array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 193

مغامرات دول الجوار تتخطى الحدود وتجر أطرافًا أخرى والخسائر تشمل المنطقة

الخميس، 28 كانون1/ديسمبر 2023

تُطَوِّر العلاقات بين المجتمعات متعددة الثقافات مفهومًا يُؤكد بأن رأس المال الثقافي بأشكال مختلفة هو المتغير الحاسم في بناء علاقات حسن الجوار بين الدول. ويفتح هذا التأكيد آفاقًا جديدة من خلال تقديم تكامل مفاهيمي لأشكال مختلفة ومترابطة من رأس المال: رأس المال بين الثقافات، ورأس المال الاجتماعي عبر الثقافات، ورأس المال متعدد الثقافات. وترتبط هذه الأشكال من رأس المال بالسياسات التعليمية والثقافية المختلفة للدولة المعنية، وكذلك يُشاركها المجتمع المدني على مستويات مختلفة من إجراءات التنفيذ. وقد لا ندعي أن هذا المقال يقدم رؤى نقدية حول علاقات الجوار في المناطق الحدودية المتنوعة ثقافيًا وسياسيًا في شرق أوسط يمتد بين آسيا وإفريقيا، بل نسعى فقط لتكييف المفهوم، الذي تم تطويره من خلال قاعدة نظرية غنية بشكل مفيد في الإطار الجيوسياسي، وجرى تطبيقها على نطاق واسع في سياقات جغرافية أخرى؛ فيما يُعرف بسياسة حُسن الجوار. فما هي سياسة حسن الجوار هذه؟ وفي تقديري لن نَجِدَ إجابة تناولتها الدراسات الأكاديمية أصرح مما نطق به الرئيس الأمريكي روزفلت في مارس 1933م، في خطاب تنصيبه الأول، عندما قال: "في مجال السياسة العالمية، أود أن أهدي هذه الأمة لسياسة الجار الصالح، الجار الذي يحترم نفسه بحزم، ولأنه يفعل ذلك، يحترم حقوق الآخرين، الجار الذي يحترم التزاماته ويحترم قدسية الاتفاقات في عالم الجيران ومعه. نحن ندرك الآن، كما لم ندرك من قبل، قيمة ترابطنا مع بعضنا البعض، التي لا يمكننا أن نأخذها فحسب، بل يجب أن نعطيها أيضًا". ونستخلص من هذا أن هذه السياسة تستند إلى مبادئ بسيطة مفادها أن الدول لا ينبغي أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى، وأن علاقاتها ينبغي أن تكون لصالح الجميع.

ولفهم مدى ثورية هذه السياسة، يجب أن ننتقل سريعًا إلى الماضي غير البعيد، أي قبل بضع سنوات فقط. ففي ذلكم الحين لم تكن الدول العربية تعتبر فيه هذه الدول الثلاث؛ إيران وتركيا وإثيوبيا، جارات غير جيدة، وإنما غير مستقرة بوجه من الوجوه السياسية. وبدلًا من الجوار الحسن، كان لكلٍ منها تعقيدات علاقات ثنائية، أو جماعية مضطربة، إن لم نقل معادية. فقد كان لإيران مواقفها المعارضة لخيارات بعض دول المنطقة، بما في ذلك فكرة "تصدير الثورة"، وما أبتُدِعَ مؤخرًا على تسميته بـ "الاتفاقيات الإبراهيمية"، إضافة إلى إشكالات "مذهبية وأيديولوجية"؛ قديمة وحديثة، ساهمت في تمدد نفوذها في اليمن، أو العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. فيما اشتبكت تركيا، من ناحية أخرى، في بعض المواقف المرتبطة بالصراع العربي-الإسرائيلي، التي رأت فيها دول عربية اقترابًا أكثر مما يحتمل من قضايا هي المعنية بها بالأساس. وفي مقدمة ذلك، الموقف التركي من القضية الفلسطينية، التي رأت فيها مصر حسني مبارك قضية عربية لا ينبغي لأنقرة أن تتصدر القيادة فيها. وكانت شبهات تأييد بعض الدول في المنطقة لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، في عام 2016م، إضافة إلى تقاطعات الوضع السوري، نقاط خلاف أخرى عارضة بين أنقرة وأكثر من عاصمة عربية. لكن، رغم ما شاب العلاقات مع إيران من توترات ومصالحات، فإن أكثر ما يمكن تفسير تصرفاته بـ "الفتى الشرير" في دول الجوار العربي هو إثيوبيا، التي اكتسبت هذا اللقب جراء تعنتها في التوصل لاتفاق يطمئن جارها المباشر السودان على الحدود والمياه، أو يقلل من المخاوف الوجودية لمصر بشأن حصتها في مياه النيل. فقد ظلت قضية ما يعرف بـ "سد النهضة"، وما تزال، هاجسًا يؤرق السودان ومصر معًا، منذ أن بدأ الحديث عنه في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، ولم يشهد العام 2023م، أي تقدم يُذكر، بل اتخذت أديس أبابا المزيد من الإجراءات المانعة لتطوير أشكال التعاون في المستقبل القريب، بما في ذلك الانتهاء من المرحلة الرابعة لملء السد، من دون موافقة دولتي الممر والمصب، ومن دون أن نتوقع مبادرة حلٍ جذرية في هذا العام 2024م.

‏ إن الشرق الأوسط، بمعزل عن جيرانه المذكورين آنفًا، وغيرهم، لديه إمكانات إغراء هائلة تجذب الأقربين والأبعدين. أولًا، والأكثر وضوحًا، أنها مليئة بالهيدروكربونات، خاصة دول الخليج. فهي تمثل 36٪ من إنتاج النفط العالمي، و46٪ من صادرات النفط، و22٪ من إنتاج الغاز الطبيعي، و30٪ من صادرات الغاز الطبيعي المسال. وهذه الأرقام لا تتناقص، بل مرشحة باستمرار للارتفاع، خاصة مع دخول غاز البحر الأبيض المتوسط في فلسطين ولبنان وجمهورية مصر العربية، وزيادة ما هو مكتشف في السودان وموريتانيا والمغرب. وتتمتع المنطقة باحتياطيات هائلة (52٪ من إجمالي النفط العالمي و43٪ للغاز) وتكاليف إنتاج منخفضة مقارنة بمناطق أخرى في العالم، وخاصة النفط الصخري، الذي يتطلب تكاليف انتاج عالية. وفي الوقت، الذي تبدي فيه شركات النفط الغربية الكبرى قلقها بشأن الاستثمار، تضيف الشركات الخليجية خاصة، طاقتها الإنتاجية القصوى. وتُدرِك كل دول الجوار أهمية موقع دول المنطقة أيضًا، إذ تربط ثلاث قارات؛ أوروبا وإفريقيا وآسيا. ويمر نحو 30٪ من حاويات الشحن في العالم عبر قناة السويس في مصر، في حين أن 16٪ من شحناتها الجوية تمر عبر مطارات في الخليج. ويشكل سكانها الشباب رصيدًا آخر، إذ إن 55٪ من سكان الشرق الأوسط تقل أعمارهم عن 30 عامًا، مقارنة بــ 36٪ من سكان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو كما يعرفه القارئ المتابع نادٍ أغلبه من الدول الغنية في أوروبا.

تحديات عام مضى:

لقد واجهت الدول العربية وجوارها، في عام 2023م، تحديات استراتيجية ستختفى آثاراها عبر مديات مختلفة؛ كانت بعضها فورية، وستكون لبعضها ترددات طويلة الأجل. ولا شك أن تجاوز دول الخليج ومصر لعقدة ما سمي بـ "حصار قطر" قد أفضى إلى خاتمة سعيدة، عادت فيها العلاقات إلى طبيعتها؛ بل صارت بين بعضها أفضل مما كانت عليه قبل الحصار. وربما يقول قائل إن التحدي المباشر الأول، الذي واجهته دول المنطقة، وعلى رأسها دول الخليج، هو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ليس لأن الأخيرة هي موضوع تركيزنا في هذا المقال، وإنما ما كان لهذا التطبيع من ردات فعل متباينة لدى دول الجوار المهمة الأخرى، خاصة إيران وتركيا، وإن كانت إثيوبيا أكثر المرحبين بذلك لما لها من روابط تاريخية عميقة من الدولة اليهودية. ومن المؤكد أن برنامج الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، بقيادة زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو، لن يُعير كبير اهتمام لنوايا من امتدت أيديهم إليه من الدول العربية، التي وجدت في المبادرة "الإبراهيمية" فرصة لسلامٍ قد ينهي حالة الصراع المتطاول في المنطقة. لذلك، فالغالب أن استمرار هذه المبادرة بتفاصيلها، التي شهدها العام 2022م، وبداية العام 2023م، لن تكون هي ذاتها في العام 2024م، لأن نوايا تل أبيب تجلت قتلًا ودمارًا وخرابًا في غزة، منذ السابع من أكتوبر الماضي. الأمر الذي سيزيد حتمًا من الاستياء الشعبي ضد كل السياسات الإسرائيلية، بما فيها ما تمتعت به من المداخل الاستثنائية في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، وغير قليل من دول الشرق الأوسط الأوسع. ورغم أنه من غير المرجح أن تعلق دول مثل، مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة، اللتان اعترفتا بإسرائيل بصورة علنية وجادة، علاقاتهما مع إسرائيل، لكن ربما تضطرا لبعض التراجع الشكلي للتخفيف من أية ضغوطات داخلية، أو حتى إقليمية، في تعاملهما العلني مع تل أبيب.

‏وفي جانب ذي صلة، لا شك أن فشل واشنطن وطهران في التوصل إلى اتفاق بشأن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، وفي عامٍ تتحكم فيه مساومات المنافسة الانتخابية في الولايات المتحدة، مُضافًا إليها تطورات الصراع في غزة، يشكل تحديًا متعاظمًا على كل التقدم، الذي أُحرِز في علاقات إيران بعواصم جوارها الخليجي. فقد شهدنا أنه بعد ثماني جولات من المفاوضات، أصبحت احتمالات إحياء الاتفاق ضئيلة، ويزيدها تعقيدًا متغيرات الوضع المستجد في فلسطين. وفي الواقع، يُشير الفحص الدقيق لسياسات واشنطن وطهران، منذ منتصف عام 2022م، إلى أن الخصمين اللدودين قد تراجعا ببطء إلى الخطة البديلة الخاصة بكل منهما، ويُلحَظُ ذلك في تردد إدارة بايدن كثيرًا في رفع العقوبات، التي فرضتها إدارة ترامب على إيران في عام 2018م، بل تراجعت فعليًا عن القليل، الذي تحقق، لتواصل حملة "الضغط الأقصى"، التي شنتها إدارة سلفها الجمهورية ضد طهران. علاوة على ذلك، تبنت الولايات المتحدة فكرة تسهيل تحالف عسكري بين الدول العربية وإسرائيل لمواجهة إيران، ولم تكن سعيدة مطلقًا بالاختراق الدبلوماسي، الذي حققته الرياض وطهران برعاية صينية. ويضاف إلى ذلك أنه على الرغم من الضغوط الدولية الهائلة، فإن إيران لم تتراجع كثيرًا عن سابق مواقفها السياسية تجاه مرامي الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث استطاعت طهران الاحتفاظ بعلاقات دافئة مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة سلطنة عُمان ودولة قطر، وقد وسعت روابطها التجارية مع دول خليجية وعربية أخرى، وتمددت هذه العلاقات ذات الطابع الاقتصادي إلى جارتها تركيا، إضافة إلى جيرانها في آسيا الوسطى، فيما عملت بجد على تعزيز علاقاتها الوثيقة مع روسيا والصين.

تفاؤل حَذِر:

إن الحقيقة، التي يعتنقها الغرب، أن البرنامج النووي الإيراني قد حقق تقدمًا كبيرًا على مدى نصف العقد الماضي، ويكاد يكون في حكم المؤكد لدى إسرائيل أن قدرتها على تطوير سلاح نووي باتت في متناول اليد. لذلك، يُنظر عربيًا إلى السياسات العدائية بين واشنطن وطهران على أنها تغذي عدم الاستقرار في منطقة الخليج، فيما يرى الغرب أن إيران وحدها المسؤولة عن تهديد السلام الإقليمي والعالمي، وفقًا لمعايير تقييمه للمراحل، التي قطعها برنامجها النووي.‏ غير أن هناك اتجاه آخر لا يجيد الغرب مراقبته وهو ما إذا كانت "الروح ‏‏الخليجية‏‏"، التي تجلت بوضوح على أكثر من صعيد، وظهرت معالمها الحضارية خلال كأس العالم لكرة القدم في دولة قطر، والتي أدت إلى إحياء التعاون والتنسيق الإقليميين، الذي مهدت له فترة المصالحة في الخليج بعد العلا، يمكن أن تُحدِث مفاجآت من العيار الثقيل كمبادرة المصالحة الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وما انعكس منها إيجابًا على عددٍ من الملفات الساخنة، بما فيها أزمة اليمن. ويُضافُ إلى ذلك الاستعادة الكاملة لعرى التواصل الدبلوماسي والسياسي والثقافي بين دول الخليج وتركيا، وتتالي الزيارات وتدفق الاستثمارات بين الطرفين. الأمر الذي يؤكد قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على استعادة زمام المبادرة، بل الكثير من البريق لتوجهاتها الإقليمية مع جوارها المباشر في إيران وتركيا، التي لم تفقدها في أحلك لحظات قطيعتها مع كل من طهران وأنقرة. ‏فنحن نشهد الآن إعادة تنظيم جيوسياسية نشطة لكل أشكال العلاقات، وإن بدت للبعض خفية، في منطقة الخليج تختلف تمامًا عن تلك، التي ظهرت في عام 2017م، في خضم الأزمة الدبلوماسية بين دول المنطقة. فإذا كانت كل دولة خليجية، على مدى العقد الماضي، وخاصة منذ بداية جائحة كوفيد-19، قد جدت السعي بقوة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية بطرق خَشِيَ البعض أن تولد توترًا إقليميًا مع جوارها المباشر، إلا أنها تجاوزت ذلك الآن باقتدار يجعل نظرتها للمستقبل أكثر ثقة بإيجابية مُخرجات تعاونها المشترك.

وبالنظر إلى أن مجلس التعاون الخليجي، ككتلة إقليمية لم يتمكن من التخفيف من حدة بعض الأزمات البينية والإقليمية في الماضي القريب، إلا أنه يتعين على كل دولة من أعضائه مواجهة التحديات المحتملة بالسماح بأقل درجة من التدخلات الأجنبية، رغم ما يواجهها من حِدَّة استقطاب بين القوى الإقليمية القريبة والبعيدة، ومثيلاتها من القوى العظمى في الغرب والشرق.‏ ومع اليقين بأن المسؤولية فردية في المقام الأول، إلا أن إحراز تقدم حقيقي في تفعيل قيمة الإرادة الجماعية لدول المجلس يتطلب عودة جادة إلى مسائل التكامل السياسي والاقتصادي، التي كانت مطروحة على الطاولة لسنوات عديدة مضت. وقد لا نرى انجازًا مهمًا في عام 2024م، خاصة إذا استمرت أقوى ثلاث دول في المنطقة؛ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، بمتابعة مشاريعها ومبادراتها المنفصلة، التي يمكن أن تضع الأساس لمزيد من المنافسات، والتي يمكن أن تشكل حالة العلاقات البينية بين هذه الدول وجوارها الإيراني التركي لبقية العقد. لكن علينا التفاؤل أنه، بعد كل شيء، فإن عام 2023م، مَثَّلَ نُقطة منتصف الطريق، منذ أن أطلق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رؤية 2030 في أبريل 2016م، وقد تكون الإجراءات، التي يتخذها المسؤولون في الرياض هذا العام حاسمة لاقتراب أهداف الخطة السعودية مع غيرها من خطط خليجية في نهاية المطاف،‏ فقد توقعنا خلال عام 2023م،اتجاهًا موجبًا في منطقة الخليج؛ في مقدمته التنمية الاقتصادية ذات السرعتين؛ الخاص والجماعي، ودفع إلى تبنيه عدم استقرار سوق الطاقة وسحب الغرب لاستثماراته من النفط والغاز الروسي، مما رجح أن تكون المملكة العربية السعودية الاقتصاد العالمي الرئيس الأسرع نموًا، وقد أعلنت قطر عن زيادة الميزانية بنسبة 16٪. واستفادت الإمارات أيضًا من هذه الاتجاهات الاقتصادية، وقد تكون دبي تلقت تدفقات كبيرة من الاستثمارات بسبب مكانتها كملاذ رأسمالي محايد من الناحية الجيوسياسية. وزاد صمود اتفاق العلا، والتقدم المستمر في تطبيع العلاقات بين دول الخليج العربية، وجوارها، من قدرتها على كبح جماح المغامرات الأجنبية المكلفة.

توقعات واحتمالات:

هناك العديد من التوقعات، التي من المحتمل أن يكون لها تأثيرات مختلفة على أمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها وازدهارها الاقتصادي في عام 2024م، وما بعده. ويرتبط أول هذه التحديات، كما ألمحنا إلى ذلك، بتزايد المنافسة بين القوى العظمى الساعية للاستئثار بالحصة الأكبر من النفوذ السياسي، وما يرتبط به من مصالح اقتصادية استراتيجية. فقد تكاثرت في العامين الماضيين القمم الرئاسية الثنائية والجماعية في عواصم المنطقة، تصدرتها الصين والولايات المتحدة وروسيا، واستمرت الصين في تنفيذ خطتها الطموحة لعبور المنطقة من خلال "الحزام والطريق"، ودخلت الهند معترك المنازلة الاقتصادية بمبادرة "الممر"، الذي تدعمه واشنطن. فمثلًا، وخلال القمة، التي حضرها الرئيس الصيني شي جين بينغ، التزمت الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بـ "خطة عمل خمسية للحوار الاستراتيجي" في المجالات الحيوية بهدف إحداث ثورة في العلاقات بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، مع التركيز على العلاقات الأمنية والطاقة، وإلى مثل ذلك سعت روسيا. كما عقد الرئيس جو بايدن قمة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي، سعيًا لطمأنتهم باستمرار الوجود الأمريكي في المنطقة، التي ظلت محتكرة لنفوذ واشنطن لعقود طويلة. لذلك، نَحْسَب أن الآثار الاستراتيجية لهذه القمم، وما رافقها من زيارات بايدن وشي وبوتن إلى منطقة الخليج خاصة مهمة بأوجه عديدة، لا سيما من حيث الإجراءات، التي يمكن أن يتوقعها المراقبون في عام 2024م، ومن المرجح أن يستمر هذا السعي المحموم بين هذه القوى لتعظيم حظوظها في المنطقة خلال هذا العام، وما يليه من أعوام، برؤية يهيمن عليها هاجس توازن القوى متعدد الأقطاب على منطقة هي في موقع القلب من العالم، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى تفاقم المنافسة بين القوى العظمى، بل سيجر معه منافسات بديلة بين الدول العربية وجوارها الإقليمي، والذي يمكن أن يكون إيجابيًا وفقًا لمؤشرات الحالة التركية، وحذرًا في بُعده الإيراني، ومضطربًا جدًا في حالة إثيوبيا، التي تصارع عوامل البقاء الداخلية، ومحاولات الانعتاق من أسر الجغرافيا، فيما أعلنته من رغبة جامحة في الحصول على ميناء بحري؛ سلمًا، أو حربًا.‏

‏لهذا، من المرجح أن تواجه الصومال وجيبوتي وإريتريا تحديًا إثيوبيًا من نوع جديد، يتمثل في "شهية" دولة حبيسة يتجاوز عدد سكانها المئة وعشرون مليون نسمة، أعدت العدة لقوة بحرية، وأسست معهد تدريب لهذا الغرض، وأكثرت من التصريحات الرسمية حول نيتها في تحقيقه. كما أن السودان، الذي يتعرض لضغوط داخلية هائلة بسبب الحرب المستمرة هناك، لا يستبعد ضلوع أديس أبابا في دعم حركة التمرد ضد الحكومة الشرعية، للتعبير عن أطماعها في أراضي "الفشقة" السودانية الخصبة، التي سبق لها الاعتداء عليها واحتلالها من قبل. وكان الفهم العام هو أن الاضطرابات الداخلية في إثيوبيا؛ من حربها ضد التيغراي، إلى القتال المتجدد في إقليم الأمهرة، وما ظل مشتعلًا في أقاليم الأورومو، وأغادين، والعفر، وسيداما، وبني شنقول-قومز، وغامبيلا، هو في مصلحة استقرار دول جوارها في الشرق، كالصومال وجيبوتي، وفي الغرب كالسودان وجنوب السودان، لكن وقع الحال يقول بغير ذلك. إذ إنه رغم كل هذه الحروب الداخلية، التي تعتمل داخل إثيوبيا، وتعثر اقتصادها وترتيباتها السياسية، سعت أديس أبابا إلى المضي قدمًا في مشروع "سد النهضة"، الذي لم يغضب جارها السودان كدولة ممر فحسب، بل كاد أن يشعل حربًا إقليمية مع جمهورية مصر العربية كدولة مصب، والتي يمثل النيل بالنسبة لها شريان الحياة الأهم. وكثيرًا ما قالت القاهرة إن الإضرار بجريان مياه النيل تحت أية ذريعة يمثل تهديدًا وجوديًا بالنسبة لها، وينسحب هذا التهديد على الخرطوم بمستوىً لا يقل خطورة عن القاهرة، وإن كان مختلفًا في النوع لا المقدار. لذلك، سيتعين على إثيوبيا، إن هي أرادت العيش بسلام مع جوارها، إنفاق المزيد من مواردها على الاستقرار الداخلي، والتخلي عن محاولات توسيع نفوذها في الخارج.

ثم ماذا بعد:

مع كل ما ذُكِر عاليه، من المهم ملاحظة أن عكس ما توقعناه قد يحدث أيضًا، آخذين في الاعتبار المنعطفات الحادة، التي تُقَرِّر بشكل مفاجئ كل ما نعتقد أنه قد استقر من موضوعات، أو مسلمات، كما في حالة تجدد الصراع في فلسطين، التي تجعل إيران وتركيا تقتربان مجددًا، بل وتلعبان دور القيادة، في قضية اعتبرت طويلًا أنها ذات خصوصية عربية. وردًا على الصراعات الداخلية المتفاقمة، التي أشرنا إلى بعضها، يمكن لإثيوبيا؛ مثلًا، أن تتبنى سياسة خارجية أكثر عدوانية ومغامرة وخطيرة لصرف انتباه شعبها عن المشاكل الداخلية، وليست تصريحات رئيس الوزراء أبي أحمد على عن أحقية بلاده في الوصول البحري؛ سلمًا، أو حربًا، إلا دليلًا قاطعًا على ذلك. وفي هذه الحالة، قد تواجه دول القرن الأفريقي، وخاصة جيبوتي، تهديدًا أكبر لأمنها، لأن علاقتها مع إثيوبيا مرشحة لأن تنتقل من واقع السلم إلى الحرب. كما أن الأوضاع المتطورة في إريتريا والصومال، وهما منطقتان يتأصل فيهما النفوذ الإثيوبي بعمق، ستكون حاسمة بالنسبة لدول المنطقة هذا العام، ‏وقد يشهد عام 2024م، أيضًا منافسة متزايدة بين إثيوبيا والسودان ومصر؛ حول الحدود بالنسبة للخرطوم وأديس أبابا، والمياه بالنسبة لعواصم الدول الثلاثة، بما في ذلك بعض القضايا السياسية العالقة. وعلى الرغم من أن مفاوضات "سد النهضة"، التي استضافتها إثيوبيا مؤخرًا قد خففت مؤقتًا من التوترات بين هذه الدول الثلاثة، إلا أنه من غير المنطقي توقع تراجع أي منهم عن أهدافه، أو مطالبه.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك اتجاهات مماثلة خارج منطقة القرن الأفريقي ستؤثر بشكل شبه مؤكد على أمن دول المنطقة، مثلما هو في حكم المؤكد أنها ستؤثر على دول الخليج وبقية المنطقة. فعالميًا، يبدو أن الصراع في أوكرانيا ما يزال بعيدًا عن الحل السلمي، وقد تستمر كل دول الشرق الأوسط في مواجهة التحديات من حيث التعامل مع الآثار المباشرة وغير المباشرة لهذه الحرب طوال عام 2024م. وقد كانت لنتيجة الانتخابات، التي جرت في يوليو الماضي في تركيا أهمية حيوية، حيث إن أنقرة لاعب مهم، وشريك رئيس للعديد من دول الخليج، والدول العربية الأخرى، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن المرجح أن يكون لفوز رجب طيب أردوغان مجددًا في هذه الانتخابات تأثير على العلاقات التركية-الخليجية على المدى الطويل، إذ لاحظنا أنه بعد فوز حزب العدالة والتنمية مباشرة، نجحت قيادته في ترتيب علاقاتها مع كل دول الخليج، التي بدأتها قبل الإقدام على خوضها.‏ وتبقت أمام أردوغان الانتخابات البلدية، التي ستعقد في شهر مارس القادم، والتي ينظر إليها أتباعه بتفاؤل حذر، وأمل في أن يتمكنوا هذه المرة من استرجاع بلديتي أنقرة واسطنبول، أو إحداهما، خاصة إسطنبول، الحاضرة الاقتصادية الأولى في البلاد، التي كانت خسارتها في الانتخابات الماضية موجعة بالنسبة للحزب الحاكم. وبالنظر إلى إن التوقعات السياسية لإيران، وما يمكن أن تحمله أية تغييرات محتملة بالنسبة لجوارها القريب والبعيد في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نرى أنه من غير المرجح أن تشهد علاقاتها تبدلًا ذا بال، إلا إذا خرجت الحرب في غزة عن قدرة الأطراف المعنية على احتوائها، وتحرشت تل أبيب بطهران تحت أية ذرائع، أو مبررات، وشنت حربًا واسعة عليها، أو حتى على حلفائها في لبنان. إذ إن مثل هذه المغامرة لا محالة ستكون متعدية للحدود الجغرافية، وستجر إليها أطرافًا أخرى، كما أن خسائرها ستكون موزعة على جميع المنطقة، وبأقدار ليس بمقدور أحد الآن وضع حل لحساباتها.

مقالات لنفس الكاتب