array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 192

عقبات قصيرة الأجل قد تعيق "الممر" لكن مستعد لمواجهة التحديات على المدى الطويل

الأربعاء، 29 تشرين2/نوفمبر 2023

كشف قادة فرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية، في قمة مجموعة العشرين "G20"، التي عقدت يوم السبت 9 سبتمبر 2023م، بنيودلهي في الهند، النقاب عن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC). وتتألف هذه المبادرة التجارية والاستثمارية الطموحة من ممر شرقي يربط الهند بالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل، وممر شمالي يربط دول الشرق الأوسط بأوروبا. وستعمل مبادرة الممر على تكملة ووصل طرق النقل البري والبحري الموجودة بالفعل، بهدف زيادة الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا عبر البنية التحتية للطاقة والسكك الحديدية والكابلات عالية السرعة وممرات الشحن. وتشكل البلدان المشاركة في المبادرة 40 % من سكان العالم، وحوالي 50 % من الاقتصاد العالمي. وسيعتمد هذا الممر على الموانئ البحرية والطرق والمراكز اللوجستية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا لتعزيز التجارة وتوفير موارد الطاقة وتطوير الاتصال الرقمي، مما يعمل على تعزيز أهمية هذه الدول الخليجية العربية كنقاط حاسمة في طرق التجارة العالمية.

وينظر إلى الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا على أنه طريق توابل العصر الحديث، ويشكل خطوة منافسة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، التي كانت تُعرف قديمًا بطريق الحرير. لذلك، يُنظر إلى الممر على أنه تحد للنفوذ الاقتصادي للصين في المنطقة، ومن المتوقع أيضًا أن يحقق فوائد استراتيجية واقتصادية كبيرة للهند. وتأكيدًا على أهمية المشروع لنيودلهي، قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إن الممر سيكون منارة للتعاون والابتكار والتقدم المشترك للهند وغرب آسيا وأوروبا في المستقبل. فيما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن الممر سيسهل التجارة وصادرات الطاقة. ووصفته أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأنه "جسر أخضر ورقمي عبر القارات والحضارات". وقال ولي العهد السعودي الأميرمحمد بن سلمان إن المشروع سيساهم في تطوير شبكات السكك الحديدية، والبنية التحتية، وخلق فرص عمل طويلة الأجل. وفي حين أن الدول الموقعة لم تقرر الالتزام بمقدار مالي محدد، فقد اتفقت على إعداد خطة عمل لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في غضون شهرين، وقد انقضت من دون تحرك تجاه الوفاء باستحقاقاتها.

في المنهج:

ربما يبدو الوقت مبكرًا لإجراء تقييم علمي حقيقي لما نحن بصدده، لأن أية مراجعة أولية للأدبيات لا تكشف عن صورة قياسية لما للممرات الاقتصادية من فوائد سياسية وجيوسترتيجية في حالة الممر. ومن الممكن استخلاص خصائص الممرات الاقتصادية، التي يتم قبولها بشكل أكثر شيوعًا في الأدبيات وفي عينة من دراسات الحالة. ففي وسعنا التحدث عن مفهوم ناشئ ومرن حول ماهية الممرات الاقتصادية، التي تربط الوكلاء الاقتصاديين على طول منطقة جغرافية محددة. وإدراك أنهم يقدمون الاتصال بين العُقد، أو المحاور الاقتصادية، التي تتمحور عادة حول المناظر الطبيعية الحضرية، في حيث تتركز كمية كبيرة من الموارد الاقتصادية والجهات الفاعلة. كما أنهم يربطون جانبي العرض والطلب في الأسواق. ويبدو أنه لا يوجد ممر اقتصادي واحد يتطابق تماماً مع خصائص ممر اقتصادي آخر. لذلك، يضع المقال إطارًا لمجموعة من المؤشرات للخصائص المحددة للممرات الاقتصادية على نطاق واسع، ثم توصيف عينة للممرات الاقتصادية والتجارية، التي يأتي على رأسها مبادرة الطريق والبحر الصينية. وتركز النظرة على حالة الممر الجديد من دون اكتمال الإجابة على أسئلة؛ مثل: ماذا يعني ذلك من الناحية العملية لتنفيذ ممرات تجارية، أو اقتصادية ناجحة تؤدي إلى السوق عبر تحسينات الوصول للمناطق الطرفية؟ وكيف ستتمكن المناطق الطرفية في التجارة العالمية من اكتساب القدرات اللازمة لتحقيق المزيد من الوصول إلى أسواق المناطق المركزية؟

لهذا، يهدف هذا المقال إلى إلقاء نظرة عامة على أبعاد هذا التطور الاقتصادي المهم، مع تحفيز التفكير في الأجندة السياسية والأيديولوجية، التي لا يمكن استبعادها من نطاقات التغيرات الجيوسياسية الواسعة، التي تميز العالم اليوم. فالمسارات العالمية السائدة والمحتملة تُحَدِّث عن تحولات تبدو جذرية في شكل التحالفات، والبنى الفوقية "الأيديولوجية" والتحتية "النقل" الموثقة والرابطة لهذه التحالفات. ويلزم التنبيه إلى أننا لا نسعى للتنبؤ بما سيحدث في المستقبل، والذي سيكون عملاً مستحيلاً في ظل المتغيرات المتسارعة في المنطقة؛ خاصة طوارئ الصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنه بدلاً من ذلك نحاول أن نوفر فرصة إطار للتفكير في المستقبل المحتمل وانعكاساته على الدول العربية المنخرطة في هذا التجمع "الطريق" الجديد، وما يمكن أن تناله غيرها من تأثيرات.

مقاربات:

تبتعد مبادرة الممر الجديدة عن المبادرات التجارية الغربية السابقة في المنطقة بطريقتين: الأولى هي الجهات الفاعلة المعنية، حيث تعد الهند مؤيدًا رئيسًا وتركز على التجارة بين الشمال والجنوب وبين الجنوب والجنوب، والثانية هي التركيز على البنية التحتية، على غرار مبادرة الحزام والطريق الصينية. ويأمل البيت الأبيض أن "تستهل IMEC حقبة جديدة من الاتصال من أوروبا إلى آسيا". ويقدر مؤيدو المبادرة أن الممر الجديد يمكن أن يقلل الوقت لإرسال البضائع من الهند إلى أوروبا بنسبة 40٪، وخفض تكاليف العبور بنسبة 30٪. كما سيعمل على توسيع الاتصال الرقمي في شبه الجزيرة العربية، وإعطاء أوروبا والهند مصادر جديدة للغاز النظيف. وكان المشاركون في المبادرة يخططون للاجتماع في غضون 60 يومًا للتداول والتنسيق وتحديد التفاصيل والتكاليف، التي تقوم عليها هذه المبادرة الجريئة. وتبشر المبادرة، في حال اكتمالها، باستمرارية الجهود طويلة الأمد، التي تبذلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتعزيز التجارة في منطقة الشرق الأوسط، رغم ما يوجد من اختلافات مهمة بين دولها. وقد بدأت هذه الجهود في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وتسارعت بعد اتفاقات أوسلو. واعتقد صانعو السياسة الأمريكيون والأوروبيون أن زيادة التجارة من شأنها أن تعزز السلام بين إسرائيل وجيرانها.

من جانبها، تضمنت مبادرة الحزام والطريق (BRI)، التي أعلنها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013م، تم إطلاق برنامج دولي ضخم للبنية التحتية يشمل ما يقرب من140 دولة و30 منظمة دولية. وتتلخص رؤية الصين الطموحة في بناء شبكة من البنية التحتية في جميع أنحاء العالم من شأنها تسهيل التجارة والاستثمار والاتصال. وتحتوي المبادرة مجموعة فضفاضة من المشاريع المتباينة، والعديد منها سبق عمله، أو التفكير فيه، إذ تتألف من الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري القديم، والحزام الاقتصادي البحري، أو طريق الحرير البحري الجديد. ويكلف ما يقدر بنحو تريليون دولار من مشاريع البنية التحتية، التي تشمل الطاقة والنقل والتعدين وتكنولوجيا المعلومات و"المدن الذكية" والاقتصاد الخاص، أو ما يُعرف بالمناطق الاقتصادية الخاصة. إن استكمال "حزام واحد، طريق واحد" الأصلي أصبح الآن يُعرف بـ"طريق الحرير الرقمي"، وهو عبارة عن "ممر معلومات الحزام والطريق الفضائي"، و"طريق الحرير الصحي"، و"الحزام والطريق الأخضر". وقد زود هذا الانتشار لممرات وطرق مبادرة الحزام والطريق بكين بأداة متعددة الأغراض لدعم سياساتها الخارجية والاقتصادية، وعلامة تجارية تربط التيارات المختلفة معًا تحت عنوان واحد.

لقد بات جليًا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، على برجي التجارة في نيويورك، وما يمثلانه من رمزية للقوة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية، أن رؤية جديدة للسياسة العالمية لا بد أن تنبثق من عمق غير تقليدي. لذلك، نظر المسؤولون في إدارة بوش إلى التجارة، التي استهدفها الإرهاب، كعلاج للتطرف، في حين رأى شركاؤهم الأوروبيون التجارة كرافعة للازدهار من شأنها أن تبطئ الهجرة غير الشرعية إلى شواطئهم. وقد أدى الصراع الأهلي في سوريا وليبيا بعد عقد من الزمان إلى تعزيز هذا التصور. وفي الوقت نفسه، على الأقل قبل الأحداث الأخيرة في إسرائيل وغزة، كان صانعو السياسة في الولايات المتحدة يأملون مرة أخرى في أن تؤدي زيادة التجارة بين إسرائيل وفلسطين والدول العربية الأخرى، وخاصة الخليج، إلى إحلال السلام في المنطقة. وتؤكد كل الدلائل والبراهين على أن دوافع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وراء مبادرة الممر لا تزال كما هي. ولا يزال صناع السياسات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبعض نظرائهم الإقليميين، ينظرون إلى التجارة باعتبارها محركا للنمو والسلام الإقليميين.

البنية التحتية:

بالرغم من أنه لا يمكن التقليل من أهمية البنية التحتية المادية، فمبادرة الحزام والطريق هي أكثر بكثير من مجرد محفظة من الأصول الأرضية والموانئ. ويؤكد توسع المبادرة في المجالين الرقمي والفضائي على طبيعتها الشاملة. ومع ذلك، هناك شكوك عميقة تحيط بمبادرة الحزام والطريق وبالدوافع الاستراتيجية الخفية للصين. ويتعلق انعدام الثقة باللعبة الكبرى الأوسع، التي ظلت تمارسها الصين منذ انتهاء الحرب الباردة. ويحذر محللو السياسات ومراقبو الصين بانتظام أن مبادرة الحزام والطريق هي محاولة لتعزيز طموحات الحزب الشيوعي الصيني لتأمين مكانة الصين كقوة مهيمنة في العالم. فقد سبق أن أعرب رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي عن قلقه من تسهيل الاتصال من خلال مبادرة الحزام والطريق، الذي يقوض سيادة الدول الأخرى. واتهم وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر الصين بالاستفادة من استثماراتها الخارجية لإجبار الدول الأخرى على اتخاذ قرارات أمنية دون المستوى الأمثل لضمان سيادتها. ووصف الأدميرال فيليب ديفيدسون، قائد قيادة المحيطين الهندي والهادئ، مبادرة الحزام والطريق بأنها "حصان مطاردة للتقدم" السياسي. بينما سلط الكتاب الأبيض الدفاعي الياباني لعام 2019م، الضوء على القلق من أن مشاريع البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق تسهل توسع جيش التحرير الشعبي الصيني في المحيطين الهندي والهادئ، وإفريقيا، وأوروبا.

ويُشير هذا التخوف الأخير إلى الشكوك في أن شهية الصين النهمة للموانئ العالمية ــ إن بناءها، أو شراءها، أو تشغيلها ــ وهو أمر غير حميد على الإطلاق، وخاصة في سياق الصين برنامج التحديث العسكري وتطوير قواتها البحرية المنتشرة عالميًا. سوف تتحول الموانئ التي تملكها، أو تديرها الصين، وخاصة تلك الموجودة على طول المحيط الهندي، إلى موانئ قوية وسلسلة من القواعد العسكرية المحصنة لدعم قدرات الصين القتالية في الحرب البحرية -تسمى "سلسلة من اللؤلؤ". عليه، ينبغي أن نلحظ أنه إذا كانت أهداف السياسة، وما يرتبط بها من سلام ومكافحة الهجرة والتطرف، مضمنة في مبادرة الممر؛ في شقيها الشرق أوسطي والأوروبي، فإن البعد الآسيوي للمبادرة؛ بمكونه الهندي، يُشير إلى قصد مُدْرَكٌ بغير كثير عناء، ويُظْهِرُ لنا أن منافسة الصين، وتحجيم تمددها العالمي، هما الهدف الاستراتيجي الأول. وينبع دعم إدارة بايدن لمبادرة الممر إلى حد كبير من جهودها لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط بشأن التزام واشنطن تجاه المنطقة مع تقديم بديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية، من دون أن تقول صراحة إنها محاولة لتحدي وجود الصين في المنطقة والعالم.

لهذا، نستطيع القول، بقدر كبير من اليقين، إن هذا الممر بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا يتطلب النظر إليه في إطار منافسة القوى العظمى، في خِضَم ما يسمى بـ"الحرب الباردة الجديدة"، التي تبدت نُذرها بين الولايات المتحدة والصين. إن مبادرة الحزام والطريق هي خطة استراتيجية ضخمة، تسعى بكين من خلالها إلى ربط آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية مع وضع الصين كمركز للاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. وتلعب دول الخليج العربية أدوارًا مركزية في رؤية مبادرة الحزام والطريق، لا سيما بالنظر إلى أوجه التآزر بين "رؤية المملكة العربية السعودية 2030"، وأجندات التنويع الاقتصادي لأعضاء مجلس التعاون الخليجي الآخرين، وهذه المبادرة الصينية. لذلك، أثارت علاقات بكين العميقة مع الدول العربية المتحالفة تاريخيًا مع الغرب وإسرائيل مخاوف في واشنطن، مما دفع الولايات المتحدة إلى محاولة مواجهة النفوذ الجيواقتصادي المتزايد للصين في الشرق الأوسط. فهناك بالتأكيد أبعاد جيوسياسية لمبادرة الممر تستحق النظر فيها، في سياق تكيف دول مجلس التعاون الخليجي الست مع واقع التعددية القطبية، التي هي باستثناء سلطنة عُمان، ظلت جميعها تتمتع بوضع شريك حوار في منظمة شنغهاي للتعاون، وانضمت دولة قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كأعضاء فاعلين مؤخرًا.

تفاؤل حذر:

رغم مجمل مقدمات اتفاقنا مع ما ذهب إليه جون ماينارد كينز، عام 1937م، من أن فكرة أن المستقبل مختلف عن الحاضر بغيضة جدًا لأنماط تفكيرنا التقليدية والسلوك، الذي نبديه، معظمنا، في شكل مقاومة كبيرة للتصرف عليه عمليًا، إلا أن المؤكد أن هذه المبادرة الجديدة، إذا قُدر لها النجاح، ستكون الجزيرة العربية برمتها مختلفة جذريًا عما ألفناه اليوم. فبالإضافة إلى التمكين الاقتصادي ونشر سلطة العمل الجماعي للدول، التي يمر بها الطريق، نحن نعتقد أن الكثير من الاتجاهات الكبرى الأخرى ستشكل الأنماط الديموغرافية المستجدة، والطلب المتزايد على الموارد، في حالات الطعام والماء، قد يؤدي إلى الوفرة، وليس التشاؤم الماثل بحدوث الندرة.

إن استقراءات الاتجاهات الكبرى ستشير وحدها إلى ذلك التفاؤل والتشاؤم في مقايسات الوفرة والندرة، مع إدراك حقيقة أنه عالم متغير تتحكم في معادلات نموه مثل هذه المبادرات. ولكن، العالم يستطيع استيعاب هذه المراوحة بين التفاؤل والتشاؤم، وأن تتحول توجهاته نحوهما بطرق مختلفة جذريًا عن موضوعات الفهم العام. فإذا كان السائد هو مبادلة حتمية للمواقع بين السلب والإيجاب، فعقلاء العالم يعتقدون أن هناك ستة أسئلة رئيسة ستغير قواعد اللعبة فيما يتعلق بالاقتصاد العالمي، وطرائق الحكم، وآثار الصراع، وعدم الاستقرار الإقليمي، والتكنولوجيا ودور القوى الكبرى، التي سوف تحدد مجتمعة؛ إلى حد كبير، أي نوع من العالم المتغير، الذي سنسكنه في المستقبل.

وبناء على ما نعرفه عن الاتجاهات الكبرى، والتفاعلات المحتملة بين هذه الاتجاهات الكبرى، التي ستغير قواعد اللعبة، يمكن تحديد عدد من النماذج الأولية لتصور المستقبل، الذي يمثل مسارات متميزة للعالم، ولا يوجد أي من هذه العوالم البديلة ما هو حتمي. في الواقع، من المحتمل أن يتكون المستقبل من عناصر من جميع السيناريوهات، التي تدرسها مراكز البحث العالمية حاليًا. فالاتجاهات الكبرى وما يتصل بها من تحولات اقتصادية؛ ومؤكد سياسي، تُشِير إلى أن التمكين الفردي سوف يتسارع بشكل كبير خلال الأعوام القادمة بسبب الحد من الفقر والنمو الهائل للطبقة المتوسطة الإقليمية والعالمية، مضافًا إليها زيادة التحصيل العلمي، وتحسين الرعاية الصحية. ولا شك أن نمو الطبقة الوسطى في أي مجتمع يشكل عصب التحول، من هنا يكون التمكين الفردي هو الاتجاه الكبير الأهم، لأنه سبب ونتيجة معظم التحولات الأخرى، بما في ذلك التوسع الاقتصادي، والنمو السريع للدول النامية، والاستغلال الواسع النطاق للاتصالات الجديدة، وتقنيات التصنيع.

نقطة العبور:

وتمثل مبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا IMEC؛ وقبلها مبادرة الطريق والبحر الصينية، تحولًا مهما في جهود العالم لتعزيز التجارة العابرة للشرق الأوسط. وخلافًا للمبادرة الصينية، وكل المبادرات التجارية السابقة، تضم لجنة مبادرة الممر الاقتصادي الجديدة تحالفًا أوسع من المشاركين الإقليميين وغير الإقليميين. كما أنها تعطي الأولوية للبنية التحتية على السياسة التجارية كوسيلة لتوسيع التجارة بين المناطق وداخلها. ولكن، في حين أن IMEC لديها القدرة على تحويل التجارة في منطقة الخليج والجزيرة العربية، فإن السياسة الدولية والمحلية تخاطر بإخراج نجاحها عن مسارها الاقتصادي بسبب القضية الفلسطينية. رغم أن لدى صانعي السياسة الهنود والعرب والغربيين حافز قوي لاستثمار رأس مالهم الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي في المساعدة على بناء ممر اقتصادي دائم وتحويلي لزيادة الثروات.

وكما لاحظت مؤسسات الرصد الاقتصادي العالمية، فإن الآفاق المستقبلية للتجارة والاستثمار سوف تتغير، وتعتمد بشكل متزايد على ثروات الشرق والجنوب، الذي تمثله غالب دول هذا الممر الجديد، وفي مقدمتها دول الخليج العربية. فالطلب في الأسواق الناشئة للبنية التحتية والإسكان والسلع الاستهلاكية والجديدة ستؤدي المصانع والمعدات إلى زيادة الاستثمار العالمي مستويات لم نشهدها منذ أربعة عقود. وقد لا تطابق المدخرات العالمية مع هذا الارتفاع، مما أدى إلى الضغط الصعودي عليها أسعار الفائدة طويلة الأجل. وعلى الرغم من نفوذها الاقتصادي المتزايد، تواجه الهند العديد من نفس المشاكل والفخاخ المصاحبة للنمو السريع؛ مثل الصين، حيث إن هناك تفاوتات كبيرة بين الريف والقطاعات الحضرية وداخل المجتمع؛ في ازدياد والقيود المفروضة على الموارد مثل المياه؛ والحاجة من أجل زيادة الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا لمواصلة تحريك اقتصادها إلى أعلى سلسلة القيمة. وقد تعهد الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة بالعمل معًا لتطوير وتنسيق البنية التحتية التجارية بين الهند وشبه الجزيرة العربية وأوروبا.

باختصار، وفي أعقاب إعلان هذه المبادرة، تواجه الدول المشاركة الآن مهمة صعبة تتمثل في تحويل الطموح إلى حقيقة: فنجاح اللجنة المتكاملة للصناعات الغذائية، مثلًا، سيساعد على دفع عقود من جهود الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتعميق التجارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فقد تعهدت الدول المشاركة بالعمل معًا لرفع مستوى وتنسيق البنية التحتية التجارية بين الهند وشبه الجزيرة العربية وأوروبا، إذ يقع ممران للعبور من سفينة إلى سكة حديد تربط الهند بأوروبا عبر الخليج العربي في قلب المبادرة. وستمتد هذه الممرات لمسافة 4,800 كيلومتر، عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل، مما يمنح المستهلكين والمنتجين في هذه الدول وصولًا أسهل إلى الأسواق الأوروبية والهندية. وستتحمل الكابلات والأنابيب الكهربائية لصادرات الهيدروجين النظيف طرق السكك الحديدية الخاصة بالممر أيضًا، من دون إهمال للطرق التقليدية القديمة.

هل من آثار؟

لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد للعاملين؛ في مجال دراسات التنمية أن هناك حاجة إلى نهج جديد لتحقيق الاستفادة الفعالة من الجغرافيا الاقتصادية، التي تتقَصَّد فكرة التقاء الاقتصاد الإقليمي بفكرة التكامل والنمو الشامل. إذ أن هناك فوائد تراكمية كبيرة لم تكن معروفة من قبل، ويمكن من خلالها أن يصبح صناع القرار واضحين، خاصة عندما تكون الاستثمارات المحتملة المحفزة للنمو متوجهة نحو رفع الإمكانات الإنتاجية للمناطق الاقتصادية والجغرافية المتكاملة بشكل نموذجي على طول الممرات الاقتصادية. لذلك، فإن نهج الجغرافيا الاقتصادية، الذي يمثله هذا الممر الجديد، سيرسم خرائط المشهد الاقتصادي بطريقة ديناميكية؛ تراكمية بمرور الوقت، وتملأ العوامل الاقتصادية في التوظيف والإنتاج والممرات الاقتصادية والبيئية الفضاء، والذي يسمح بتوزيع الفوائد المتراكمة عبر المنطقة في مختلف سيناريوهات الاستثمار، التي سيتم حسابها وعرضها. فالممرات الاقتصادية ليست مجرد خطوط نقل يمر عبرها الأشخاص وتتحرك البضائع، بل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي والفاعلين الاقتصاديين في المناطق المحيطة بها. ولا تولد الممرات الاقتصادية فوائد اقتصادية كبيرة في حالة العزلة، بل يجب النظر إليها كجزء من الشبكات الاقتصادية المتكاملة، مثل سلاسل القيمة وشبكات الإنتاج العالمية والإقليمية.

والسؤال البديهي، الذي يقفز إلى الذهن بلا استئذان يتمحور حول: ما هي الآثار المترتبة على مشاركة الهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في مبادرة الممر IMEC؟ وقد تركز الإجابة على تصورين يُستشفان من حقيقة أن المبادرة لها؛ أولًا، أصحاب مصلحة محليون، ولديهم حوافز مباشرة لنجاح ما تتضمنه مطلوبات الاتفاقية. وثانيًا، تعمل مشاركة هذه الدول على إضعاف نفوذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المطلق على الاتفاقية. وستحتاج الدول، التي تحكم نقاط العبور الحالية كإسرائيل، أو الطموحة في المنطقة، إلى استيعاب المصالح والظروف الخليجية والهندية كمعطى لازم. ويُشير هذا المعطى إلى الآثار الأخرى المترتبة على الشراكة الأوسع لهذه المبادرة. وخلافًا للمبادرات التجارية السابقة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن تبتعد اللجنة الاستشارية المستقلة للمبادرة عن المسائل المتعلقة بالتجارة والبنية الأساسية. فقد ولت الأيام، التي كانت فيها الاتفاقيات التجارية تحمل بنودًا سياسية صريحة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرهما من منظومات الحقوق والحريات.

لقد كان هذا التجميع للإصلاح الاقتصادي والسياسي سمة مميزة للشراكة الأورومتوسطية للاتحاد الأوروبي. كما ربطت الولايات المتحدة حقوق الإنسان بمبادراتها التجارية مع العديد من دول العالم. وبحسب ما ورد أنهت إدارة بوش مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع نظام مبارك في مصر بعد رفض الأخير إطلاق سراح مرشح المعارضة المهزوم أيمن نور من السجن. والآن، من غير المرجح أن توافق دول؛ مثل: الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى إدارات بايدن ومودي ونتنياهو وميلوني، على الكثير من النقاش حول نموذج الديمقراطية بقيمها الأمريكية، أو شروط العمل، أو حقوق الإنسان، التي لا تراعي خصوصيات المجتمعات الأخرى، في إطار مبادرة IMEC، والتي قد تأتي على حساب العمالة الأجنبية في الغالب، التي ستبني الطرق وممرات السكك الحديدية للاتفاق. ومع ذلك، فإن كل أطراف هذه المبادرة سيكونون مقصرين إذا تجاهلوا مسائل الحكم النظيف تمامًا، إذ يمكن أن تكون عقود البنية التحتية والشراكات بين القطاعين العام والخاص جذابة جدًا للفساد والمحسوبية. فالمعلوم أن نصف الدول المشاركة في المبادرة لم توقع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن المشتريات الحكومية، وهو اتفاق يهدف إلى تعزيز تخصيص العقود الحكومية بشكل أكثر شفافية.

لهذا، فإن إدراج بنود داخل اتفاقية الممر تحمي ممارسات الشراء الشفافة ليس مجرد مسألة أخلاقية؛ إنها أيضًا مسألة فعالية. ومن شأن الشفافية والمساءلة في صرف عقود بناء وتشغيل المركز الدولي للسكك الحديدية أن يخفض تكاليف البناء والصيانة على ممرات النقل من السفن إلى السكك الحديدية. من هنا، فإن تركيز المبادرة على البنية التحتية هو الاختلاف الرئيس الثاني مع المبادرات التجارية السابقة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في المنطقة، ما جعل المحللين ينظرون إليها على أنها استجابة غربية لمبادرات الحزام والطريق الصينية (BRI) في المنطقة، التي ركزت على البنية التحتية بشكل أساس. وفي محاكاة هذا التركيز، تحركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعيدًا عن الضغط السياسي، أو من أجل مزيد من التكامل الاقتصادي من خلال سياسات تجارية أكثر ليبرالية؛ مثل اتفاقيات التجارة الحرة، والمناطق الاقتصادية الخاصة، واتفاقيات التجارة الإقليمية. وبدلًا من ذلك، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يراهنان على أن البنية التحتية الأفضل والأكثر تكاملًا من شأنها توسيع التجارة بين المناطق وداخلها. فالبنية التحتية الأعلى جودة والسياسات التجارية الأكثر تحررًا تخفض تكاليف التجارة الدولية؛ إنها وسائل لزيادة التجارة يعود الفضل فيها هذه المرة للصين.

ولهذا، ترسخت القناعة بأن البنية التحتية قد تكون حلًا أسهل من السياسة التجارية، التي تكتنز كل محمولات الأيديولوجيا الليبرالية الغربية. ولكن، على الرغم من عقود من الضغوط الأوروبية والأمريكية لتحرير السياسات التجارية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحتفظ المنطقة ببعض أعلى مستويات الحمائية في العالم. وربما يمكن للبنية التحتية أن تساعد صناع السياسات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على تجنب العقبات، التي أعاقت إصلاح السياسة التجارية في المنطقة. البنية التحتية هي في الغالب شأن محلي. تحتاج مشاريع البنية التحتية إلى مهندسين وليس دبلوماسيين. إن البنية الأساسية الأفضل في الشرق الأوسط لن تثير غضب جماعات المصالح الخاصة الحمائية في أوروبا، أو الهند. علاوة على ذلك، فإن اثنتين من دول الشرق الأوسط المشاركة في المبادرة؛ الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، لديهما بالفعل بعض من أفضل البنى التحتية التجارية في المنطقة والعالم.

منطق الصراع:

ومع كل ما تقدم، ستظل المبادرة عرضة لعقبات سياسية، إذ يتطلب نجاح الممر مواءمة الأنظمة الدولية والسياسات التجارية. وهذا يعني توحيد السياسات على الورق والممارسة، وكلاهما غير مضمون. قد تكون هناك أيضًا معارضة محلية من الصناعات (النقل بالشاحنات) والمدن (الموانئ غير الموجودة في الممرات)، التي تهددها الممرات. وقد يكون المنتجون والمستهلكون المحليون، الذين يعارضون إسرائيل وسياساتها في فلسطين غير راغبين في استخدام الممر، خاصة إذا أصبحت الموانئ الإسرائيلية محاور على ممرات العبور من السفينة إلى السكك الحديدية. كما أن اندلاع العنف مؤخرًا بين حماس وإسرائيل هو تذكير كئيب بالتحديات السياسية المستمرة لإشراك إسرائيل في المبادرات التجارية. وستكون هناك علامة استفهام كبيرة حول مشروع الممر إذا تحولت التوترات بين إسرائيل وفلسطين إلى صراع إقليمي، إذ قد يشكل هذا الصراع تهديدًا كبيرًا لجدوى واستدامة مشروع الممر، لأنه متشابك مع أحد الفاعلين الأساسيين في المشروع؛ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللذين يسعيان بنشاط لتأمين مواقعهما. ولكن، من المهم الاعتراف بأن جهودهم قد لا تثبت فعاليتها الكاملة إذا امتد الصراع إلى مناطق إقليمية أخرى؛ مثل لبنان، أو سوريا، أو إيران، حيث قد تتورط هذه الدول فيه، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر.

ونتيجة لذلك، وكملاحظة خاتمة، من المرجح أن تواجه مبادرة الممر معارضة مختلفة، تشمل تحديات أمنية وسياسية في المستقبل. ومع ذلك، فإن المبادرة مهيأة لتحقيق نجاح نسبي على المدى الطويل، لأن العودة في نهاية المطاف إلى مسارها الأصلي كهدف أساس لها هو وضع استراتيجية للضوابط والتوازنات في المنافسة الاستراتيجية العالمية، خاصة في منافسة الصين ومبادرة الحزام والطريق والممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، والمواءمة مع الكيانات المعارضة للتحالف مع الغرب في السياسة العالمية. وفي حين أن العقبات قصيرة الأجل قد تعيق تقدمها، فإن المبادرة مهيأة للعودة على المدى الطويل، لأنها مستعدة جيدًا لمواجهة التحديات السياسية والأمنية والتجارية، التي تنتظرها. فالممر هو اقتراح طموح، وتواجه البلدان المشاركة فيه مهمة صعبة تتمثل في تحويل هذا الطموح إلى حقيقة، رغم كل شياطين التفاصيل.

مقالات لنفس الكاتب