array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 194

انقلاب الرأي العام الدولي قبلة الحياة لمبادرة السلام العربية

الخميس، 25 كانون2/يناير 2024

ثمة بدهية يصعب الاختلاف عليها ألا وهي أن "الرأي العام" (Public Opinion) لا يمكن أن يتشكل في دولة ما نحو قضية خارجية إلا إذا كانت هذه القضية تهم شعب هذه الدولة، وعلى النحو الذي يتفق مع السياسيات العامة التي تحقق مصالحها. ولا مراء أن وسائل الإعلام الجماهيرية (Mass Media) تعد الأداة الرئيسة التي تشكل الرأي العام في دولة ما، سواء أكانت القضية محل ذلك الرأي محلية، أم إقليمية، أم دوليةـ وإذا كان من المعتاد -لاسيما في الدول الديمقراطية – أن تباين توجهات بعض وسائل الإعلام في قضية داخلية ما مع توجهات السلطة الحاكمة نحوها، فمن النادر أن يباين التوجه العام لوسائل الإعلام في هذه الدولة نحو قضية دولية تلك الخطوط العريضة لسياسيات هذه السلطة نحوها. بل إن المعتاد هو أن تكون وسائل الإعلام الأداة الرئيس لحشد الرأي العام في هذه الدولة لدعم موقف سلطاتها الحاكمة حيال تلك القضيةـ وهو ما يفضي إلى نتيجة منطقية ألا وهي: إن الرأي العام في دولة ما نحو قضية خارجية معينة يتشكل طبقًا لموقف وسائلها الإعلامية التي تتبنى – على أقل تقدير – الخطوط الرئيسية لسياسات دولتها نحو هذه القضية .. وهو ما يعني أن معرفة الموقف الرسمي لدولة أو دول ما نحو قضية دولية معينة يجعلنا نستطيع أن نضع أيدينا على الملامح الرئيسة لموقف الرأي العام داخل هذه الدولة أو الدول حيال تلك القضية. 

 

القضية الأكثر إثارة للرأي العام الدولي في التاريخ:

 رغم كثرة القضايا الممتدة، أو العابرة التي أثارت اهتمام الرأي العام على المستوى الدولي، إلا إن القضية الفلسطينية تعد القضية الأكثر إثارة للرأي العام الدولي في التاريخ الحديث، بل يمكن أن نجزم باطمئنان أنها القضية الأكثر  إثارة للرأي العام الدولي في التاريخ الإنساني لكونها تقع جغرافيًا  في نقطة التقاء الأديان السماوية الثلاثة التي يربو أتباعها على  نصف سكان العالم، ولكونها حظيت-دون غيرها من القضايا الدولية - بوجود وسائل إعلام عابرة للحدود؛ على نحو جعل العالم كله- على حد تعبير عالم الاتصال الكندي الشهير "مارشال ماكلوهان"  (قرية واحدة). وهو ما جعل أي حدث يقع في ركن ما من أركان هذه القرية الكونية يتردد صداه في باقي أركانها في الآن نفسه.

      وقبل الشروع في الحديث عن موقف الرأي العام الدولي من هذه القضية  بصفة عامة وعن أبرز مبادرات حلها - والتي توافق عليها أصحاب القضية أنفسهم - ألا وهي "مبادرة السلام العربية"؛ وحري بنا أن نقدم تعريفًا للرأي العام الدولي(International public opinion)، وهو التعريف الذي طرحه الدكتور حامد ربيع في كتابه "مقدمة في نظريات الرأي العام والإعلام "  والذي يذهب فيه إلى أنه هو "كل تعبير تلقائي عن وجهة نظر معينة لا تقتصر في إثبات وجودها علي مجتمع معين، وإنما تتعدى الحدود بين الجماعات السياسية لتعبر عن نوع معين من التوافق بين بعض الطبقات أو الفئات التي تنتمي إلى أكثر من دولة واحدة، سواء كانت تلك الدول  تشكل- في مجموعها -مجتمعاً إقليمياً دولياً أو كانت تنتمي إلى أكثر من مجتمع إقليمي دولي"

البداية الحقيقية لانشغال الرأي العام الدولي بالقضية الفلسطينية:  

     تعود شرارة البداية لوضع القضية الفلسطينية في بؤرة اهتمام الرأي العام الدولي إلى (29 نوفمبر1947م) وهو اليوم الذي أقرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة "خطة تقسيم فلسطين "التي تقع تحت الانتداب البريطاني تقسيماً سياسياً، لتصبح دولتين (عربية ويهودية) مع خضوع وضع القدس وبيت لحم لنظام دولي خاص بهما، وتم قبول الخطة من قبل الوكالة اليهودية، في حين رفضتها الدول العربية.

أما اللحظة الحقيقية التي جعلت هذه القضية تشغل الرأي العام الدولي كأطول قضية دولية في العصر الحديث فقد كانت في 14مايو 1948م، حينما أعلنت الوكالة اليهودية استقلال دولة إسرائيل، وفور هذا الإعلان اندلعت الحرب بين المملكة المصرية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة العربية السعودية، ومملكة العراق، وسوريا، ولبنان، ضد الميليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين، والتي تشكّلت من "البلماخ" و"الإرجون" و"الهاجاناه" و"الشتيرن" والمتطوعين  وقد استمر القتال -الذي دام عشرة أشهر-  في أراضي الانتداب البريطاني، وفي شبه جزيرة سيناء، وجنوب لبنان، وتخللته هدنات عدة. سيطرت الميليشيات الصهيونية - في نهايتها - على المنطقة التي اقترحتها "خطة الأمم المتحدة "للدولة اليهودية، بالإضافة إلى ما يقرب من 60% من المساحة التي اقترحتها "الخطة" للدولة العربية، والتي شملت مناطق مثل "يافا" و"اللد" و"الرملة" و"الجليل الأعلى" وأجزاءً من النقب وشريطًا كبيرًا على طول طريق تل أبيب-القدس.  كما سيطرت   أيضًا على القدس الغربية، التي كان من المفترض أن تكون جزءًا من المنطقة الدولية للقدس وضواحيها.  بينما سيطر الجيش الأردني على القدس الشرقية، وما أصبح يعرف بالضفة الغربية، وضمها للسيادة الأردنية في العام التالي. كما سيطر الجيش المصري على قطاع غزة.  وفي حرب الأيام الستة في يونيو 1967م، احتلت إسرائيل كل من الضفة الغربية، وقطاع غزة وسيناء، ومرتفعات الجولان.  

موقف المجتمع الدولي من العدوان الإسرائيلي: 

   بالطبع لم يقف المجتمع الدولي بعد هذه الحرب الخاطفة موقف المتفرج من هذا الصراع؛ وإنما أصدر مجلس الأمن في 22 نوفمبر 1967م، قراره الشهير رقم (242) ومن أبرز ما نص عليه هو «انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير». وقد حذفت «ال» التعريف من كلمة «الأراضي» في النص الإنجليزي للمحافظة على الغموض في تفسير هذا القرار. كما نص على إنهاء حالة الحرب والاعتراف ضمنًا بإسرائيل. ورغم تجنب هذا القرار تقديم حلول للقضية الفلسطينية، وحصره للقضية في الإشارة فقط لمشكلة اللاجئين بنصة على " تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين" إلا أن هذا القرار شكل منذ صدوره محور كل المفاوضات والمساعي الدولية العربية لإيجاد حل للصراع العربي/ الإسرائيلي. 

   ميلاد أول مبادرة عربية مجمع عليها للسلام:

 تتمثل أول مبادرة عربية تطرح فكرة السلام بين الدول العربية مجتمعة، وبين إسرائيل في تلك المبادرة التي أعلنها الأمير فهد-ولي العهد السعودي حينئذ-في 7 أغسطس 1981م، والتي تدعو إلى انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في عام 1967م، بما فيها القدس العربية. وإزالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد 1967م، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس. وبعد يومين أعلن مناحيم بيغن رفضها. وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيانًا جاء فيه «إن إسرائيل ترى في الاقتراح السعودي خطة لتدميرها على مراحل، وبموجب هذا الاقتراح فإن الاعتراف بإسرائيل تبعاً لذلك ليس سوى وهم. وأن هذه الخطة تناقض اتفاقية كامب ديفيد». وبينما أعلنت المجموعة الأوروبية أن المبادرة تشكل أساسًا للتفاوض، فإن أمريكا تجاهلتها ولم تتخذ أي موقف حيالها. 

        وقد تباين الموقف العربي بين الرفض الفوري، والذي تمثل في موقف مصر التي أعلنت عن تمسكها باتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها مع إسرائيل في العام 1978م، كما رفضتها قيادة وكوادر حركة  منظمة التحرير الفلسطينية بشدة، كما رفضها سوريا والعراق، بينما أيدتها بعض الدول العربية، وعلى إثر ذلك الرفض والضغوط التي مورست عليها  سحبت السعودية مشروع المبادرة في قمة فاس في نوفمبر 1981م، و قال الناطق الرسمي وقتها :"نظراً لإيمان المملكة التام بأن أية استراتيجية عربية يجب أن تحظى بالتأييد الجماعي لكي تستطيع دفع الموقف العربي إلى الأمام، فقد قام الوفد السعودي بسحب المشروع مؤكداً لمؤتمر القمة أن السعودية على استعداد تام لأن تقبل أي بديل يجمع عليه العرب." 

 

 وسائل الإعلام تصنع رأيًا عامًا يتماشى مع سياسات دولها:

  لم يكن محتوى وسائل الإعلام الدولية التي تصدر من العواصم الكبرى بدرجة أو بأخرى في الشأن الدولي نحو كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو نحو اتفاقية كامب ديفيد التي وقعت في 17 سبتمبر 1978م، أو مقترح المبادرة السعودية الذي تلى هذه الاتفاقية بثلاث سنوات تقريبًا .. لم يكن إلا صدى للمواقف الذي تتبناها العواصم التي تصدر منها، وهو ما شكل رأيًا عامًا يعكس موقف هذه العواصم نحو القضية الفلسطينية ونحو مبادرات حلولها. 

    وبالطبع لم يتغير موقف وسائل الإعلام الدولية من السير في ركاب العواصم التي تصدر عنها فيما يتعلق باتفاقية السلام اللاحقة، التي تم توقيعها في 13 سبتمبر 1993م، في أوسلو والتي تعد أول اتفاقية رسمية مباشرة بين إسرائيل وفلسطين ممثلة في منظمة التحرير ... أو اتفاقية وادي عربة في 26 أكتوبر 1994م، بين الأردن وإسرائيل.

   ورغم سريان هذه الاتفاقيات إلا إن النزاع العربي / الإسرائيلي ظل قائمًا نتيجة لتفريغ إسرائيل لهذه الاتفاقات من مضمونها، لاسيما اتفاقية أوسلو، ومراوغتها في تنفيذ الكثير من الالتزامات التي تحملها، ناهيك عن التسويف في تسوية القضايا العالقة التي تم تأجيل حلها لوقت لاحق على توقيع هذه الاتفاقيات.

 

 انتقال العرب من رد الفعل إلى المبادرة بالفعل:

 

     وفي ظل هذه الوضعية التي أصابت القضية العربية الأبرز بالجمود؛ ولتحريك المياه الراكدة؛ وطبقًا لما عبر عنه عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية (2001/2011م) بقوله "الواقع أننا على الجانب العربي، كنا نبحث عن مخرَج، فالهجمة شرسة علينا باعتبارنا إرهابيين أو على الأقل منتجين لهم، وذلك في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، فكان لا بد من الانتقال إلى شن حرب دبلوماسية تنقلنا من خانة الدفاع دون تقديم تنازلات مؤلمة أو مع تنازلات متبادلة."   في ظل هذه الوضعية جاءت مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي(حينئذ) للسلام. والتي تم الإعلان عنها في قمة بيروت في28مايو2002م، وتعد أول مبادرة للسلام تنال إجماع الدول العربية؛ على نحو جعلها خليقة بأن تسمى رسميًا "مبادرة السلام العربية" (  Arab Peace Initiative) وتمثلت أبرز نصوصها  في الدعوة إلى انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967م، تنفيذًا لقراري مجلس الأمن (242 و338) والذين عززتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991م، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإلى قبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة، وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل. 

  

  موقف حكومات الدول الفاعلة من المبادرة وسير الرأي العام في ركابها:

      وحتى نفهم موقف الرأي العام في الدول التي تعد لاعبًا رئيسيًا في القضية الفلسطينية نحو هذه المبادرة، يكفينا هنا أن نسرد موقف حكومات هذه الدول من هذه المبادرة، والتي سار موقف وسائل الإعلام التي تشكل الرأي العام فيها في ركابها. فبُعيد إعلان هذه المبادرة مباشرة رفضتها إسرائيل، وصرح " شارون" رئيس وزرائها حينئذ بأن مقررات القمة إياها، لا تساوي حتى قيمة الحبر الذي كُتبت به.

أما أمريكا، فقد قدمت عبر إدارة بوش تملّقاً كلامياً للاقتراح، ودعماً فاتراً في أحسن الأحوال، أما المجموعة الأوروبية فقد ذهبت إلى أن المبادرة تشكل أساسًا للتفاوض.  

      وبالطبع لم يتحقق من المبادرة في السنوات اللاحقة على الأرض شيء. حتى إن القمة العربية التي عقدت في 28-مارس2007م، في الرياض أعلنت رسمياً عن إعادة إحياء مبادرة السلام العربية. رغم أن " ليفني" وزيرة خارجية إسرائيل -حينها-كانت قد طالبت الدول العربية بوضوح، وقبل انعقاد هذه القمة بأسبوعين "بعدم انتظار تحقيق السلام لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل" وهو ما يعني بوضوح أن تطبيع العلاقات عند الكيان الصهيوني يأتي قبل "السلام"، وكشرط له منذ قمة مؤتمر بيروت. وقد ظلت بيانات القمم العربية جميعها تعلن التمسك بالمبادرة العربية للسلام منذ 2002 وحتى قمة 2015م.    

 وفي 14 حزيران 2016م، ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو صرح في اجتماع مع وزراء حزبه "ليكود" أنه لن يقبل أبدًا بمبادرة السلام العربية بشكلها الحالي كمرجع للتفاوض مع الفلسطينيين"  

 وعلى الجانب الأمريكي الراعي الرسمي لعملية السلام بدا التنصل المعلن مما تدعو إليه المبادرة يزداد شيئًا فشيئًا، فقد جاء على لسان سفيرتها خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي في 26 أكتوبر2020م، لمناقشة دعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لعقد مؤتمر سلام دولي في أوائل 2021م، أنه: “لم تعد هناك حاجة لمبادرة السلام العربية؛ لأنها لا تقدم التفاصيل المطلوبة لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ما يحتاجه العالم اليوم هو اتفاق سلام يجلب الدعم الاقتصادي والاستثمار الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني”. 

 الضربة القاصمة للمبادرة:

يمكن القول إن الضربة القاصمة للمبادرة جاءت من قبل أربع دول عربية وقعت برعاية الولايات المتحدة على اتفاقيات-وبشكل منفرد -لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في السنة الأخيرة من حكم الرئيس ترامب 2020م؛ رغم إعلان التزامها الدائم بالمبادرة العربية للسلام في القمم العربية الكثيرة التي كان دعم هذه المبادرة واحدًا من أبرز قراراتها.

ورغم تلك الضربة التي أوهنت هذه المبادرة؛ إلا أن السعودية ظلت يحدوها الأمل في تفعيلها، وها هو الأمير فيصل بن فرحان وزير خارجيتها يدعو في21-سبتمبر2022 م، إلى اجتماع طاولة مستديرة لأعضاء لجنة مبادرة السلام العربية والدول الأوروبية الراعية للسلام، بمناسبة مرور 20 عامًا على إطلاق المملكة لمبادرة السلام العربية.

ما قبل الطوفان ...التجاهل التام للمبادرة:

  في تجاهل تام لمبادرة السلام العربية، أخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة  في 23 سبتمبر 2023م، يبشر "بخريطة السلام الجديد" بين إسرائيل وجيرانها العرب، وقال:  "إن ربع قرن من الزمن مضى في المفاوضات من أجل حل الدولتين، الذي تتقاسم بمقتضاه إسرائيل مع الدولة الفلسطينية المساحة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، فلم يفلح المتفاوضون في صياغة  اتفاق سلام واحد"  وتابع : "في عام 2020م، وفق الخطة التي تبنيتها، حققنا تقدمًا باهرًا في وقت قياسي، أربع معاهدات في أربعة أشهر، مع أربع دول عربية" (هي الإمارات والبحرين والسودان والمغرب).  

  الرأي العام الدولي .. ما قبل الطوفان:

 كان من الطبيعي أن تكون شدة أو خفوت اهتمام الرأي العام الدولي، لاسيما في العالم الغربي، بــ "الصراع العربي / الإسرائيلي" انعكاسًا لشدة أو خفوت اهتمام وسائل الإعلام في الدول الغربية المؤثرة في هذا الصراع، وكان طبيعيًا أن يكون ذلك انعكاسًا لموقف هذه الدول منه، وقد وصفت صحيفة" الفايننشال تايمز " هذا الموقف قبل السابع من أكتوبر بقولها" رغم أن الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي مسألة "مثيرة للخلاف منذ عقود"، لكن في الأشهر التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، كان الرأي العام في دول أوروبا الغربية غير مبال بهذه القضية.

وذكرت أن نحو ثلاثة أرباع الألمان يرون في استطلاع لهم أن الصراع لم يكن مهمًا لديهم، وأنه حتى في الولايات المتحدة، أبرز حليف لإسرائيل، فإن 55 % من المشاركين في استطلاع أجري في مايو الماضي، قالوا إنهم لا يملكون شعورًا قويًا إزاء تلك القضية.

ما بعد الطوفان ..انقلاب تاريخي:

  بالطبع لم يخطر ببال أحد -قبل السابع من أكتوبر-أن تنال القضية الفلسطينية ولو النذر اليسير من ذلك القدر غير المسبوق من دعم الرأي العام الدولي لها وتأييده لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة تمكنه من نيل الحياة الكريمة الحرة .. وذلك إثر ما شاهده -وعلى الهواء مباشرة-من جرائم العدوان الإسرائيلي التي بلغت درجة الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة المحاصر منذ 2007م.  وعلة المفارقة  هنا كون  الاتجاه الذي أصبح سائدًا بعد 7 أكتوبر في الرأي العام الدولي عمومًا، والغربي خصوصا يأتي معاكسا للسردية التي حرصت جل وسائل الإعلام الدولية على ترويجها لتبرير جرائم الكيان الصهيوني في غزة بعد السابع من أكتوبر، هذا من ناحية، ويأتي ،من ناحية، ثانية معاكسًا لقدرتها الفائقة على تشكيله نحو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالصورة التي ترنو إليها طيلة العقود السابقة، وذلك لكون جل هذه الوسائل في العواصم الغربية الكبرى (من صحف وسينما وإذاعات وفضائيات بل ومواقع الكترونية وغيرها من وسائل إنتاج المحتوى الإعلامي) تنتهي ملكيتها لليهود من ناحية، أو تعتنق-على أقل تقدير-السردية الإسرائيلية في هذا الصراع لكون الكيان الصهيوني غُرس في قلب الأمة العربية ونما وترعرع على يد العالم الغربي؛ على النحو الذي مكن إسرائيل، ومنذ إعلان قيامها من تشكيل الرأي العام في هذه البلدان، بالصورة التي تجعله يتماهى مع رغباتها، ويلبي طموحاتها في جعل القرار السياسي في العواصم  الغربية يأتي دائمًا مساندًا لها.

انهيار جدران حراس البوابات في الميديا التقليدية:

   لم يكن المتغير الوحيد في تشكل الرأي العام الدولي حول القضية الفلسطينية وحشية إسرائيل التي كشفتها عملية طوفان الأقصى؛ وإنما كان المتغير المهم الثاني هو الذي فضح هذه الوحشية ألا وهي مواقع التواصل الاجتماعي، التي لم يكن في وسع حراس بوابات الميديا الغربية ((Gatekeepers التقليدية الصمود أمام طوفانها الهادر، ولم يعد بوسعهم عرض حقائق العدوان الوحشي على النحو الذي يريدون، عبر إخفاء ما يشتهون، وإبراز ما يريدون، وتضخيم ما يحبون، و تقزيم ما يبغضون، وتشويه ما يعادون ..  وأنى لهم هذا؛ وها هو طوفان مواقع التواصل الاجتماعي قد اخترق بوابات الميديا التقليدية بحراسها الأشداء والتي كانت تقف أمام الحقائق التي لا تروق لهم سدًا منيعا؛ فباغتت هذه السدود عن يمينها، وعن شمائلها، وقفرت من فوقها وحفرت أنفاقًا أسفل منها. ومكنت كل شخص يملك هاتفًا لديه اتصال بشبكة الإنترنت   أن يتابع -لحظة بلحظة-بثًا مباشرًا للمجاز الإسرائيلية الوحشية، وأن يعيد نشرها لمن يشاء، بل وأن يصنع ما يشاء من محتوى يعلن فيه وجهة نظره حيالها .. وقد حدث ذلك بالفعل وصنع كثير من المشاهير والمؤثرين(Influencers) بل ومن المستخدمين العاديين في كل بقاع الدنيا محتويات رقمية تفوق الحصر، تظهر مدى استنكارهم لهذه المجازر على نحو ساهم في استثارة الرأي العام الدولي بصورة لم تشهدها البشرية -نحو قضية دولية -في تاريخها.

احتجاجات لم يشهد العالم لكثافتها مثيلاً:

لو أخذنا فقط المظاهرات كأبرز الطرق التي يعبر بها الرأي العام عن موقفه من قضية ما سنجد -ومن تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي The Institute for National Security Studies (INSS)  - أن عدد المظاهرات المؤيدة لـ ”إسرائيل”  خلال العشرين اليوم  التالية ل 7 أكتوبر في كل العالم  كانت  359 مظاهرة، مقابل 3,482 مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين.

 وفي مقال لها بعد ستة أسابيع فقط من بدء الحرب قالت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إنها رصدت تغيرًا في الرأي العام الغربي، خاصة الولايات المتحدة، حيال إسرائيل والفلسطينيين، وذكرت أن هجوم 7 أكتوبر، والحرب الإسرائيلية "الانتقامية" ضد غزة دفعا نحو مزيد من الاستقطاب في وجهات النظر، خاصة مع سيطرة المشاهد المروعة من الحرب على الأخبار وشبكات التواصل حول العالم. واعتبرت أنه على الرغم من أن الرأي العام كان بعيدًا عن التوقع أو الوضوح، إلا أنه شهد تحولات مهمة تمتد من الولايات المتحدة إلى أوروبا، وهي تحولات ترددت أصداؤها عبر السياسات الوطنية لهذه البلدان.

 وفي استطلاع أجراه معهد "هاريس" بالتعاون مع معهد الدراسات السياسية الأمريكية التابع لجامعة هارفارد، أيد 51% من الشباب الأمريكي في الفئة العمرية 18-24 عاماً "تصفية إسرائيل" وتسليمها لحماس وللفلسطينيين، وقد جاء هذا السؤال ضمن أسئلة كثيرة تمّ توجيهها لنحو ألفي مبحوث من كافة الفئات العمرية، ونشرت نتائجه في 70 صفحة.  وقد شمل السؤال المشار إليه ثلاثة خيارات بشأن الحل طويل المدى للصراع؛ أولها استيعاب الدول العربية للفلسطينيين، وثانيها حل الدولتين، وثالثها "تصفية إسرائيل" وتسليمها لحماس. وكما يظهر من الجدول المرفق فالنسبة تنخفض كلما ارتفع السن، فيصبح خيار "تصفية إسرائيل"   31% في الفئة العمرية 25-34، و24% للفئة العمرية 35-44، إلى أن يصل إلى 4% في الفئة العمرية الأعلى؛ بينما يرتفع نصيب حلّ الدولتين في المعدل العام إلى 60% وهو ما يشير مجملًا إلى وجود توجه متزايد بين الشباب لدعم قضية فلسطين والمقاومة؛ وفي سؤال آخر أجاب 50% من فئة 18-24 أنهم يدعمون المقاومة الفلسطينية في هذا الصراع.  كما أجاب 60% أن "إسرائيل" ارتكبت مذابح في غزة، بينما يعتقد 76% أن حماس يمكن التفاوض معها للوصول للسلام، ويدعم 57% منهم وقف "إسرائيل" عدوانها على غزة، ويذهب 67 % أن اليهود يُعدّون ظالمين في هذا الصراع.

 

 

أخيرًا ... قبلة الحياة للمبادرة العربية للسلام:

 وهكذا؛ إذا كان تحقيق السلام العادل الذي يعيد للفلسطينيين حقوقهم ويُمكنهم من إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة على النحو الذي دعت له مبادرة السلام العربية، قد ظل حلمًا بعيد المنال لعقود .. فإن الاصطفاف من قبل الرأي العام الدولي مع حق الفلسطينيين في إقامة دولة حرة مستقلة ذات سيادة على نحو جعله يخرج في مظاهرات حاشدة، وبصورة لم تتوقف منذ بداية الحرب؛ وكأنها معركه بين إسرائيل والرأي العام الدولي  ..  إن هذا الاصطفاف يمكن إذا ما أحسن استثماره من قبل العالم العربي أن يمنح هذه المبادرة قبلة الحياة، بعد أن كادت تصبح نسيًا منسيًا؛ لكونه يحمل قدرة كبيرة على الضغط-لاسيما في عواصم صناعة القرار الغربي-على ساسته لتغيير مواقفهم الداعمة بشكل مفضوح للعدوان الإسرائيلي على حساب الحق الفلسطيني، وذلك لدفع هذه الحكومات لأن تقف بشكل صريح، لا لبس فيه، مع الحق الفلسطيني في إنهاء العدوان الصهيوني على أراضيه، وإقامة دولته الحرة المستقلة، وهو جوهر   المبادرة العربية للسلام. 

 

سبل الحفاظ على زخم تأييد الرأي العام الدولي للحق الفلسطيني:

 من البديهي أن نقول: إنه محال أن تُرسم سبل  ناجعة لتحقيق هدف ضخم دون أن يكون للبحث العلمي دور بارز في رسم هذه السبل، وهو ما يعني أن العالم العربي إن أراد أن يحافظ على زخم الرأي العام الدولي -الذي أصبح مناصرًا لموقفه  في قضيته المحورية- فلا بد أن ينشئ ،ودون تأخير، بنية مؤسسية تتكون من خيرة علمائه المتخصصين في علوم الرأي العام والإعلام وسيكولوجيا الجماهير  لدراسة كل ما يتعلق بالعوامل التي أسهمت في تشكيل هذا الرأي العام الدولي الذي أصبح يلتف حول الحق الفلسطيني بصورة غير مسبوقة، وطرح السبل والأليات الاتصالية التي تُمكن من الحفاظ على ديمومة تأييده لهذا الحق، وجعله مؤثرًا في القرار السياسي للحكومات التي تمثله نحو هذه القضية العربية المحورية، شريطة أن يتم صياغة هذه السبل في صورة استراتيجيات اتصالية مُحكمة قابلة للتنفيذ من قبل صناع القرار في الدول العربية.. حتى يتسنى لهم تحويل الحلم الذي رنت إليه مبادرة سلامهم الشهيرة إلى واقع قابل للتحقق. لكن هذه المرة عبر مناشدة ضمير شعوب العالم الحر، بعدما   أخرست المصالح ضمير حكومات هذا العالم التي تمت مناشدته طيلة الــ 75 عامًا الغابرة. 

مقالات لنفس الكاتب