array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 195

جنوب البحر الأحمر معرض لخطر سلسلة صراعات واندلاع حروب بالوكالة في أهم حواضرها

الخميس، 29 شباط/فبراير 2024

تكاثفت العديد من المخاطر في باب المندب وخليج عدن، التي تجلب معها عادة غير قليل من التحديات والفرص. فتحدي الملاحة في جنوب البحر الأحمر أوجد تحديات بالغة الأثر على حركة التجارة العالمية، وبقي على الإقليم الممتد شرقه وغربه أن يتدارك ما يمكن أن تتسبب فيه هذه الأزمة، بأبعادها المختلفة، من وضع حواجز تستعصي على التجاوز في العلاقات العربية-الإفريقية، أو علاقات كل المنطقة ببقية العالم، إذا استمر هذا التعطيل للمصالح الجماعية. فقد ظلت هذه المنطقة محفوفة بالمخاطر، وتتعامل مع أزمات طال أمدها؛ كالإرهاب، والتحولات الصعبة، مع مزيج من القضايا الساخنة المترابطة: ارتفاع تكاليف المعيشة، وأزمة التمويل، وأزمة النمو، وأزمة المناخ، ولكنها مُشَبَّعَةٌ أيضًا بالفرص. فقد علمتنا التجارب أن جميع الأزمات؛ مثلما هي تخلق تحديات، فإنها تتيح فرصًا لا حصر لها. لذلك، لا بد من إيجاد سبل عملية للمضي قدمًا في استكمال، أو تأثيث، ما هو إيجابي لحاضر شعوب المنطقة ومستقبلها، ومواصلة الدفع نحو جدول الأعمال العربي-الإفريقي للسلام والأمن، والحكم الرشيد، والتكامل الإقليمي، والتعبير عن الطموحات وفقًا لتصورات تحقيقها بما يمتلكه الجانبان من إمكانيات، ومجتمعات محتشدة بالتنوع والتعدد الفعال.

وفي الآونة الأخيرة، تسللت المنافسة العالمية إلى المنطقة عبر هذه التحديات، ولا سيما تلك الحريصة على تأمين الموانئ والغذاء والأمن والطاقة والمعادن وحرية التجارة بأي ثمن. وفي كل مرة تتخذ لها ذريعة جديدة لتثبيت وجودها وتوسيعه، حتى لو انتفت الحاجة إليه. فقد جاءت بهم دعاوى الحرب على الإرهاب، ومكنتهم أحداث القرصنة، التي نشط فيها الصوماليون في خليج عدن، في زمن مضى، وما يزالون قائمين على قواعدهم العسكرية، مدججين لإمكانياتها، من دون أن يراجعوا أسباب وجودها في الأساس. وبما أن الهجمات، التي يشنها الحوثيون مرتبطة بحرب غزة، التي التقت فيها مشاعر ومواقف العرب والأفارقة، فإن المرور الآمن لسفن الشحن، التي تمخر العباب عبر خليج عدن والبحر الأحمر أصبح بعيد المنال، وأكثر من أي وقت مضى. لذلك، من المقرر أن يستمر الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، ويضاف إليه من المبررات ما يجعله حالة دائمة، تستدعي "العسكرة"، ليس فقط لاستقرار الأمن، وإنما قد تمتد إلى محاولات تقرير مصير الاقتصاد والتجارة والجغرافية السياسية للمنطقة. ويضيف دخول إثيوبيا وطموحاتها إلى التفوق الإقليمي بعدًا آخر لهذه الديناميكية الاستراتيجية المتطورة، التي لا تعبأ كثيرًا بفروض حسن الجوار. وفي عالم لا يعني فيه القانون الدولي شيئًا، كما أثبتت ذلك كل أزمات العرب والأفارقة، فإن دفع الأقوياء لفرض واقعهم يمكن أن يعيد تصميم حدودنا ويغرق المنطقة برمتها في اضطرابات كبرى. بيد أن كل هذه الأزمات، كل هذه الأزمات، حبلى بالفرص، التي علينا أن نُحسن اقتناصها.

في المنهج:

في هذا المقال نُعَرِّف مصطلح "المنطقة" بما يعني أن نظامًا فرعيًا متميزًا وهامًا للأمن يوجد بين مجموعة من الدول، التي أوجدها القدر متجاورة في القرن الإفريقي، وحبسها القرب الجغرافي مع دول الخليج، ولها جميعًا علاقات متحركة وفقًا لمقتضيات المصالح المختلفة. وبناء على ذلك، فإن الافتراض هو أن دول منطقة القرن الإفريقي متشابكة في الحقيقة مع أنماط الصراع الحالية، والناشئة، وما يمكن أن يخلقه التعاون من مقاربات إقليمية للأمن البحري في باب المندب وخليج عدن، وعلى طول البحر الأحمر، وما يشكله ذلك من أهمية بالغة الأثر على الملاحة الدولية في هذا الممر المائي الهام. فتقليديًا، يُشير مصطلح "القرن الإفريقي"، أو ببساطة "القرن"، إلى الجزء الشمالي الشرقي من إفريقيا ويحده البحر الأحمر والمحيط الهندي، والذي يمتد في الغرب إلى الحدود الغربية للسودان. رغم أنه عادة ما يكون مفهومًا أن دول إثيوبيا، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي، هي، التي تشكل المنطقة المعروفة بـ"القرن"، على الرغم من أنه يشمل حاليًا دولتي كينيا والسودان بقسميه. لذلك، نجد بعض المراقبين يستخدمون مصطلح "القرن الأكبر"، الذي يشمل أوغندا ومنطقة البحيرات الكبرى تحت هذا العنوان.

ولأغراض هذا المقال، فإن مفهوم "القرن الإفريقي" يشمل السودان، وجنوب السودان، وإريتريا، وجيبوتي، والصومال، وكينيا، ويوغندا، وإثيوبيا. وهذه البلدان تشترك في مجموعة واسعة من أوجه التشابه، من حيث الثقافة واللغات والأديان، والهياكل الاجتماعية، والأنماط الاقتصادية. و"القرن الإفريقي"، بهذا الفهم، يُتاخم واحدة من أكثر الطرق البحرية الهامة في العالم، أو عمليًا كل الممرات الملاحية عبر البحر الأحمر؛ مثل، خليج عدن وغرب المحيط الهندي، التي تعتبر حاسمة بالنسبة للتجارة العالمية، وأيضًا باعتبارها ممر عبور مهم لشحنات النفط. فالمجال البحري يُعَدُّ هو الآخر محوريًا لدول المنطقة في المجال الاجتماعي والاقتصادي، لأن الجزء الأكبر من الاستيراد والتصدير لتلبية احتياجاتها يمر عبر موانئ البحر الأحمر وخليج عدن وغرب المحيط الهندي. كما المجال البحري هو أيضًا مصدر الصادرات والتغذية لسكان الولايات الساحلية في المنطقة، إذ تتمتع الصومال بخط ساحلي يبلغ 3,025 كم، وإريتريا بما طوله 2234 كم، والسودان يتجاوز طول ساحله 853 كم، ويقدر طول ساحل كينيا بـ536 كم، فيما تشغل جيبوتي 314 كم.

اللغز الجيوسياسي:

كشفت طموحات؛ ما يمكن أن نُطلق عليه الآن "إمبراطورية أوروميا" الموعودة، وديناميكيات القرن الإفريقي المعقدة، التحولات المتوقعة في إثيوبيا وخارجها. ففي الفاتح من يناير 2024م، وقعت إثيوبيا صفقة مع أرض الصومال للوصول إلى البحر، الذي حُرِمَت منه منذ انفصال، أو استقلال إريتريا في العام 1991م، وهذا أمر هددت حكومة أديس أبابا، على لسان رئيس الوزراء أمام برلمان بلاده، على حتمية الإقدام عليه سلمًا، أو حربًا، ما صَعَّد التوتر مع أسمرا، كما لم تخف جيبوتي والصومال انزعاجهما. ووفقًا للاتفاق، ستعترف إثيوبيا بإقليم أرض الصومال المتمتع بالحكم الذاتي مقابل الوصول إلى البحر وبناء قاعدة عسكرية، التي كثيرًا ما حلمت بها الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، بعد أن أصبحت دولة حبيسة. فقد صارت أكبر دولة غير ساحلية في العالم، رغم أنه قد نُظِرَ إليها كمحرك نمو متسارع في القرن الإفريقي، قبل أن تدخل في دوامة صراعاتها الداخلية.

إن الصفقة، إذا قُدِّرَ لها أن تتم، ستسمح لإثيوبيا بالوصول إلى خليج عدن، ولكن كان رد الصومال سريعًا وصاعقًا، فمقديشو ما تزال متمسكة بحقيقة أن أرض الصومال، التي أعلنت عن استقلالها من جانب واحد، جزء من أراضيها، لذلك تصرفت بغضب على الإعلان عن الصفقة. وقد نُظِرَ إلى الاتفاق على أنه خرق للسيادة الصومالية وسلامة أراضيها، على الرغم من أن الصومال لم يتمكن من بسط سيطرته على أرض الصومال منذ عام 1991م، لكن الصفقة لديها القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لغرب المحيط الهندي، الأمر الذي يصعب على الصومال وحلفائها القبول به، أو السكوت عنه. فأرض الصومال تقع على الساحل الجنوبي لخليج عدن، الذي ظل ممرًا مائيًا مهمًا من الناحية الاستراتيجية منذ افتتاح قناة السويس في عام 1869م. والمعلوم أن مضيق باب المندب يربط خليج عدن بالبحر الأحمر ويوفر أقصر طريق لربط آسيا بأوروبا. لذلك، برز كنقطة ساخنة جيوستراتيجية على مدى السنوات القليلة الماضية لعدة أسباب؛ منها القرصنة، وتكاثف الاهتمام به أكثر بعد ربط الحوثيين اليمنيين له بما يجري من عدوان على غزة. ولذلك، يعتبر هذا الاتفاق محاولة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والاستراتيجية في المنطقة، لن تجعل من اليمن وحده هو النقطة الساخنة، بل أن الإقليم بقضه وقضيضه مقبل على صراع لا يعلم أحد مداه، غير أن المؤكد فيه هو أن الملاحة في البحر الأحمر لن تعود آمنة كما كانت.

لهذا، ففي الأسابيع القليلة الأخيرة، كان خليج عدن وجنوب البحر الأحمر في الأخبار بسبب هذه الصفقة، وموجة الهجمات على سفن الشحن، التي أطلقها الحوثيون في اليمن. وقد أكدت هذه الهجمات وقرار شركات الشحن العالمية الكبرى بتعليق العبور عبر البحر الأحمر على هشاشة هذا الطريق البحري عبر باب المندب وخليج عدن. رغم أنه، منذ ظهور دول الخليج كقلب للطاقة في العالم، زادت الأهمية الاستراتيجية لخليج عدن بشكل كبير، فأصبح مهمًا لصادرات هذه الطاقة إلى أوروبا وأمريكا. لذلك، على مر السنين، اكتسبت الموانئ الواقعة على الخليج أهمية جيوسياسية متزايدة. ولذلك، وردًا على تهديدات الحوثيين، نشرت البحرية الأمريكية، إلى جانب شركاء رئيسيين من بينهم بريطانيا، سفنًا حربية في المنطقة. وفي هذه البيئة الاستراتيجية المتقلبة تم الإعلان عن الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال لإيجار مساحة أرض لإقامة ميناء، وقاعدة بحرية، هيأت لها بتأسيس معهد للتدريبات العسكرية البحرية، وشرعت في البحث عن قطع بحرية لشرائها. ومثلما تتسابق دول المنطقة على الموانئ والعسكرة، فقد سعى اللاعبون العالميون والإقليميون الرئيسيون إلى إنشاء قواعد في القرن الإفريقي، كان لجيبوتي الحظ الأوفر في استضافتها.

عسكرة المنطقة:

لقد وسعت دول عديدة؛ مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، بشكل منهجي بصماتها العسكرية في المنطقة، الأمر الذي جعل من ساحل البحر الأحمر وخليج عدن بأكمله، من السويس المصرية في الشمال إلى الصومال في الجنوب، منطقة تكدس عسكري شديد الخطر. ومنذ أن أصبحت إثيوبيا دولة غير ساحلية عند انفصال إريتريا في أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت أديس أبابا تبحث عن الوصول إلى البحر، مما يجعل الصفقة احتمالًا حقيقيًا للوصول المباشر إلى البحر. وحاولت إثيوبيا في الماضي الوصول إلى ميناء بربرة في أرض الصومال من خلال اتفاق ثلاثي بين الإمارات وإثيوبيا وأرض الصومال. كما جرت محاولات بين إثيوبيا وكينيا، وإثيوبيا والسودان، وارتفعت نبرة الحديث عن اقتراب أديس أبابا من تحقيق حلمها بوضع اليد على ميناء مصوع في إريتريا، إلا أن كل تلك المحاولات، أو الرغبات، لم يكتب لها النجاح.

إن الصفقة الحالية هي اتفاقية ثنائية لا تشمل غيرهما، لكن أصابع الاتهام تؤشر على مشجعين إقليميين ودوليين لا يُستبعد حثهم، بل تحفيزهم للطرفين أن يعقدا هذه الصفقة المثيرة للجدل والمخاوف. فالاتفاقية، إذا قُدِّرَ لها أن تكتمل خطوات تنفيذها، ستعمل على تنويع نقاط وصول إثيوبيا إلى البحر، وتقليل اعتمادها الساحق على جيبوتي في التجارة الدولية، الذي يخلق بدوره حساسيات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية مع الحكومة الجيبوتية، التي بادرت بالتعبير عن امتعاضها من التصرفات الإثيوبية. إذ من المؤكد أن تؤدي الصفقة إلى تأجيج حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار في الفضاء القاري والبحري المضطرب بالفعل في القرن الإفريقي. فدولتي إثيوبيا والصومال؛ المتحفزتان للدفاع عن موقفيهما حال المضي قدمًا في هذه الصفقة، لم تستقرا داخليًا بعد، خاصة إثيوبيا، التي قد تلجئها صراعاتها الداخلية المتفاقمة إلى الإصرار على تصديرها إلى خارج الحدود، وهي ترى في الصومال الحلقة الأضعف والأنسب لكسب شيء من الوحدة التضامنية الداخلية، بعد أن جربت في أوقات سابقة خوض حروب نشطة معها، وتحتل إقليمًا مهمًا "أغادين" من أراضيها، تنشط فيه حركة تحرير مُسَلَّحَة قد تكون نواة لاتساع دائرة التآزر بين القوى المتمردة في كل أنحاء الصومال الكبير، بما فيها حركة الشباب، والتي بدأت في التعبير عن ردة فعلها ضد من ظنت أنهم يناصرون صفقة هيرغسا مع أديس أبابا. 

 

فقدان التوازن:

إن معادلات التوافق في منطقة القرن الإفريقي تكاد تكون منعدمة، فالسودان، الذي كان يشكل نقطة توازن مهمة، يرزح في قبضة حرب داخلية بامتدادات إقليمية مدمرة، وجنوب السودان مفتون بصراعات القبلية، التي لا تهدأ. وإريتريا، التي تصالحت مع إثيوبيا، وحاربت إلى جانبها في القضاء على الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، أغضبتها طموحات أبي أحمد في الوصول إلى البحر؛ سلمًا أو حربًا، فظنت أنها المرشحة الأمثل لعدوانٍ سيأتيها بليل، فسارعت إلى الاصطفاف إلى جانب الأمهرة في حربهم المتجددة ضد السلطة المركزية في أديس أبابا. ودولة جيبوتي حانقة على غموض السياسة الإثيوبية فيما يتعلق بتأمين بدائلها البحرية بعيدًا عَمَّا استقرت عليها مواضعات الاقتصاد بينهما، خاصة في الصادرات والواردات، التي يستفيد منها البلدان، كما أنها لا تستبعد عدوانًا عليها إذا فشلت صفقات أبي أحمد الأخرى. وكينيا المُنْشَغِلَة بأوضاعها الداخلية وإثيوبيا ذاتها، التي كان يؤمل أن تتعافى من حربها الأهلية، التي دامت ثلاث سنوات، استمرت، أو دخلت في حروب داخلية أخرى أكثر خطرًا على وجودها. وليس هناك نهاية في الأفق للحرب في صراعها مع جيرانها الأقربين والأبعدين.

بالإضافة إلى عدم اليقين المتزايد بشأن الملاحة في البحر الأحمر، فإن الصفقة بين إثيوبيا وأرض الصومال لديها القدرة على إثارة صراع على الأرض لن تقتصر آثاره على أديس أبابا ومقديشو وحدهما، وإنما كل الخشية من احتمالات التوسع المتوقعة إلى درجة اليقين باتجاه إريتريا، وربما جيبوتي. وقد ردت الصومال بقوة على الصفقة وستتعرض لضغوط "للقيام بشيء ما"، خاصة وقد وجدت مناصرة قوية آنية من أسمرا والقاهرة، إذ عقدت الأولى لقاءات عسكرية رفيعة المستوى مع مقديشو، فيما قالت الثانية على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي إن الصومال تشملها معاهدة الدفاع العربي المشترك، وحذر الطرف الآخر ألا يجرب اللعب مع مصالح مصر. ومع ذلك، فإن قدرة الصومال على شن عملية عسكرية فعالة ضد أرض الصومال، أو إثيوبيا، أو كليهما محدودة، كما أن قدرة إثيوبيا على المضي قدمًا في الخطورة، ولو أدى الأمر لمواجهة عسكرية، هي الأخرى محدودة للغاية. رغم أن إمكانية المغامرات غير المحسوبة متوفرة جدًا عند هذا الطرف، أو ذاك، ممن استثمروا الوقت والمال والجهد في توقيع هذه الصفقة.

ومثلما لم تتمكن إثيوبيا من القضايا على معرضيها، وإطفاء نار الصراعات المشتعلة في غالب أقاليم البلاد، لم تتمكن الصومال من هزيمة تمرد حركة الشباب، وكافحت كثيرًا من أجل بسط سلطتها على مساحات شاسعة من الأراضي الخاضعة لسيطرتها، وتحاول إخضاع بعض الأقاليم المتفلتة، أو النزاعة للاستقلال؛ بخلاف أرض الصومال. إن الحرب مع إثيوبيا، أو أرض الصومال ستصرف الانتباه حتمًا بعيدًا عن عمليات ما يسمى بـ"مكافحة الإرهاب" هذه، ويعطل خطوات إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق الاستقرار والأمن، الذي بدأ يشهد تحسنًا كبيرًا في السنوات الأخيرة. ومن ثم، فإن سعي إثيوبيا الطويل الأمد للوصول إلى الموانئ قد يؤتي ثماره يومًا ما، ولكن ستكون تكلفته عالية، إن لم تكن قاتلة، وفي كلا الحالتين فهو تطور لديه القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن الإفريقي، وجنوب البحر الأحمر، وخليج عدن، وغرب المحيط الهندي.

توقعات:

إذن، ما، الذي تُخبئه لنا توقعات المدى المنظور لشأن المنطقة؟ وقد لا تكون الإجابة يسيرة، نتائجها مؤكدة، لكن ما يتوفر من حيثيات يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأسوأ لم يأت بعد. إن خطر عودة إضرابات ما يسمى بـ"الربيع العربي" في الفضاء العربي-الإفريقي ليس توقعًا جامحًا، فالاضطرابات السياسية والصراعات الدموية تفت في عضد الكثير من البلدان، والأزمات الاقتصادية تنهش لحم وعظام عدد لا يستهان به خزائن دول عدة، ويلتهم التضخم حصائل الطبقات الوسطى، ويسحق طبقات الفقراء بلا رحمة. وسيظل الإرهاب يشكل تهديدًا رئيسًا، على الرغم من تشتيت الانتباه بسبب أزمات أخرى؛ داخل دول بعض المنطقة، وبين بعض دولها والبعض الآخر. ففي جمهورية الصومال، ستواصل جماعات مسلحة نشر الفوضى في المقاطعات الشرقية، وعلى طول السواحل المؤدية إلى البحر الأحمر، خاصة وأن بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية يفترض أن تكون قد أغلقت أبوابها في ديسمبر الماضي. ولكن هناك مخاوف من أننا قد نشهد سيناريو أفغانستان في الصومال، إذا تمادت إثيوبيا في المضي قدمًا في تنفيذ صفقتها مع هرغيسا، وإذا لم تكن هناك خطة لتحل محل القوة الدولية، التي كانت موجودة في البلاد منذ عام 2007م، فحركة الشباب تواصل بناء قواتها، وتوسع نطاق عملياتها، ومن المرجح أن تحاول التوسع في إثيوبيا وكينيا، مثلما فعلت مؤخرًا في أرض الصومال، بينما يواصل الجيش الوطني الصومالي الكفاح من أجل أن يصبح جيشًا محترفًا، وقد تفاجئه حربٌ فوضوية مع إثيوبيا، ليس في مقدور البلدين خوضها بطرق الحرب التقليدية.

وفي السودان، الذي يحتل موقعًا مهمًا في منطقة القرن الإفريقي، وساحلًا طويلًا على الضفة الغربية للبحر الأحمر، تنذر الحرب الدائرة فيه الآن بالتمدد إلى خارج حدوده. وعلى الرغم من أن التركيز كان، وما يزال، على الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إلا أنه لم يتم إيلاء اهتمام كبير لـ"كتائب النصرة"، التي تقاطرت من كل دول الساحل الإفريقي، وملحقاتها من جنوب السودان وإثيوبيا، وغيرهما، والتي تقاتل إلى جانب قوات الدعم السريع المتمردة، وما يتبادله الجانبان من اتهامات عن منظمات وجماعات ودول تدعم هذا الطرف، أو ذاك. وأحد الأخبار الغربية، التي لفتت انتباه الأجهزة الأمنية في المنطقة، هي ما ادعته جهات أوكرانية من أنها أصابت أهدافًا روسية في السودان. لذلك، فهناك مخاوف من أنه حتى لو ضمنت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وقفًا لإطلاق النار، أو انتصار أحدهما على الآخر، فلا توجد ضمانات بأن الكتائب والقوى المسلحة الأخرى ستتوقف عن القتال، بل وقد توسع وجودها في البلاد وتخلق تحالفات جديدة مع الجماعات المقاتلة في المنطقة، وتخلق حالة من استدامة الأزمة. لذلك، لا بد أن تنخرط حكومة الرئيس عبد الفتاح البرهان؛ مدعومة بتقدمها العسكري في الميدان، والتفاف قطاعات واسعة من الشعب حولها، في حوار مع كل القوى الوطنية. رغم أنها قد تواجه ضجيجًا متزايدًا من بعض المجموعات السياسية الصغيرة، التي رهنت مصيرها بقوات الدعم السريع، وأيدت تمردها على الدولة، إذا لم يتم التوصل إلى حل لمشاكل استيعابها في العملية السياسية.

إن عدم اليقين هو كلمة السر في المدى المنظور، الذي أشرنا إليه، ومثلما يصطرع السودان، لا تزال إثيوبيا تصارع الأزمات في أقاليم التيغراي، والأمهرة وأوروميا، وغامبيلا، وسيداما، والأوغادين، وبني شنقول-قومز، واحتمالات حرب أخرى مع إريتريا. كما أنها على شفا حرب مع الصومال بسبب اتفاقية أرض الصومال، ونهج رئيس الوزراء أبي أحمد تجاه حاجة إثيوبيا لتأمين الوصول إلى البحر، التي قال إن هناك "أخطاء تاريخية وقانونية" حرمت بلاده هذا الحق. لذلك، من المرجح أن تستمر التوترات الإقليمية بين إثيوبيا وإريتريا، مع خطر نشوب صراع مفتوح بعد هذه التصريحات، التي ما يزال صداها يتردد عاليًا في أسمرا. وهناك أيضًا تقارير تفيد بأن إريتريا تقوم بتدريب ميليشيات الأمهرة المعروفة باسم فانو. كما تواجه إثيوبيا أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فاقمت منها الحروب المستعرة، وتوترات دينية قادت مؤخرًا إلى انقسام الكنيسة الأرثدوكسية، وسبقها تقاتل بين المسلمين والمسيحيين.

الخاتمة:

إن منطقة البحر الأحمر الجنوبية، عند مدخل باب المندب وخليج عدن، معرضة لخطر حقيقي يتمثل في اجتياح سلسلة من الصراعات لغالب دولها، واندلاع حروب بالوكالة في أهم حواضرها. ويوضح التهديد باستمرار ما بدا واضحًا أنه حرب إقليمية في السودان رأس جبل الجليد في هذه التحديات، التي تواجه المنطقة، التي لا يستثنى منها اليمن، والصومال، وإثيوبيا. ولتجنب المزيد من التفتت، يتعين على دول هذه المنطقة أن تعمل على بناء ثقافة التفاوض الداخلي والتسوية، باستخدام آليات المنظمات الإقليمية والدولية المعنية كإطار عمل، ويتعين على الشركاء الإقليميين والدوليين أن يدعموا هذا الأمر. لذلك، فإن السعي من أجل احتواء انهيار السودان في حرب ذات امتدادات إقليمية يرمز إلى التحديات، التي تواجه منطقة القرن الإفريقي حيث يُنظر إلى العنف كوسيلة لتحقيق غايات سياسية. وتبدو القوى العظمى غير مبالية نسبياً بالوضع، وكأن وكلاءها الإقليميين والمحليين يقومون بالمهمة على أكمل وجه. وتظهر التحالفات داخل القرن الإفريقي، التي تعكس مديات الصراع على النفوذ، وتجلياته على السياسة والاقتصاد، وما يطال الأمن في البحر الأحمر.

وعلى هذه الخلفية، فإن أفضل ما يخدم المنطقة هو الاعتياد على التعامل مع مشاكلها الخاصة، وبناء ثقافة التكيف، وإيجاد السبل لإدارة أمنها في عصر تنتشر فيه مراكز القوى العالمية المتنافسة. وقد كانت أول محاولة مهمة للقيام بذلك، ولو أنها لم تحظ بالنضج، أو القبول الكافي، جاءت من داخل المنطقة ذاتها، أي من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية "إيغاد". ففي الأشهر الأخيرة، قامت الهيئة بتعيين جيبوتي رئيساً جديداً لها خلفاً للسودان، كما أعيدت إريتريا إلى المجموعة بعد 16 عامًا من الغياب، وهي تشارك الآن كعضو كامل العضوية في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية ومكافحة التصحر والجراد. وبقيادة الرئيس الكيني ويليام روتو، المعروف بعلاقاته وتحيزاته لصالح قوات الدعم السريع المتمردة على الدولة، قامت الكتلة الإقليمية بتشكيل لجنة رباعية من بين أعضائها لحل أزمة السودان، برئاسة كينيا وتضم جيبوتي، وإثيوبيا، وجنوب السودان، الأمر الذي جعل السودان يتردد أولًا في التجاوب معها، لأنها فشلت في الجمع بين الجنرالين؛ عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع، ومن ثم اضطرت الخرطوم للانسحاب من "الإيغاد"، وتجميد عضويتها، في المنظمة.

وبأخذ كل ذلك في الاعتبار، ولا ينبغي الاستهانة بالمهمة، التي تواجه الساعين إلى السلام في المنطقة، والتي تتطلب تحرير الاتحاد الإفريقي و"الإيغاد" من هيمنة النفوذ المحلي والإقليمي والدولي، وذلك بدعمهما سياسيًا وماديًا. إذ إن منطقة القرن الإفريقي معرضة لخطر حقيقي يتمثل في اجتياحها بسلسلة من الصراعات، التي من شأنها أن تؤدي إلى تفتيت البلدان، وتفتح بالفعل الباب أمام التدخل الخارجي الانتهازي. وفي أسوأ الحالات، يمكن أن تصبح المنطقة ساحة معركة للوكلاء المتنافسين المحليين والإقليميين المدعومين من رعاة خارجيين عديمي الضمير. وسوف ينتشر فقدان الاستقرار إلى ساحل البحر الأحمر، وستزداد تدفقات الهجرة، ولا يمكن الاستهانة بمخاطر الصراع بين الدول في هذه المنطقة الحساسة، خاصة بين إثيوبيا والصومال، أو بين إثيوبيا وإريتريا. لذلك، فإن الجهود الرامية إلى تعزيز قدرة المنطقة على التعامل مع مشاكلها الخاصة سوف تتطلب توحيد شبه دول الخليج العربية بنفس القدر في رؤية مشتركة لكيفية تحقيق الاستقرار على جناحها الغربي مع الساحل الشرقي لإفريقيا على البحر الأحمر وخليج عدن. ففي الوقت الحاضر، يبدو أن قضايا القرن الإفريقي تخضع لرؤى متنافسة محتملة للمصلحة الوطنية بين دول الخليج، والتي تظهر بشكل واضح في الصومال والسودان، وربما في أماكن أخرى في المنطقة.

مقالات لنفس الكاتب