوعية تتجاوز منظمة التجارة العالمية الحالية وقد تنشئ نموذجًا للمفاوضات المتعددة الأطراف في المستقبل. ويمكن أن يتضمن، سبلًا لإيجاد حلول للمشاكل التي لم تحل بعد على الصعيد المتعدد الأطراف كما هو الحال في التجارة الإلكترونية، وتعتبر بمثابة منصات تجريبية لنقل منظمة التجارة العالمية إلى مجالات جديدة تلبي الحاجة المحسوسة لتحديث النظام التجاري العالمي ليعكس الحقائق التجارية الحالية.


 

مقالات لنفس الكاتب