في ضوء الاجتماع الوزاري لوزراء خارجية دول رابطة دول جنوب شرق آسيا «الآسيان» ومجلس التعاون الخليجي الذي عقد في سبتمبر 2023م، بمدينة نيويورك الأمريكية، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، والاجتماع الوزاري المشترك الأول للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون ودول آسيا الوسطى الذي عقد في العاصمة السعودية الرياض في نفس الشهر، وأيضًا قمة قادة دول مجلس التعاون وقادة دول رابطة «الآسيان» التي ستعقد في أكتوبر 2023م، بمدينة الرياض، تناقش هذه الدراسة واقع التعاون الاقتصادي والسياسي بين الجانبين من منظور استراتيجية دول مجلس التعاون " التوجه شرقًا"، و"الاستقلال الاستراتيجي"، وكيف يمكن تحليل الموقف الصيني من التعاون المتزايد بين دول المجلس والآسيان في سياق التحالفات الاستقطابية بين بكين وواشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومدى قدرة دول المجلس على تبني نهج قوي نحو "التوازن البراغماتي" لمنع وقوعها في فخ التحالفات الاستقطابية وبناء شراكة استراتيجية متنوعة مع دول الآسيان.
أولا، العلاقات السياسية بين مجلس التعاون الخليجي ودول رابطة «آسيان»
هناك روابط تاريخية بين منطقة الخليج ومنطقة جنوب شرق آسيا، حيث نجد أن هذه المناطق كان لها
خلفيات سياسية وتاريخية مختلفة، والإسلام هو الرابط الواضح بينها. كما ساهمت الاكتشافات النفطية في الخليج في تعزيز الهجرة بشكل ملحوظ في القرن العشرين بين الخليج وجنوب شرق آسيا. ولهذا السبب يعيش العديد من مواطني دول جنوب شرق آسيا الآن في منطقة الخليج.
بدأ أول اتصال رسمي بين مجلس التعاون الخليجي ودول رابطة «آسيان» عام 1990م، وفي العام نفسه، التقى وزراء خارجية دول الآسيان مع نظرائهم من دول مجلس التعاون الخليجي لأول مرة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. واتفق الجانبان على الاجتماع السنوي في نيويورك وشجعا أمانتي آسيان في جاكرتا ومجلس التعاون الخليجي في الرياض على تطوير التعاون. وفي اجتماع وزراء خارجية دول آسيان ودول مجلس التعاون الخليجي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2007م، اتفق الوزراء على عقد اجتماع وزاري كامل التكوين بين دول آسيان ودول مجلس التعاون الخليجي لتوفير قوة دافعة لتعزيز العلاقات بين الجانبين. وتم عقد الاجتماع الوزاري المشترك الأول للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون ورابطة الآسيان بمدينة المنامة في مايو 2009م، في البحرين، حيث تضمنت إجراء دراسة وتقديم توصيات بشأن مستقبل العلاقات المشتركة. وساهمت مخرجات الاجتماع الوزاري الأول بين الآسيان ودول مجلس التعاون في وضع خطة عمل لمدة عامين (2010-2012م) لتكثيف التعاون بين الآسيان ودول مجلس التعاون الخليجي، وتم اعتمادها لاحقًا في الاجتماع الوزاري الثاني بين الجانبين في يونيو 2010 في سنغافورة، والذي نص على تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة، والاستثمار الزراعي والأمن الغذائي، والتعليم، والسياحة، والطاقة، والثقافة، والإعلام. ودفع التعاون الأمني في المشاكل الأمنية المستجدة مثل الإرهاب والقرصنة المتعلقة بسلامة الملاحة والتجارة الدولية، وتهريب المخدرات، وغسيل الأموال، والأوبئة، والكوارث الطبيعية وتغير المناخ. كما تم اعتماد سفراء الجانبين في جاكرتا لدى الأمانة العامة لرابطة الآسيان حسب ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع.
ثم توالت الاجتماعات وصولا إلى عقد الاجتماع الوزاري المشترك الأول للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون ودول آسيا الوسطى الذي عقد في العاصمة السعودية الرياض سبتمبر 2023م.
ثانيًا، العلاقات الاقتصادية الخليجية "التوجه شرقًا": تعزيز الشراكات الاقتصادية الإقليمية
بالنظر إلى استراتيجية "التوجه شرقًا" لدول مجلس التعاون من منظور المصالح الاقتصادية، ساهم صعود دول الاقتصادات الناشئة في آسيا والطفرة الجديدة في إنتاج النفط الصخري للولايات المتحدة الأمريكية، في إعادة تشكيل سوق الطاقة العالمي. حيث أصبح الاستثمار في صناعة النفط لدول المجلس هدفًا استراتيجيًا في آسيا، لتأمين إمدادات الطاقة وتعزيز قطاعات جديدة للاستثمار والخبرة الآسيوية. كما تنظر دول مجلس التعاون إلى هذا التعاون ولا سيما بعد التحولات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط بعد الاضطرابات السياسية عام 2010م، على أنها جزء من استراتيجيات التنويع الاقتصادي بعيداً عن الوقود الأحفوري لضمان الاستقرار الداخلي، حيث سيتم استبدال التعاون بين دول مجلس التعاون وآسيا في هذا القطاع تدريجياً بالاستثمار في الاستدامة والطاقة المتجددة وتطوير مصادر الطاقة البديلة من خلال توجيه الموارد المالية المستمدة من مبيعات المواد الهيدروكربونية إلى صناديق ثروتها السيادية المستثمرة عالمياً، وبشكل متزايد في آسيا.
بالنظر إلى حجم التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون ودول الآسيان، نجد أن ثلث إجمالي استثمارات دول مجلس التعاون (أي ما يقرب من 3 مليار دولار) في جنوب شرق آسيا بين عامي 2016 و2021م، تتركز على صناعة النفط والبتروكيماويات والبوليمرات البلاستيكية ولا سيما في إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، بينما ركزت وارداتها من المنطقة على الإلكترونيات والآلات وقطع السيارات. بالإضافة إلى انخراطها في قطاعات استراتيجية أخرى مثل المواد الغذائية، والخدمات المالية والتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية والطاقة الجديدة.
حيت تسعى دول الخليج ولاسيما السعودية والإمارات وقطر إلى تطوير علاقتهم بشكل كبير مع دول الآسيان في السنوات الأخيرة، ولكن نجد دولة الإمارات الأكثر نشاطًا في تعزيز علاقاتها التجارية مع دول جنوب شرق آسيا، فقد وصل حجم التبادل التجاري بين إندونيسيا والإمارات عام 2021م، إلى 4 مليارات دولار، ووقع البلدان في يوليو 2022م، اتفاقية للتجارة الحرة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما.
وفي مايو 2023م، توصل وزير التجارة الماليزي ظفر العزيز ونظيره الإماراتي ثاني بن أحمد الزيودي إلى اتفاق لإطلاق مفاوضات اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة بين ماليزيا والإمارات، وقد بلغ حجم التجارة بين البلدين 8.5 مليار دولار في عام 2022م، بينما وصل حجم التبادل التجاري بين ماليزيا والسعودية في العام نفسه أكثر من 9 مليارات دولار. وفي سبتمبر 2023م، أعلنت السعودية تأسيس مجلس أعمال مشترك مع سنغافورة بهدف رفع حجم التبادل التجاري والاستثماري، والذي جاء بعد فعاليات منتدى الأعمال السعودي السنغافوري بسنغافورة، وأعلن الجانبان خلاله أن حجم التبادل التجاري بينهما وصل إلى 12 مليار دولار. كما تعد الإمارات أكبر شريك تجاري لسنغافورة في الشرق الأوسط، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2021م، إلى مما يقارب 15 مليار دولار. كما تعد الإمارات الشريك التجاري الأول عربياً لفيتنام بحصة تبلغ 39% من إجمالي تجارة فيتنام مع الدول العربية، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 8 مليارات دولار عام 2022م، وبلغت الاستثمارات الإماراتية في فيتنام 260 مليون درهم، والتي تقودها موانئ دبي العالمية والإمارات للاستثمار ومبادلة وبروج. وفي أبريل 2023م، وقعت الدولتان إعلان نوايا مشترك بشأن بدء محادثات إبرام اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة بينهما. كما انضمت فيتنام في نفس العام إلى مبادرة الجوار اللوجستي العالمي التي يقودها القطاع الخاص في دبي. كما تعد الإمارات الشريك التجاري الأكبر لتايلاند من بين دول مجلس التعاون، حيث وصل 20 مليار دولار في عام 2022م.
تعزز استراتيجية "التوجه شرقًا" لدول الخليج الاستثمار في الطاقة المتجددة، والتي تحقق أهدافًا اقتصادية وسياسة لها، حيث تفي بالتزاماتها تجاه أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2 و7 و13. فالهدف الثاني يتمحور حول تحقيق الأمن الغذائي وتنمية الزراعة المستدامة، وينص الهدف السابع على توفير الطاقة الحديثة الموثوقة والميسورة التكلفة والمستدامة للجميع، والهدف الثالث عشر متعلق بمكافحة تغير المناخ وتأثيره على البيئة. وهذا يعكس مساعي دول الخليج لتعزيز دورها الإقليمي والعالمي كمروج للقواعد، بالنظر إلى أن دول الخليج هي من بين المصدرين الرئيسيين للطاقة المرتبطة بالمواد الهيدروكربونية. بالإضافة إلى أنها تتعلق أيضًا بمواءمة سياسات التنمية الوطنية مع المعايير المرتبطة بتحول الطاقة التي أطلقتها اتفاقية باريس للمناخ التي وقع عليها دول مجلس التعاون الخليجي. حيث تشارك دول المجلس بنشاط، ولا سيما السعودية والإمارات في المنتديات الدولية المعنية بتغير المناخ، واعتمدت سياسات وطنية تعكس الأهداف المناخية لكل دولة. على سبيل المثال، تهدف استراتيجية الطاقة للإمارات إلى مزيج من الطاقة المتجددة والنووية والأحفورية النظيفة لضمان تحقيق توازن بين الاحتياجات الاقتصادية والأهداف البيئية؛ ويتضمن خليط الطاقة حسب الاستراتيجية كل من الفحم النظيف والغاز والطاقة النووية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والوقود الحيوي.
ففي عام 2016م، قامت الإمارات بتوسيع دور وزارة البيئة والمياه لتدير جميع الجوانب المتعلقة بشؤون التغير المناخي الدولية والمحلية، كما عينت السعودية عادل الجبير، وزير الدولة للشؤون الخارجية، كأول مبعوث لها لشؤون المناخ في مايو 2022م، وعينت قطر مبعوثاً لشؤون تغير المناخ والاستدامة في مارس2021م.
كما طبقت بعض دول المجلس مفهوم " اقتصاد الكربون الدائري"، القائم على تدوير الكربون، والذي يتعلق بخطط التنمية الوطنية المرتبطة بعملية التحديث والتنوع الاقتصادي، والذي يضم المحاور الأربعة التالية: الحد من انبعاثات الكربون، وإعادة استخدامه، وتدويره وإزالته.
على سبيل المثال، اعتمدت المملكة العربية السعودية وأرامكو إطار الاقتصاد الدائري للكربون كوسيلة للحد من آثار الانبعاثات الكربونية، والتي اعتمدتها أيضًا رابطة دول جنوب شرق آسيا في عام 2021م.
وقد تمكنت بعض دول المجلس مثل السعودية والإمارات وقطر وعمان من تصدير شحنة أمونيا قليلة الانبعاثات لبعض الدول الآسيوية مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند وغيرها، وهناك المزيد من التعاون قيد التنفيذ مع دول جنوب شرق آسيا. وتخطط قطر لبناء مصنع بقيمة مليار دولار لإنتاج الأمونيا الزرقاء، والذي يمكن أن ينتج ما يصل إلى 1.2 مليون طن سنويًا عند اكتمالها، حيث يمكن أن تكون الأمونيا الزرقاء بمثابة بديل لصادرات الغاز الطبيعي المسال مما يزيد من استدامة الاقتصاد القطري.
كما وجهت دول مجلس التعاون الخليجي صناديق الثروة السيادية في الاستثمارات الكبيرة التي تدعم الاقتصاد الدائري للكربون في الأسواق الكبيرة والراسخة ولكن أيضًا في الأسواق الناشئة، وخاصة في دول آسيان. ومن بين صناديق الثروة السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي التي تستثمر في هذه الأسواق في القطاعات غير النفطية، جهاز أبو ظبي للاستثمار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وجهاز قطر للاستثمار.
ففي نوفمبر 2022، أعلنت شركة أكوا باور عن دخولها الأسواق الإندونيسية لأول مرة من خلال تطوير مشروعين للطاقة الشمسية الكهروضوئية العائمة، بإجمالي استثمارات 105 ملايين دولار، مع شركة بي تي بيروسان ليستريك نيجارا -بيرسيرو، وهي شركة الكهرباء الوحيدة المملوكة للدولة في إندونيسيا، والتي تستهدف بحسب الخطة الوطنية العامة للطاقة التي اعتمدتها الحكومة الإندونيسية إنتاج 23% من احتياجات الدولة من الطاقة المتجددة بحلول العام 2025م.
وتصل القدرة الإنتاجية لمشروع "ساجولنغ" للطاقة الشمسية الكهروضوئية العائمة" إلى 60 ميغاواط، بينما تقدّر إنتاجية مشروع "سينغكاراك" العائمة بـ 50 ميغاواط. ويذكر أن مشروعي ساجولنغ وسينغكاراك يعتبران ثاني وثالث مشاريع شركة "أكوا باور" في منطقة جنوب شرق آسيا، بعد تدشين محطة فينه هاو 6 للطاقة في فيتنام، وهو مشروع تبلغ قدرته الإنتاجية 50 ميغاواط.
في فبراير 2023م، أعلنت أكوا باور السعودية عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة "بي. تي. بوبوك الإندونيسية الرائدة في مجال تصنيع الأسمدة بجنوب شرق آسيا، بهدف تطوير مشروع هيدروجين أخضر على نطاق واسع. وفي هذا الإطار، قالت أكوا باور بأن مذكرة التفاهم تضمنت دراسة لمنشأة كهرومائية سعة 600-800 ميجاوات للتخزين، بالإضافة لتحقيق في إمكانية وجود نظام تخزين طاقة ببطارية 4 جيجاوات وتطوير منشأة هيدروجين تعمل بالطاقة الكهرومائية.
وفي سبتمبر 2023م، وقّعت شركة أبو ظبي لطاقة المستقبل "مصدر"، إحدى الشركات العالمية العاملة في مجال الطاقة النظيفة، اتفاقية مع شركة " شركة بي تي بيروسان ليستريك نيجارا -بيرسيرو" لتطوير المرحلة الثانية من مشروع محطة "شيراتا" للطاقة الشمسية الكهروضوئية العائمة في مقاطعة جاوة الغربية بإندونيسيا، بقدرة تصل إلى 500 ميغاواط، مما يشكّل توسعة رئيسية لأكبر محطة من نوعها في جنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه، وقعت أيضًا شركة أبو ظبي لطاقة المستقبل "مصدر" اتفاقية استراتيجية مع «هيئة تنمية الاستثمار الماليزية» لاستثمار ما يصل إلى 30 مليار درهم في تطوير مشاريع طاقة متجددة بقدرة تصل إلى 10 جيجاواط، بما يدعم مساعي ماليزيا للانتقال نحو الطاقة المستدامة.
ثالثًا، " التوجه شرقًا" والاستقلال الاستراتيجي
يرتبط مصطلح "الاستقلال الاستراتيجي"، بقدرة الدولة على الاستفادة بشكل مستقل من سلطاتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية في السياسة الخارجية. إن تبني دول المجلس سياسة " الاستقلال الاستراتيجي" من خلال "التوجه شرقًا" في سياق تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول الآسيان، يتطلب التركيز على الواقع الجغرافي لمنطقة دول جنوب شرق آسيا المطلة على بحر الصين الجنوبي في منظور التعريف الجغرافي الشامل والأوسع لمنطقتي المحيطين الهندي والهادئ.
تبنى الاستقلال الاستراتيجي لدول الخليج نحو آسيا سياسة توزيع الدبلوماسية الخليجية وتنويع التحالفات الاستراتيجية بالتزامن مع تراجع النفوذ الاستراتيجي للولايات المتحدة والغرب في هذه المنطقة، والاضطرابات العربية عام 2011م، التي صاحبها تحولات في السياسات الداخلية والخارجية لدول المجلس، والملف النووي الإيراني، وصولاً إلى التغيرات العميقة التي يشهدها النظام الدولي في سياق الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الأمريكي ــ الصيني في آسيا نحو نظام عالمي متعدد الأطراف.
حيث دفعت هذه التحولات دول الخليج العربي إلى تحديد بدائل لديناميكيات القوى العظمى التقليدية، وهو ما يتجلى في الإصلاحات العسكرية وخطط التنمية الوطنية المرتبطة بالتحديث والمبادرات الدبلوماسية المتزايدة. ولذلك، يرتبط التحول الخليجي نحو دول الآسيان أيضًا بالأهمية المتزايدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في الاستراتيجية الدولية انطلاقًا من مساعيها ليكون للخليج العربي نفوذ في النظام الناشئ في هذه المنطقة. حيث يتوقع الأكاديميون وصناع القرار مع تزايد دور التحالفات العابرة للحدود الوطنية المتنافسة والتكنولوجيات الجديدة في التحولات العميقة في النظام الدولي منذ عام 1991م، بأن منطقة آسيا ولا سيما منطقة المحيطين الهندي والهادئ ستكون الساحة الحاسمة في التحولات العالمية القادمة، وخاصة في ظل المنافسة الجيواستراتيجية والجيواقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تتمتع الأولى بمشاركة أمنية ودبلوماسية نشطة في المنطقة ولا سيما في السنوات الأخيرة، في حين تتمتع الأخرى بنفوذ اقتصادي وأمني من خلال مبادرة الحزام والطريق وطريق الحرير البحري. وتسعى الولايات المتحدة والصين إلى إقامة تحالفات جديدة ومتنوعة داخل منطقة المحيط الهادئ الهندي، بما في ذلك الدول الناشئة باعتبارها قوى متوسطة مهمة. وهذا هو المكان الذي سيتم فيه تحديد النظام الدولي في الغالب وسيستمر في العقود المقبلة.
وهذا ما يجعل دول الآسيان تواجه في سياق الاستقطاب المتزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ صعوبات كبيرة في البقاء على الحياد، حيث أن هذه الدول تربطها علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع الصين، بينما بعضها ترتبط بعلاقات أمنية مع الولايات المتحدة، وترغب هذه الدول في التواجد الأمريكي الأوروبي في المنطقة خوفًا من التوسعات العسكرية المتزايدة للصين في بحر الصين الجنوبي، وعدم اعترافها بالمطالبات الجزرية والبحرية بين عدة دول ذات سيادة في جنوب شرق آسيا، حتي أنها تستخدم أدواتها الاقتصادية للضغط على هذه الدول لتجنب تصعيد هذه النزاعات الإقليمية.
وقد يكون التواجد الخليجي العربي المتزايد من المنطقة من منظور تعزيز الاقتصادات الإقليمية جيد في توازن علاقات الآسيان مع الصين للدفاع عن مصالحها من خلال لعبة التوازنات وعدم الوقوع في فخ التحالفات الاستقطابية. وفي الوقت نفسه، فإن مستقبل خطط التنمية الوطنية المرتبطة بالتحديث واستراتيجية تنوع الشراكات الاستراتيجية لدول الخليج في سياق الاستقلال الاستراتيجي، لا يعتمد على أمريكا بل على آسيا، وخاصة الصين. وهذه هي المعضلة المشتركة بين دول المجلس والآسيان. وقد يدفع الجانبان إلى تعزيز الاقتصادات الإقليمية من خلال تجنب الوقوع في فخ التحالفات الاستقطابية للاختيار بين الولايات المتحدة والصين، واختيار أولوياتها وفقًا لأمنها القومي ومصالحها الاقتصادية.
كما يمكن لهذا التعاون أن يعزز الترتيبات الأمنية بين الجانبين في المجال البحري، حيث يتعلق التحول الخليجي نحو دول الآسيان بالمخاوف الأمنية المرتبطة بأمن المحيط الهندي الذي أصبح جزءًا من أمن الخليج العربي. فالحوثيون، مثلًا، حيث أن معظم الدعم العسكري للمليشيات من إيران عبر السفن التي كانت تعبر المحيط الهندي. ومن أجل أمن الطاقة الخاص لدول المجلس، حيث تعتمد الاقتصادات الآسيوية الصناعية بشكل متزايد على النفط والغاز من الشرق الأوسط، وفي المقام الأول من الخليج، حيث استحوذت آسيا على 77.1% من صادرات السعودية من النفط الخام عام 2021م، و98.2% من إجمالي الصادرات النفطية للإمارات، و15% من صادرات الغاز الطبيعي المسال القطري. وتبرز آسيا تدريجياً كقوة اقتصادية أساسية، ومن المتوقع أن تساهم بأكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2040م.
ومع ذلك، تظل العلاقات بين دول المجلس والآسيان في المرحلة الأولى، ولم ترق إلى شراكات استراتيجية قوية، حيث يتطلب من دول المجلس وضع استراتيجية جيواقتصادية وجيوسياسة شاملة وواضحة مع دول الآسيان، لتعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بشكل يرتقي إلى شراكة استراتيجية شاملة. بالمقارنة مع الشراكة الاستراتيجية مع الصين والهند من منظور التنوع الاقتصادي المرتبط بخلق فرص عمل وجذب الاستثمارات وتعزيز التجارة والتكنولوجيا والابتكارات الجديدة، والتي تدفع دول المجلس نحو الاستقلال الاستراتيجي الذي يتطلب استراتيجية التوازن بين الحفاظ على دور للولايات المتحدة كضامن أمني ومورد للأسلحة، مع فتح أيضًا مجالًا لعلاقات متنوعة مع الصين.
حيث عززت دول المجلس علاقتها مع بكين التي توجت بشراكة استراتيجية شاملة، تتمثل في مجال الطاقة باعتباره المحور الرئيسي، والبنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار كجناحين، والطاقة النووية، والأقمار الصناعية الفضائية، والطاقة النظيفة باعتبارها مجالات التكنولوجيا الفائقة الثلاثة. وهي مجالات أساسية لاستراتيجيات التنمية الاقتصادية وخطط التنويع. علاوة على ذلك، توسطت الصين في اتفاق التقارب السعودي ــ الإيراني، مما يعكس القرب المتزايد بين بكين والرياض. كما عززت دول الخليج علاقتها التجارية والاستثمارية مع الهند التي تتمتع بموقع استراتيجي، إلى جانب الإمكانات والقدرات الاقتصادية في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والفضاء الخارجي والرعاية الصحية. ولا تزال دول مجلس التعاون الخليجي أكبر شريك تجاري للهند، فخلال عامي 2021-2022م، ووفقًا لوزارة التجارة والصناعة الهندية، بلغت التجارة الثنائية بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي 154 مليار دولار.
وفي سياق تعزيز التنوع الاستراتيجي، عكست زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2019م، أهمية العلاقات بين البلدين، وفي الوقت نفسه، حافظت السعودية على علاقاتها الوثيقة مع باكستان، المنافس الإقليمي للهند، وأكدت التزامها تجاه إسلام أباد في ظل علاقاتها المتنامية مع الهند.
رابعًا، الموقف الصيني من مساعي دول الخليج لشراكة استراتيجية مع دول الآسيان
تعتمد قدرة دول المجلس على بناء شراكة استراتيجية مع دول الآسيان على تبني نهج "التوازن البراغماتي" بين الصين والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وأيضًا منطقة جنوب شرق آسيا. حيث تتوسع بكين في علاقاتها الاقتصادية والسياسية بشكل كبير مع دول المنطقة، في حين أن هناك مخاوف شديدة من دول المنطقة حول توسعاتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وأيضًا الغموض الكبير بشأن استثماراتها المتعلقة بمبادرة "الحزام والطريق" في منطقة جنوب شرق آسيا، المتمثلة في استراتيجية فخ الديون المرتبطة بالموارد الاستراتيجية واستخدامها كأداة سياسية للضغط على دول المنطقة التي تربطها علاقات بأمريكا وحلفائها، وأيضًا استثماراتها المتعلقة بالمجال التكنولوجي ودوره في اختراق الأمن القومي لدول المنطقة.
لذلك، تنظر دول الآسيان لدول الخليج في هذا السياق من منظور التنوع الاستراتيجي، بهدف بناء شراكات استراتيجية شاملة مع دول تتمتع بنفوذ كبيرة في سوق الطاقة العالمي والاستقرار السياسي والاستثمارات الضخمة في مجالات الطاقة الجديدة والتكنولوجيا. وقد يكون هذا تهديدًا للنفوذ الاقتصادي للصين في منطقة جنوب شرق آسيا في سياق محاولات الولايات المتحدة الذي يسمي مجموعة آي 2 يو 2، على اعتبار أن أمريكا لا تزال لاعباً رئيسياً في الخليج، بالرغم من انخفاض حضورها. ومع هذا، يتعلق هذا السيناريو بشكل كبير باستقرار الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط بعد إعلان إسرائيل الحرب على غزة، ومدى فعالية استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا التي تهدف إلى تقويض الصين.
وهناك سيناريوهات أخرى، وهو أن يكون للصين دور في تنامي الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس والآسيان في سياق مشاريع استثمارية مشتركة بين الأطراف الثلاثة، ولا سيما في ظل النفوذ الاقتصادي للصين في منطقة جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى مواصلة بعض دول مجلس التعاون الخليجي تأييد الادعاءات الإقليمية الواسعة للصين في بحر الصين، والتي تعتبرها دول منطقة جنوب شرق آسيا ليست شرعية. ناهيك عن أن استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا لتقويض الصين لا تزال غير فعالة وغير واضحة، وخاصة مع انخراط الولايات المتحدة بشكل كبير في الحرب الأوكرانية ــ الروسية وأيضًا التأييد والدعم العسكري للحرب الإسرائيلية على غزة التي تستنزف مواردها الاستراتيجية بشكل كبير بعيدًا عن آسيا، بالإضافة إلى عدم الثقة السياسية بين دول جنوب شرق آسيا حول استراتيجية التحالف للولايات المتحدة، وخاصة بعد أدائها في أفغانستان وأيضًا الرد الصيني القوي على علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان وأيضًا عدم ردع التوسع العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي بشكل مرضي لهذه الدول.