array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 194

إسرائيل تستخدم نظرية "اللاءات الست" وتفضل سلام التجزئة والمفاوضات الفردية مع العرب

الخميس، 25 كانون2/يناير 2024

في البدء، يعتقد كل مُتَابِعٍ مُطَّلِعٍ على مُجْرَيات الأمور في الشرق الأوسط أنه لا يوجد عاقل يتوجه قلبه، قبل عقله، للسلام ألا يرى في مبادرة السلام العربية التي اعتمدتها جامعة الدول العربية لأول مرة في عام 2002م، مخرجًا مُنصِفًا لكل الأطراف المتصارعة لِإحداث استقرار عَزَّ بلوغ غاياته في شرق أوسط أرهقه النزاع، وأدمته الحروب، وعطلت تقدم دوله منافسات العَسْكَرَة والانفاق الباهظ على التسلح. فقد كانت المبادرة السعودية، التي أصحبت عربية بالتَمَلُّك، وإسلامية بالتبني، وإنسانيًا بالتأييد والمؤازرة، بندًا سياسيًا ساخنًا في أروقة الدبلوماسية العالمية، منذ أن قُدِّمَت لأول مرة إمكانية سلامٍ شاملٍ عادلٍ متفقٌ عليه بشكل جماعي. وفُهِمَت هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها إشارة إلى الحقائق المتغيرة على الأرض، وتنازلات صعبة من كل العرب والمسلمين، التي من شأنها أن تسمح للفلسطينيين والإسرائيليين التعايش المشترك في جِوارٍ دولتين تُقَرَّر تفاصيل العلاقات الموضوعية بينهما في اتفاق الوضع النهائي في المستقبل. ومع ذلك، لا تزال إسرائيل ثابتة في رفض العرض المغري، أو على الأقل في تجاهله بحزم. وقد سبق لوزير الدفاع موشيه يعالون أن عبر عن هذا الرفض للمبادرة العربية، وفقًا للصحفي الإسرائيلي رافائيل أهرين، في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل The Times of Israel"، بتاريخ 18 يونيو 2013م، بواشنطن، واصفًا لها بانها لا تعدو أن تكون "تلفيقًا" وإملاء" من شأنه أن يجبر إسرائيل على تقديم تنازلات كبيرة قبل أن تتمكن من تقديم مطالبها الخاصة، ولم يعرف العرب بعد حدود هذه المطالب الخاصة غير الأطماع الممتدة من النيل إلى الفرات.

لكن، السؤال العَصِيُّ على الإجابة المُقْنِعَة، هو: لماذا الاعتراضات والتحفظات الإسرائيلية وعدم الثقة، التي قُوبِلَت بها هذه المبادرة، والتردد في الاستجابة لها على مدى العقدين الماضيين؟ حسنًا، قد يبدو احتمال السلام مع إسرائيل الآن أبعد من أي وقت مضى، خاصة بعد "طوفان الأقصى" والتحول، الذي يشهده وينفعل به كل العالم تجاه طبيعة الصراع، والذي استطاعت تل أبيب أن تخفيه عن أعين الإنسانية على مدى الخمس وسبعين سنة الماضية. ووفقًا لذلك، قد تبدو الإجابة، التي كانت مستحيلة في الماضي، محتملة الآن، بتقدير أن إسرائيل لم تعد مُحَصَّنَة من المساءلة، بل والضغوط الإقليمية والدولية، وربما المحاسبة المُطالبة بإعادة الحق المغتصب لأهله. ففي إسرائيل نفسها من تساءل مُحِقًا: لماذا لم تركب تل أبيب الموجة، وتُبحِر بالمبادرة العربية نحو التطبيع مع الدول العربية المعتدلة، كخطوة أولى، التي يبدو أن الكثير منها مهتم بالتعاون، الذي يُنهي حالة إدمان الصراع المُعَطِّلَة لمصالحهم؟ ولأن منظمة التعاون الإسلامي قد تبنت المبادرة أيضًا، فوفرت على السياسيين الإسرائيليين فرصة النفاذ إلى ما هو أبعد وأوسع من العالم العربي؛ إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، إلا أن مسؤولًا إسرائيليًا نافذًا، غير أنه شديد التعصب والتشاؤم قال لصحيفة، بإيجاز أكبر: "السلام مع إيران وأفغانستان وباكستان -مضحك للغاية. لنكن واضحين: لن نحصل على بطاقات الاحتفال بالسنة الجديدة من إيران، أو السودان، أو ليبيا تحت أي ظرف من الظروف المتوقعة. الاعتماد على مثل هذه الوعود ليس سوى عدم جدية". ومثله، تَدَثَّرَ كثيرون من قادة إسرائيل بمبررات الخوف والشك وعدم الثقة في مبادرة كان بإمكانها أن تقدم حلًا؛ مهما اعتراه من نواقص في نظر العرب والإسرائيليين.

قصة قمتين:

في البدء كان الكلمة، وكانت كلمة القادة العرب، التي اجتمعوا وأجمعوا عليها في قمة الخرطوم، في 1 سبتمبر 1967م، موحدة، ومثلت روحًا جديدةً عبرت عنها تأكيدات القمة على وحدة الصف العربي، ووحدة العمل المشترك، وضرورة التنسيق وإزالة كافة الخلافات. وقد أكد ملوك ورؤساء وممثلو رؤساء الدول العربية وقوف بلدانهم إلى جانب ميثاق التضامن العربي، الذي تم التوقيع عليه في مؤتمر القمة العربي الثالث في الدار البيضاء، وشددوا على ضرورة تنفيذه. واتفقوا على وجوب توحيد كافة الجهود لإزالة آثار العدوان على أساس أن الأراضي المحتلة هي أراض عربية وأن عبء استعادتها يقع على عاتق جميع الدول العربية. وقد سبق مؤتمر وزراء المالية والاقتصاد والنفط العرب القمة وأوصى باستخدام تعليق ضخ النفط كسلاح في المعركة. ومع ذلك، وبعد دراسة مستفيضة للموضوع، توصلت القمة إلى أن ضخ النفط يمكن أن يستخدم في حد ذاته كسلاح إيجابي، لأن النفط مورد عربي يمكن استخدامه لتعزيز اقتصاد الدول العربية المتضررة مباشرة من العدوان، حتى تتمكن هذه الدول من الصمود في المعركة. لذلك، قررت القمة استئناف ضخ النفط، باعتبار النفط موردًا عربيًا إيجابيًا يمكن استخدامه في خدمة الأهداف العربية. ومن شأنه أن يسهم في الجهود الرامية إلى تمكين الدول العربية، التي تعرضت للعدوان وفقدت بالتالي مواردها الاقتصادية من الصمود وإزالة آثار العدوان. والواقع أن الدول المنتجة للنفط شاركت في الجهود الرامية إلى تمكين الدول المتضررة من العدوان من الصمود في وجه أي ضغوط اقتصادية. وقد وافق المشاركون في القمة على الخطة، التي اقترحتها الكويت لإنشاء صندوق عربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بناء على توصية مؤتمر بغداد لوزراء المالية والاقتصاد والنفط العرب. واتفق القادة على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز الاستعداد العسكري لمواجهة جميع الاحتمالات، وقرروا الإسراع في إزالة القواعد الأجنبية في الدول العربية.

لا شك أن قمة الخرطوم مثلت حالة الغضب العربي، لأنها انعقدت بعد حرب الأيام الستة، التي شنتها إسرائيل على الدول العربية في الخامس من يونيو 1967م، لذلك اختتمت أعمالها بقرار من سبع نقاط، أجملناها في الفقرة السابقة. وقد أصبحت تلك القمة، وما اتخذته من قرارات، مشهورة وتاريخية، خاصة بسبب "لاءاتها الثالثة"، التي صارت دالة عليها، إذ اتفق القادة العرب على توحيد جهودهم السياسية على الصعيدين الدولي والدبلوماسي لإزالة آثار العدوان، وضمان انسحاب القوات الإسرائيلية المعتدية من الأراضي العربية المحتلة، منذ عدوان الخامس من يونيو 1967م. وسيتم ذلك في إطار المبادئ الرئيسة، التي تلتزم بها الدول العربية، وهي عدم السلام مع إسرائيل، وعدم الاعتراف بإسرائيل، وعدم التفاوض معها، والإصرار على حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه. ومنذ ذلك الحين، بدا لإسرائيل، والدول الغربية المناصرة لها، أن الدول العربية تغلق الباب أمام أي تقدم محتمل نحو السلام. غير أن هذا الاجماع العربي اهتز بمبادرتي "كامب ديفيد" في 17 سبتمبر 1978م، و"أوسلو" في 13 سبتمبر 1993م، و"وادي عربة" في 26 أكتوبر 1994م، وتجدد بوجه آخر في 28 مارس 2002م، في قمة بيروت. ومثلما احتوت قمة "اللاءات الثلاثة" على سبعة بنود؛ رافضة للسلام والاعتراف والتفاوض مع الكيان الصهيوني، حملت مبادرة السلام العربية مضمون اسمها في سبعة بنود هي الأخرى؛ مُطَالِبَة لإسرائيل أن تجنح للسلم، بشرط استيفاء ذات البنود، التي وردت في قمة الخرطوم، وفي مقدمتها الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م، وحق العودة، وقيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشريف. وقد رفضتها تل أبيب بذات العبارات، التي أدانت بها مقررات قمة الخرطوم، وزعمت أن الطريقين يؤديان إلى تصفية الدولة العبرية في نهاية المطاف؛ الأولى بحربها وعدم الاعتراف بها، والثانية بإضعافها وخلق دولة فلسطينية معادية إلى جوارها.

بيد إن المُثير للدهشة هو ما طرأ على موقف الخرطوم ذاتها، التي شهدت تحولًا مهمًا بعد عامين من إطاحة الجيش السوداني، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بالرئيس عمر حسن أحمد البشير في انقلاب، هيأت له انتفاضة شعبية. فقد التقى البرهان مع بنجامين نتنياهو في عنتيبي بيوغندا، وزار وفد سياسي من إسرائيل السودان، اتفق معهم قادة الانقلاب على تمهيد الطريق لمصالحة السودان مع إسرائيل. وكان رئيس الوفد الإسرائيلي إيلي كوهين قد عاد إلى تل أبيب من الخرطوم منتصرًا، وقال "نحن نبني واقعًا جديدًا مع السودانيين، حيث ستصبح "اللاءات الثلاثة" "نعم الثلاثة": "نعم للمفاوضات بين إسرائيل والسودان، نعم للاعتراف بإسرائيل، ونعم للسلام بين الدول وبين الشعوب". واستمرت هذه النشوة لبعض الوقت، وفي الزيارة الأخيرة في 2 فبراير 2023، التقى كوهين، الذي صار وزيرًا للخارجية، بالجنرال البرهان ووزير دفاعه في الخرطوم. لكن لم يتوقع البرهان، الذي فتح أبواب الخرطوم لتل أبيب، بما في ذلك مواقع منظومته الصناعية الدفاعية، أن يتعرض للخيانة. فقد أدرك ذلك بعد أن قام نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"، قائد قوات "الدعم السريع"، بانقلاب ضده، في 15 أبريل 2023م، وأغرق السودان في برك من الدماء والدمار والفوضى، ووقفت من ظَنَّ صداقتهم إلى جانب غريمه. رغم أن الرجلين؛ البرهان وحميدتي قد أظهرا ولاءهما لإسرائيل، لكن رأت تل أبيب في حميدتي خصائص أكثر فائدة في المدى القريب، لأن سيطرته على السودان ستؤدي إلى انهيار جيش البلاد، الذي تنشط المزاعم في وصمه بأنه يتكون من قوى إسلامية معادية لإسرائيل، وانهياره هو انتصار لها ولحلفائها، الذين تكفلوا بدعمه اللامحدود. ويمكن لذلك أن يُضعف مصر، ويفتح الطريق لتقسيم السودان مرة أخرى، كما فعلت ذات القوى مع جنوب السودان.

اللاءات الستة:

إذا كانت "اللاءات الثلاث" تذكرنا بإجماع العرب الغاضب في الخرطوم، الذي شرخته معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر عام 1978م، وتليها المعاهدة الإسرائيلية الأردنية لعام 1994م، ثم عكسته بالكامل مبادرة السلام العربية بقيادة السعودية عام 2002م، فإن لإسرائيل ما أجمع عليه قادتها من "اللاءات الستة"، التي ما تزال صامدة، رغم كل المغريات، بما فيها المعادات "الإبراهيمية" الثنائية، التي اعترفت بإسرائيل، وقبلت بما حَصَّلتهُ كطريق استراتيجي للتعاون، وهدفت إلى تأسيس العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بينها وإسرائيل. ربما تكون هناك مفارقة، قد لا تصلح لعقد المقارنات، يمكن العثور عليها في انعكاس الموقف. ففي حين كانت إسرائيل تناور؛ في لحظة تاريخية، بالسلام، كانت فيها الدول العربية في أوج تشددها، اليوم، في لحظة أصبحت فيها مواقف الدول العربية تجاه إسرائيل أكثر مرونة، أصبحت القيادة الإسرائيلية أكثر صلابة وتقدم مجموعة "اللاءات" الخاصة بها: لا مفاوضات، لا حل الدولتين، لا حل الدولة الواحدة، لا تجميد المستوطنات، لا سيادة فلسطينية في القدس الشرقية، لا لعودة أي لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل.

على هذه الخلفية، إذا كانت "اللاءات الستة" تُشير ضمنيًا إلى قبول "الوضع الراهن"، فإن الكثيرين في اليمين الإسرائيلي، ومن بينهم رئيس الوزراء بنجامين نتنياهو، ظلوا يؤكدون بشكل أكثر وضوحًا أن هذا هو السبيل الأفضل، أو الوحيد للمضي قدمًا؛ مثلما أشارت وزيرة الداخلية الإسرائيلية الأسبق أييليت شاكيد إلى أن "الوضع الحالي هو الأفضل للجميع"، مؤكدة ما قاله وقتئذٍ وزير الاقتصاد والتجارة نفتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي، أمام مجموعة من قادة المستوطنين أن القضية الفلسطينية لن تحل أبدًا ويجب تحملها. ومع ذلك، فإن مخاطر رفض أي مرونة، أو عدم إظهار الاستعداد لتقديم أفكار، أو بدائل لحل الصراع، أو تقريب مواقف الأطراف كثيرة. وقال تور وينسلاند، المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، خلال المناقشة المفتوحة للمجلس المكونة من 15 عضوًا، في 19 يناير 2022م، إنه "بدون احتمال واقعي لإنهاء الاحتلال وتحقيق حل الدولتين... إنها مسألة وقت فقط قبل أن نواجه انهيارًا خطيرًا لا رجعة فيه وعدم استقرار واسع النطاق". وأشار إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وأوجز حالات العنف الأخيرة شبه اليومية، فضلًا عن استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وطرد الفلسطينيين، وهدم المنازل؛ وكلها تغذي اليأس وتقلل من احتمالات السلام. وقال المنسق مؤخرًا إن الحروب المتكررة والعنف حول غزة، والتوترات في القدس الشرقية والضفة الغربية، سواء مع القوات الإسرائيلية، أو بين الفلسطينيين، تشير بوضوح إلى أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر.

الخشية من السلام:

قيض الله لوزير سابق في حكومة "الليكود" أن يعبر في لحظة تجلٍ عن تفاؤل بالمبادرة العربية/السعودية لتسوية القضية الفلسطينية، التي أقرتها لأول مرة جامعة الدول العربية، في عام 2002م، في قمة بيروت، وأعيد تأييدها في عامي 2007 و2017م، في قمم جامعة الدول العربية. وتَعْرِض المبادرة، التي صيغت من عشر جُمَل وسبعة بنود، تطبيع العلاقات بين العالم العربي وإسرائيل، مقابل انسحاب كامل من قبل إسرائيل من الأراضي المحتلة؛ بما في ذلك الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان وجنوب لبنان، مع إمكانية إجراء مقايضات طفيفة مماثلة ومتفق عليها بشكل متبادل للأرض بين إسرائيل وفلسطين، و"تسوية عادلة" لقضية اللاجئين الفلسطينيين، على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 194، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وتَعِدُ، فوق ذلك، بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع العالم الإسلامي، بما في ذلك إيران، التي تتخذها تل أبيب ذريعة للتهرب من استحقاقات السلام. فقد قال ذلك الوزير، وفقًا لرافائيل أهرين، إنها، أي المبادرة العربية، "أفضل فكرة على الإطلاق".

لكن، ظل سؤال أهرين، الذي اتخذه عنوانًا لمقالته تلك: "لماذا تخشى إسرائيل من مبادرة السلام العربية؟" بلا إجابة إسرائيلية مقنعة على مدى أكثر من عقدين من الزمن. رغم أن كلمة "التطبيع" قد أصبحت أكثر تداولًا، بذات ما اصطلح الناس على تعريفه؛ بفهم أنه اتباع سياسات على مستوى الحكومات، كما أرادته المبادرة العربية، أو إجراءات على مستوى الأفراد والجماعات، الذي سعت إليه ما سبقها من مبادرات ثنائية؛ غامرت به مصر أنور السادات، فيما عُرف باتفاقية "كامب ديفيد"، عام 79، أو ما تجاسرت عليه المملكة الأردنية باتفاقية "وادي عربة"، عام 94، وهدفت كلاهما إلى خلق حالة سلام جزئي، بينما نزعت المبادرة العربية إلى معاملة إسرائيل والشعب الإسرائيلي كحالة طبيعية في الشرق الأوسط، من دون أن تتجاهل دور الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين الإسرائيليين في عمليات التطهير العرقي وتهجير الفلسطينيين. غير أن الموجة الجديدة من التطبيع "الإبراهيمي" بدا أنها رغبة في المضي قدمًا في العلاقات مع إسرائيل والإسرائيليين، مع غض الطرف عَمَّا مضى بمدخل "عفا الله عَمَّا سلف"، وانخراط نشط في علاقات، وكأنها مسابقة تعويض لسنوات القطيعة والخصام.

إن حجة أهرين، التي حاول أن يجيب بها على تساؤله "المُحَيِّر"، ركزت في مقدمته على ميزة المبادرة العربية، والتي كان بإمكانها أن تجلب للتطبع 57 دولة، هي عضوية منظمة التعاون الإسلامي، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية في إيران. وقال إن المبادرة تُمَكِّن لإسرائيل بسهولة أن تصنع السلام مع إيران؛ مُبرِرًا ذلك بأنها "تحتاج فقط إلى إخلاء بعض المستوطنات، والسماح لعدد قليل من اللاجئين الفلسطينيين بدخول إسرائيل، والعداوة المريرة بين القدس وطهران أصبحت شيئًا من الماضي". لكنه اعترف أن الأمر ليس بهذه البساطة، إلا أن "هناك نواة نظرية للحقيقة"، فيما قدمه من اقتراح، مُتَوَقِعًا أن تقيم 57 دولة عربية وإسلامية "علاقات دبلوماسية وطبيعية كاملة" مع إسرائيل، مقابل "اتفاق سلام شامل" مع الفلسطينيين. وجمهورية إيران الإسلامية من بين البلدان، التي تؤيد المبادرة. وعلى الرغم من أن إيران ليست دولة عربية، إلا أنها عضو في منظمة التعاون الإسلامي، التي أعربت مرارًا وتكرارًا عن دعمها لمبادرة السلام العربية، بما في ذلك في مايو 2013م، في القاهرة. ورحبت بها قبل ذلك بعقد من الزمان حين أعاد مؤتمر لوزراء خارجية الدول الأعضاء في طهران، في مايو 2003م، "التأكيد على دعمه وتبنيه لمبادرة السلام العربية لحل قضية فلسطين والشرق الأوسط". في الواقع، أظهر منشور إعلامي حول مبادرة السلام نشر على الموقع الرسمي لجامعة الدول العربية أعلام جميع الدول، التي تؤيد الاقتراح، بما في ذلك ليبيا وسوريا وإيران.

فضول قاتل:

في الأصل، عرضت مبادرة السلام العربية إقامة علاقات دبلوماسية لتل أبيب مع العالم العربي بأسره. لكن، في عام 2002م، كانت الحكومة الإسرائيلية، كما وصفها أهرين، "فضولية"، لذلك نظرت إلى المبادرة على أنها اقتراح مغلق الحدود؛ بمعنى "خذوها، أو اتركوها"، مما صَعَّبَ على المتعصبين والمترددين تَبنيها، أو حتى مجرد الترحيب بها. رغم أن المبادرة بدت "ظاهريًا" جذابةٌ لكل العقلاء، لما ورد فيها مما عُدَّ تنازلًا مهمًا من جانب الدول العربية، التي رحبت لأول مرة، وبشكل جماعي، بـ"السلام مع إسرائيل"، وهو أمر لم تكن مستعدة للقيام به منذ تأسيس الكيان اليهودي على أرض فلسطين. وقد أفاض المشككون في القول إن مبادرة السلام العربية غير مقبولة لإسرائيل بسبب بنود معينة لا يمكن لأي حكومة الموافقة عليها، من دون أن يُشيروا بِدقَّة لأيٍ من هذه البنود، على قِلة ما حوته المبادرة من تفاصيل. فقد كتب جلعاد شارون، نجل رئيس الوزراء آنذاك أريئيل شارون، في مذكرات والده، التي صدرت عام 2011م، أن "التفاصيل جعلت العرض غير مقبول"، أي أن ما تقتضيه من التزامات جعلها غير قابلة لحكومات لا تنوي أن تقدم تنازلات من أجل السلام، الذي تُكْثِر الحديث عنه كلما أرادت تحقيق سبق دبلوماسي. فقد أظهرت المبادرة أن إسرائيل لا تريد الانخراط مع العالم العربي مجتمعًا من خلال الإعلان عن اهتمامها بالرغبة العربية الجمعية في السلام، ولم تبادر لإظهار إرادة سياسية تجاه هذا السلام، واستحقت، بالتالي، لقب الطرف، الذي يمنع التوصل إلى اتفاق تكسب هي منه أكثر مما تخسر. بالمقابل، فإن الجامعة العربية، التي احتضنت المبادرة السعودية وتبنتها، لم تترك سبيلًا إلا سلكته من أجل الترويج لها، والإقناع بها، ومحاولة انجاحها. ففي مارس 2007م، أعادت قمتها، التي عقدت في الرياض، التأكيد على عرض السلام الأصلي، وأوفدت وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، ونظيره الأردني عبد الإله الخطيب، الذين أبرمت بلدانهم بالفعل معاهدات سلام مع تل أبيب. وعُدَّت الزيارة الأولى لممثلين رسميين لجامعة الدول العربية إلى إسرائيل، رغم إصرارهما على بروتوكول دبلوماسي من شأنه أن يوضح أنهما يمثلان بلديهما وليس جامعة الدول العربية، لكن حضرا بتكليف من مجموعة العمل في القمة العربية.

الخاتمة:

اتهم الغرب المؤيد لإسرائيل قمة الخرطوم بأنها وضعت بلاءاتها الثلاثة الشرق الأوسط على مسار الصراع، لأنه في الوقت، الذي كان يضغط فيه العالم على إسرائيل لقبول صيغة الأرض مقابل السلام، وأن تسحب جيشها ومواطنيها من المناطق، التي سيطرت عليها خلال حرب الأيام الستة، أغلقت هذه "اللاءات" كل الأبواب. وتشبث الغرب طويلًا بمزاعم أنه بعد الحرب مباشرة، كانت إسرائيل على استعداد للقيام بتلبية ما نادت به القمة من مطالب. وذهبت هذه المزاعم أكثر للقول إنه لم يكن لدى إسرائيل أبدًا خطط للسيطرة على هذه المناطق، وبعد الحرب مباشرة كانت مستعدة لسحب قواتها منها مقابل السلام مع جيرانها العرب. ويتكئون في ذلك على تصريح نُسِبَ إلى موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يقول إن "إسرائيل تنتظر مكالمة هاتفية من العرب"، وأن "كل شيء قابل للتفاوض".  ويتشبث الغرب أكثر بهذه المزاعم قائلين إن إسرائيل لم تغلق أبدا الباب أمام تبادل الأراضي، التي سيطرت عليها بعد حرب الأيام الستة مقابل الاعتراف والسلام، ويستشهدون بحقيقة أنه عندما وقعت اتفاقية سلام مع مصر، بعد أن أصبحت الأخيرة أول دولة عربية تكسر "اللاءات الثلاثة" والاعتراف بإسرائيل والوعد بإنهاء جميع محاولات تدميرها، انسحبت إسرائيل من شبه جزيرة سيناء، التي وعدت مصر بتجريدها من السلاح، ووضع حد لجميع أشكال العدوان على إسرائيل، وتركها بحدود يمكن الدفاع عنها لتوفير أمنها.

لقد أرادت إسرائيل سلام التجزئة على نسق كامب ديفيد، الذي أخرج مصر من قيادة المقاومة، وأوسلو، التي شقت الصف الفلسطيني، ووادي عربة، والتي أوجدت توترًا صامتًا داخل المجتمع الأردني. وما أحدثته بين هذه الدول والكيانات، التي قبلت بمبدأ الاتفاقيات الثنائية، وبقية الشعوب العربية، التي رفضت التطبيع حتى في الدول أقرت بضرورات السلام، الذي وُصِفَ بأنَّه ظل باردًا وبلا روح. وما جربته إسرائيل مؤخرًا فيما سمي بالاتفاقيات "الإبراهيمية"، أعطاها بصيص أمل في علاقة مع دول بمقدورها أخذ شعوبها بمقتضيات قرارها السياسي، إذ يتسق السلام الرسمي مع التطبيع الشعبي؛ على الأقل هذا ما كان قبل السابع من أكتوبر 2023م، وما عُرِفَ بـ"طوفان الأقصى". لكن تل أبيب تحاشت على الدوام المبادرة السعودية، لأنها مثلت إرادة عربية جماعية. فقد أرادت دائمًا الحديث مع الرياض، وليس القبول بالمبادرة السعودية / العربية، كما اجتهدت في التحدث مع السلطة الفلسطينية وليس الفلسطينيين، وعزل منظمة فتح عن بقية الحركات، هادفة بذلك لشق الصف الفلسطيني وإضعافه، بدلًا من الحوار معه لإقرار سلامٍ شاملٍ وعادل. فها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت يوضح أنه ليس لديه مصلحة في إحياء عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، مؤكدًا بذلك موقفه الثابت بأنه "يعارض قيام دولة فلسطينية، ولن يسمح بإجراء محادثات على خط الدولة الفلسطينية". إن الخطوط الحمراء الأساسية للمحادثات وحل الدولتين وتعزيزها هي "اللاءات الست"، التي يبدو أنها توجه استراتيجية إسرائيل الحالية تجاه الفلسطينيين، مما يضع الإسرائيليين والفلسطينيين على الأرجح على مسار محكوم عليه بالكوارث، لكن يكون "طوفان الأقصى" آخر حلقاته.

مقالات لنفس الكاتب