كانت موسكو السوفيتية الحليف التقليدى للعرب في مواجهة الدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل، وعقب تفكك الاتحاد السوفيتى أصبحت روسيا هى "الراعي الثاني" لعملية السلام باعتبارها دولة الاستمرار له، إلا إنها لم تسع إلى تفعيل دورها هذا بل أنه تراجع وأصبح أكثر محدودية وهامشية طوال حقبة التسعينات، وذلك نظراً لانشغال القادة الروس آنذاك بترتيب الأوضاع الداخلية وإحكام السيطرة عليها في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية طاحنة. واقتصر الدور الروسى على السلوك اللفظى الداعم للسلطة الفلسطينية والنشاط الدبلوماسى، والحرص على احتفاظ روسيا بأكبر قدر من التوازن في علاقاتها بمختلف الأطراف. وفي عام 2001م، بدأت آلية رباعى الوسطاء الدوليين، "الرباعية"، التي تضم روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة، وصدر بها قرار مجلس الأمن رقم 1397 في مارس 2002م، ليقنن دور روسيا في عملية التسوية السلمية، ولتعود موسكو فاعل ذو وضعية دولية وقانونية في هذا الإطار، إلا إنه من الناحية الفعلية خيم الجمود على الرباعية ولم يعد لها دور يذكر في عملية التسوية منذ تعيين توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، موفداً للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط في يونيو 2007م، وتحفظ روسيا على ذلك.
وقد تميزت المواقف الروسية من القضية الفلسطينية بمجموعة من الثوابت التي بدأت في الحقبة السوفيتية واستمرت حتى تاريخه باختلاف المعطيات والتفاصيل. أبرزها التأييد المطلق للحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وضرورة التزام إسرائيل بتنفيذ كافة الاتفاقات الموقعة بما في ذلك حل الدولتين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، ووضع القدس الشرقية كعاصمة لها، ورفض سياسة الاستيطان والعنف باعتبارها لا تخدم العملية السلمية. كذلك، دعم المصالحة الفلسطينية، ومحاولة التوفيق فيما بين الفصائل الفلسطينية المختلفة حيث تحتفظ روسيا بعلاقات جيدة وقنوات اتصال مفتوحة مع كافة القوى الفلسطينية ومن بينها حركة حماس التي تصنفها واشنطن وبروكسل منظمة إرهابية، وسبق وأن استضافت موسكو عدة لقاءات للفصائل الفلسطينية، في يناير 2017م، وفبراير 2019م، إلا إنها لم تستطع تجاوز الانقسام الفلسطيني المستمر منذ عام 2006م، واتخذ مرارًا طابع الصدام المسلح، نتيجة الصراع على السلطة وإختلاف الفصائل .
إلى جانب دعم روسيا للجهود العربية بشأن التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي، فقد أيدت موسكو المبادرات العربية للتسوية السلمية، والتي أكدت جميعها على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضى العربية، وحق الشعب الفلسطينى في تقرير مصيرة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، واحترام سيادة الدول العربية. ومن أهم هذه المبادرات مشروع الملك فهد الذي طرحه في حديث لوكالة الأنباء السعودية عام 1981م، وتم البناء عليه كمشروع عربي للسلام في القمة العربية التي عُقدت في فاس في سبتمبر 1982م، فيما عُرف "بمشروع فاس". كما أيدت موسكو المبادرة العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، في "قمة بيروت" عام 2002م، عندما كان حينها وليًا للعهد، وتضمنت إنشاء دولة فلسطينية وعودة اللاجئين والانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، مقابل السلام مع إسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها في إطار هذا السلام الشامل، ورفض كل أشكال التوطين الفلسطيني في البلدان العربية المضيفة.
رغم إن العديد من المعطيات اختلفت خلال العقدين الماضيين، لعل أهمها اتجاه عدد من الدول العربية إلى إقامة علاقات مع إسرائيل في إطار ما عُرف بـ "اتفاقات إبراهام"، مما أفقد المبادرة كثيرًا من الزخم بالنظر لكونها بُنيت على توظيف ورقة التطبيع مع إسرائيل مقابل السلام وإقامة دولة فلسطينية، إلا إن عملية طوفان الأقصى والتطورات المصاحبة لها إقليمياً ودولياً أتاحت فرصة سانحة لإحياء المبادرة العربية، بل وجعلت منها ضرورة وطوق نجاة من حرب إقليمية وربما دولية تلوح في الأفق، يدعم هذا مجموعة من العوامل.
أولها، الضربات الموجعة التي تلقتها إسرائيل وحالة الاستنزاف البشرى والمادي التي تعتصرها، وما يصاحبها من ضغوط في الداخل الإسرائيلي واحتجاجات مستمرة لوقف الحرب وإعادة الأسرى الإسرائيليين عبر المفاوضات. صحيح إن الضحايا من الفلسطينيين صادمة إلا إن القتلى والأسرى الإسرائيليين من العسكريين والمدنيين تمثل فاجعة غير مسبوقة لتل أبيب، وعجزت الأخيرة عن تحقيق الأهداف التي أعلنتها لعملياتها العسكرية في قطاع غزة بالكامل بما في ذلك تحرير أسراها لدى حماس. كما شهد التأييد الغربى لإسرائيل انحصاراً ملحوظاً مع انكشاف جرائم الاحتلال والعنف الذي وصل حد الإبادة الجماعية والتهجير القسرى للفلسطينيين، واتساع نطاق الاحتجاجات المؤيدة لوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات لإنهاء الصراع في أوروبا والولايات المتحدة.
ثانيها، اتساع نطاق التهديدات الأمنية وتصاعد نذر الحرب الإقليمية وربما الدولية، فالعملية الإسرائيلية في غزة أصبحت أشبه بكرة الثلج التي تتضخم بمرور الوقت وتتجاوز إنعكاساتها السلبية على الأمن والاستقرار حدود غزة إلى المنطقة بأسرها، وتزداد المخاوف من خروجها عن نطاق السيطرة، الأمر الذي يجعل من المؤتمر الدولي ضرورة ملحة. فمن ناحية تتصاعد التهديدات في مضيق باب المندب مع استهداف الحوثيين للسفن المتجهة إلى إسرائيل، الأمر الذى يفرض تحديات أمنية واقتصادية على دول البحر الأحمر والعالم، خاصة مع تحول العديد من شركات الشحن العالمية مثل "إيفرجرين" و"هاباج لويد" و"ميرسيك" و"فرونتلاين" وغيرها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وإيقاف شركات شحن أخرى عمليات النقل عبر البحر الأحمر دون تحديد مسار بديل، مما أدى إلى تضاعف تكالف الشحن البحري والتأمين وتهديد سلال الإمداد العالمية التي لم تتعاف بعد من التضرر الحادث بها على خلفية الأزمة الأوكرانية. وتتزايد المخاوف الدولية والإقليمية من اتساع دائرة الحرب نتيجة تكثيف التواجد العسكرى بالمنطقة والتماس والاحتكاكات المحتملة بين الغرب بقيادة واشنطن وإيران مع تشكيل الولايات المتحدة تحالف عسكري بحري متعدد الجنسيات،"حارس الإزدهار"، في ديسمبر لضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، وتوجيه ضربات أمريكية بريطانية ضد الحوثيين في اليمن، وتحريك طهران في المقابل المدمرة الإيرانية "ألبرز" القتالية وسفينة "بهشاد" العسكرية في باب المندب، واستهداف الحوثيين للسفن الأمريكية.
على صعيد آخر، تزداد التوترات حدة بين إسرائيل وحزب الله على النحو الذي أثار قلق الكثيرين من إمتداد العملية الإسرائيلية إلى الجوار اللبنانى لاسيما مع تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، بـ "نسخ" العملية العسكرية في غزة إلى لبنان إذا لزم الأمر"، وإعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، أن احتمالات الحرب على الجبهة الشمالية الحدودية مع لبنان أعلى مما كان عليه في الماضي. وفي هذا السياق، أكد جوزيب بوريل منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، قلق الأخير من التصعيد على الحدود بين لبنان وإسرائيل وضرورة العمل ضمن القنوات الدبلوماسية لخفض التصعيد بالمنطقة. كما أن جولة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بالمنطقة في يناير، والتي كانت الرابعة منذ إندلاع الحرب في غزة، وأجرى خلالها محادثات مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مدينة العلا، وعدد من القادة العرب في الإمارات والأردن وقطر، إلى جانب تل أبيب، واختتمها بزيارة إلى رام الله ثم القاهرة، أكدت قلق واشنطن وسعيها لمنع اتساع نطاق الحرب في غزة خاصة مع دخول العراق ضمن جبهات المواجهة الملتهبة عبر عمليات كتائب حزب الله العراقى ضد القواعد الأمريكية بالعراق ثم ضربات الحرس الثورى لأربيل بعدد من الصواريخ الباليستية بدعوى استهداف مقرات تجسس لصالح إسرائيل وتجمعات إرهابية مناهضة لإيران.
ثالثها، الحاضنة الدولية المؤيدة والمعضدة لعقد مؤتمر دولي للسلام في المنطقة، والتأييد شبه العالمي لفكرة عقد المؤتمر، ويبرز في هذا السياق دعم روسيا الواضح للمبادرة العربية وعقد مؤتمر دولي وذلك بالنظر إلى العديد من المعطيات، أهمها المستوى غير المسبوق للتعاون الاستراتيجى بين موسكو والرياض، وما يتيحه من آفاق رحبة للتنسيق بين البلدين بشأن عقد المؤتمر الدولي خاصة أن الدعوة لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط يعد من ثوابت الموقف الروسى، وكان لموسكو العديد من المبادرات الداعية لعقد مؤتمر دولي للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلي منذ الثمانينات، بدءًا بمبادرة برجينيف في فبراير 1981م، وتضمنت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي تحضره أطراف النزاع بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية بهدف الوصول إلى حل عادل وشامل للصراع العربى / الإسرائيلي. وكان آخر هذه المبادرات في الحقبة السوفيتية هى تلك التي طرحها إدوارد شيفرنادزة، وزير الخارجية السوفيتى، في فبراير 1989م، وتضمنت التأكيد كسابقتها على انعقاد المؤتمر الدولي تحت رعاية الأمم المتحدة، وتعزيز التعاون بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في هذا الصدد. وكانت روسيا الراعي الثاني لمؤتمر مدريد للسلام 1991م، ودعمت فكرة التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي.
يعزز دعم روسيا للمبادرة العربية وعقد مؤتمر دولي للتسوية السلمية أيضاً الموقف الروسى من الأزمة في غزة. فمنذ اليوم الأول أبدت روسيا موقفاً متسقاً مع المواقف العربية والإسلامية ومغايراً للموقف الأمريكي والأوروبىي. وأكدت في أول تعليقاتها أنه "لا يمكن بوسائل القوة حل هذا النزاع المستمر منذ 75 عامًا، وإنما يمكن حله حصرًا بالوسائل السياسية والدبلوماسية، ومن خلال إقامة عملية تفاوضية كاملة على الأسس القانونية الدولية المعروفة، التي تنص على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش بسلام وأمن مع إسرائيل". واعتبر الرئيس بوتين أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية أحد أسباب اندلاع الحرب في غزة، وأن "القضية الفلسطينية هي في قلب كل مسلم ويعتبرونها ظلمًا"، وأنه خلال إنشاء دولة إسرائيل كان هناك حديث أيضا عن إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة، لكن هذا لم يحدث أبدًا، مؤكداً إن الدعوات الموجهة للفلسطينيين للمغادرة إلى سيناء ليست أمرًا يمكن أن يؤدي إلى السلام، وأن غزة جزء من أرض فلسطين التاريخية.
وخلال قمة استثنائية عبر الفيديو لمجموعة "بريكس" عقدت يوم 21 نوفمبر بمشاركة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أكد بوتين أنه أصبح من الواضح عدم جدوى المحاولات الفردية لحل الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، وضرورة تسوية النزاع بجهود دولية مشتركة، وأن روسيا ودول "البريكس" يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن كل هذا كان نتيجة لتخريب قرارات الأمم المتحدة التي تنص على إنشاء دولتين مستقلتين إسرائيل وفلسطين تتعايشان بسلام. وفي مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 10 ديسمبر أكد بوتين على ضرورة ألا تعود العمليات العسكرية في غزة بعواقب وخيمة على المدنيين العزل في القطاع.
في هذا الإطار تحركت روسيا على محورين دبلوماسى في الأمم المتحدة، وإنسانى عبر المساعدات لقطاع غزة. فقد تقدمت روسيا بعدد من مشروعات القرار داخل مجلس الأمن منها مشروع قرار مدعوم من عدد من الدول العربية في 16 أكتوبر يدعو إلى وقف إنساني لإطلاق النار بشكل فوري ودائم، ويدين كل أعمال العنف ضد المدنيين وجميع الأعمال الإرهابية، ويدعو إلى تأمين إطلاق سراح الأسرى وإلى توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية بدون عوائق وخلق الظروف المواتية للإجلاء الآمن للمدنيين المحتاجين. كما عادت وتقدمت بمشروع آخر في 26 أكتوبر دعا إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وقفًا فوريًا ودائمًا يُحترم بالكامل، وأدان بشدة جميع أشكال العنف وأعمال القتال ضد المدنيين، فأدان الهجمات التي شنتها حماس في إسرائيل وأخذ الرهائن المدنيين، وكذلك الهجمات العشوائية الإسرائيلية ضد المدنيين في قطاع غزة، ورفض الإجراءات الرامية إلى حصار قطاع غزة وحرمان السكان المدنيين من الوسائل التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، في انتهاك للقانون الدولي الإنساني. كما تقدمت روسيا بتعديل يدعو لتطبيق هدنة إنسانية فورية في قطاع غزة، على مشروع قرار قدمته مالطا لمجلس الأمن بشأن التصعيد في الشرق الأوسط في 15 نوفمبر لتكون هدنة إنسانية فورية ومستدامة تؤدي إلى وقف الأعمال العدائية. إلا أن كل هذه المشروعات الروسية أصطدمت بالفيتو الأمريكى. على صعيد آخر، تواصلت شحنات المساعدات الإنسانية إلى سكان قطاع غزة وبلغ إجماليها حتى 23 نوفمبر حوالي 300 طن، كما أبدى بوتين استعداد روسيا لافتتاح مستشفي ميدانى في قطاع غزة.
ولا يقتصر الأمر على التأييد الروسى، فقد دعا وزير خارجية الصين وانج يي إلى عقد مؤتمر سلام دولي أوسع نطاقًا وأكثر موثوقية وفعالية بشأن الحرب في غزة، ووضع جدول زمني ملموس لتنفيذ حل الدولتين، مؤكداً أنه يتعين على المجتمع الدولي أن يستمع بعناية إلى المخاوف المشروعة لدول المنطقة ويجب أن يكون الحكم في غزة في المستقبل خطوة مهمة نحو حل الدولتين. هذا إلى جانب التأييد المتوقع من جانب الدول الـ 153 التي صوتت لصالح القرار الذي تقدمت به المجموعة العربية واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 12 ديسمبر، ويطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة لأسباب إنسانية، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية.
كما توفر الدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي واتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم "إبادة جماعية" بحق الفلسطينيين في قطاع غزة عامل ضغط وورقة يمكن توظيفها للدفع بعقد المؤتمر الدولي للسلام، وفضلاً عن المطالبة بإدانة إسرائيل بجريمة إبادة جماعية، طالبت جوهانسبرج المحكمة بإصدار قرار يُجبر إسرائيل على وقف الأعمال القتالية بشكل فوري لحين صدور قرار نهائي من المحكمة. وقد نظرت محكمة العدل الدولية الدعوة يومي 11 و12 يناير، وتعد هذه المرة الأولى التي تقبل فيها إسرائيل المثول أمام محكمة العدل الدولية، بعد أن رفضت عام 2004م، حضور جلسات استماع ناقشت فيها المحكمة الرأي الاستشاري الذي طلبته الأمم المتحدة بشأن شرعية الجدار العازل الذي كانت تبنيه إسرائيل. وتعد أحكام محكمة العدل الدولية مُلزمة للأطراف، إلا إن المحكمة لا تملك سلطة تنفيذ أحكامها، ويتوجب على جنوب إفريقيا التوجه إلى مجلس الأمن الدولي بوصفه جهاز إنفاذ قرارات الأمم المتحدة لإصدار قرارٍ بتنفيذ حكم محكمة العدل الدولية حال صدوره، مما يجعله عرضه لاحتمال نقضه من جانب الفيتو الأمريكىي
ولكن رغم إن عقد مثل هذا المؤتمر الدولي أصبح ضرورة للسلام والاستقرار في المنطقة، ورغم التأييد الواسع والدعوات لعقده من جانب ما يمكن اعتباره "الأغلبية العالمية"، إلا إنه يواجه تحديات جوهرية. أهمها رفض إسرائيل للتفاوض وضعف تأثير الإدارة الأمريكية الحالية على تل أبيب. فرغم إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت رسميًا يوم 15 يناير، انتهاء الاجتياح البري بمرحلته الكثيفة شمالي قطاع غزة، واقتراب موعد انتهائه جنوبي القطاع، إلا إنه رفض وقف إطلاق النار الدائم مؤكداً استمرار القتال وأنه لا يوجد طريق آخر سوى الانتصار بهذه الحرب ونفى أن تقدم إسرائيل أى تنازلات، وشدد على أن القوة العسكرية هى فقط القادرة على تحرير الأسرى، وأن إسرائيل لن تسمح لأي قوى معادية لإسرائيل بحكم غزة. وفي اليوم المائة للحرب أعلن نتنياهو، إن الحرب على حركة حماس في قطاع غزة قد تستمر حتى عام 2025، مجدداً بذلك رفضه لوقف الحرب في غزة ومؤكداً أنه لابد من تدمير حماس، ونزع سلاح غزة، واستئصال التطرف في المجتمع الفلسطيني، كشروط أساسية لتحقيق السلام من وجهة نظره. ويرى البعض أن من مصلحة نتنياهو الشخصية استمرار الحرب حتى يتجنب المحاكمات التي تطارده بتهم فساد، والأهم محاكمته بالتقصير بشأن ما حدث يوم 7 أكتوبر، وأن أمله الوحيد في تحقيق نصر ينقذه.
كما أن الإدارة الأمريكية تبدو غير قادرة على ممارسة ضغوط فعالة على تل أبيب، ورغم استمرار التحالف الاستراتيجى بين البلدين، والدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً، فقد كشفت الحرب في غزة عن تراجع التأثير الأمريكى على إسرائيل، وهو أمر ليس وليد اللحظة، فقد كان هذا التراجع يزداد ويتضح في مقابل زيادة النفوذ والتأثير الإسرائيلي على السياسة الأمريكية على مدى العقدين الماضيين منذ إدارة بوش الإبن، إلا إن رفض نتنياهو معظم طلبات الإدارة الأمريكية بشأن الحرب في غزة أكد التغير في ميزان التأثير بين الجانبين لصالح إسرائيل، وتضمن ذلك قضية عائدات الضرائب وعدم قيام إسرائيل بما يكفي للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وعدم رغبة نتنياهو في مناقشة خطط اليوم التالي للحرب، ورفضه للخطة الأمريكية الخاصة بإصلاح السلطة الفلسطينية ليكون لها دور في مرحلة ما بعد حماس في غزة. ووفقاً للموقع الإخباري الأمريكي "أكسيوس"، فإن بايدن لم يتحدث مع نتنياهو منذ المكالمة المتوترة بينهما في 23 ديسمبر، التي ختمها الرئيس الأمريكي بـ "هذه المكالمة انتهت"، بعد أن كانا يتواصلان كل يومين تقريبًا خلال الشهرين الأولين من الحرب.
في ضوء ما تقدم من فرص وتحديات لإعادة إحياء المبادرة العربية وعقد مؤتمر دولي للسلام، وأخذاً في الاعتبار شبكة التفاعلات المتداخلة التأثير والمعطيات المتسارعة والمعقدة التي تشهدها المنطقة والعالم، فإن الإعداد الجيد للمؤتمر يعد شرطًا أساسىًا لنجاحه في وقف تدحرج كرة الثلج ونزع فتيل حرب واسعة تهدد الجميع. فلا يمكن لمؤتمر مهما طالت مدة إنعقاده أن يقرب بين طرفي الصراع، وتظل مرحلة ما قبل المؤتمر هى الفاصلة. يتضمن ذلك جهدًا دبلوماسيًا من المنتظر أن تقوده الرياض لبلورة صيغة توافقية مقبولة من جانب حماس وإسرائيل. ويمكن الاستعانة في هذا الصدد بوسطاء أبرزهم قطر حيث قيادات حماس، وواشنطن صاحبة التأثير على إسرائيل وإن كان ليس بقوته في الماضى. وقد يكون وقف العملية الإسرائيلية والسماح بعودة الفلسطينيين لشمال غزة مقابل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المدنيين وبعض العسكريين، صيغة مقبولة وأساس لعقد المؤتمر بمشاركة كافة الأطراف المباشرة وكذلك الدولية والإقليمية الضامنة. ومن المهم في هذا الإطار تحديد برنامج زمني للتنفيذ يقوم على مبدأ خطوة مقابل خطوة، وآليات لضمان وقف إطلاق النار، وتقنين مخرجات المؤتمر في قرارات ملزمة من مجلس الأمن. ولا شك أن ذلك سيمثل إنجاز كبير، يمكن البناء عليه لإطلاق مسار تفاوضي يبدأ ببحث مستقبل غزة ما بعد وقف إطلاق النار فيما بين الفلسطينيين وبعضهم البعض وبينهم وبين إسرائيل، ويتطرق لقضايا التسوية الشاملة في مراحل تالية.